أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد مضيه - أعمدة سرابية لهيكل الأبارتهايد















المزيد.....



أعمدة سرابية لهيكل الأبارتهايد


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3305 - 2011 / 3 / 14 - 11:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ما إن تحرك الشباب في تونس حتى ذابت كقطعة ثلج تحت شمس حارقة مشاعر تبخيس الذات، الفردية والجماعية، لتملأ الفراغ بصورة تلقائية نداءات الديمقراطية والتغيير وتحفزات الحراك الشعبي في أكثر من قطر عربي، مقرونة بثقة تملأ النفوس. هذه المشاعر، الموحدة للمجتمع والمشتركة بين المجتمعات العربية، هي بعض منطويات وعي قومي مضى ردحا في بيات واستيقظ فجأة على هتافات الشباب التونسي تجاوبت أصداؤه في أقطار عربية متعددة. أدرك الفكر الاستشراقي، المستلهم لغايات التوسع الكولنيالي للغرب الرأسمالي، هذا الوعي القومي في سنوات القرن الثامن عشر وصمم على التصدي له ومكافحته؛ فانبثقت في الفكر الاستشراقي ذاته فكرة اختلاق إسرائيل القديمة كمقدمة ضرورية لإقامة إسرائيل حديثة في قلب العالم العربي، تكون إحدى أدوات الهيمنة على المنطقة وتمزيقها. اقتضى تلفيق التاريخ القديم إسكات التاريخ الفلسطيني، تمهيدا لقمع الصوت الفلسطيني؛ فاندمجت محن الشعب الفلسطيني بضرورات تخليد تبعية العرب وتخلفهم وتمزقهم مع مشروع صهيوني للاستيطان في فلسطين.
أفتى الفكر الاستشراقي بقصور العقل العربي؛ فهو يستعصي على الحداثة والعلم ، ويرفض الديمقراطية بسبب من عنصر قابع في تركيبته الجينية. الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا ؛ للشرق الخيال والتدين الصوفي والروحي والجبرية العفوية ، يدور في فلكها دوران الليل والنهار وتعاقب الفصول ؛ وللغرب الفكر العلماني وعالم الاكتشافات والاختراعات المنفتح على التقدم نحو آفاق مفتوحة أبدا. وكما نبه الدكتور إدوارد سعيد في كتاباته عن الاستشراق فقد " أصدر الفكر الاستشراقي مفهومه عن العرب والإسلام، وعن الموضوع الفلسطيني مرة واحدة وإلى الأبد.. الدراسات النقدية للمواضيع الأدبية تخضع للظرف التاريخي وأحكامه العلمية ولمواقف القراء ومستوياتهم الثقافية؛ غير أن هذا الامتياز لم يمنح إلا نادرا للشرق والعرب والإسلام". الهوية ليست مفهوما جامدا، وليست معطى لمرة واحدة ؛ بل هي قيمة متحركة تغتني او تفتقر طبقا لمحددات اجتماعية تاريخية.

وحدة المصائر

جمع المؤرخ الفلسطيني ، الدكتور إميل توما الحقائق الكاشفة لحقيقة الأهداف المضمرة خلف فكرة إنشاء إسرائيل الحديثة. نقل عن كتاب " الصهيونية والسياسة الدولية " لمؤلفه هوراس ماير كالين أن "فكرة بعث إسرائيل انتشرت على صعيد السياسة العملية والمستوى الديني بين غير اليهود بصورة أوسع من انتشارها في الأوساط اليهودية ". ونقل عن هومفورت في مؤلفه "ملاحظات حول وضع اليهود في فلسطين 1852": "لم تكن إقامة الدولة اليهودية عملا إنسانيا عادلا، بل ضرورة سياسية في الذهن البريطاني لحماية الطريق عبر آسيا الصغرى إلى الهند ".
وتحت الهدف المضمر تشابكت كوارث فلسطين مع انتكاسات حركة التحرر والتقدم العربية. في الجانب الفلسطيني استوحت الدراسات التوراتية الملتزمة بالفكر الاستشراقي أطماع التوسع الكولنيالي الغربي، فوجهت الأبحاث الأثرية لإسناد تلفيقات تدعم الرواية الصهيونية المتلاحمة عضويا بالأهداف الكولنيالية. استطاعت التلفيقات والأبحاث المطوعة للتخيلات التوراتية تعبئة مواقف مؤيدة للرواية الصهيونية في عالم الغرب ومساندة إجراءاتها القائمة على فرضية تزعم أن اليهود محررون والفلسطينيين محتلون غرباء!! صمموا في تخيلاتهم تاريخا لفلسطين القديمة استقوه من حكايات التوراة مضى على غرار التاريخ المعاصر: اختلقوا علاقة بين الفلسطينيين وجزيرة كريت وما زلنا ننضح من معين الأكذوبة. واخترعوا شعبا ضاربا في بطن التاريخ له "جوهر إثني صلب وراسخ لا يتغير على مر التاريخ، وشجرة أنساب متسلسلة لشعب قديم متميز، تستبعد الانفصال عن الأمة مهما نأت به الترحالات". اختلقوا مملكة في القدس امتدت من النيل حتى ضفاف الفرات الغربية، ونسبوا أماكن ومدنا في فلسطين إلى جذر يهودي، وهي تعود لقبيلة حمير العربية في اليمن الجنوبي باد جزء منها ودعوا بالعرب البائدة ، و جارت الظروف وغزوات الرومان على بعض آخر فهاجروا إلى بلاد الشام حاملين معهم أسماء مدنهم ووديانها وجبالها ليطلقوها على الوطن الجديد مثلما فعل المهاجرون الأوروبيون إلى العالم الجديد. وثق الاستشراق اختلاقاته بالاستناد إلى ترجمات مغلوطة لعبارات وردت في التوراة الأصلية، أو أسقط بصورة تعسفية مختلة أحداثا وتواريخ على جغرافية فلسطين؛ تسلح بمجازر لم يثبت حدوثها في الماضي لتبرير مجازر الإبادة للجماهير الفلسطينية وشرعنة التطهير العرقي في عصر حقوق الإنسان. قال علماء آثارهم، وقد أعماهم الانفعال الحماسي لتأويلات الاستشراق، فرشّوا ماءهم المقدس على الجرائم الوحشية:"لا يوجد أي سبب للشك في أن هذا الغزو( غزو يشوع) كان، كما هو موصوف في سفر يشوع ،عملية وحشية دموية؛ لقد كانت هذه هي حرب يهوه المقدسة التي سوف يعطى فيها شعبه أرض الميعاد". جرى إسقاط التوراة على تاريخ فلسطين من أجل إلباس التاريخ اليهودي، وبصورة يتضح تعسفها لكل متمعن في النصوص التوراتية المدونة بلغتها الأصلية، وهو ما يدعى "التناخ".
احتضنت الكولنيالية مشروع إقامة دولة إسرائيل وهي ما زالت تدعمها كما أن إسرائيل تساند الكولنيالية في الوطن العربي والعالم وتساند قيم التخلف وعلاقاته وأنماطه في فلسطين والعالم العربي كافة، وتبذل المساعي ـ خاصة في ظروف العولمة ـ لتقويض هويته القومية وكيانه الحضاري.
وعلى الجانب العربي استطاع نظام الكولنيالية، المفروض على الأقطار العربية، أن يفعّل جدل التخلف والتبعية. نجحت بريطانيا منذ احتلال مصر عام 1882 في تصفية منجزات نهضة مصر وتدمير الصناعات الجنينية المقامة خلال ثلاثة أرباع القرن المنصرمة؛ وفيما بعد قامت بحركة اعتراضية لتدمير الطابع الشعبي والنزعة الديمقراطية في حركة التحرر الوطني العربية . أدخلت نظما تعليمية تساعد على وأد ملكة التفكير والبحث العلمي، وهي في مهد الطفولة. تواصلت النظم الكولنيالية تبدد أفكار التنوير وتصنع حداثة زائفة . كما تحايلت النظم الكولنيالية لإجهاض المرحلة التنويرية للنهضة الأولى وجمدت النظرات التراثية والفكر الديني عند فكر العصر الوسيط . حافظت على تأويلات للدين تفرض طاعة ولي الأمر ولو كان سفيها. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة حدثت ردة المجتمعات العربية، التي عرّضتها لمحن قاسية، تفاعلت معها واستفحلت محنة الشعب الفلسطيني . جرت تداعيات سلبية أهدرت الفرد تفكيرا وعقلا وإرادة وحاجات؛ أفشلت مشاريع التنمية الوطنية وفاقمت النزعات القطرية وعززت الاستبداد السياسي المتحالف مع العصبيات العشائرية والطائفية؛ حيث تقدم الولاء على الإنجاز وتصدر الدوائر الرسمية والأنشطة الاجتماعية المتزلفون، عديمو الكفاءة ، فشردوا الكفاءات وطاردوا العقلانية والتفكير الحر، وتعهدوا الفساد يستنزفون من خلاله الثروات الوطنية فيما لا يفيد التنمية الوطنية؛ فاستحكم الوهن والإحباط وأعطب العقل والإبداع حتى داخل الجامعات ومعاهد العلم. تمت تصفية معالم الثقافة الوطنية الديمقراطية التي أفرزتها الحركات الوطنية الاستقلالية ، في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، خلال فترة المد الشعبي التي شحنت خيالات الناس بتطلعات واعدة بقيم التقدم وبطاقة تعبوية ألهبت مشاعر الجمهور العريض وعبأته من أجل التحرر والانعتاق الناجز. بدأت رحلة انحدار للمجتمعات العربية باتجاه حضيض الحالة التي صورتها التلفيقات الاستشراقية للمجتمعات العربية ـ الإسلامية.

شرع الفكر الوطني يتحدث عن فلسطين العربية أو فلسطين الإسلامية تعبيرا عن تطلعات ارتآها مسلمات؛ بينما ثابر ورثة المتخيل التوراتي لإسرائيل القديمة على قضم الأرض العربية وإضعاف الوجود العربي في فلسطين. الفكر القومي الفلسطيني يبني قصورا في الهواء والصهيونية تبني فوق الواقع الملموس وجودا ماديا متعينا وتسيجه بكل أدوات المناعة. فلسطين تتسرب من بين الأيدي وتتواصل تأكيدات عروبتها. تعذر الإمساك باندماج المشروع الصهيوني بالحركة الكولنيالية فجاءت جهود التصدي دون الضرورة؛ وفي الحالات النادرة التي وعى الفكر الحلقة الجهنمية المحيطة بفلسطين فقد حال انعزاله عن القيادات السياسية دون التبصير بالعلاقة العضوية بين الكولنيالية والمشروع الصهيوني، أو ترسيخها في الوعي الاجتماعي. كان من السهل دحض ادعاءات تجميد التاريخ على هذه الأرض؛ فبصمات الفلاح الفلسطيني وإبداعات الحرفي وفقه المتحدثين محفورة على فصول حضارتها المتلاحقة والثرية. كما إن باطن الأرض لم يحفظ لغير الإنسان الفلسطيني على هذه الديار من آثار أو تراث. ودحضت الاكتشافات الأثرية كل ادعاء للآخرين في حضارة هذه الأرض. لم تنشق منطقة القدس عن قصور الملك العظيم وهيكله ومعالم حضارته. ولم تحفظ أريحا خطوات يشوع على أرضها ، ولا حفظت سيناء خطى العابرين من مصر إلى فلسطين.
حمل الفلاح الفلسطيني وما زال يحمل مواريث من التحديات في تأكيد الهوية العربية لفلسطين، بينما قصرت الثقافة في البحث عن شروط ومضامين هذه الهوية إنسانيا وحملها أداة كفاحية للدفاع عن عروبة فلسطينً. المرافق الأثرية والتراثية والتاريخية والبيئية غير محمية ولا مصانة، فهي عرضة للنهب والتشويه. حدث تقصير في حفظ التراث واكبه قصور في الجهد الثقافي لدحض التزييف وفضح الاختلاق .

الأعمدة السرابية
المكائد المدبرة جاءت أعقد من أن تكشفها الحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن استيعابها. والأخطر من ذلك ان عفوية المقاومة الفلسطينية وجبرية توجهاتها، قد نأت بها عن الثقافة والمثقفين. إن تغييب المثقفين عن سلطة القرار الفلسطيني قد أبقاه في حلقة الإرادوية التي جمحت مرارا في مغامرات أملتها اعتبارات ذاتية أودت إلى الإخفاق، وأتاحت للاستيطان قضم المزيد والمزيد من الأرض الفلسطينية، وبناء نظام للتمييز العرقي استند إلى ذرائع الدين والتاريخ . كما فوت تمجيد العفوية فرصة ثمينة للنضال الثقافي على الصعيد الكوني ؛ فبقيت إنجازات ثقافية نفيسة تسند الرواية الفلسطينية غير مستثمرة.
نقل البروفيسور ساند عن مثقف يدعى يسرائيل بلكيند (1861ـ 1929)، كان من أوائل المستوطنين، واختلف عن التيار العام إذ آمن دوما بالرابطة بين السكان القدامى وبين الفلاحين المحليين في أيامه . وعشية موته لخص موقفه في كتيب خاص كرس موقفه في هذه القضية؛ ونجد في عمله هذا جميع الفرضيات الفضائحية التي شطبت لاحقا من أجندة المؤرخين الصهاينة . قال في المفكرة: " ’ اعتاد كتبة التاريخ اليهودي القول أنه بعد خراب اورشليم على يد تيتوس تبعثر اليهود في كل بلاد الكون . ولكننا نقف هنا أيضا أمام خطأ تاريخي يجب إزالته وإبانة الأمور على حقيقتها‘. من وجهة نظر بلكيند أن تمرد باركوخفا وحتى التمرد في الجليل في بداية القرن السابع الميلادي تدل على أن معظم الشعب ظل موجودا لفترة طويلة أخرى على أرضه. الذين غادروا هم الطبقات العليا والحاخامات وعلماء التوراة، الذين فضلوا الدين على البلاد.... لكن الفلاحين ظلوا مشدودين إلى أرضهم".

وفي أواخر عقد السبعينات ، وبينما أعدت حكومة بيغن الليكودية خطة كبيرة لإعلاء بنيان الأبارتهايد الاقتلاعي، طلع آرثر كوستلر، وهو صهيوني، بكتاب " القبيلة الثالثة عشرة" ، وفيه يفضح أصول اليهود الأشكيناز غير المرتبطة بفلسطين ، وأنهم يمتون بصلة إلى قبيلة الخزر في جنوب روسيا، التي اعتنقت الدين اليهودي في القرن التاسع الميلادي. طعن الكتاب في أقدس الطروحات الصهيونية بصدد نقاء العرق اليهودي الضارب في عمق التاريخ، وبصدد نفي اليهود القسري من "أرض الميعاد".
قبل كوستلر وقفت شخصيتان يهوديتان بارزتان ضد النزعة القومية للصهيونية، يعتبر حضورهما امتدادا لمرحة الإصلاحية وثقافتها الإنسانية. أولهما ، فرويد، عالم التحليل النفسي المشهور، وكان قد تلقى عام 930 1، رسالة من حاييم كوفلر، عضو "مؤسّسة إعادة توطين اليهود في فلسطين"، تطلب منه، بحكم مكانته العلمية الرفيعة كعالم سيكولوجي، التوقيع على النّداء الذي وجّهه إليه من أجل دعم قضيّة الصهيونية في فلسطين، ومساندة حقّ اليهود في إقامة شعائرهم بحائط المبكى. رد فرويد في الرسالة التي أبقيت مغيبة " كان من الأجدى، فيما يبدو لي، بناء وطن يهوديّ على أرض غير مشحونة تاريخيّا. لكنّني أعرف أنّ فكرة عقلانيّة من هذا القبيل لا يمكن أن تستدرّ حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء. وأقرّ أيضا، وبكلّ أسف، أنّ تعصّب مواطنينا غير الواقعيّ يتحمّل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لا يمكن لي أن أبدي أيّ تعاطف ممكن مع تديّن مؤوّل بطريقة خاطئة".
والشخصية الثانية هي الدكتور ألبرت آينشتين، صاحب نظرية النسبية. يمكن الاستدلال على العلاقة الإشكالية بين العالم الشهير والصهيونية السياسية في واقعة حدثت حين رفض عرضا من بن غوريون لتسلم منصب رئيس الدولة الجديدة إثر وفاة حاييم وايزمن عام 1952. قلّة من الناس عرفت حينذاك سبب الرفض. فسر العالم موقفه بعزلته عن الجمهور الإسرائيلي :"سيتعين علي أن أقول للشعب الإسرائيلي أشياء لا يحب سماعها ". اما بن غوريون فبرر طلبه " اضطررت لعرض المنصب عليه لأنه من المستحيل أن لا أفعل ، ولكن إذا قبل فسنقع في ورطة " . بعد ذلك تُرك آينشتين يعاني العزلة الباردة يذوي في النسيان: "سأظل مقيما هنا (بالولايات المتحدة)بقية حياتي ، عازلا نفسي كلية عن الآخرين قدر استطاعتي. إن كل ما أحاول عمله في المجال الإنساني يتدهور بشكل ثابت إلى كوميدا سخيفة "، كما جاء في رسالة إلى صديق [ فرد جيرومي / آينشتاين حول إسرائيل والصهيونية آراؤه المثيرة حول الشرق الأوسط: ترجمة مازن الحسيني ، الناشر وكالة أبوغوش، رام الله، 2011، 183]. وكشف النقاب عن معاناته استيفان ميساروش عالم الاقتصاد البريطاني: "خاض اينشتين نضالا لسنوات طويلة ضد عسكرة العلم ، ومن أجل نزع السلاح النووي الحيوية . وأصيب بخيبة أمل نتيجة إلغاء مؤتمر لبحث هذه القضية؛ واستمر في النضال حتى وفاته متحديا التهديدات والتشهير العلني. تمكن خصومه من عزله(..) نظرا" لافتقاد حركة جماهيرية تردد أصداءه وتسانده ، حركة جماهيرية قادرة على مواجهة قوى رأس المال المدمرة والمتمترسة فتجردها من سلاحها من خلال رؤيتها البديلة للعملية الحيوية لتنظيم شئون الإنسانية".[ أستيفان ميساروش:52]
وقفت الصهيونية تتفرج؛ فهي تعتبر خطيئة لا تغتفر الوقوف بوجه عرابها ،التجمع الصناعي العسكري. و بالنظر
أبدى آينشتين عداءه الصريح للقومية المتطرفة ممثلة في حزب حيروت منذ إنشائه. ونشرت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر في الرابع من كانون أول / ديسمبر 1948 رسالة موقعه من ألبرت آينشتاين ، مع عدد من المفكرين والعلماء، تحذر بشدة من خطر الفاشية في إسرائيل، ممثلة بحزب بيغن ( حيروت/ الحرية) . جاء في الرسالة: "... حتى وقت قريب كانوا يبشرون صراحة بمذهب الدولة الفاشية. إن الحزب الإرهابي يفضح في أفعاله طابعه الحقيقي، ويمكننا ان نحكم من أفعاله الماضية بما يمكن ان نتوقعه ان يفعل في المستقبل.
إن سلوكهم في قرية دير ياسين العربية كان مثالا صادماً. هذه القرية التي تقع خارج الطرق الرئيسية وتحيط بها أراض يهودية لم تشترك في الحرب، بل إنها ردت أيد عربية أرادت ان تستخدم القرية قاعدة لها. وفي 9 نيسان هاجمت عصابات إرهابية هذه القرية المسالمة التي لم تكن هدفاً في القتال وقتلت معظم سكانها، 240 رجلاً وامرأة وطفلاً واحتفظت بعدد قليل منهم على قيد الحياة لتستعرضهم كأسرى في شوارع القدس.الإرهابيون، الذين هم بعيدون عن الشعور بالعار من فعلهم، كانوا فخورين بهذه المذبحة ونشروها على نطاق واسع، ودعوا المراسلين الأجانب الموجودين في البلد ليشاهدوا الجثث المكومة والفوضى العامة في دير ياسين".
نقل عن البرت آينشتين دعوته إلى استبدال أحكام الإعدام بحق الفلسطينيين الثلاثة الذين نفذ فيهم حكم الإعدام بسبب دورهم في ثورة البراق عام 1929. وطالب بإصدار عفو عن سجناء الثورة من العرب " لأنه كان يشعر بأن الشباب اليهودي اليميني التوجه يشاركون في المسئولية عن الأحداث " فريد جيرومي، 64]. يبدو أن آينشتين ، بخلاف فرويد افتتن بالحركة الصهيونية متذرعا بالتهجمات اللاسامية في عشرينات القرن الماضي. أفلحت الحركة الصهيونية في استثمار سمعته العلمية ونفوذه الأدبي لأغراضها ولم تنفع عواطفه الإنسانية في ردع التوجهات العنصرية للصهيونية. فمن خطاب له ألقاه في فندق أمبسادور في لوس أنجلس(16شباط 1930) يتبين أنه وقع تحت تأثير مضلل ، إذ يقول: " لقد جرى الإعلان بوضوح أننا لا نسعى لخلق مجتمع سياسي ، وبأن هدفنا هو هدف ثقافي بأوسع معاني الكلمة ،وبما أن الأمر كذلك فإن علينا أن نحل مشكلة العيش بروحية الجيرة جنبا لجنب مع إخوتنا وأقاربنا العرب ، بطريقة نبيلة وصريحة وكريمة " [ فرد جيرومي: 87].
كان جاهلا للمياه الغزيرة التي سالت تحت الجسر حتى 29 نيسان 1938، حين أورد في كلمة ألقاها "افضل أن أرى اتفاقا معقولا مع العرب يقوم على أساس العيش معا بسلام بدلا من إنشاء دولة يهودية ... إن الطبيعة الأساسية لليهودية تقوم على فكرة دولة يهودية لها حدود وجيش وقدر من السلطة الدنيوية ... إنني أخاف من الأذى الداخلي الذي سيصيب اليهودية ـ بشكل خاص من نمو مشاعر قومية ضيقة بين صفوفنا ، مشاعر اضطررنا إلى محاربتها بقوة حتى دون وجود دولة يهودية..."[فرد جيرومي : 99].
ونواصل تعرية التخيلات التوراتية للفكر الاستشراقي .
في عقد الثمانينات من القرن الماضي طعن مؤرخون وباحثون أثريون في تأويلات الاستشراق لحكايات التوراة ، وبينوا طابعها الخرافي. برز علماء على قدر من النزاهة والصدق العلمي ، ومنهم الفرنسي البروفيسور توماس تومسون Thomas Thomson ، الذي كشف على الملأ العلمي ،عام 1992، في كتابه ) التاريخ القديم لشعب إسرائيل من المصادر المكتوبة والأثرية ) .. كشف تواطؤ علماء الآثار التوراتيون على تشويه الحقائق العلمية. ظهر البروفيسور توماس تومسون في ميدان الآثار ليفسد الزفة المقامة لدولة إسرائيل و"عاصمتها الأبدية"،فعارض التوراتيين التقليديين . قال في كتابه " إن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم تستند إلى الخيال" .
ثم أعقبته كوكبة من العلماء ، منهم البروفيسور كيت وايتلام ، الذي وضع كتابا عام 1996 عنوانه "اختلاق دولة إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني" نقلته إلى العربية سحر الهنيدي ونشره "عالم المعرفة عام 1999، فضح فيه جملة تأويلات للتوراة زيفت التاريخ الحقيقي لفلسطين، وطالب بتحرير التاريخ الفلسطيني من قبضة التاريخ الإسرائيلي، مؤكدا أن الحاضر شكل تاريخ الماضي طبقا لأهداف سياسية معاصرة: "إن خطاب الدراسات التوراتية قد شكلته الصراعات المعاصرة المتعلقة بفلسطين ومستقبلها؛ عمليا اكتسب بناء إسرائيل القديمة طابع الأحداث الجارية في فلسطين في الوقت الذي صيغت فيه تلك الأحداث". ونقل البروفيسور وايتلام عن أحد الباحثين (ديفيز1992) قوله أن "النموذج اللاهوتي للتاريخ التوراتي تم الحفاظ عليه بإجماع المتخصصين في الدراسات التوراتية، من خلال مواقعهم في كليات اللاهوت وحلقات البحث ، وهم الذين أسهموا بل أيدوا ادعاءات إسرائيل بامتلاك الحقيقة. استخلص وايتلام من دراساته ، ولدى استعراض كم كبير من معطيات قدمها من سبقوه أو جايلوه ، مؤكدا " إذا تمكنا من تغيير المنظور الذي تنبع منه التصورات لنبين أن خطاب الدراسات التوراتية قد اختلق تاريخا، كثيرا ما يعكس حاضرها في كثير من جوانبه ، عندئذ فقط يمكن أن نحرر التاريخ الفلسطيني".

إن تحرك الشباب في تونس حتى ذابت كقطعة ثلج تحت شمس حارقة مشاعر تبخيس الذات، الفردية والجماعية، لتملأ الفراغ بصورة تلقائية نداءات الديمقراطية والتغيير وتحفزات الحراك الشعبي في أكثر من قطر عربي، مقرونة بثقة تملأ النفوس. هذه المشاعر، الموحدة للمجتمع والمشتركة بين المجتمعات العربية، هي بعض منطويات وعي قومي مضى ردحا في بيات واستيقظ فجأة على هتافات الشباب التونسي تجاوبت أصداؤه في أقطار عربية متعددة. أدرك الفكر الاستشراقي، المستلهم لغايات التوسع الكولنيالي للغرب الرأسمالي، هذا الوعي القومي في سنوات القرن الثامن عشر وصمم على التصدي له ومكافحته؛ فانبثقت في الفكر الاستشراقي ذاته فكرة اختلاق إسرائيل القديمة كمقدمة ضرورية لإقامة إسرائيل حديثة في قلب العالم العربي، تكون إحدى أدوات الهيمنة على المنطقة وتمزيقها. اقتضى تلفيق التاريخ القديم إسكات التاريخ الفلسطيني، تمهيدا لقمع الصوت الفلسطيني؛ فاندمجت محن الشعب الفلسطيني بضرورات تخليد تبعية العرب وتخلفهم وتمزقهم مع مشروع صهيوني للاستيطان في فلسطين.
أفتى الفكر الاستشراقي بقصور العقل العربي؛ فهو يستعصي على الحداثة والعلم ، ويرفض الديمقراطية بسبب من عنصر قابع في تركيبته الجينية. الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا ؛ للشرق الخيال والتدين الصوفي والروحي والجبرية العفوية ، يدور في فلكها دوران الليل والنهار وتعاقب الفصول ؛ وللغرب الفكر العلماني وعالم الاكتشافات والاختراعات المنفتح على التقدم نحو آفاق مفتوحة أبدا. وكما نبه الدكتور إدوارد سعيد في كتاباته عن الاستشراق فقد " أصدر الفكر الاستشراقي مفهومه عن العرب والإسلام، وعن الموضوع الفلسطيني مرة واحدة وإلى الأبد.. الدراسات النقدية للمواضيع الأدبية تخضع للظرف التاريخي وأحكامه العلمية ولمواقف القراء ومستوياتهم الثقافية؛ غير أن هذا الامتياز لم يمنح إلا نادرا للشرق والعرب والإسلام". الهوية ليست مفهوما جامدا، وليست معطى لمرة واحدة ؛ بل هي قيمة متحركة تغتني او تفتقر طبقا لمحددات اجتماعية تاريخية.

وحدة المصائر

جمع المؤرخ الفلسطيني ، الدكتور إميل توما الحقائق الكاشفة لحقيقة الأهداف المضمرة خلف فكرة إنشاء إسرائيل الحديثة. نقل عن كتاب " الصهيونية والسياسة الدولية " لمؤلفه هوراس ماير كالين أن "فكرة بعث إسرائيل انتشرت على صعيد السياسة العملية والمستوى الديني بين غير اليهود بصورة أوسع من انتشارها في الأوساط اليهودية ". ونقل عن هومفورت في مؤلفه "ملاحظات حول وضع اليهود في فلسطين 1852": "لم تكن إقامة الدولة اليهودية عملا إنسانيا عادلا، بل ضرورة سياسية في الذهن البريطاني لحماية الطريق عبر آسيا الصغرى إلى الهند ".
وتحت الهدف المضمر تشابكت كوارث فلسطين مع انتكاسات حركة التحرر والتقدم العربية. في الجانب الفلسطيني استوحت الدراسات التوراتية الملتزمة بالفكر الاستشراقي أطماع التوسع الكولنيالي الغربي، فوجهت الأبحاث الأثرية لإسناد تلفيقات تدعم الرواية الصهيونية المتلاحمة عضويا بالأهداف الكولنيالية. استطاعت التلفيقات والأبحاث المطوعة للتخيلات التوراتية تعبئة مواقف مؤيدة للرواية الصهيونية في عالم الغرب ومساندة إجراءاتها القائمة على فرضية تزعم أن اليهود محررون والفلسطينيين محتلون غرباء!! صمموا في تخيلاتهم تاريخا لفلسطين القديمة استقوه من حكايات التوراة مضى على غرار التاريخ المعاصر: اختلقوا علاقة بين الفلسطينيين وجزيرة كريت وما زلنا ننضح من معين الأكذوبة. واخترعوا شعبا ضاربا في بطن التاريخ له "جوهر إثني صلب وراسخ لا يتغير على مر التاريخ، وشجرة أنساب متسلسلة لشعب قديم متميز، تستبعد الانفصال عن الأمة مهما نأت به الترحالات". اختلقوا مملكة في القدس امتدت من النيل حتى ضفاف الفرات الغربية، ونسبوا أماكن ومدنا في فلسطين إلى جذر يهودي، وهي تعود لقبيلة حمير العربية في اليمن الجنوبي باد جزء منها ودعوا بالعرب البائدة ، و جارت الظروف وغزوات الرومان على بعض آخر فهاجروا إلى بلاد الشام حاملين معهم أسماء مدنهم ووديانها وجبالها ليطلقوها على الوطن الجديد مثلما فعل المهاجرون الأوروبيون إلى العالم الجديد. وثق الاستشراق اختلاقاته بالاستناد إلى ترجمات مغلوطة لعبارات وردت في التوراة الأصلية، أو أسقط بصورة تعسفية مختلة أحداثا وتواريخ على جغرافية فلسطين؛ تسلح بمجازر لم يثبت حدوثها في الماضي لتبرير مجازر الإبادة للجماهير الفلسطينية وشرعنة التطهير العرقي في عصر حقوق الإنسان. قال علماء آثارهم، وقد أعماهم الانفعال الحماسي لتأويلات الاستشراق، فرشّوا ماءهم المقدس على الجرائم الوحشية:"لا يوجد أي سبب للشك في أن هذا الغزو( غزو يشوع) كان، كما هو موصوف في سفر يشوع ،عملية وحشية دموية؛ لقد كانت هذه هي حرب يهوه المقدسة التي سوف يعطى فيها شعبه أرض الميعاد". جرى إسقاط التوراة على تاريخ فلسطين من أجل إلباس التاريخ اليهودي، وبصورة يتضح تعسفها لكل متمعن في النصوص التوراتية المدونة بلغتها الأصلية، وهو ما يدعى "التناخ".
احتضنت الكولنيالية مشروع إقامة دولة إسرائيل وهي ما زالت تدعمها كما أن إسرائيل تساند الكولنيالية في الوطن العربي والعالم وتساند قيم التخلف وعلاقاته وأنماطه في فلسطين والعالم العربي كافة، وتبذل المساعي ـ خاصة في ظروف العولمة ـ لتقويض هويته القومية وكيانه الحضاري.
وعلى الجانب العربي استطاع نظام الكولنيالية، المفروض على الأقطار العربية، أن يفعّل جدل التخلف والتبعية. نجحت بريطانيا منذ احتلال مصر عام 1882 في تصفية منجزات نهضة مصر وتدمير الصناعات الجنينية المقامة خلال ثلاثة أرباع القرن المنصرمة؛ وفيما بعد قامت بحركة اعتراضية لتدمير الطابع الشعبي والنزعة الديمقراطية في حركة التحرر الوطني العربية . أدخلت نظما تعليمية تساعد على وأد ملكة التفكير والبحث العلمي، وهي في مهد الطفولة. تواصلت النظم الكولنيالية تبدد أفكار التنوير وتصنع حداثة زائفة . كما تحايلت النظم الكولنيالية لإجهاض المرحلة التنويرية للنهضة الأولى وجمدت النظرات التراثية والفكر الديني عند فكر العصر الوسيط . حافظت على تأويلات للدين تفرض طاعة ولي الأمر ولو كان سفيها. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة حدثت ردة المجتمعات العربية، التي عرّضتها لمحن قاسية، تفاعلت معها واستفحلت محنة الشعب الفلسطيني . جرت تداعيات سلبية أهدرت الفرد تفكيرا وعقلا وإرادة وحاجات؛ أفشلت مشاريع التنمية الوطنية وفاقمت النزعات القطرية وعززت الاستبداد السياسي المتحالف مع العصبيات العشائرية والطائفية؛ حيث تقدم الولاء على الإنجاز وتصدر الدوائر الرسمية والأنشطة الاجتماعية المتزلفون، عديمو الكفاءة ، فشردوا الكفاءات وطاردوا العقلانية والتفكير الحر، وتعهدوا الفساد يستنزفون من خلاله الثروات الوطنية فيما لا يفيد التنمية الوطنية؛ فاستحكم الوهن والإحباط وأعطب العقل والإبداع حتى داخل الجامعات ومعاهد العلم. تمت تصفية معالم الثقافة الوطنية الديمقراطية التي أفرزتها الحركات الوطنية الاستقلالية ، في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، خلال فترة المد الشعبي التي شحنت خيالات الناس بتطلعات واعدة بقيم التقدم وبطاقة تعبوية ألهبت مشاعر الجمهور العريض وعبأته من أجل التحرر والانعتاق الناجز. بدأت رحلة انحدار للمجتمعات العربية باتجاه حضيض الحالة التي صورتها التلفيقات الاستشراقية للمجتمعات العربية ـ الإسلامية.

شرع الفكر الوطني يتحدث عن فلسطين العربية أو فلسطين الإسلامية تعبيرا عن تطلعات ارتآها مسلمات؛ بينما ثابر ورثة المتخيل التوراتي لإسرائيل القديمة على قضم الأرض العربية وإضعاف الوجود العربي في فلسطين. الفكر القومي الفلسطيني يبني قصورا في الهواء والصهيونية تبني فوق الواقع الملموس وجودا ماديا متعينا وتسيجه بكل أدوات المناعة. فلسطين تتسرب من بين الأيدي وتتواصل تأكيدات عروبتها. تعذر الإمساك باندماج المشروع الصهيوني بالحركة الكولنيالية فجاءت جهود التصدي دون الضرورة؛ وفي الحالات النادرة التي وعى الفكر الحلقة الجهنمية المحيطة بفلسطين فقد حال انعزاله عن القيادات السياسية دون التبصير بالعلاقة العضوية بين الكولنيالية والمشروع الصهيوني، أو ترسيخها في الوعي الاجتماعي. كان من السهل دحض ادعاءات تجميد التاريخ على هذه الأرض؛ فبصمات الفلاح الفلسطيني وإبداعات الحرفي وفقه المتحدثين محفورة على فصول حضارتها المتلاحقة والثرية. كما إن باطن الأرض لم يحفظ لغير الإنسان الفلسطيني على هذه الديار من آثار أو تراث. ودحضت الاكتشافات الأثرية كل ادعاء للآخرين في حضارة هذه الأرض. لم تنشق منطقة القدس عن قصور الملك العظيم وهيكله ومعالم حضارته. ولم تحفظ أريحا خطوات يشوع على أرضها ، ولا حفظت سيناء خطى العابرين من مصر إلى فلسطين.
حمل الفلاح الفلسطيني وما زال يحمل مواريث من التحديات في تأكيد الهوية العربية لفلسطين، بينما قصرت الثقافة في البحث عن شروط ومضامين هذه الهوية إنسانيا وحملها أداة كفاحية للدفاع عن عروبة فلسطينً. المرافق الأثرية والتراثية والتاريخية والبيئية غير محمية ولا مصانة، فهي عرضة للنهب والتشويه. حدث تقصير في حفظ التراث واكبه قصور في الجهد الثقافي لدحض التزييف وفضح الاختلاق .

الأعمدة السرابية
المكائد المدبرة جاءت أعقد من أن تكشفها الحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن استيعابها. والأخطر من ذلك ان عفوية المقاومة الفلسطينية وجبرية توجهاتها، قد نأت بها عن الثقافة والمثقفين. إن تغييب المثقفين عن سلطة القرار الفلسطيني قد أبقاه في حلقة الإرادوية التي جمحت مرارا في مغامرات أملتها اعتبارات ذاتية أودت إلى الإخفاق، وأتاحت للاستيطان قضم المزيد والمزيد من الأرض الفلسطينية، وبناء نظام للتمييز العرقي استند إلى ذرائع الدين والتاريخ . كما فوت تمجيد العفوية فرصة ثمينة للنضال الثقافي على الصعيد الكوني ؛ فبقيت إنجازات ثقافية نفيسة تسند الرواية الفلسطينية غير مستثمرة.
نقل البروفيسور ساند عن مثقف يدعى يسرائيل بلكيند (1861ـ 1929)، كان من أوائل المستوطنين، واختلف عن التيار العام إذ آمن دوما بالرابطة بين السكان القدامى وبين الفلاحين المحليين في أيامه . وعشية موته لخص موقفه في كتيب خاص كرس موقفه في هذه القضية؛ ونجد في عمله هذا جميع الفرضيات الفضائحية التي شطبت لاحقا من أجندة المؤرخين الصهاينة . قال في المفكرة: " ’ اعتاد كتبة التاريخ اليهودي القول أنه بعد خراب اورشليم على يد تيتوس تبعثر اليهود في كل بلاد الكون . ولكننا نقف هنا أيضا أمام خطأ تاريخي يجب إزالته وإبانة الأمور على حقيقتها‘. من وجهة نظر بلكيند أن تمرد باركوخفا وحتى التمرد في الجليل في بداية القرن السابع الميلادي تدل على أن معظم الشعب ظل موجودا لفترة طويلة أخرى على أرضه. الذين غادروا هم الطبقات العليا والحاخامات وعلماء التوراة، الذين فضلوا الدين على البلاد.... لكن الفلاحين ظلوا مشدودين إلى أرضهم".

وفي أواخر عقد السبعينات ، وبينما أعدت حكومة بيغن الليكودية خطة كبيرة لإعلاء بنيان الأبارتهايد الاقتلاعي، طلع آرثر كوستلر، وهو صهيوني، بكتاب " القبيلة الثالثة عشرة" ، وفيه يفضح أصول اليهود الأشكيناز غير المرتبطة بفلسطين ، وأنهم يمتون بصلة إلى قبيلة الخزر في جنوب روسيا، التي اعتنقت الدين اليهودي في القرن التاسع الميلادي. طعن الكتاب في أقدس الطروحات الصهيونية بصدد نقاء العرق اليهودي الضارب في عمق التاريخ، وبصدد نفي اليهود القسري من "أرض الميعاد".
قبل كوستلر وقفت شخصيتان يهوديتان بارزتان ضد النزعة القومية للصهيونية، يعتبر حضورهما امتدادا لمرحة الإصلاحية وثقافتها الإنسانية. أولهما ، فرويد، عالم التحليل النفسي المشهور، وكان قد تلقى عام 930 1، رسالة من حاييم كوفلر، عضو "مؤسّسة إعادة توطين اليهود في فلسطين"، تطلب منه، بحكم مكانته العلمية الرفيعة كعالم سيكولوجي، التوقيع على النّداء الذي وجّهه إليه من أجل دعم قضيّة الصهيونية في فلسطين، ومساندة حقّ اليهود في إقامة شعائرهم بحائط المبكى. رد فرويد في الرسالة التي أبقيت مغيبة " كان من الأجدى، فيما يبدو لي، بناء وطن يهوديّ على أرض غير مشحونة تاريخيّا. لكنّني أعرف أنّ فكرة عقلانيّة من هذا القبيل لا يمكن أن تستدرّ حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء. وأقرّ أيضا، وبكلّ أسف، أنّ تعصّب مواطنينا غير الواقعيّ يتحمّل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لا يمكن لي أن أبدي أيّ تعاطف ممكن مع تديّن مؤوّل بطريقة خاطئة".
والشخصية الثانية هي الدكتور ألبرت آينشتين، صاحب نظرية النسبية. يمكن الاستدلال على العلاقة الإشكالية بين العالم الشهير والصهيونية السياسية في واقعة حدثت حين رفض عرضا من بن غوريون لتسلم منصب رئيس الدولة الجديدة إثر وفاة حاييم وايزمن عام 1952. قلّة من الناس عرفت حينذاك سبب الرفض. فسر العالم موقفه بعزلته عن الجمهور الإسرائيلي :"سيتعين علي أن أقول للشعب الإسرائيلي أشياء لا يحب سماعها ". اما بن غوريون فبرر طلبه " اضطررت لعرض المنصب عليه لأنه من المستحيل أن لا أفعل ، ولكن إذا قبل فسنقع في ورطة " . بعد ذلك تُرك آينشتين يعاني العزلة الباردة يذوي في النسيان: "سأظل مقيما هنا (بالولايات المتحدة)بقية حياتي ، عازلا نفسي كلية عن الآخرين قدر استطاعتي. إن كل ما أحاول عمله في المجال الإنساني يتدهور بشكل ثابت إلى كوميدا سخيفة "، كما جاء في رسالة إلى صديق [ فرد جيرومي / آينشتاين حول إسرائيل والصهيونية آراؤه المثيرة حول الشرق الأوسط: ترجمة مازن الحسيني ، الناشر وكالة أبوغوش، رام الله، 2011، 183]. وكشف النقاب عن معاناته استيفان ميساروش عالم الاقتصاد البريطاني: "خاض اينشتين نضالا لسنوات طويلة ضد عسكرة العلم ، ومن أجل نزع السلاح النووي الحيوية . وأصيب بخيبة أمل نتيجة إلغاء مؤتمر لبحث هذه القضية؛ واستمر في النضال حتى وفاته متحديا التهديدات والتشهير العلني. تمكن خصومه من عزله(..) نظرا" لافتقاد حركة جماهيرية تردد أصداءه وتسانده ، حركة جماهيرية قادرة على مواجهة قوى رأس المال المدمرة والمتمترسة فتجردها من سلاحها من خلال رؤيتها البديلة للعملية الحيوية لتنظيم شئون الإنسانية".[ أستيفان ميساروش:52]
وقفت الصهيونية تتفرج؛ فهي تعتبر خطيئة لا تغتفر الوقوف بوجه عرابها ،التجمع الصناعي العسكري. و بالنظر
أبدى آينشتين عداءه الصريح للقومية المتطرفة ممثلة في حزب حيروت منذ إنشائه. ونشرت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر في الرابع من كانون أول / ديسمبر 1948 رسالة موقعه من ألبرت آينشتاين ، مع عدد من المفكرين والعلماء، تحذر بشدة من خطر الفاشية في إسرائيل، ممثلة بحزب بيغن ( حيروت/ الحرية) . جاء في الرسالة: "... حتى وقت قريب كانوا يبشرون صراحة بمذهب الدولة الفاشية. إن الحزب الإرهابي يفضح في أفعاله طابعه الحقيقي، ويمكننا ان نحكم من أفعاله الماضية بما يمكن ان نتوقعه ان يفعل في المستقبل.
إن سلوكهم في قرية دير ياسين العربية كان مثالا صادماً. هذه القرية التي تقع خارج الطرق الرئيسية وتحيط بها أراض يهودية لم تشترك في الحرب، بل إنها ردت أيد عربية أرادت ان تستخدم القرية قاعدة لها. وفي 9 نيسان هاجمت عصابات إرهابية هذه القرية المسالمة التي لم تكن هدفاً في القتال وقتلت معظم سكانها، 240 رجلاً وامرأة وطفلاً واحتفظت بعدد قليل منهم على قيد الحياة لتستعرضهم كأسرى في شوارع القدس.الإرهابيون، الذين هم بعيدون عن الشعور بالعار من فعلهم، كانوا فخورين بهذه المذبحة ونشروها على نطاق واسع، ودعوا المراسلين الأجانب الموجودين في البلد ليشاهدوا الجثث المكومة والفوضى العامة في دير ياسين".
نقل عن البرت آينشتين دعوته إلى استبدال أحكام الإعدام بحق الفلسطينيين الثلاثة الذين نفذ فيهم حكم الإعدام بسبب دورهم في ثورة البراق عام 1929. وطالب بإصدار عفو عن سجناء الثورة من العرب " لأنه كان يشعر بأن الشباب اليهودي اليميني التوجه يشاركون في المسئولية عن الأحداث " فريد جيرومي، 64]. يبدو أن آينشتين ، بخلاف فرويد افتتن بالحركة الصهيونية متذرعا بالتهجمات اللاسامية في عشرينات القرن الماضي. أفلحت الحركة الصهيونية في استثمار سمعته العلمية ونفوذه الأدبي لأغراضها ولم تنفع عواطفه الإنسانية في ردع التوجهات العنصرية للصهيونية. فمن خطاب له ألقاه في فندق أمبسادور في لوس أنجلس(16شباط 1930) يتبين أنه وقع تحت تأثير مضلل ، إذ يقول: " لقد جرى الإعلان بوضوح أننا لا نسعى لخلق مجتمع سياسي ، وبأن هدفنا هو هدف ثقافي بأوسع معاني الكلمة ،وبما أن الأمر كذلك فإن علينا أن نحل مشكلة العيش بروحية الجيرة جنبا لجنب مع إخوتنا وأقاربنا العرب ، بطريقة نبيلة وصريحة وكريمة " [ فرد جيرومي: 87].
كان جاهلا للمياه الغزيرة التي سالت تحت الجسر حتى 29 نيسان 1938، حين أورد في كلمة ألقاها "افضل أن أرى اتفاقا معقولا مع العرب يقوم على أساس العيش معا بسلام بدلا من إنشاء دولة يهودية ... إن الطبيعة الأساسية لليهودية تقوم على فكرة دولة يهودية لها حدود وجيش وقدر من السلطة الدنيوية ... إنني أخاف من الأذى الداخلي الذي سيصيب اليهودية ـ بشكل خاص من نمو مشاعر قومية ضيقة بين صفوفنا ، مشاعر اضطررنا إلى محاربتها بقوة حتى دون وجود دولة يهودية..."[فرد جيرومي : 99].
ونواصل تعرية التخيلات التوراتية للفكر الاستشراقي .
في عقد الثمانينات من القرن الماضي طعن مؤرخون وباحثون أثريون في تأويلات الاستشراق لحكايات التوراة ، وبينوا طابعها الخرافي. برز علماء على قدر من النزاهة والصدق العلمي ، ومنهم الفرنسي البروفيسور توماس تومسون Thomas Thomson ، الذي كشف على الملأ العلمي ،عام 1992، في كتابه ) التاريخ القديم لشعب إسرائيل من المصادر المكتوبة والأثرية ) .. كشف تواطؤ علماء الآثار التوراتيون على تشويه الحقائق العلمية. ظهر البروفيسور توماس تومسون في ميدان الآثار ليفسد الزفة المقامة لدولة إسرائيل و"عاصمتها الأبدية"،فعارض التوراتيين التقليديين . قال في كتابه " إن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم تستند إلى الخيال" .
ثم أعقبته كوكبة من العلماء ، منهم البروفيسور كيت وايتلام ، الذي وضع كتابا عام 1996 عنوانه "اختلاق دولة إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني" نقلته إلى العربية سحر الهنيدي ونشره "عالم المعرفة عام 1999، فضح فيه جملة تأويلات للتوراة زيفت التاريخ الحقيقي لفلسطين، وطالب بتحرير التاريخ الفلسطيني من قبضة التاريخ الإسرائيلي، مؤكدا أن الحاضر شكل تاريخ الماضي طبقا لأهداف سياسية معاصرة: "إن خطاب الدراسات التوراتية قد شكلته الصراعات المعاصرة المتعلقة بفلسطين ومستقبلها؛ عمليا اكتسب بناء إسرائيل القديمة طابع الأحداث الجارية في فلسطين في الوقت الذي صيغت فيه تلك الأحداث". ونقل البروفيسور وايتلام عن أحد الباحثين (ديفيز1992) قوله أن "النموذج اللاهوتي للتاريخ التوراتي تم الحفاظ عليه بإجماع المتخصصين في الدراسات التوراتية، من خلال مواقعهم في كليات اللاهوت وحلقات البحث ، وهم الذين أسهموا بل أيدوا ادعاءات إسرائيل بامتلاك الحقيقة. استخلص وايتلام من دراساته ، ولدى استعراض كم كبير من معطيات قدمها من سبقوه أو جايلوه ، مؤكدا " إذا تمكنا من تغيير المنظور الذي تنبع منه التصورات لنبين أن خطاب الدراسات التوراتية قد اختلق تاريخا، كثيرا ما يعكس حاضرها في كثير من جوانبه ، عندئذ فقط يمكن أن نحرر التاريخ الفلسطيني".
يتبع



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تتهتكت الأقنعة
- مصر القاطرة
- كشف المستور أم قناع للزيف؟
- هل هي حكومة حرب في إسرائيل؟
- جوليان أسانج وقانون التجسس ومأساة الزوجين روزنبرغ
- ويكيليكس وحرية العبور الإعلامي
- بين حجب الحقائق وهدر العقل الجماعي
- نقد مسمم النصال
- الانتظاريون والانتخابات الأميركية
- في ذكرى ثورة أكتوبر العظمى متى بدأ نقص المناعة ينخر جسد النظ ...
- الطريق الثالث غير عبث التفاوض وعبث العنف القاصر
- الوساطة الأميركية مشكلة وليست الحل
- ديبلوماسية إدارة الصراع وابتزاز التنازلات
- عقد حصار لا تنفع معها المواعظ
- دلالات فشل المفاوضات الجارية
- كيف نحول الأفكار إلى قوة تغيير
- الأمن الوطني مفهوم مركب من عناصر اقتصادية وسياسية وثقافية
- اليسار الفلسطيني وصراع الديكة
- دانيال بايبس بروفيسور مزور وعنصي
- الفهلوة السنية في تشويه الإسلام والماركسية


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد مضيه - أعمدة سرابية لهيكل الأبارتهايد