راغب الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 2812 - 2009 / 10 / 27 - 22:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
القصص في الكتاب المجيد هو ليس حكايات الأنبياء و الرسل ، بل هو كذلك أخبار وقصص متنوعة لرجال وأقوام من خارج دائرة النبوة والرسالة ، نقرأ ذلك في حكاية ذي القرنين التي جاءت وفق هذا السياق في قوله تعالى : ( ويسألونك عن ذي القرنين فقل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا ) الكهف 83 , 84 , 85 .
وحكاية العبد الصالح كما في قوله تعالى : ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) الكهف 65 .
و حكاية الرجلين التي جاءت على النحو التالي : ( وإضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مال وأعز نفرا ) الكهف 32 , 33 , 34 .
وفيه أنباء لقبائل وأقوام وأمم كما في قوله تعالى : ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفيكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) التوبة 70 .
وحكاية أصحاب السبت كما في قوله تعالى :
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ) النساء 47 , وحكاية أصحاب الأخدود وأصحاب الحجر وأصحاب الأيكة وغيرهم .
وقصة أصحاب الكهف لا تخرج عن هذا الإطار كما في قوله تعالى:
( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا*
إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من امرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنينا عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا * نحن تقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إله لقد قلنا إذا شططا * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله !! فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهييء لكم من أمركم مرفقا !! * وترى الشمس إذا طلعت [ تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ] وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله ، من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، [ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ] ، لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، ولملئت منهم رعبا * وكذلك بعثناهم ليتسألوا بينهم ، قال قائل منهم كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم .. قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم .. فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ، وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ، أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا * وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها ، إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا : ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ، قال : الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم !! ويقولون خمسة سادسهم كلبهم !! رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم !! قل : ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا * ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا * ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ) الكهف 9 – 26 .
نحن أمام قصة رائعة مدهشة من قصص الخيال العلمي ، تطفح بالعبر والعظات التي تأتي تارة :
1 - على شكل ناموس إلهي .
2 - وتارة أخرى على شكل قانون كوني مادي .
تمت الإشارة إليه في النصوص المتقدمة ولم يثبت علميا إلا بعد قرون وقرون .
* العبرة الأولى : هي أن وعد الله حق ، والإطلاق في العبارة نفهم منه بإن جميع الوعود الإلهية حق ، سواء أكانت وعدا بالنصر كما في قوله تعالى : ( .. وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) الروم 47 .
أم وعدا بالجنة كما في قوله تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن .. ) التوبة 111 .
أم وعدا بالمغفرة والفضل كما في قوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا .. ) البقرة 268 .
* العبرة الثانية : هي إن الساعة لا ريب فيها ، وهاتان العبرتان الأولى والثانية هما الغاية الصريحة من القصة كما يقرر سبحانه في الآية 21 بقوله تعالى : ( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها ) .
* العبرة الثالثة : هي إن من يدعو إلى الحق ، ولو كان وحده أو معه عدد قليل ، فإنه سيتعرض للا ضطهاد وربما للقتل .
* العبرة الرابعة : هي وجوب اللجوء إلى الهرب والاختباء في حال التعرض للاضطهاد أو الأذى أو محاولة القتل عملا بأمره تعالى : ( .. فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا ) .
* العبرة الخامسة : هي في قوله تعالى : ( فضربنا على آذانهم في الكهف ) ، ومفهوم الضرب على الآذان إنما حصل لاستكمال عزل الفتية عن العالم الخارجي ، فوجودهم في الكهف يعزلهم حكما عن رؤية ما يحدث في الخارج لكنه لا يمنع الأصوات من بلوغ مسامعهم .
* العبرة السادسة : هي وقوف الزمن جامدا أمام باب الكهف ثلاثمئة عام أو يزيد ، وهذا معنى قوله تعالى : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال .. ) ، فالشمس ترسم النهار بشروقها والليل بغروبها ، وميلها عن الكهف في الشروق والغروب يخرج بمن في الكهف من دائرة الزمن ومن تعاقب الليل والنهار ، ومع وقوف الزمن تقف الحركة ، وهذه الجدلية واضحة جداً : - إذ لا بد للحركة من حيزين تتموضع فيهما ، الأول : حيز المكان ، والثاني : حيز الزمان ، وغياب أحدهما يعطل الحركة عن الوجود ، لكن الوقوف عن الحركة يعني التفسخ والفناء ، فكيف صمدت أجسام الفتية على مدى هذه القرون الثلاثة ؟ الجواب على هذا السؤال يقودنا إلى العبرة التالية .
* العبرة السابعة : هي في العبارة التالية قوله تعالى : ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) ، فعملية التقليب ذات اليمين وذات الشمال هو الذي منع الأرض من ان تفتييت أجسادهم وتحويلهم إلى جيف مهترئة .
يدعي هربرت جورج ويلز [ إتش جي ويلز ] 1866 – 1946 ، في قصته المشهورة عن أصحاب الخيال العلمي " آلة الزمن " ، أن الزمن يمكن أن يتوقف ، لذا جاءت قصته تدور حول آلة تحمل راكبها إلى أعماق الماضي أو إلى مشارف المستقبل دون أن يستطيع أن يغير شيئا – أو قل لا يجوز له أن يغير شيئا – لا في أحداث الماضي المحتوم كما حصلت ولا في حوادث المستقبل المرسوم كما ستحصل .
كما لم يكن السيد قطب يدري ، وهو يكتب قصة المدينة المسحورة التي وقف الزمن على أبوابها وتحول أهلها إلى تماثيل ، أن الزمن ليس له مفعول رجعي ، فجاءت قصته تزعم أن - أهل المدينة - حين انطلق فيها الزمن من عقاله وتابع سيره كما كان ، تهاووا رمما بالية مهترئة بفعل ما مضى وما انقضى من الزمن .
لكن الكتاب المجيد في سورة الكهف يقرر خلاف ما تصوره ويلز وما زعمه السيد قطب ، وهذا يضعنا أمام العبرة الأخيرة في قصة أصحاب الكهف .
فأصحاب الكهف – طبقا للنصوص المتقدمة – هم مجموعة من الفتيان لا تزيد أعمارهم عن العشرين ولا يزيد عددهم عن أصابع اليدين ، زعم البعض أنهم كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقدرهم البعض تخمينا بخمسة سادسهم كلبهم ، وقال آخرون إنهم سبعة وثامنهم كلبهم ، المهم في هذا كله ليس العدد بدليل قوله تعالى : ( قل ربي أعلم بعدتهم ) ، وبدليل إن الله تعالى قد نهى النبي عن التدقيق في هذه المسألة الثانوية ، المهم أن كلبهم كان واحدا منهم أيا كان عددهم ، وفي هذا تكريم إلهي لهذا الحيوان الوفي المفيد ، الذي يصفه تعالى بقوله : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) ، وتلك هي جلسة كلب الراعي في حراسة أصحابه من الذئاب والثعالب والأغراب ، والسؤال المتبادر والمشروع هو : من أين أتى الاعتقاد بأن الكلب نجس ؟ ؟ ولماذا نقرا في كتب الأخبار إن النبي أمر بقتل الكلاب ؟ وما مدى صحة الخبر الذي يقول : أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب !!!! وما مدى صحة الخبر القائل : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب ؟
والمجال أضيق هنا من الإجابة على كل هذه الأسئلة بالتفصيل لكننا نقول : ربما أمر النبي - ص - بقتل الكلاب الضالة التي لا صاحب لها والتي تثير الفزع بين الناس ، وأمر بغسل الآنية من باب النظافة لا من باب النجاسة كما يقول مالك واصحابه وهو رأي مقبول .
هؤلاء الفتية اهتدوا إلى الإيمان بربهم فزادهم الله هدى ، أي إنهم كانوا يأمرون المعروف ويعملون به ، ويتركون المنكر وينهون عنه ، ومن هنا بدأ الصدام مع الآخرين ، ولو أنهم اكتفوا بالإيمان دون أن يعارضوا معتقدات مجتمعهم علنا لما هربوا من وجه الاضطهاد إلى الكهف ، وحين بعثهم ربهم بعد ثلاثمائة عام ونيف قال قائل منهم : كم لبثتم ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، هذه العبارة بالذات تذكرنا بحكاية أخرى ، وردت في سورة البقرة ، يقول تعالى : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه ، قال : كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم ؟ قال بل لبثت مئة عام فإنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وإنظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس .. ) البقرة 259 .
والحكايتان تمثلان مقاربة عقلية عن قيام الساعة ، رغم ما بينهما من فروقات واختلافات ، فأصحاب الكهف كانوا رعاة ، بدليل وجود الكلب معهم ، أما صاحب الحمار فهو على الأغلب تاجر متنقل ، ونفهم أن قصة أصحاب الكهف حصلت في مجتمع بدائي رعوي ، أما حكاية صاحب الحمار فحصلت في مجتمع تجاري متقدم .
في ضوء ما تقدم نصل إلى العبرة الأخيرة من القصة ، فقد استيقظ أصحاب الكهف بعد ثلاثة قرون ليجدوا عالما غير العالم الذي يعرفونه وأقواما يؤمنون بما كانوا هم أنفسهم يؤمنون به ويدعون إليه فعادوا أدراجهم إلى كهفهم الأول .
نفهم من ذلك أن تعايش أهل زمان بعينه مع أهل زمان آخر مستحيل ، وكذا ان يعيش أو تعيش الأمة على أو وفق معتقدات وأفكار الماضي غير ممكن حتى لو كان المعتقد واحدا .
#راغب_الركابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟