أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - الحزن الوسيم(رواية)8















المزيد.....


الحزن الوسيم(رواية)8


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 2575 - 2009 / 3 / 4 - 08:25
المحور: الادب والفن
    


(الأم تنتظر)
لم تعد تحتمل أكثر،دخلت إلى البيت وتناولت عباءتها وهرولت إلى الخارج،مشت إلى نهاية الزقاق،أرادت أن تتجه إلى(أزمر)،لابد وأن تجده هناك،تمنت أن يتواجد هناك،جالساً يبكي،أو ربما وجده(شيرزاد)في اللحظة الحاسمة،وقبّر رغبته الدائمة في تلك الطريقة البشعة لترك الدنيا،تمنت إن لم يفعل ما كان يردده دائما،رغبته الوحيدة،التخلص من هذه الحياة اللئيمة،بطريقة تحسس الحكومة بمسؤوليتها تجاه الناس وأحلامهم،لولاها لما عاش،دائماً كان يقول ذلك أمامها،فهو الوحيد المتبقي،عانت أهوال الزمن،ومكروهات السياسة،وكل إشكالات التهجير والتهميش والجوع،رفضت أن تتزوج مذ أخذوا والده وضاع إلى الأبد،نزفت يومها كامل دموعها،وأفرغت خزائن أحزانها،وجلست مع أمها لا شيء تملك سوى الجنين(اللابط)في أحشاءها،في ليلة عاصفة،كانت السماء تجلد الأرض بوابل المطر،وريح ترعب الناس بسمفونيّة متقصفة، سمفونية لا يعيها إلاّ الفقراء والمحرومين،فاجأها المخاض،بين جارتين تمكنتا من التسلل ـ بإعياء تام ومكابدة القسوة المناخية ـ والوصول إليها طرحت الجنين،ولداً لم يبكِ كما يبكي كل جنين يهبط من رحم الأم إلى دنيا العذاب،خلدت لراحة استثنائية،رعته وحقنته طباعها،صار الولد يكبر ويتقدم في مدرسته، دائماً كان يريد والده،ودائماً تقنعه بأنه موجود في بلدٍ ما يعمل ويرسل لهما النقود،في عينيه قرأت أشياء كثيرة،كانت تشعرها بشيء من الخوف،بينما ظلّ الطفل غير مقتنعاً بما كانت تقول،نما الحزن وراح يوشم براءته ببذور العزلة والانطواء،وكانت تأخذه إلى عوالم نائية،يعود منها بظمأٍ واضح الملامح في أعماق عينيه،بدأت علامات الحزن تلح وتتطبع،في نبرته،في تصرفاته،في نظراته،مذ فقدت صبرها ودلقت ما في جوفها من سر..!!
***
قالت له:
ـ يجب أن تفهم القضيّة وتكتمها..
ـ لم خبأتِ الأمر كل هذه السنين..؟؟
ـ لم أرغب أن تشاركني حزني الكبير.
كانا يجلسان في غرفة الطعام،لم يرغب أن يتناول شيئاً،كان عائداً من مدرسته،يسكنه الفرح،وهو يقدم شهادة نجاحه إلى أمّه،وزّعت أمّه أقداح العصير على الجيران،وظلّت مثل حمامة حديثة الطيران تتنقل بخفّة ونشاط،سمع القصّة كاملة،وظلّ واجماً،ملجوم اللسان،حتى أنه لم يشعر بأنامل أمّه والتي كانت تمسح الدموع التي تهبط من عينيه،خلد لصمت طويل،صمت أعقبه نعاس شديد،ساقته وأنامته على سريره،وفي الصباح وجدته يجلس قرب النافذة،دنت منه،لم يحرك ساكناً..قالت له:
ـ أنت تغيّرت يا ولدي.
سحب نفساً عميقاً،ونقل عينيه إلى وجه أمّه،كانت تستفسر وتريد إيضاحاً حول فعلته..قال:
ـ لم حرموني من أبي..!!
ـ لست الوحيد يا ولدي،كلّنا تيتمنا مبكرين.
أسقط رأسه في حضنها،وسمعته ينشج،راحت تربت على ظهره،وشعرت هي أيضاً بحاجة إلى البكاء،ربما آخر بكاء بالنسبة لها،بعدما حققت رغبتها،رغبة أن تبوح لولدها سر اختفاء أبوه،وتبدأ حياة جديدة،حياة خالية من الصمت والبكاء،طالما الولد كبر وأجتاز مرحلته الدراسية بنجاحٍ كبير،وهو على أعتاب الكليّة،بكت معه ولكن بصمت،رفع(نوزاد)رأسه،وجد أمّه غارقة في دموعها،راح يمسح دموعها بأنامله،ولحظة انتبهت..قالت:
ـ ليكن آخر بكاء في هذا البيت.
أجابها:
ـ وزعت دموعك على تسعة عشر عاماً،وتريدينني أن أتخلّص من دموعي المحتبسة في جلسة واحدة.
ـ حياتنا القادمة تستوجب اليقظة وعدم ضياع الوقت.
ـ ولكنهم يتواجدون،دائماً تنصب أعينهم علي.
ـ حاذر يا بني،لا تبح لأحد سر اختفاء والدك،قل فقد في الحرب وكفى.
ـ حسناً سأتجنبهم من أجلك فقط،رغم رغبتي بالانتقام من أجل أبي.
ـ الزمن تكفل بأخذ حقوقنا منهم.
قالت الأم ذلك وقامت وهي تسحب يده،وصلا غرفة الطعام،وتناولا الفطور..!!
***
كان الوقت ليلاً عندما طرق الباب،خرجت ووجدت رجالاً مخيفين،صاح أحدهم:
ـ أين زوجك..!!
في تلك اللحظة كان يقف وراءها،دفعها أحدهم وأجهز على الشاب،سحله وسط صراخها،ألقوه في حوض مركبة عسكريّة ومضوا،ظلّت تصرخ قبل أن يقمن نساء الزقاق بتهدئتها..قالت امرأة:
ـ غداً سيعود..!!
ـ أريده الآن..!!
قالت امرأة أخرى:
ـ دائماً يأخذون أولادنا..!!
صاحت المرأة المفجوعة:
ـ وهل يعودون..!!
قضت تلك الليلة بجنون،وعند الصباح رافقتها جارة إلى أهلها،لم يعد ولم تعرف عنه شيئاً،مضت السنوات وظلّت تنشغل بالولد الذي صار يشبه والده إلى حدٍ كبير..!!
***
مرّة قال لها:
ـ كيف وجدتِ أبي.
لم تعرف ما قصد،أجابت:
ـ أنت تشبهه كثيراً.
ـ كيف تعارفتما.
ـ وهل هذا وقته.
ـ أريد أن أعرف أبي.
ـ كان يلاحقني وكنت أهرب منه.
ـ أكان لا يستحق الحب.
ـ تلك خلجة خجل كل فتاة تشعر أنها مثار اهتمام شاب ما.
ـ وكيف وصل إليك.
ـ أينما أكون أجده يتبعني،كان خجولاً،وجدت في نفسي شجاعة مباغتة،وشجعته على الكلام.
ـ ماذا قال لكِ.
ـ قال لم(فلان)يلاحقكِ..!!
ـ ومن هذا الـ(فلان)..
ـ ولد مشاكس كان لا يتورع من(الحرشة)بنا..
ـ وماذا قلتِ أنت.
ـ قلت هو ولد غير مؤدب.
ـ وماذا قال بعد.
ـ قال أنّه سيؤدبه أمام أنظار بنات الزقاق.
ـ وهل أفرحك ذلك.
ـ كلا..رجوته أن لا يفعل،وقلت له،من أجلي لا تفعل ذلك،ربما ستحدث مشاكل كبيرة.
ـ وهل أقتنع.
ـ هز رأسه وأطرقه،بعد برهة رفع رأسه وقال بصوت خافت:أنا أحبك..!!
ـ وهل فرحت يا أمي..!!
ـ كل فتاة تفرح حين تسمع هذه الكلمة...!!
***
وصلت(الأم)إلى مشارف قمّة(أزمر)،لعب عقلها،وشعرت بفقدان تدريجي لبصرها،ورأت نفسها تطير وتحط قبل أن تجد ناس يتجمهرون من حولها ومركبات زاعقة للشرطة تتسارع نحوها،تحجر قدماها،وتهاوت إلى الأرض،لم تعرف كم أستغرق تمددها،وكيف تم نقلها إلى مركز صحّي،استعادت شعورها ووجدت ممرضة جميلة واقفة قربها..قالت الممرضة:
ـ كيف حالك الآن..!!
ـ حالي..ما الذي جرى،خبريني..
ـ المهم سلامتك يا عمّة..
ـ لماذا أنا هنا..
ـ كدت تموتين،لكن السائق أختار الموت لنفسه.
صمتت،أرادت أن تعرف معنى لكلامها،عن أي سائق تتحدث،ومن مات،رغبت أن تصرخ،لحظة تذكرت (شيرزاد)،هو من يمتلك مركبة وهي من أرسلته للبحث عن(نوزاد)،أرادت أن تنهض ووجدت نفسها مربوطة إلى السرير ووهن كبير يشلها،عادت الممرضة وهي تحمل لها الدواء..قالت لها:
ـ يا بنتي..ماذا حصل،أخبريني أرجوك.
كانت تعمل بخفّة ونشاط،تكلمت بهدوء:
ـ ألم تشاهدِ المركبة،كادت أن تدهسك.
ـ أيّة مركبة،ما لونها،ما أسم سائقها.
ـ مركبة حوضية،تعود للبلدية.
شعرت بشيء من الراحة،رغم بقايا التأثير الذي ظلّ يشتت فكرها،لم تعد تعرف ماذا تقول،ضجيج يستعمر ذهنها،قبل أن تردف الممرضة:
ـ ما الذي أخرجك في هذا الوقت.
ـ كنت أبحث عن أبني.
ـ تبحثين عن ماذا.
ـ أبني.
ـ وهل هو صغير.
ـ سيبقى كذلك.
ـ وهل هو يعمل.
ـ مهندس.
توقفت الممرضة عن العمل،نظرت إليها،تريد أن تعي ما سمعت،واصلت أم(نوزاد)كلامها:
ـ أبني مهندس لكنه حديث التخرج،ما زال ينتظر فرصة عمل.
ـ أخي أيضاً مهندس،ينتظر فرصة التعين أيضاً.
ـ ربما هما أصدقاء.
ـ ربما.
خرجت الممرضة بعد أن حقنت الأم بحقنة(مهدئ)،عادت الأم من جديد إلى الخلود لصمت عميق أفقدها وعيها ونامت..!!
***
عند المساء تفاجأت الأم بدخول(نوزاد ـ و ـ شيرزاد)عليها،كادت أن تقفز من السرير،لولا الممرضة التي أحجمت انفعالاتها،جلس الولدان قربها،بكت الأم بصمت..قال(نوزاد):
ـ ألم تطالبيني بترك البكاء نهائياً.
مسحت دموعها..تمتمت:
ـ تسببت بقتل سائق:
أجابها(شيرزاد):
ـ لم يمت يا عمّة،زرناه وهو هنا في الردهة العليا.
فرحت وكادت أن تبكي من جديد:
ـ أخبراني الصحيح.
قال(نوزاد):
ـ يا أمّي السائق تعافى من الصدمة ولديه بعض الرضوض البسيطة،وقرر أن يتنازل عن القضيّة كونه قريب زوجة(شيرزاد).
قالت الأم:
ـ ليتني بوسعي النهوض كي أقدم اعتذاري له.
ـ سنزوره حين تتعافين.
تم نقل الأم إلى البيت،كانت تشعر بغثيان وخوف،جلس(نوزاد)قربها،قبل أن يتمدد وينام..!!
***
(بادرة أولى خطوبة)
ـ هل حقاً ما سمعت.
ـ وماذا سمعتِ يا أم.
ـ ما رواه..(شيرزاد).
ـ وهل تصدقين به.
ـ لكنه أقسم على ما شاهد.
أطرق(نوزاد)برأسه إلى الأرض،وكانت أمّه تراقب وجهه،لم تعرف عنه مثل هذا الخجل المباغت من قبل،أراد أن يستجمع نفسه،ويتخذ قراره،بعدما تكشفت أوراقه،رفع رأسه،كانت تنحت عينيها فيه،وجد في عينيها سؤال يرفض تأجيل أجابته،مد يده وربت بكفه اليمين على يدها..تمتم:
ـ يجب أن أضع حداً لما حصل بيننا.
ـ كيف حصل ذلك.
ـ لا أعلم.
ـ ولكنكما كنتما معاً.
ـ أعني كيف حصل أنني ملت إليها.
ـ أنها جميلة..لكنها...!!
ـ لكن ماذا يا أمّي..!!
ـ متحررة أكثر مما ينبغي.
ـ أليست الحياة تفرض متطلباتها علينا.
ـ نعم..ولكن حياتنا التي تعودناها لا تحتمل مثل هذا اللون الدخيل عليها.
ـ ربما مرحلة ينتبه لها المرء بعد مرحلة تالية.
ـ أرجو ذلك..
ـ ماذا نعمل.
ـ لنفاتح(شيرزاد)..ربما ينفعنا.
ـ أنت صاحبة القرار يا أمّي..!!
***
تعافت الأم بعد يومين من خروجها،كانت جالسة مع(نوزاد)في فناء البيت لحظة سمعت صرير إطارات مركبة،قامت ووجدت(شيرزاد)يقف في الباب،دخل وعانق(نوزاد)..قال:
ـ ها..أفندي..يبدو أنك تعمل من وراءي عجائب ومصائب.
ـ عن أيّة مصيبة تحاسبني.
جلس على الكرسي،وأشار إلى أم(نوزاد)وهو يصيح:
ـ كدت أن تغدو سبب موتها.
قالت الأم:
ـ لا وقت للعتاب،دعونا في صلب القضيّة يا أولاد.
قام(نوزاد)وأراد من أمّه الجلوس في مكانه،رفضت الأم وظلّت واقفة،صاح(شيرزاد):
ـ عن أيّة قضيّة تتكلمين..!!
ـ قضيّة(نوزاد).
تدخل(نوزاد):
ـ يا..(أبو المشاكل)،جهز نفسك.
ـ أنا جاهز لأخذك إلى(القمّة)كي نتخلّص منك.
قالت الأم:
ـ لا لن أسمح لك أن تأخذه،(نوزاد)اليوم ليس كما كنت تعرفه.
صاح(شيرزاد):
ـ اليوم أشم رائحة مؤامرة من غير علمي.
قالت الأم:
ـ مؤامرة اجتماعية.
ـ وضحي كلامك يا عمّة.
ـ (نوزاد)سيحذو حذوك.
ـ آه..فهمت،هيّا يا شقي،أترك هذا الحزن فيك،العالم تغير يا حزين.
اكتفى(نوزاد)بنظرة عميقة إليه،كان فرحاً يراقص جسده،ذهبت الأم وعادت بقدحي شاي..واصل(شيرزاد) كلامه:
ـ وهل هذا وقت شاي أم وقت زغاريد وشربت يا عمّة.
أجابت الأم:
ـ حين تمضي الأمور كما نرغب سأجعلك تستحم بالشربت.
ـ حسناً..من أجلك فقط سأستحم بالشربت ،رغم معلوماتي أن الناس بدأت تستحم بالعسل والحليب..!!
قال(نوزاد):
ـ شيء واحد مازال يحيرني.
أجابه(شيرزاد):
ـ كل حياتك حيرة،ما هي حيرتك الجديدة..!!
قال(نوزاد):
ـ كيف عرفت رقم هاتفي.
ضحك(شيرزاد)بصوت مرتفع،قبل أن يقوم من كرسيه وينقر على رأس(نوزاد)نقرات بسبابته..قال:
ـ ألم أقل لك أنت لا تصلح مهندساً يا ولد،تذكر يوم المعرض كي تعرف.
ـ آه..الآن تذكرت..!!(ندّت صيحة من فم ـ نوزاد ـ).
في تلك اللحظة تذكر(نوزاد)يوم المعرض الفني،حين كتبا في سجل التشريفات كلمات إعجاب وتركا أرقام هاتفيهما،بناء على رغبة الفنّانة..!!
***
عندما خرجوا في تلك الليلة ظلّ(شيرزاد)يشق أحشاء الأزقة والشوارع دون أن يهتدي إلى بيت(الفنّانة) ،ساعة ونصف الساعة وهو يوقف المركبة ويسأل..قال(نوزاد):
ـ ألم أقل لك علينا أن نعرف بيتها قبل أن نتحرك.
أجابه(شيرزاد):
ـ غبائي من غباءك،الآن أشتغل مخك،أين كنت قبل أن نتحرك يا حزين.
قالت الأم:
ـ لم لا نعود وغداً نحاول أن نسأل عنهم.
قال(شيرزاد)صائحاً:
ـ خلّصت(جلكان بنزين)وتريديننا أن ننهزم من المهمة غير المستحيلة.
ـ غداً يمكننا أن نتحرى عن البيت ونقوم بزيارتهم.
قال(نوزاد):
ـ أعتقد أننا مضينا بعيداً،أعتقد أنني سمعتها تقول بيتنا قرب( مجمّع سردم).
أجابه(شيرزاد):
ـ كان عليك أن تسألها،بدلاً من صرف كلام كاذب على أسماعها.
أوقف(شيرزاد)المركبة،سحب نفساً عميقاً..صاح:
ـ وجدت الحل.
قالت الأم بلهفة:
ـ وجدت بيتها.
ـ سأجد البيت ولكن عليكم أن تصمتوا على ما أعمل..(قال شيرزاد).
نظر(نوزاد)إلى صاحبه،بينما كان صاحبه يتحرك من جديد ويستدير إلى الوراء،شق الطريق بعجالة،وأقتحم حي المسئولين الكبار..تكلم(نوزاد):
ـ أين أخذتنا يا معتوه.
ـ اتفقنا على الصمت أليس كذلك..(صاح شيرزاد).
أوقف المركبة وهبط وسار باتجاه منزل فخم،في تلك اللحظة خفق قلب(نوزاد)ورأت أمّه علامات قلق بدأ يحركه..همست:
ـ هل هذا بيتها.
لم يتكلم الولد،كان في عالمٍ غامض يمشي،هزّت الأم الولد وهي تردد سؤالها،ظلّ الولد صامتاً،فاقداً لسانه، نقلت الأم نظراتها المستفسرة،وجدت(شيرزاد)يحاور فتاة،غامت الرؤية،حاولت أن تعرف إن الواقفة ربما هي من جاءت لخطوبتها،قبل أن تتراجع عن يقينها،بعدما رأت بوضوح أن البنت قطعة قمر أو جليد بهيئة دمية،تبدو جميلة أكثر مما يتصور العقل البشري،تمنت في تلك اللحظة أن يراجع(نوزاد)نفسه ويبدل قراره،فقط لو عرفت من هي هذه البنت التي استقبلت(شيرزاد)برحابة صدر،عاد(شيرزاد)يتمايل من فرحة غامضة،كان صوت صفيره ينتشر في المكان،دخل المركبة،وجد صاحبه غائباً كليّا عنهم، حرّكه، أنتفض(نوزاد)كأنه تخلّص من كابوس ثقيل..قالت الأم:
ـ من هذه الغزالة يا ولد.
صاح(شيرزاد):
ـ هذه هي التي دمّرت(نوزاد).
ـ ماذا تقول..(صاحت الأم).
ـ (هه ولير)..أراد الأفندي أن يلقي بنفسه من فوق(أزمر)من أجلها.
في تلك اللحظة عاد(نوزاد)من شروده المباغت،وظلّ ناحتاً عينيه في صاحبه وسط صمت الأم واستغرابها..
بينما كان(صاحبه)يواصل صفيره غير المنتظم..تمتم(نوزاد):
ـ منذ متى بدأت تصفر.
ـ منذ انتعشت أغواري برائحة(هه ولير)تك..(صرخ شيرزاد).
تدخلت الأم:
ـ دعونا من هذا الجدل،أين نمضي في هذا الليل.
قال(شيرزاد):
ـ إلى حبيبة القلب يا عمّة.
صاح(نوزاد):
ـ عد بنا..أرجوك..عد بنا.
أوقف(شيرزاد)المركبة فجأة..صاح:
ـ حسناً..أنت حقاً معتوه.
عادوا إلى البيت،أوقف(شيرزاد)المركبة وقبل أن تهبط الأم..قالت له:
ـ لم فعلت ذلك يا بني.
ـ أردت فقط أن اعرف أين بيت(الفنّانة)يا عمّة.
ـ وماذا قالت:
ـ أعطتني العنوان المضبوط.
ـ هل هي زميلتها..(قالت الأم).
قال(شيرزاد):
ـ كلاّ هي من حجزت يوم المعرض خمس من لوحاتها،لابد أنها تركت لها عنوانها،فكرة دارت برأسي جاءت غير مخيبة بالنسبة لي على أقل تقدير.
ـ أنت حقاً مجنون..(صاح ـ نوزاد ـ زافراً).
قالت الأم:
ـ غداً موعدنا أذاً.
ـ ليس قبل أن يرعوي الباش مهندس..(صاح شيرزاد).
كان(نوزاد)قد دخل البيت،ما أن وقفت المركبة ودون أن يحرِّك ساكناً هبط وهرع داخلاً،ولحظة دخلت الأم وجدته مستلقياً على سريره بكامل هندامه،أرادت أن توقظه،وجدته غارقاً في نوم عميق..!!
***
في الليلة التالية،ومع أذان العشاء الذي تصاعد من عدّة مآذن،توقفت المركبة،كان(نوزاد)مضطرباً،وكان (شيرزاد)كمن يقود صولة حربية على بيت محاصر،واصل صفيره المزعج على حد قول(نوزاد)،وراءهما كانت الأم تلهث وقلبها بدأ يزيد من نبضاته،كانت مسكونة بخوف بدأ ينمو مع كل خطوة،كانت تخاف من رفض البنت لأبنها،في بالها شيء لا ترغب التفكير فيه،فهي تريد التخلّص كليّاً من حزن الولد،طرق (شيرزاد)الباب،خرجت امرأة،وجدت نفسها أمام امرأة وولدين..قالت:
ـ تفضلا..
أجابها(شيرزاد):
ـ جئنا ضيوف..!!
في تلك اللحظة أرتفع صوت جميل من الداخل:
ـ أمّي..من في الباب..!!
صاح(شيرزاد):
ـ أصحاب العطش الدائم..!!
لم تتمالك الفتاة نفسها،هرعت ووقفت..قالت أمّها:
ـ هل تعرفينهم..!!
تشجعت الفتاة قالت بلهفة:
ـ تفضلا..تفضلا بالدخول،يا أمّي هل نسيتيهما..!!
ظلّت الأم تنظر إليهما،أرادت أن تتذكر الوجهين،قبل أن تتدخل البنت ثانية..قالت:
ـ يا أمّي..ألم تناوليهما الماء على(أزمر).
ـ آه..لقد نسيتهما حقاً..!!
دخلوا إلى البيت،كان(نوزاد)مسكوناً برعشة يجهلها،وكانت أمّه تسترد شيئاً فشيئاً إرادتها،دخلوا غرفة الضيوف،ظلّ(شيرزاد)واقفاً،كان ينظر إلى الجدران،لوحات مرصوصة بتناسق وذوق رفيع،بينما(نوزاد)وأمّه جلسا على أريكة،في تلك الليلة تم كشف أوراق الزيارة،ولم تبدِ أم الفتاة ردود أفعال،كانت منسجمة في حوار حزين مع المرأة التي جاءت تطلب يد بنتها..!!
***
تم الاتفاق الروتيني على متطلبات الحياة الزوجية القادمة،لم يمهلوا القضية وقتاً،أنهوا التناقش على كل الأمور والطلبات في جلسة واحدة،لم تتدخل(أم)البنت سوى انسجامها مع أم(نوزاد)وإعادة أوراق عمريهما وقصتي زواجيهما من رجلين أخذتهما الحكومة ولم تعرفا شيئاً عنهما،تركت بنتها من غير تردد أن تطرح حياتها القادمة على بساط التواضع،لم تضع عراقيل ولم تكن مثل الفتيات،حين يمارس الآباء والأمهات طقساً بالياً،بإعطاء فرصة أو مهلة لمناقشة الموضوع،في تلك الليلة أنهوا قراءة سورة الفاتحة، فالبنت وحيدة امرأة،والولد وحيد امرأة،والوالدان مفقودان،أنهوا المتعلقات في ظرف أسبوعين،قطعوا المهر وهيئوا جهاز العرس،اختارت(دلسوز)مكان الفرح وساعته،رغبة قديمة كانت تسكنها،لم تبح بها،ولم ترغب اطلاع أحد على رغبتها،كانت تحرسها بحرص وتناقش نفسها حول سبل تحقيقها،كلّما يجن الليل وقبل أن يباغتها طائر النوم،تغلف رغبتها بعباءة الصبر وترقدها في سويداء قلبها ليومها الموعود..!!
***
قالت:
ـ رغبتي الوحيدة..!!
قال نوزاد:
ـ لم لا نحجز قاعة كبيرة،أنت تستحقين احتفالاً يليق بمكانتك الاجتماعية..!!
ـ لا أجد غير الطبيعة مكاناً يسعدني..!!
ـ للرسم عالم ولحياتك الخاصة عالم آخر..!!
ـ أريد أن أدوس بأقدام الفرح على مكان ظلّ محفوراً في ذاكرتي..!!
ـ بإمكاننا أن نحقق ذلك فيما بعد..!!
ـ فيما بعد ستختلف الأمور،هو حلم يسكنني،ليس بوسعي أن أخلف الوعد الذي قطعته على نفسي..!!
ـ حسناً أنت صاحبة القرار الأخير..!!
ـ هناك في معسكر(جناروك)أريد أن أشهد العالم على عرسي..!!
ـ لكنه مكان مقيت..!!
ـ في تلك المنطقة..!!
سكتت عن الكلام،وجد(نوزد)أن خطيبته مسكونة بألم جديد،فهي كانت دائمة الفرح،لم يلمح في سحنتها غير ورود المسرات نابتة رغم كل الظروف،في المرّات التي رآها كانت متألقة كحمامة تتنقل بخفة،وجد نفسه أمام سؤال يريد جواباً حاسماً،بحث عن سر التبدل الجوهري لفنّانة ما عرفت غير السعادة منهجاً يليق بموهبتها،مسحت البنت دموعها،حاولت أن تصطنع ابتسامة كي تحسسه بسعادتها المعهودة،وجد (نوزاد)فرصة ماثلة لقول ما وجد من كلمات على لسانه:
ـ لك ما تريدين يا عيني..!!
ـ فقط أريد أن أحقق رغبة لم أبح بها لأحد،كانت فكرة توالدت ذات يوم بعيد،كنت صغيرة وحدّثتني جارة حول أبي،قالت أنه كان فوق ذلك المكان الشاهق يرسل مراسيل السعادة إلى العالم،أبي..!!
من جديد سكتت،وجدت نفسها مختنقة،تحاول أن تخنق العبرة وتسترد لسانها،كانت دموعها تنهمل من موقيها بوضوح،رفع(نوزاد)كفيه ولامس وجنتيها،بدأ بمسح دموعها،وجد في عينيها مستقبلاً يشرق بضياء متنامي،شاركته مسح دموعها،تصادمت كفيهما،وجدت نفسها من جديد قادرة على الكلام:
ـ كان أبي من هناك يعزف بـ(شمشاله)،قالت المرأة لي إنّ طائرات الحكومة جاءت وأخذته ومن يومها ماتت قلوب الفتيات،لم يعد هناك ربيع يسقي قلوبهن بأغاريد الحرية والحب..!!
ـ حبيبتي ـ دلسوز ـ أنا موافق على ما تختارين..!!
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحزن الوسيم(رواية)7
- الحزن الوسيم(رواية)6
- الحزن الوسيم(رواية)5
- الحزن الوسيم(رواية)4
- الحزن الوسيم..(رواية)3
- الحزن الوسيم..(رواية)2
- الحزن الوسيم..(رواية)1
- مزرعة الرؤوس(قصة قصيرة)
- خمس حكايات
- لعبة الموت..البرلماني الغيور(حكايتان)
- الشرفة الواشية..قبلة أزلية(حكايتان)
- لقاءان..الكرة الزجاجية رقم 301(حكايتان)
- معاقل الذباب..مزرعة الضفادع(حكايتان)
- حجة الغائب..المهرج الأمبراطور)قصتان
- في بلاد الأمبراطور..الموسوعة الأمبراطورية(قصتان)
- خطبة حذاء..ية
- في تلك القرية القصيّة..منظم الوقت(قصتان)
- الكرسي..حكاية نادرة(قصتان)
- الحذاء المنتظر
- يقظة السيد علوان..(قصة)


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - الحزن الوسيم(رواية)8