مقال لؤي حسين "ثقافة الاستبداد الوطني" (السفير، 29/8/2003) مناسبة لهذا التدخل أكثر مما هو موضوع له. سلطنة الديمقراطية
ليس هناك أي خطأ في أن ناقد "ثقافة الاستبداد الوطني" لم يعرّفها ولم يشعر بالحاجة إلى تعريفها. فقيمة هذا المفهوم تكمن في وظيفته لا في مضمونه. ووظيفة هذا المفهوم الخاوي هي تجهيل الفاعل الاستبدادي وتحميل الشعب وثقافته وعقائده مسؤولية ما يمارس عليه من استبداد، أو أقله تحميل المسؤولية للنخبة التي "تعنون نفسها بالديمقراطية" والتي يبدو أنه يكن لها أعنف العواطف. فحسين وفيٌّ لذلك التيار الفكري الذي شاع في الثقافة العربية خلال ربع القرن الأخير، والذي استطاع أن يجد الاستبداد وغياب الديمقراطية في كل شيئ لكنه لم يرها في بنى السلطة وتكوين النخبة الحاكمة وشبكة التحالفات الداخلية والإقليمية التي تستند إليها. وهذا تيار لا يجد أي نظام عربي، مهما تكن يديه ملوثة بالدماء، أي مشكلة في الترحيب به.
ومما يميز هذا التيار أنه يُخرِج الديمقراطية من السياسة والعمل السياسي، ليجعل منها مفهوما استدلاليا يُشتقّ من الثقافة أو من "الخطاب" أو من "العقل". ويرتاح من سنسميهم الديمقراطيون الثقافيون كل الارتياح لنقد الثقافة وينفرون كل النفور من تحليل مؤسسات السلطة ودراسة نوعية الحركات الاجتماعية وكشف تركيبة النخبة الحاكمة وتحالفاتها وفهم الأوضاع الإقليمية والدولية، بل يحولون أي تطرّق لهذه الأخيرة إلى تشكك حيال "طمع الغريب" وفقا لقاموس ناقد "ثقافة الاستبداد الوطني". وليس من الصعب على هذه "الديمقراطية" أن تتحول- وفقا لنسق سار عليه يساريون كثيرون تحولوا إلى عتاة اليمين الحداثي العربي اليوم – من نقد اعتبار "الغريب" السبب الأوحد لمشكلاتنا حسب منهج الأنظمة القوموية إلى إنكار أن يكون التدخل أو الاحتلال الخارجي أحد أسباب مشكلاتنا.
والحال إن الأخطر على الديمقراطية من ثقافة استبداد وطني تركها الكاتب بلا ملامح هو سلطنة الديمقراطية، أعني تحويلها إلى مبدأ أول ومطلق يسبح في فضاء العقل المجرد ويتعالى على الوطني والقومي والسياسة والاجتماع والنظام الدولي. وهذا بالضبط ما يفعله حسين الذي لا يبيح لأحد أن يعترض على الاحتلال الأميركي للعراق إلا بقدر ما يكون الاحتلال "استبدادا بديلا" حسب تعبيره. ويبلغ من فعالية ورهافة مفهوم الثقافة الاستبدادية الذي استند إليه أنه أتاح له كشف جذور الاستبداد لكي يتمكن من عدم رؤية الشجرة الاستبدادية ذاتها. بل إنه يحمّل ما يسميه "النخبة التي تعنون نفسها بالديمقراطية" المسؤولية عن سياسات وقعت ضحيتها قبل غيرها.
والحال إن من الطبيعي أن تقود الديمقراطية المطلقة واللادستورية، المتحررة من أثقال الوطنية والاستقلال ورفض "طمع الغريب"، إلى أحضان الأميركيين بخط مستقيم، (وأحمد شلبي قدوة حسنة في هذا المجال)، كما سبق للاشتراكية المطلقة أن قادت إلى أحضان الاتحاد السوفييتي السابق (خالد بكداش هو القدوة هنا)، وكما أثمرت القومية السلطانية واللادستورية أيضا نظام صدام حسين وغيره، وكما تقود الإسلامية اللادستورية إلى النموذج الطالباني وليس غيره، وكما أخيرا تقود الحداثية المطلقة والجهادية إلى مواقف متشددة في يمينيتها ونفورها من الفكرة العربية وتحمسها للتبعية للغرب. وخلافا لما قد يخطر ببالنا للوهلة الأولى، فإن ما تتوحد هذه المطلقات المتعارضة على رفضه ليس الثقافة واختلاف الثقافات وتنوعها بل السياسة بما هي قبول بتعدد الأطراف والمصالح وإطار لتداول التنوع الاجتماعي ومنهج للتفاوض والتسوية. فالتعدد الثقافي قلما يمثل مشكلة لعقائد المطلق لكنها تكشف عن شراسة قاتلة في مواجهة التعدد السياسي.
وأميل إلى الاعتقاد بأن هذه الديمقراطية المتعالية، اللاسياسية واللادستورية، هي ثمرة تفسخ الشيوعية الستالينية التي لم يعرف لؤي حسين غيرها، واستمرار لها في آن معا. فالمشترك في الحالين مفهوم للسياسة والتغير الاجتماعي لا يحتاج إلى المجتمع ولا إلى السياسة، نوع من هندسة اجتماعية كلية تعطي للنخبة أو الطليعة الستالينية أو تناسخها الأميركاني الحالي دورا خلقيا وموجدا. وحين تصطدم خططها بأية مقاومة فإن تفسيرها الجاهز هو تخلف الشعب وتمسكه بقيم وطنية بائدة كـ"الاستقلال والسيادة والهوية..".
ثقفنة الديمقراطية
ومن فضائل "ثقفنة" الديمقراطية أنها تنزع طابعها السياسي دون أن تساعد على فهم علاقتها مع الثقافة. فطرح الكاتب السوري لا يفضي إلا إلى المسألة الزائفة الشهيرة: أيهما أسبق بيضة الثقافة الديمقراطية أم دجاجة الديمقراطية؟ وهذا طبيعي لأنه طرح صوري يفكر في الديمقراطية والثقافة معا كأشياء مكتملة لا كعمليات اكتسابية أو مسارات تراكمية. وبالطبع لا يمكن أن نفهم من أين تأتي الثقافة الديمقراطية على أرضية هذا الطرح.
والواقع أن العلاقة بين الثقافة والديمقراطية مركبة وتفاعلية، وهي غير سببية ولا حتمية ولا أحادية الجانب. وليس هناك ثقافة ديمقراطية من تلقاء ذاتها وأخرى استبدادية في جوهرها كما يبدو أن حسين يتصور، وليس هناك ثقافة لا تحتاج إلى إعادة هيكلة منظوماتها الفكرية والرمزية والقيمية لتكون أكثر تلاؤما مع الديمقراطية، وليس هنالك ثقافة تمتنع بنيتها الذاتية على عملية إعادة الهيكلة هذه. فالديمقراطية ليست ابنة شرعية لأية ثقافة، ولا هي لقيطة في ثقافات أخرى. ومن الخفة إذن رمي الكلام على عواهنه والقول إن "كل ثقافتنا مشوبة بالفهم الاستبدادي الذي يطغى عليها لدرجة أنه يسمها باسمه(هل الركاكة اللغوية المميزة لمقال حسين جزء من التمرد على تقافتنا الاستبدادية الوطنية؟)". ثم أليس من الغريب أن يفسر كاتب سوري الاستبداد بالثقافة بينما من المعروف أن ديمقراطية الخمسينات السورية انهارت لسببين ليست الثقافة أحدهما: الضغط الخارجي أو "طمع الغريب"، وعجز الطبقة السياسية السورية عن حل المشكلة الفلاحية. لكن الأرجح أن حاجة الديمقراطية الثقافية إلى التاريخ تنافس في انعدامها حاجتها إلى السياسة.
على أن حسين قد لا يعني بـ"كل ثقافتنا" إلا الثقافة العليا للنخبة التي "تعنون نفسها بالديمقراطية". لكن حتى هذه تتحول في يديه إلى ما يشبه الليل الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء حسب المثل الألماني. فهو يحشر فيها كل شيئ: "ففهمنا للوطن والوطنية والاستقلال والسيادة والهوية والتعددية السياسية والفكرية وتعددية التعليم والدولة والمرأة والنخبة والشعب والحل القهري والأسلوب العنفي وحق التمثيل وحق الأقليات السياسية...إلخ، كل هذا يشكل فهما استبداديا جميعنا مسؤولون عنه، وعلى جميعنا التشكيك بكل أفكارنا ومواقفنا واتهامها بالاستبدادية حتى يثبت العقل والمعقول براءتها". جميعنا؟ لا بأس، فالرجل مخلص لمبدأ تجهيل الفاعل، المميز للديمقراطيين الثقافيين. ومن الطبيعي في ليل الثقافة الاستبدادية هذا أن لا تكون المشكلة "اغتصاب العسكر للسلطة"، بقدر ما هي "نتيجة غلبة ثقافة استبدادية أنتجناها جميعا". جميعا طبعا! ومن الطبيعي كذلك أن يكون "فهمنا" متهما بالاستبداد حتى يثبت العكس أمام محكمة الثقافة الديمقراطية.
والحال ليس من الغريب أن تقود المقاربة الثقافية والإطلاقية للديمقراطية ناقد ثقافة الاستبداد إلى موقف مماثل لموقف النظم الاستبدادية. فكلا الطرفين يقيم علاقة حتمية بين الثقافة وغياب الديمقراطية. وكلاهما يشتقان نظم الاستبداد الحالية من "كل ثقافتنا". فأنظمة الاستبداد تستنتج نفسها، بحذافيرها، من "ثقافتنا وقيمنا وتراثنا" لتتمكن من رفض الديمقراطية الدخيلة والغريبة، أما الناقد فسيتنتج الأنظمة من ثقافة "النخبة التي تعنون نفسها بالديمقراطية" ليتمكن من رفض هذه النخبة.
دمشق 31 آب 2003