تقي الوزان
الحوار المتمدن-العدد: 3025 - 2010 / 6 / 5 - 20:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تسمية الأشياء
مثلما سميت الهزيمة التاريخية للدول العربية أمام الصهاينة في حزيران عام 1967 بالانتكاسة , تخفيفا لوقع كلمة الهزيمة في النفوس , وما سيتركه هذا ( الوقع ) من مطالبة في التغيير . تلك الهزيمة التي كشفت الغطاء عن حقيقة تخلف الأنظمة العربية , بعد ان استنفذت هذه الأنظمة قوتها وتآكلت عساكرها في كيفية استمرار تسلطها على رقاب مجتمعاتها . نرى اليوم بعض الأخوة يرفضون الاعتراف أيضا بالهزيمة التي لحقت باليسار على المستوى العالمي , بعد أن انهارت التجربة الشيوعية ومعسكر الدول الاشتراكية الذي قاد البشرية في صراع دام أكثر من سبعين عاما مع الدول الرأسمالية , دفعت فيها ألاثمان الباهضة من جميع شعوب الأرض , وبالذات الشعوب الاشتراكية وشعوب بلدان العالم الثالث, التي(فقدت المشيتين) , بين تشبثها بالحلم الاشتراكي , وبين الانسياق في تطورها الطبيعي وبناء نظامها الوطني الخاص, وتراجع سقف مطالب نضال الشعوب إلى أهداف اقل بكثير من الاشتراكية .
الهزيمة لا تعني فقدان الحاجة , بل العكس , فقد زادت حاجة الشعوب لما يناضل من اجله اليسار والأحزاب الشيوعية أضعاف ما كانت تحتاجه قبل انتصار الرأسمالية منذ عقدين من الزمن . فقد ازدادت الحروب , والصراعات القومية , وتفتت دول , وتمركزت رؤوس الأموال أكثر , وانتعشت أسواق البورصة التي أشبه بصالات قمار للرأسمال , حيث تكسب أرباحها بدون أية دورة إنتاجية , وبشراء الأسهم فقط . وأصبحت السياسات الدولية وهيئة الأمم المتحدة تحت هيمنة السياسات الأمريكية , وتفاقم الجنون الإنتاجي لكسب الأرباح على حساب البيئة , وتم تمزيق الغلاف الجوي للكرة الأرضية , وانتشرت الأمراض الوبائية نتيجة تجارب عسكرية وأخرى لمضاعفة الإنتاج , مثل الإيدز وجنون البقر والانفلونزات المتنوعة . كل هذا زاد البؤس والحرمان للشعوب على طول الكرة الأرضية وعرضها , وازداد الفقر ليسحق قطاعات واسعة , وزحف على الكثير من أبناء الطبقة الوسطى , وارتفعت الأسعار إلى ثلاثة أضعاف في خمسة سنوات ان لم يكن أكثر في بعض البلدان . كل هذا وغيره , والشعوب واليسار لم ينهزم ؟!
وفي العراق بات من المخجل ان نعدد مظاهر انحطاط حياتنا لكثرة ما كررناها , وفقرائنا يحسدون أفقر الشعوب على رفاهها , وأصبحنا نستجدي العطف الذليل على بؤس حياتنا , وشعبنا الذي أعاد تدوير المشكلة الطائفية ومحاصصاتها , وذهب إلى الانتخابات وهو لا يدرك من الذي سيخدمه بحق , ومن الذي سيستغله ويتاجر ببؤسه , والعبرة ليس بكثرة من ساهم في التصويت , بل بنوعية من وصلوا الى البرلمان . لم يصل أي واحد من الشيوعيين واليساريين , بمن فيهم المحسوبين على القوائم الطائفية , مثل مهدي الحافظ , ونصير الجادرجي , وميسون الدملوجي وهي الناطق الرسمي للقائمة العراقية , وحضورها يومي في القنوات الفضائية , وصاحبة اكبر مجلة نسائية في العراق , وعشرات المرشحين غيرهم . وكي لا يؤاخذني ( سدنة المعبد ) من الذين لا يعترفون بأية خسارة , او انحسار لنفوذ الحزب الشيوعي , او يطرب لها من علق كل هزائمه الشخصية والنفسية على عاتق الحزب الشيوعي , فهنالك تراجع كبير لدى الجماهير في فهم دور الحزب وفهم الالتزام في الانتماء, وعلى سبيل المثال فقط , عضو محلية يذهب سيرا على الاقدام لمدة أسبوع الى كربلاء في بعض المناسبات الدينية , وآخر يطلب ان توضع " بسم الله الرحمن الرحيم " تحت عنوان صحيفة " طريق الشعب " وهي فكرة غير مطروقة حتى في صحف الإسلام السياسي , والبعض تركوا الحزب لعدم فوزهم في الانتخابات , وآخرين لعدم تعيين أبنائهم, وآخر طلب سلفة من الحزب , وترك الحزب سوية مع سلفته , ومئات الأمثلة الأخرى . كل هذا وغيره , والجماهير واليسار العراقي لم يعاني من هزيمة ؟!
هذه الهزائم لا تعني فشل النظرية الماركسية , بقدر ما هو فشل للطرق والأساليب التي اتبعت في الوصول للأهداف التي جسدتها طروحات الماركسية , كما يقرها الجميع , بمن فيهم المفكرون والقيادات الرأسمالية . ولا تزال طرية كيفية محاولة الأمريكان تجاوز " الأزمة العقارية " , وذلك بالرجوع الى تفسيرات الماركسية , وهي الأزمة الاسوء منذ الحرب العالمية الثانية ولحد الآن التي تعصف بالنظام الرأسمالي , والتي نتجت عن إطلاق قيم السوق في العرض والطلب دون رقيب , حتى كادت ان تطيح بالتوازن المطلوب لاستمرار ثبات النظام الرأسمالي, نتيجة السباق المحموم الذي لا يعترف إلا بتحقيق أعلى الربحية . وعادت الحكومة الأمريكية وعلى لسان رئيسها بوش الابن لتحد من حرية قيم السوق , وتفرض رقابتها على الكثير من القطاعات الإنتاجية , وتعالج انعكاسات وجذور ألازمة مستعينة بالتفسير الماركسي لطبيعة الرأسمالية . الا ان الرأسمالية تريد ان تجعل من التاريخ , تاريخ علوم وتكنولوجيا فقط , واليسار والشعوب تناضل من اجل ان يبقى التاريخ تاريخ شعوب وأنظمة اجتماعية سياسية . والرأسمالية حريصة على أن لا تعود الشعوب للاستنارة بالماركسية وطروحاتها في تفسير أكثر المسائل الطبقية تعقيدا , لذلك تم تناسي الحل الماركسي لازمة العقار ولم يشر اليه بالشكل المطلوب .
منذ أكثر من عقدين , وعشرات , بل مئات الفلاسفة والمفكرين اليساريين في كل المعمورة , تبحث عن طرق ووسائل بديلة تساعد الشعوب على تفادي تزايد الخسائر , وتساعد في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من شره انتصار الرأسمالية , الذي اخذ يلتهم حتى التشريعات الرأسمالية ذاتها , التي تؤّمن حاجات مجتمعاتها في السكن والتعليم والصحة . ونتيجة فشل الأنظمة الاشتراكية عادت الشعوب بنضالها إلى المربع الأول , وأخذت باللجوء الى وسائل أولية , مثل الاتكاء على جمعيات حقوق الإنسان , وأحزاب البيئة , وما شابهها , وحتى نقابات العمال دجّنت وأصبحت جزء من النظام الرأسمالي , ولا تتدخل لصالح العمال إلا في أقسى الحالات .
تسمية الأشياء بمسمياتها ضرورة لابد منها , والمشكلة ليست الهزيمة , بل بنكرانها , وكم من التجارب والشعوب انهزمت ؟! ولا توجد أبشع من هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية , وهو الشعب الوحيد الذي ضرب بالقنبلة النووية من قبل الأمريكان , ولا تزال آثارها المدمرة تظهر في الأجيال لحد الآن . ولكنها نهضت , واستعادت تطورها وتحضرها , وباتت تحسد من قبل الأمريكان ذاتهم.
#تقي_الوزان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟