ثائر الناشف
كاتب وروائي
(Thaer Alsalmou Alnashef)
الحوار المتمدن-العدد: 2878 - 2010 / 1 / 4 - 08:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بالعودة إلى مربع الأزمة الأول، أزمة هوية الإسلام كدين أو حضارة في آن معاً، لا يستوي بنا المقام ولا يستقيم البتة في زمننا الحاضر ، فلم يعد المزج بين خصائص العقل والروح ، الذي قام به المسلمون الأوائل ، صالحاً في هذا العصر ، فإما أن يكون العقل هو الموجه الأساسي لحضارة المجتمعات الرقمية ، مجتمعات المعرفة العالمية ما بعد الحداثية أو لا يكون .
ومهما تذرع البعض وراهن على عالمية الإسلام وشموليته كدين وحضارة لكل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، فإن ذلك لا يخوله اللحاق بالفضاء العالمي أو بالعالمية ، وليس السبب في ذلك عائد إلى تأخره العلمي والفكري ، أو لابتعاده عن ميادين البحث والتجريب ، بل لأن متطلبات المجتمع المعرفي غير متوفرة لدى عموم المجتمعات الإسلامية ، وأهمها تبلور الوعي الكوني على حساب الوعي المحلي أو القومي ، فأغلب المجتمعات الإسلامية ورغم سباتها الطويل في أمجاد حضارة الأجداد ، سواء ما شهدته عاصمة الخلافة العباسية بغداد، عندما انطلقت فيها أول جامعة "بيت الحكمة" التي أنشأها الخليفة المأمون عام
830 م ، أو العمران الذي فاخرت به الدولة الأموية في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك ، بدءاً من أسبانيا وصولاً إلى تخوم الصين، فإنها لا زالت تطوف في بؤرة واقعها كمجتمعات زراعية دون أن تصل بعد لواقع المجتمعات الصناعية الحداثية ، فما بالنا بحال مجتمع المعلومات ما بعد الحداثي .
هذه الهوة السحيقة بين الواقع والإمكانات المتاحة والمتوفرة لعموم المجتمعات الإسلامية ، وللإسلام كديانة عالمية وشمولية ، مثلما يصر بعض منظريه في التأكيد على هذه السمة ، بداعي أنها تلبي حاجات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية ، تقدم الإجابات المقنعة حول الأزمة الحضارية العميقة التي يعيشها الإسلام والمسلمون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ، وتطرح سؤالاً مركزياً ، ماذا بقي من الحضارة الإسلامية في عالم اليوم ؟.
إذا كانت الحضارة مجرد عقائد وقيم ومبادئ أخلاقية ، أي أنها في مجموعها تشكل أيديولوجية متكاملة الأبعاد والزوايا ، فإننا اليوم في عصر ما بعد الأيديولوجيات ، عصر سقوط الأيديولوجيات لصالح النزوع الكوني لمفهوم الحضارة بالمعنى العولمي للكلمة .
أما إذا كانت الحضارة الإسلامية غاية في حد ذاته ، أي أنها تستهدف فعلاً إعمار الكون وفقاً للشرائع السماوية ، فليس في سلوك الأفراد والجماعات الإسلامية ما يشي بذلك الإعمار الروحي الذي يرضي الخالق ، بدليل النكوص الكبير في تشييد الروح المعاصرة ، روح التسامح والسلام ، كبديل عن روح التعصب والتطرف التي بدأت بالتغلغل في أقصى أعماق النفس .
وليس هنالك أيضاً ، ما يشير إلى تطور الإعمار المادي بمعناه العلمي البحت ، المرفوض أصلاً ، كواحد من أهم تجليات الحضارة الإنسانية ، بقدر ما بات يوجد لدينا الآن من عنف منظم باسم الدين ، غايته النهائية ، نسف كل ما يمت إلى ذلك الإعمار المادي بصلة.
وبالعودة إلى سؤال الأزمة ، التي أوجد الإسلام نفسه فيها ، كدين له عقائده وأحكامه ، كما له إطاره الحضاري الخاص ، الذي يصر جمهور المسلمين على وجوديته ، حتى لو رفض الآخرون الإقرار به ، فإننا لا نستطيع الانتقال من نقطة لأخرى ، دون الوقوف على سؤال العصر، هل الإسلام دين أم حضارة ؟.
بغض النظر عما سبق شرحه أو تفصيله ومهما قيل عن الثورة العلمية والفكرية التي أحدثتها الفلسفة الإسلامية في واقع المجتمعات الغربية في القرون الوسطى ، إلا أنه لا يمكن أن نفسر ما حدث من حركات احتجاجية على سلطة الكهنوت الكنسي ، بسبب النقلة التي أحدثتها الفلسفة الإسلامية في كيان الغرب ، الذي انتابه الشعور وللوهلة الأولى بالدونية الحضارية ، عندما وجد حضارة المسلمين في أبهى صورها ، فلو كان تأثير الفلسفة الإسلامية المترجمة أصلاً عن أعلام الفلسفة الإغريقية ، والمعاد قولبتها وقوننتها وفق الأصول والقواعد الإسلامية ، بما يحافظ على ثباتها ، لكانت أوروبا بكل مدارسها الفلسفية الحديثة التي ظهرت في عصر النهضة ، تأثرت تأثراً إسلامياً كاملاً ، بحيث غدت مجتمعات إسلامية أكثر منها مسيحية ، فإذا ما كان هناك من تأثير ، فالمؤكد أنه نسبي ، فالفلسفة وبتعريفاتها المتفرعة والمتعددة كمحور للعلوم الإنسانية ، وباعتبارها أحد السمات المميزة لأي حضارة إنسانية ، ليست حكراً على ثقافة أو مجتمع معين ، فما يميزها ، أنها انطلقت قبل غيرها من العلوم في قديم الزمان ، مثلما تنتقل اليوم المعلومات عبر مختلف الأوعية والقنوات الاتصالية على مساحة الكون ، كما أن الحضارة لا تُعرّف بأنها العمران وحسب ، ولا تدور حول الكتب ، إنما هي ذلك الوعاء الإنساني الجامع لكل التجارب والخبرات والمهارات والسلوك والقيم والثقافات ، لتشكل في مجموعها الحضارة بشقيها المادي والروحي ، وقد لا يتساوى ما هو مادي مع ما هو روحي ، فالحضارات الغربية شهدت في أغلب الأحيان ، طغيان الشق المادي على الروحي ، بعكس الحضارات الشرقية ، لكن المهم أن تجمع ما بين المادي والروحي ، وإن بنسب مختلفة أو متفاوتة حسب الظروف الزمانية والمكانية المتوفرة لكل شعب بعينه .
نستطيع القول ، بأن هوية الحضارة في الإسلام مرت بمراحل متعددة ، وفقاً لتقسيمات الحضارة وظروف كل عصر ، ففي الماضي البعيد ، أي في بداية تشكل الدولة الإسلامية ، وبعيد صدور وثيقة المدينة ، كانت الحضارة في سماتها العامة، أقرب ما تكون إلى حضارة الدول الناشئة ، التي كانت قائمة آنئذ على الزراعة وبعض الصناعات وما يتوفر لها من العلوم والفلسفات .
أما في العصر الممتد من مرحلة دويلات الملوك والطوائف ، التي أعقبت سقوط الدولة العباسية ، وصولاً إلى عصرنا الراهن ، فقد شهدت الحضارة صعوداً وهبوطاً على مراحل مختلفة ، ونقلت الكثير من العلوم والأفكار بفعل التواصل والتلاقح الثقافي مع الغرب ، لكنها لم تستطع تطويرها إلا ما ندر ، فالبرغم من تطور علم الفلك لدى عموم المسلمين في حقب مختلفة ، إلا أنه في حقيقة الأمر ، يرجع في أصله إلى علماء الإغريق ، كما أن علم الرياضيات الذي انفرد به المسلمون عن غيرهم من الشعوب ، نقلوه في الأصل عن الهنود الذين أخذوه وترجموه عن الصينيين .
كل هذا يؤكد لنا ، بما لا يدع مجالاً للشك ، أن الحضارة ليست هي الدين بعينه ، وليست غاية بحد ذاتها ، بقدر ما هي وسيلة للتعايش الإنساني بين شعوب الأرض قاطبة في كل زمان ومكان .
وإذا كانت هوية الحضارة الإسلامية في بداياتها أصيلة، بكل ما انطوت عليه من عقائد دينية وسياسية واقتصادية، فإن هويتها اليوم، أقرب ما تكون إلى الاقتباس، بما يعني الاستهلاك المنظم وغير المنظم، والتقليد الأعمى لكل مخرجات الحضارة الحديثة.
#ثائر_الناشف (هاشتاغ)
Thaer_Alsalmou_Alnashef#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟