أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - واحة من ذكريات عن مدينة كان يزهو العيش فيها .. وغدت خرابا تنوح على قتل الحسين .















المزيد.....

واحة من ذكريات عن مدينة كان يزهو العيش فيها .. وغدت خرابا تنوح على قتل الحسين .


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2698 - 2009 / 7 / 5 - 10:28
المحور: المجتمع المدني
    


في زمن ما ، كان أبناء مدينتي يمتلكون خلاله نعيم الراحة في عصاري الصيف القائض ، حيث يتوجه الناس ومن مختلف الاعمار الى المقاهي المعروفة باسماء أصحابها ، وتضج الحركة متناسقة مع بدء حلول المساء لتبلغ ذروتها عند ساعات الليل .. سيارة البلديه الحوضيه كانت وكالمعتاد وفي ساعات محدده من النهار، تقوم برش الشارع الرئيسي في المدينه بالماء ، مثيرة رائحة طيبة تنبعث من تراب الطريق ، مانحة للجو مسحة من رطوبة تزيد من حرارته في البدايه عندما تستجيب الارض المبللة لعملية التبريد الآنيه ، قبل أن تبرد الاجساد والعقول وتهدأ الانفس بالجو الجديد .
ألصيف في العراق محرقة لا تترك شيئا حتى توصله لحد الانصهار.. فكل الموجودات في دنيا الصيف العراقي هي منصهرة تحت ضغط الحرارة المتوهجه ، لا سيما الادمغة البشرية حينما تبدأ بالغليان عند وقت الظهيرة كمراجل صهر مادة الرصاص ، مناخر الآدمي تبدأ بالنفخ الناري المنبعث من رئتين حاميتين ، والاجساد نصف العاريه لا تنقطع من نزف العرق المشبع بالملح البشري المر .. كل اخلاق الناس تتبدل في العراق عندما يبدأ وقت الظهيرة حين يكون الموسم صيفا .. وقد يكون هذا سببا منطقيا لأن تحدث اغلب الانقلابات العسكرية في بلاد الرافدين خلال شهر تموز .
في وقت كهذا ، كان ابناء مدينتي يهرعون الى المقاهي المعروفة على حافة نهر الفرات ، منهم من يستلقي على قفاه بالقرب من جريان الماء تعففا من خسارة الجلوس في المقهى ، ومنهم من يفعل ذلك للتسامر بعيدا عن اسماع الرقيب ، ومنهم من ينظم الى مجاميع اعتادت الوقوف في مكان معين لا يتغير، وهم يتجاذبون اطراف حديث هو الآخرلا يخرج عن ذات الموضوع وان اختلفت بداياته ونهاياته .
وكما في المدينة معالمها من البنايات والمقاهي ومحال البيع ومخازن الحبوب ، فان فيها معالم بشرية اخرى تلتصق باسمها واسواقها وحواريها .. فهناك شخصيات شعبية معروفه ، سبق صيتها صيت مسؤولي الدوائر الحكوميه ، وفي مقدمة هؤلاء مجانين المدينه .. انهم رموز ثابتة لا تتغير ، ولا تريد ان تموت رغم الحر والبرد وشضف العيش ، ففي المدينة اثنان من المجانين لم يزيدوا ولم ينقصوا طيلة وجودي فيها .. يجوبون الطرقات يوميا باسمالهم وحركتهم الميكانيكية الروتينية ، وكأنهم آلات تتحرك بنظام خاص لا يمكن الاستعاضة عنه بنظام آخر . ولو حدث وغاب أحدهم لسبب ما ، فان المدينة تبدو فزعة كفزع سكان شلالات نياجرا حينما صمتت برهة من الزمن .
نادي الموظفين في المدينة كان هو الاخر يعتبر معلما من معالمها ، يبث في الليل لمن هم خارجه اعذب الاغاني لسيدة الطرب العربي أم كلثوم ، ويمنح من هم بداخله وعلى أيدي غلمان خفيفي الحركه يسمونهم ( بويات ) عرقا مصفى تفوح منه رائحة المستكي الأخاذه .. وتضيف للجلاس قدرة فائقة بعد حين على النقاش في السياسة والدعارة وشتم الحكومه ، ولكون ان اغلب اركان الحكومة في المدينة هم سكارى حينذاك ، فان الوضع في الصباح سيكون آمنا ، ولا يعتقل من سب وشتم القائممقام في الليل .
أكثر ابناء المدينة أفضالا عليها والتصاقا بها هم زبائن نادي الموظفين الليليين ، وأكثر المستعدين لأداء مراسيم تشييع الموتى والمساهمة في احياء حفلات الاعراس والمتطوعين لفعل الخير هم من سكارى الليل .. حتى المناسبات الدينية أبطالها هم ندماء الخمور ومحبي ألانس الصيفي الجميل .. في حين أبعد موقعا عنها هم تجارها وملتحيها ومقاماتها العليا والمتوشحين بشرف المال أو الدين أو السلطه .
عبد الصاحب هو معلم متقاعد .. يعرفه زملاؤه حق المعرفه عندما يكون مستعدا لاتمام سهرته في مكان آخر ، فطالما سترته تميل الى اليمين فهذا معناه انه يحمل زجاجة خمره الى مكان ما ، ومنذر الحداد لا يريد الا أن يظهر بمظهر المتوازن وهو يمشي بين المقاهي عصرا فتكون مشيته مستقيمة حين يصر على السير مستدلا بأثر اطار السيارة الحوضية الرشاشة للمياه وهو لا يعرف انه سيثبت للآخرين بانه سكران بمشيته تلك . أبو علي وهو أشهر نداف في المدينة وكان غالبا ما يتهم بسرقة القطن واستبداله بقطن اقل ثمنا ، كان له مقعده في زاوية معلومة من حديقة النادي .. وهو معروف لدا الجميع بطقوسه الملفته للنظر حينما يعد طاولته للشراب ، لقد كان النادل غير مكلف بالسؤال عماذا يشتهي ابو علي .. فربع العرق مهيأ له مسبقا وتنتظره مزته المعروفة والمختاره بدون عناء .. كان يجلس على طاولته ويطيل غسل الكأس الفارغة على جانب الطاوله وهو يتجول بناظريه على الحاضرين من حوله ، ورغم كونه يعرفهم جميعا فهو لا يكلم أحد منهم لان الوقت لا يكفي لديه للهزار .. يمعن في ملاحظة كل شيء على الطاوله .. وينهي كل عملياته بفرك راحتي يديه متلذذا بلحظات الانتظار ، وحينما يوضع ربع العرق على الطاوله يهمس في اذن النادل بكلمات غير مسموعة ، والغريب بان النادل كان يذهب ولا يعود ، وما هي الا ساعات قليله حتى يبدأ ابو علي بمحاورة الجالسين على ابعد طاوله في ساحة الحديقه .. وكان ابغض ما يصادفه هناك هو كلب احمر لا يدري كيف يصر على مصادفته يوميا عندما يذهب لقضاء حاجته فيهب الكلب معلنا احتجاجه لمروره ، وتدور معركة بالاصوات بين الاثنين يسر لها كافة الموجودين ، ويعلن ابو علي في خاتمتها بأن ربع العرق قد طار بسبب ذلك الكلب ابن الكلب ، وعلى ميخا صاحب النادي ان يتحمل الوزر ويجدد له الربع فورا .
المدينة لا يخاف فيها أحد من أحد .. حتى من كانوا يسمونهم بالسريين وهم رجال الامن حينذاك فان هيبتهم يزيلها نادي الموظفين عندما يحل الليل ، وميخا المسيحي صاحب النادي كان يبدو أهم شخصية تحمل اعتبارا مجردا من أي نفاق ويحبه ويحترمه الجميع .. لا بل يعمد الكثيرون لاصطحابه ضمن وفود طلب الخطبه أو حل المشاكل الاجتماعية الطارئه ، انه اهم شأنا من وكلاء رجال الدين والممثلين لهم على الاطلاق .
كل ذلك الصرح الاجتماعي البهي في مدينتي الحبيبه تقطعت أوصاله اربا اربا ... وغاب عنها ندماؤها حين رحل ميخا واصبح ناديه خربة تتجمع فيها الكلاب السائبه بدل الاوادم .. وأصبحت صفحات مياه دجلة القريبة منه تردد نواحا غير مفهوم بدل الحان رياض السنباطي وكمال الطويل .. ويقال بأن مجانين المدينة هدتهم غربتهم عن مدينتهم بفقدان اهاليها الاصليين وانسحبوا بعيدا الى اللامكان .. ويقال بأن أغلب المقاهي في المدينة أغلقت أبوابها لقلة الرواد .. وبلغني بأن المعلم عبد الصاحب قد لقي حتفه في حادث ، عبر ناقل الخبر عنه بأنه مؤسف ، حيث غرق في نهر الفرات عندما قرر الاستحمام فيه وهو ثمل ، لعدم توفر الماء في داره .. أبو علي النداف وعندما كان واقفا يمازح احد جيرانه مساء يوم عاصف بالنار، وحين دخلت قوات التحالف الى المدينه اصابته رصاصات طائشه ليسقط قتيلا بين بناته السته ، واللواتي لم يفرح بزواجهن بعد رغم بلغوهن سنا متقدمه ، ولم يتبقى في المدينة واطرافها غير الحر .. الحر .. والجفاف المدمر .. واصوات نواح تتردد ليل نهار تندب قتل الحسين لتستثير الناس وتحثهم على ذرف الدموع .



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين واقع مزري لأمة يقتلها ( محرروها ) .. وبين المشاعر الكاذب ...
- سيد القمني .. مصر قالتها فيك قولة حق .. فالف مبروك .
- ألاستاذ شامل عبد العزيز .. وجهده المتميز لبيان تأثير التيارا ...
- في محافظة ديالى .. كانت لي هذه الحكايه .
- بين تمرد مشوب بالقلق .. ومصير مجهول .. هل من قرار ؟؟
- مجتمعاتنا لم تمر بما يسمونه مرحلة الطفوله ، وأطفالنا هم مشار ...
- ألرشوة حلال .. والمرتشي له ثواب القبول .
- ألعار سيبقى هو المصير المحتوم لجبهة الفكر الرجعي المقيت .
- لمسات لشعار .. فليسقط الوطن ولتحيا المواطنه .
- متى تنتهي عهدة الانظمة السابقه عن ما يجري في العراق اليوم ؟
- وفاء سلطان .. مبضع متمرس ، لا زال يضرب في عمق الورم العربي .
- أنا والأبيض المتوسط ... والمفوضية الساميه لرعاية شؤن اللاجئي ...
- بين الانتصارات الحقيقية للمرأة في الكويت ... وزيف التمثيل ال ...
- من منكم يعرف ( صبيحه ) ... سمراء العراق ... ضحية الزمن المكر ...
- ما هو السبب في انقراض حضارتنا ، كما يقول أدونيس ، وماذا علين ...
- هكذا يعاملون نسائهم ... وبهذه الطريقة نعامل نحن نسائنا .. فه ...
- ألمشهد العراقي من خلال بيان نيسان للحزب الشيوعي العراقي .
- منابر ألفتوى ألدينية وعواقب اجترار ألتاريخ ألبائس
- تجليات فكرية من وحي الواقع .
- معهد ألفنون ألجميلة في بغداد .. مهدد بالاغلاق وتحويله الى مؤ ...


المزيد.....




- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-
- نادي الأسير الفلسطيني: الإفراج المحدود عن مجموعة من المعتقلي ...
- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة
- زاهر جبارين عضو المكتب السياسى لحماس ومسئول الضفة وملف الأسر ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - واحة من ذكريات عن مدينة كان يزهو العيش فيها .. وغدت خرابا تنوح على قتل الحسين .