أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - خواطر فتاة عاقلة















المزيد.....



خواطر فتاة عاقلة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2540 - 2009 / 1 / 28 - 05:56
المحور: الادب والفن
    


رواية
خاطرة 1
أما آن لي وقد أصبحت فتاة جامعية أن أعبر عن خواطري وأفكاري في الحياة من حولي وأن أسجل أحداث حياتي الشخصية والعائلية؟ لقد كان التعبير عن هذه الأمور بصوت مسموع مستحيلاً عليّ لئلا أزعج أحداً. ومكّنني ذلك من الاحتفاظ بلقب (العاقلة) الذي أطلقه عليّ أبي. ولست مستعدة لخسران هذا اللقب. فلأعبر عن خواطري على الورق إذن وستكون بمأمن من الآخرين.
ترى متى بدأت لدي عادة الصمت؟ لقد اعتدت ألا أفصح عما يجول بخاطري منذ وعيت نفسي. ولعل ذلك مسؤولً عن تأخري في الكلام. وأمي تقول إنني لم أتكلم إلا بعد أن تجاوزت الثالثة بأشهر.. ربما لأنني حدست بأنني لم أكن موضع ترحيب العائلة. فأنا كنت الأخيرة بين اخوتي الثلاثة وأختيّ الأثنتين. وكنت أترك وحدي في زاوية من الدار دون أن أجتذب انتباه أحد. وكنت أمكث ساكنة كالحجر. لم أكن أبكي لأي سبب. ولم أكن أطلب أي شئ. وكنت بذلك على نقيض أختي صفية التي كانت كثيرة البكاء والطلبات. فكانت تثير استهجان الجميع.
ولم أحظ بالاهتمام إلا بعد أن تجاوزت الثالثة ولم أتكلم. وكان ذلك مدعاة لقلق أهلي فبدؤا يعنون بأمري. وخشوا أن أكون بكماء فعرضوني على الطبيب، فأكد لهم أنني لا أشكو علّة. وكانت أمي تطيل النظر إليّ وعيناها تفيضان بالحسرة. وكانت تقول: "منتهى تحكي بعينيها وأنا أفهم كلامها. لكنني أريد سماع صوتها".
وأخيراً تكلمت. وغمرت الجميع موجة من الفرح. نطقت بعبارة واحدة هي: "أنا عطشانة". وكان الجو حاراً ذلك اليوم فانتابني عطش شديد. وهرولت إليّ أمي والدموع تكاد تطفر من عينيها وهي تردد في لهوجة: "منتهى حكت.. منتهى حكت". وأقبل علىّ كل من كان في الدار وهم يتصايحون مبتهجين. واستدرجوني للكلام فلم أزد على أن قلت "أنا عطشانة". وحملتني أمي على صدرها وطارت بي إلى الماء.
هناك اعتقاد لدى الناس أن الطفل الذي يتأخر عن الكلام يصبح ثرثارا حينما يتكلم لكنني خيبت أمل الجميع. فلم انطق في اليوم الواحد سوى عبارة أو عبارتين. وكنت أتحدث بعينيّ وهي العادة التي لازمتني حتى اليوم.
ومنذ تكلمت اخذ أبي يهش في وجهي كلما رآني. ولعلني أدركت بحدسي أنني فزت بإعجابه بسلوكي المتحفظ فشجعني ذلك على التقرب منه. وتطوعت بأداء خدمات صغيرة له. كنت أحضر له حذاءه مثلاً أو بعض قطع ملابسه كلما همّ بالخروج. فزاده ذلك إعجاباً بي ولقبني بـ" العاقلة". فلم تعد تناديني أمي وزكية ومصطفى إلا بهذا اللقب. وامتنعت عن مشاركة صفية في لهوها وعبثها. وكنت أمضي الساعات منزوية في ركني المعتاد في باحة البيت وأنا أراقب تحركات الجميع وعيناي يقظتان. وكنت أسرع لمساعدة كل من أراه بحاجة إلى مساعدة. ولم يكن لديّ طلبات أو اعتراضات. فكان أهلي يقولون عني: "ما أعقل منتهى! إنها لا تريد شيئاً ولا ترفض شيئاً ولا تعترض على شئ!" ولم يكونوا يعلمون أنني كنت أفعل ذلك بيني وبين نفسي.
وحينما اصطحبتني أمي لأول مرة إلى المدرسة قالت للمديرة بفخر:"سترضين عنها يا مديرة. فنحن نلقبها في البيت بالعاقلة".
وسلكت في المدرسة نفس سلوكي في البيت. فلم أكن أتكلم إلا إذا سئلت. ولم أتصرف بما يزعج معلماتي أو زميلاتي. فالتقط المعلمات لقبي. وكان بعضهن يتأملنني بإعجاب ويقلن: "ما أكبر عقلك يا منتهى!".
وكان زميلاتي يتنافسن على صداقتي ويحاولن إشراكي في لعبهن. لكنني كنت أكتفي بالجلوس على مقربة منهن وعيناي تتابعان لعبهن باهتمام. وانتقل معي لقبي إلى المتوسطة ثم الثانوية. وفرض عليّ قلة الكلام وتجنب مضايقة أية مدّرسة من مدّرساتي وأية زميلة من زميلاتي. وانتخبت أكثر من مرة "التلميذة المثالية". وكنت الأولى على صفيّ دائماً. وكانت بعض المدّرسات يقلن لتلميذات صفي: "يا ليت لدينا أثنتين في المدرسة من نوع منتهى يا بنات. ويا ليتكن تتخذنها قدوة لكن".
ومع أنني كنت محور مديح المدّرسات دائماً لكن ذلك لم يكن ليثير غيرة زميلاتي. فقد كنت أخف لمعاونة كل من تنشد منهن عوني. ولم أكن أتدخل في شئون أية واحدة منهن. وكنّ يقلن عني: "ما ألطف منتهى! إنها لا تنتقد أحداً ولا تزعج أحداً ولا تريد شيئاً!". ولم يكنّ يعلمن أنني أشدهن انتقاداً لسلوكهن، ولا يدرين بما كنت أريده من أشياء!
ترى ألم أكن مخطئة في احتفاظي بلقب "العاقلة" مقابل تنازلي عن أفكاري ومشاعري ورغباتي؟! وأما كان يجدر بي رفض هذا اللقب منذ البداية والتصرف كما يتصرف البنات في سنيّ؟!






خاطرة 2
سألتني أمي صباح اليوم: إلى متى ستبقين متمسكة بثياب الحداد يا منتهى؟
فقلت: حينما تخلعينها أنت يا أمي.
فقالت: لكنك لست مثلي يا منتهى. أنا أمّ. أما أنت فأخت. وحرام عليك أن تتمسكي بها وأنت في عز شبابك.
فقلت: سأخلعها حينما يحين الأوان يا أمي.
وأنا في الحقيقة أدري متى سأتخلى عن ثياب الحداد. سأفعل حينما يحل في قلبي شخص أحبه بقدر ما أحببت مصطفى. وكم يغلبني الضحك حينما أسمع زكية وصفية وهما تتعجبان من موقفي. وقالت لي زكية يوماً: "أنا لا أفهم يا منتهى موقفك هذا. كنت أقلنا تأثّراً على مصطفى حينما حملوا إلينا جثته". ولا عجب في أن تقول زكية ذلك. فحينما أقبل علينا رفاق مصطفى وهم يحملون جثمانه ووجوههم تنضح بالغضب والأسى بدا وكأن القيامة قد قامت في حيّنا. وازدحم زقاقنا بالشباب والنسوة والأطفال حتى لم يبق فيه منفذ. وارتجت أركان بيتنا بالصراخ واللطم والنواح. أما أنا فتسمرت في مكاني أحدّق في ذهول بوجه مصطفى المخضب بالدماء. ثم انسللت إلى غرفتي وأغلقت عليّ بابها وأطلقت العنان لدموعي. ولبثت طوال أسبوع ملازمة الصمت. كنت أخشى أن أفتح فمي فيخونني صوتي ويغلبني البكاء.





خاطرة 3
أنا الآن أشهد عالماً جديداً في الجامعة يختلف عن عالم المدرسة الثانوية. فلأول مرة يشتمل صفّنا على الطالبات والطلاب. والطالبات فئات متعددة. فهناك فئة المنطويات على أنفسهن، وتختص كل طالبة منهن بصديقة واحدة. ولا يتحدثن مع الطلاب. وهناك فئة المنفتحات ويتعاملن مع الطلاب بألفة. وهناك فئة ثالثة، أنا وفاتن منها، وهن المتحفظات في تعاملهن مع الطلاب. أما الطلاب فلا يتوزعون في فئات. فمعظمهم يغلبهم الحرج من الاحتكاك بالطالبات.


خاطرة 4
الدكتور رائد أستاذ الفلسفة الحديثة أستاذ جاد حقاً. وهو بالتأكيد أفضل أساتذتنا. ومع أنني ما أزال مبتدئة في الجامعة لكن بإمكاني القول بأن أساتذتنا يتفاوتون في حماسهم للعلم. فالبعض منهم يلقي محاضرته وكأنه يؤدي واجباً وظيفياً لا أكثر. والبعض الآخر لا يتقن محاضرته ويتعثر فيها وكأنه لم يستعد لها. وهناك من تبدو محاضراتهم ضحلة لا تليق بلقبهم العلمي.
أما الدكتور رائد فتكشف محاضرته عن ثقافة واسعة وتبحّر في العلم. وهو حين يلقى محاضرته يتدفق حماساً وكأنه عاشق للعلم. ولذلك فهو يولي الطلبة المتفوقين اهتماماً خاصاً. وبما أنني أكثر الزملاء تفوقاً فهو يوليني اهتماماً واضحاً. ويبدو لي أنه قد عشق العلم بدرجة صرفته عن شواغل الدنيا الأخرى. فبالرغم من أنه في منتصف العقد الرابع من عمره لكنه لم يتزوج حتى الآن. إنه عالم حقيقي حقا0



خاطرة 5
تجادل صباح اليوم أبي ومرتضى حول سهره. ومنذ أسابيع وأبي يتذمر أمام أمي كل صباح من هذه العادة التي تستفحل في سلوك مرتضى. لكن تذمره كان هادئاً على طريقته المعتادة. أما اليوم فكان صوته محتدا. وأيقظ ذلك مرتضى فخرج إليه. ودار بينهما الحوار التالي. قال مرتضى: مالك يا أبي؟! لماذا أنت غاضب ونحن في أول الصباح؟
فقال أبي: وكيف لا أغضب وأنت تعود كل ليلة بعد منتصف الليل وتنام حتى الضحى؟
فقال مرتضى: فهل يجب أن أعود من الدكان إلى البيت بعد تعب النهار وألفّ رأسي وأنام؟
فقال أبي: وهل أنت الوحيد الذي يتعب طول النهار؟ أليس أبناء كل جماعتنا في السوق يتعبون مثلك؟ فهل يقضون أوقاتهم كل ليلة في الملاهي ويبعثرون فلوسهم على الراقصات؟
فقال مرتضى: أنت تعلم يا أبي أنني أهلك نفسي في الشغل. فلا داعي لأن تضغط عليّ أكثر من اللزوم .
فقال أبي: أنت ستضر نفسك وتقع في بليّة يوماً.
وغادر أبي الدار غاضباً. وإن الأسى ليتملكني على ما يسبب سلوك مرتضى من مضايقة وحزن لأبي. وليته يكف عن هذا السلوك.










خاطرة 6
موقف الدكتور رائد مني يشعرني بالفخر. فهو لا يفوت فرصة تسنح دون الإشادة بي. فحينما يعجز الزملاء عن الجواب على أسئلته يتوجه إليّ قائلاً: هل لدى منتهى الجواب؟".
وغالباً ما يكون لديّ الجواب. فأنا أستعد لموضوع المحاضرة خلافاً للزملاء، فيهزّ رأسه استحساناً ويقول: "وعند جهينة الخبر اليقين". وقد أخبرتني فاتن أن الطلبة أطلقوا عليّ لقب "جهينة".
وأحياناً يتعمد الدكتور رائد إطالة النقاش معي ويحيل ردي على سؤاله إلى محاورة. ثم يلتفت أخيراً إلى الطلبة قائلاً: "اسمعوا يا أولاد. منتهى ليست فخر صفكم فحسب، بل فخر قسم الفلسفة قاطبة".
حقاً إنه يبالغ في تقديري. وإنني لأجد في هذا التقدير مكافأة عظيمة لاجتهادي.



خاطرة 7
فاجأتني اليوم زميلتي هدى بأمر لم يخطر لي على بال. ومنذ أوائل العام الدراسي وهي تحاول الاستئثار بصداقتي لكنني لم أستجب لرغبتها. فلست مستعدة لاتخاذ أكثر من صديقة مقربة. وبما أن صديقتي فاتن انتقلت معي من الثانوية إلى الجامعة وانتسبت إلى قسم الفلسفة من أجلي، فلم يعد هناك مجال لأختص بصديقة أخرى. وقد اقنعت هدى بمركز الزميلة المقربة. ولكن يبدو أنها ما تزال تأمل في استجابتي لرغبتها يوماً. قالت لي: أريد مصارحتك بأمر يا منتهى وأرجو ألاّ تحمليه على محمل سيئ.
فقلت: أبداً.
فقالت: لا أدري كيف لا يخطر على بالك أن ملازمة فاتن لك مضر بك.
فقلت: لماذا؟
فقالت: لأنها جميلة جداً.
فقلت: وما شأني بالأمر؟
فقالت: ألا يثير جمالها قلقك؟
فقلت: لا.. أبداً. ولماذا؟
فقالت: كيف لماذا يا منتهى؟ إن أية واحدة منا تبدو منطفئة إلى جوارها. وطبعاً هذا ليس في مصلحة صديقتها الملازمة لها.
فقلت: وهل ترين أن هذا الأمر يهمني؟
فقالت: المفروض أن يهم أية واحدة منا.
فقلت: إلا أنا.
فقالت وهي تضحك: قيل في الأمثال "لقد أعذر من أنذر". وأنا حذّرتك يا منتهى فليس من مصلحتك أن تسمحي لفاتن بأن تحتكرك.
فقلت: شكراً.
ومثل هذا الأمر في الحقيقة لم يخطر لي على بال. فلم أفكر بفاتن إلا بكونها صديقة عزيزة. ولقد كانت صداقتنا منذ بدايتها استثنائية. فنحن متناقضتان في كل شئ. فأنا صموتة لا أكاد أتكلم ولا تهمني خصوصيات الغير، وهي ثرثارة و فضولية هوايتها استقصاء شئون الأخرين. وأنا مهملة لمظهري عموماً، وهي شديدة العناية بمظهرها. وأنا مولعة بالثقافة والدراسة، وهي لا تعرف سوى "كشكول" المحاضرات. ولكن بالرغم من كل هذه الفروق بيننا فنحن صديقتان متلازمتان منذ تعارفنا في ثانوية الكرخ للبنات . ولا أدري لماذا اختارتني صديقة لها، ولماذا قبلت أنا بذلك رغم كل هذه التناقضات بيننا.. ربما لأننا أدركنا أننا نكمل بعضنا بعضا. والمهم أنني أشعر بارتياح لها منذ انعقدت صداقتنا وهي تبادلني نفس الشعور. ولم أفكر يوماً باستبدالها بصديقة أخرى بالرغم من محاولات هدى وزميلات أخرى.










خاطرة 8
يظل الدكتور رائد أفضل أساتذتنا علماً وخلقاً. فبالرغم من غزارة علمه فهو لا يدل بهذا العلم على طلبته بل يبدو مثالاً للعالم المتواضع. والإبتسامة لا تفارق وجهه .وهو يعاملنا باحترام. وصدره يتسع لأسئلتنا مهما تكن ساذجة. وكثيراً ما قال: "إن السؤال والتساؤل يشكّلان مفتاح الوصول إلى الحقيقة. وتلك هي الطريقة التي اتبعها سقراط للوصول بالناس إلى الحقيقة. فقد كان ينزل إلى الأسواق والميادين ويلقي عليهم أسئلة حول مكارم الأخلاق، وكنه العدل والظلم والشر والخير والحق والضلال".
وليس هذا شأن أساتذتنا جميعاً. فالبعض منهم يضيق ذرعاً بالأسئلة كالدكتور نائل مثلاً. فهو يرد أحياناً على السائل بتهكم واستهزاء مما يوقعه بالخجل. والبعض الآخر يتعالى على الطلبة كالدكتور جمال. فهو يجاهر الطالبات بالعداء حتى إنه لا يوجّه إليهن أنظاره أبداً. وهو قلما يمسك بالطباشير ويكتب على اللوحة لئلا تتلوث ملابسه. ومع أن محاضراته لا تكشف عن غزارة في العلم لكنه يظهر غطرسة عظيمة. ولا تمر محاضرة من دون أن يؤكد لنا ما يتمتع به من سمعة عالية في الأوساط العلمية.
أما الدكتور أمين فيبدو دائماً غير متأكد من معلوماته. والظاهر إنه لا يحضّر محاضرته جيداً. وبما أنني أعد أفضل طالبة في الصف فأنه يلتفت إليّ دائماً ويسألني: "أليس كذلك يا منتهى؟" فأرد عليه: "نعم يا دكتور" مع أنني أعلم أن بعض ما يذكره من معلومات ليس دقيقاً.
وأما الدكتور عمار فعيناه في تنقل دائم بين وجوه الطالبات الوسيمات. والبعض منهن ينلن في مادته درجات لا يستحققنها0 وقد استغل بعضهن نقطة الضعف هذه فيه فنلن أعلى الدرجات في مادته.
وهكذا يبقى الدكتور رائد أفضل أساتذتنا باتفاق الزملاء والزميلات بل لعله أفضل أساتذة كلية الآداب قاطبة .








خاطرة 9
حصل اليوم أمر محرج لي. فقد سألتني زميلتي عفاف أن أساعدها في قضية شخصية. وأنا أرحّب بأية معونة علمية تطلب مني، لكنني لا أقرب القضايا الشخصية. لذلك ضايقني طلبها كثيراً.
قالت لي: أنت يا منتهى أكثر واحدة في صفنا تحظى باحترام وتقدير الزملاء جميعاً. لذلك فكرت في الاستعانة بك في مشكلة شخصية.
فقلت: ولكن ألا ترين يا عفاف أن التدخل في القضايا الشخصية لا يقع ضمن إمكاناتي؟
فقالت: ولماذا لا يقع ضمن امكاناتك يا منتهى؟ أنت فرضت احترامك على الجميع. والكلّ يعترف برجاحة عقلك وغزارة ثقافتك. فما فائدة الثقافة إن لم تستثمر في حل مشاكل الحياة العملية؟
فسألتها: وما هي مشكلتك يا عفاف؟
فقالت: مشكلتي أنني غارقة في حب زميلنا مهدي وهو لا ينتبه إليّ.
فقلت: لكنك تتحدثين معه دائماً. فكيف لم ينتبه إليك؟
فقالت: الذنب ذنبي. فأنا أتحكّم في عواطفي عندما أكون معه.
فقلت: إذا كنت أنت نفسك لم تجرئي على التصريح له بحبك يا عفاف. فكيف تتوقعين مني أن أفعل ذلك؟
فقالت: لأنك في موقع الشخص المحايد يا منتهى. فالكل يعلم أنك بعيدة عن الانغمار في القضايا العاطفية. لذلك سيكون تدخلك في هذه القضية موضوعيا ً ومنزهاً.
فقلت: أمهليني لأيام يا عفاف وسأبلغك بقراري.
وأنا حائرة كيف أتصرف في هذه القضية. وقد أثارت أفكاراً محتدمة في رأسي. بدا لي أن المرأة في مجتمعنا لا تزال تحس بإحساس العبودية تجاه الرجل، أو على الأصح تشعر بالدونية حياله. وهي تمارس دور الأمة تجاه السيد. وهي غير مقتنعة في دخيلة نفسها بأنها ندّ له. وإلا فلماذا تتحرج عفاف من مصارحة مهدي بحبها؟! ولو كان الأمر معكوساً وكان مهدي هو الذي يحب عفاف.. أما كان يبادر بمصارحتها بحبه؟ إذن فنحن النساء في مجتمعنا الشرقي نحتفظ بعقلية ومشاعر المرأة في مجتمع الصيد والرعي والزراعة.
وإني لأتساءل: لماذا تساوت المرأة بالرجل في المجتمعات الغربية وعجزنا في مجتمعاتنا الشرقية عن بلوغ ذلك؟!


خاطرة 10
حدثنا الدكتور رائد اليوم عن الفلسفة الألمانية الحديثة.وبعد أن أشاد بالفلاسفة الألمان الحديثين وعلى رأسهم هيغل الذي قال عنه إنه يُعد "أبو الفلسفة الألمانية الحديثة"، حمل على فلاسفة آخرين ممن يدعون إلى تمجيد القوة. ثم ذكر أن الفلسفة الألمانية الحديثة تجمع بين المتناقضات. ففي بعض أدبياتها تبالغ في تمجيد الغطرسة البشرية، وضرب مثالاً على ذلك بـ"نيتشة"، وفي جزء آخر منها تمعن في تمجيد الروح الإنسانية، وضرب مثالاً على ذلك بماركس. ثم أفاض في الحديث عن فلسفة ماركس. وذكر بأن الهدف الرئيسي لفلسفة ماركس هو الأخذ بيد المستضعفين وإشاعة العدالة الاجتماعية بينهم.
وتحدث طويلاً عما عاناه البشر عبر تاريخهم الطويل من المستغلين الذين كانوا يسرقون جهد المستضعفين وعرقهم لكي يراكموا الثروة ويعيشوا في أبهة ورغد. وذكر بأن الحكام عبر مراحل التاريخ كانوا مع أولئك المستغلين ضد الضعفاء، بل كانوا أداة بيد أولئك المستغلين لسحق المستضعفين.
وسكت حين رفع زميلنا مسعود يده متسائلاً: ولكن ألا تعتقد يا دكتور بأن فلسفة ماركس بالغت في التفسير المادي لحركة التاريخ وارتباطها بحياة البشر وأنها بذلك ألغت دور الإرادة الإلهية في تحريك حياة البشر على العكس من فلسفة هيجل الروحية العظيمة؟
فظل الدكتور رائد صامتاً لحظات ثم قال بلهجة حاسمة: اسمع يا مسعود. لسنا بصدد المقارنة بين الفلسفتين. وكل ما أردت التأكيد عليه هو الجانب الإنساني في فلسفة ماركس والذي يناصر المستضعفين من البشر ويدعو إلى العدالة الاجتماعية. وينبغي أن تتجه الفلسفة في رأيي نحو هذه الوجهة السامية. ولك بعد ذلك رأيك الخاص في من تفضلهم من الفلاسفة.
وأنا أستعيد الآن محاضرة الدكتور رائد لصباح اليوم دهمني حزن شديد. تذكرت ما قاله لي مصطفى قبل مصرعه بأسبوع. وكانت الانتفاضة قد اندلعت يومذاك تطالب الحكومة بالاستقالة. قال: "تذكري وصيتي يا منتهى. فقد لا يكتب لي البقاء في هذه الانتفاضة العاصفة. ثقفي عقلك وهيئيه للإسهام في تنوير عقول المستضعفين وأخضعي علمك لخدمتهم. واعلمي أن أهم هدف للمفكرين الأحرار هو مناصرة المستضعفين من البشر والدعوى إلى العدالة الاجتماعية".
ومع أنني شعرت بقلبي يغوص في أعماقي وأنا استمع إلى قوله هذا، لكنني بقيت متشبثة بشعور الاطمئنان الداخلي حياله . ولكن واأسفاه! فقد تحققت توقعاته وحمل إلينا رفاقه في يوم أسود جسده الممزق بالرصاص.
فما أشبه أقوالك يا دكتور رائد بأقوال أخي مصطفى!










خاطرة 11
انشغل ذهني بقضية عفاف وبقيت صريعة الحيرة. فكيف أقحم نفسي على زميل وأحادثه في قضية شخصية وأنا أبعد الناس عن التدخل في شؤون الأخرين؟! وما يدريني بارتباطاته العاطفية التي قد لا تسمح له بالاستجابة لعواطفها؟! وراقبت تصرفات مهدي علّني استشف منها معنى فلم تمدني بشيء.
و فطنت فاتن لمراقبتي وأثارت عجبها فهي ظاهرة لم تألفها مني. ولم تقو على ضبط فضولها فقالت لي أمس وابتسامة متخابثة تتلاعب على شفتيها: يظهر أن لـ"كيوبيد" سطوة على كل الناس يا منتهى.
وفهمت قصدها لكنني تجاهلته وقلت: هذا أمر يخص طبيعة البشر.
فقالت: كنت أتصور أن البعض أقوى من "كيوبيد" وسلطانه.
فاختصرت الطريق وقلت لها: لا تمعني في الخيال يا فاتن. ولكي أريحك اعترف بأنني أراقب مهدي فعلاً ولكن لا لحسابي بل لحساب شخص آخر.
فقالت بعجب: ومن هذا الشخص يا منتهى؟
فقلت: عفاف فهي تحبه ولا تقوى على مصارحته. وأريد التأكد أولاً من بعض الأمور.
فقالت وقد اشتد عجبها: وكيف قبلت بذلك؟
فقلت: أنت تعرفين أنني لا أرفض لأحد طلباً.
فقالت: ولماذا لا تتولى هي ذلك؟
فقلت: هذا ما حدث. فهل لديك حل؟
فقالت: نعم. لديّ حلّ.
فقلت: وما هو؟
فقالت: فلتبعث إليه رسالة تصارحه فيها بحبها، فإن لم يستجب لها فلتنس الموضوع.
فقلت وأنا أتنفس الصعداء: أنت أنقذتني من ورطة يا فاتن. وسأبلغ عفاف بذلك.

خاطرة 12
في نهاية الأسبوع الماضي لم يعد مرتضى إلى البيت. وذعرنا لغيابه ولم يغمض لنا جفن حتى الصباح. وظلت أمي تدور في أنحاء البيت وهي تبكي وتردد: "هل كتب الله عليّ أن أفقد ولدين من أولادي؟" ولما يئسنا من عودته فكّرنا بالاتصال بمرتجى ليتولى البحث عنه. واستعان أبي بتلفون الجيران. فلما عاد كان مكفهر الوجه. واستمسك بالصمت ولم يرد على أسئلة أمي اللجوج. ثم انفجر في وجهها قائلاً: هل تتصورين أن لك ابنا اسمه مرتجى؟! انسه .. انسه كما نسينا.
فتساءلت أمي بالتياع: ولكن لماذا يا أبا مرتجى؟ ألم يعدك بالبحث عن مرتضى؟
فقال: أبداً. إنه قال لي لا تشركني في هذا الموضوع يا أبي.
فرددت أمي بصوت باك: ويلي عليك يا أم حظ الضائع.
فقلت لأبي: سنعاود الاتصال به عند الصباح يا أبي.
فقال أبي بحزم: أنا لن أفعل. افعلي أنت ذك إذا شئت.
فقالت أمي: لماذا لا نستعين بالدكتور مراد يا أبا مرتجى؟ إنه لم يخيّبنا يوماً.
فقال أبي وهو يهز رأسه في حزن: أهذا معقول؟ الغريب يخدمنا وابننا يتبرأ منا؟!
واتصلنا عند الصباح بالدكتور مراد وسألناه المساعدة فوعدنا خيراً. وقد عثر على مرتضى فيما بعد موقوفاً في أحد مراكز الشرطة لمشاجرة بينه وبين أحد زبائن "ملهى الانشراح". وأدى الشجار إلى تلف كبير في أثاث الملهى. ومن حسن حظنا أن الدكتور مراد على معرفة بالضابط المسؤول فأعاننا على تسوية القضية من دون إحالتها على المحاكم. ودفع أبي مبلغاً كبيراً لصاحب الملهى تعويضاً عن خسارته.
وخلقت قضية مرتضى أسوأ الأثر في نفس أبي تجاه مرتجى. وظلت إمارات الحزن مرتسمة على وجهه. ولقد أثار عجبي ردّ فعل أبي هذا. فالمفروض أن يتوقع مثل ذلك الموقف اللامبالي من مرتجى. فمتى اهتم مرتجى بشؤون أهله؟ فمنذ وعيت وهو يعيش حياة منعزلة عنا حتى لكأنه ليس فرداً منّا. ولم يظهر يوماً اهتماماً بشأن من شؤوننا. بل انه رفض بإصرار وهو صبي أن يعاون أبي أثناء عطلاته. ويبدو أنه كان يستنكف من العمل في الدكان. وكان دائماً يحاول الظهور بمظهر أعلى من مستواه. فكان يرهق ميزانية أبي بملابسه الغالية.وكانت تبدو عليه منذ صباه إمارات الكبرياء. وكان يكشف عن ميله للتسلط. وكان متجهم الوجه دائماً على العكس من أخي مصطفى. ولم نعجب حينما أخبرنا بعد نجاحه في البكالوريا بأنه سينتسب إلى كلية الشرطة. إذ بدا ذلك متناسباً مع طبيعته. وفي حينها قال مصطفى بحزن: سيكون مرتجى أداة ضاربة بيد السلطة الغاشمة .
وعلق مرتضى متهكماً: إذا كان يتصرف معنا باستعلاء وهو تلميذ.. فكيف سيتصرف معنا حينما يصبح ضابط شرطة؟
ثم لم يمض على تخرجه سوى عام واحد حتى أعلن لنا إنه سيخطب إبنة أحد ضباط الشرطة الكبار. وأرغم أبي على إنفاق مبلغ كبير ليوحي لأنسبائه بأن أباه مقتدر. واستقل ببيت في الكرادة الشرقية ولم يعد يزورنا إلا في أوقات متباعدة. وزادنا تباعداً عنه زوجته المتكبرة التي عاملتنا منذ اليوم الأول بعجرفة واستعلاء.
هذا هو مرتجى الذي يعرفه أبي جيداً. فلماذا يثير موقفه من قضية مرتضى في نفسه كل هذا الحزن ؟!
وانني لأتساءل: لماذا اكتسب مرتجى مثل هذه الشخصية السلبية ولم يصر مثل أخي مصطفى؟





خاطرة 13
ما أشد ما نفتقدك يا أخي مصطفى! لو تعلم كم حرّكت
قضية مرتضى من أحزاننا الدفينة عليك. وقالت لي أمي اليوم إن أبي أمضى ليلة أمس وهو يبكي عليك مردداً أنك لو كنت حّيّا لحللت له مشاكله. والحق معه إن افتقدك فيما لقيه من معاناة في قضية مرتضى. فكم من مرة نشد نصيحتك فيما يواجهه من مشاكل. وكان يأخذ بنصيحتك قائلاً: "مصطفى يملك عقلاً كبيراً وهو أكثر أبنائي شفقة عليّ". ولقد كنت منذ طفولتك تساعده في الدكان ولم تستنكف من العمل معه يوما .
وأمي.. أليست معذورة حينما ظلت عاماً كاملاً بعد وفاتك تنام على الأرض ولا تقرب السرير حزناً عليك؟ وهي لا تزال حتى اليوم تختلي بنفسها كلما حزبها أمر وتظل تنوح عليك. فقد كنت تغمرها بلطفك وحنانك ورعايتك. وكانت تسميك تاج رأسي0
وأنا يا مصطفى.. كيف يمكنني أن أقهر حزني عليك؟ لو تعلم كم أفكر فيك! وكيف أنساك وكنت ترعاني منذ صغري أكثر من أي فرد في العائلة؟! ولكن متى انقطعت عن التفكير فيك؟ ومن منّا لا يفكر فيك دائما يا مصطفى؟ حتى أخي مرتجى الذي لم يظهر اهتماماً بأهله يوماً بكى عليك حينما بلغه نبأ مصرعك وقال وهو ينشج: "لماذا أخذته منا يا ربي"؟
أما مرتضى فبقي أياماً يحبس نفسه في غرفته ويطلق العنان لدموعه. وكان صوت نحيبه المفجع يترامى إلى أسماعنا من وراء الباب فيفجرّ حزناً هائلاً في صدورنا.
لقد كنت ريحانة البيت يا مصطفى. وكان لطفك وعطفك وحنانك يشمل الصغار والكبار وكل زملائك. ومن الذي لم يكن يحبك من زملائك يا مصطفى؟! كان زملاؤك تلاميذ المتوسطة والثانوية يحضرون إلى بيتنا على الدوام للسؤال عنك. وحينما انتظمت في الجامعة لم يكف زملاؤك عن المجيء إلى بيتنا والسؤال عنك. ويوم مرضت ولازمت الفراش لم تنقطع وفود الطلبة عن زيارة بيتنا. ولم يكن يخجلك أن تعيش في بيت متواضع كبيتنا، على العكس من أخي مرتجى. ولم يقتصر زوارك على الطلاب فحسب، بل حضر للسؤال عنك بعض زميلاتك الطالبات أيضاً. وأنا متيقنة أنك كنت تمتلك أكبر عدد من المعجبات من زميلاتك يا مصطفى. ولا ريب أن إعجاب البعض منهن كان يبلغ حد العشق. ومن التي لا تعجب بشاب مثلك كان مثال الفتوة والوسامة والرجولة بقامتك المديدة ووجهك المتناسق الملامح وعينيك السوداوين القويتين ووجهك المنبسط دائماً في بسمة مشرقة؟ لكنك لم تكن تشجع ولا شك أية واحدة منهن على التمادي في حبك. فهمومك كانت أكبر من عواطفك الذاتية.. كانت هموم البلد كلّه. ولا عجب في ذلك. فمنذ صباك وأنت ترفض لهو الفتيان الذين في سنك. ولم يكن الكتاب يفارقك منذ وعيت .
آه يا أخي مصطفى.. كم نفتقدك وما أشدّ حاجتنا إليك!


خاطرة 14
يظهر أن عفاف أخذت بنصيحتي. وقد لفتت فاتن نظري إلى ذلك صباح اليوم. قالت لي بانتصار: عفاف انتفعت باقتراحك يا منتهى مع صاحبها مهدي.
فقلت: وكيف عرفت؟
فقالت: ألا ترين أنهما صارا كقيس وليلى؟
فقلت: لا أدري.
فقالت: إذا كنت أنت لا تدرين فأنا أدري.
فسألتها: وكيف؟
فقالت: إنهما ينفردان ببعضهما باستمرار بل ويتخلفان عن بعض المحاضرات.
فقلت: أرجو لهما التوفيق.
فقالت: على كل حال عفاف ليست محسودة على مهدي.
فقلت: لماذا؟
فقالت: أفلا ترين أن مهدي يبدو من عائلة متواضعة مثلها؟!
فقلت: فإذن هو مناسب لها.
فقالت: وأين الطموح إذن؟
فقلت: يبدو أنها واقعية.
فقالت: صحيح أن كل واحدة منّا تفكر بالزواج. ولكن يجب أن تفكر أيضاً بالطموح وليس بالواقعية فقط.
فقلت: لا أعتقد أن كل واحدة منّا تفكر بالزواج يا فاتن.
فقالت: أتعنين أنك لا تفكرين بالزواج يا منتهى؟
فقلت: طبعاً لا أفكر بالزواج.
فقالت: حتى لو تقدم إليك الشخص المناسب؟
فقلت: أنا تزوجت العلم يا فاتن.
فقالت: لا يا منتهى. أنت تبالغين . فمصير كل واحدة منا إلى الزواج. والعلم بالنسبة إلينا ليس سوى حلية.
فقلت: ولكن ليس بالنسبة لي.
فقالت: أنت مخطئة إذن0
وإني لأتساءل: أ تراني لا أفكر في الزواج حقاً وأنني قد تزوجت العلم؟!





خاطرة 15
فوجئت فاتن اليوم لأول مرة بالدكتور رائد يوّجه إليها سؤالاً. فهو لم يفعل ذلك أبداً مع أنها تجلس إلى جواري. لذلك أربكها سؤاله إرباكاً شديداً. فظلت صامتة لحظات وقد احمر وجهها. وأثناء تلك اللحظات كانت عينا الدكتور رائد معلقتين على وجهها. ولما طال صمتها قال لي وهو يبتسم: ما رأيك يا منتهى لو تبرعت بالجواب نيابة عن صديقتك؟
فقلت: أنا حاضرة يا دكتور.
وأجبت عن السؤال. فقال بلهجة لطيفة: استعدي للأسئلة في المستقبل يا فاتن.
وقالت لي فاتن بعد المحاضرة وقد ركبها الهمّ: ما هذه المصيبة التي وقعت على رأسي اليوم يا منتهى؟ ما الذي ذّكر الدكتور رائد بي بعد كل هذه الشهور؟
فقلت: ربما كانت غلطة.
فقالت محتجة: كيف غلطة؟! ألم تسمعيه يقول لي استعدي يا فاتن للأسئلة في المستقبل؟
فقلت: انه يداعبك.
فقالت: ومتى كان الدكتور رائد يعرف الدعابة؟
فقلت: لا تقلقي يا فاتن.
والحقيقة أن الأمر حيّرني كما حّيرها. واعتبرته بيني وبين نفسي غلطة فعلاً.


خاطرة 16
منذ مدة لم يزرنا مرتجى. وكانت آخر زيارة له في عيد الأضحى وبمفرده طبعاً. وحينما رجته أمي أن يصطحب معه زوجته أجابها بحزم: "لن أفعل حتى تغيروا بيتكم هذا". وخمنت أن زيارته لا تحمل بادرة خير. فقد كان وجهه مكفهرا وأساريره مدلهمة. وبعد عبارات المجاملة التفت إلى مرتضى وتساءل باستنكار: ما هذا الذي سمعته عنك يا مرتضى؟
فتساءلت أمي في تخوف: وماذا سمعت يا مرتجى؟
فقال محنقا: أخبرني الدكتور مراد بكل شيء.
فقال أبي: على كل حال القضية عدّت على خير.
فقال مرتجى بحدة: ليس المهم أن القضية عدّت على خير يا أبي. ولكن المهم كيف حدثت؟
فقال أبي: لا تغضب هكذا يا مرتجى. لم تكن القضية بهذه الخطورة.
فهتف مرتجى في انزعاج: كيف لم تكن القضية بهذه الخطورة وهي مشاجرة في ملهى من الدرجة الثالثة بين أثنين من السكارى يتنافسان على إحدى الساقطات؟
قال مرتضى قي احتجاج: لم تكن إحدى الساقطات.. إنها فنانة محترمة.
فقال مرتجى في تهكم: فنانة محترمة تعمل في ملهى من ملاهي الدرجة الثالثة!
قال أبي وهو يهز رأسه: على كل حال حصل خير.
فصاح مرتجى محتدما: لا.. لم يحصل خير. ويبدو أنكم لا تدركون خطورة ما حدث. واسمح لي يا أبي أن أقول لك إنك أنت المسؤول الأول عما حدث. فلو ردعته عن هذا السلوك منذ البداية ما حدث ما حدث.
فقال مرتضى: وماذا حدث؟ هل انهدّت الدنيا؟ أهي المشاجرة الوحيدة التي حدثت في الملهى؟ في كل ليلة تحدث المشاجرات في الملاهي.
هتف مرتجى في اهتياج: لا00الأمر ليس مجرد مشاجرة0 فيبدو انك صرت من فتوات الملاهي كما يقول المصريون0وهم يتجنبونك لأن أخاك ضابط شرطة مهم0وأنت لا تدرك خطورة ذلك على سمعتي بين أنسبائي وزملائي كما يظهر0 أو لعل الأمر لا يهُمك في كثير أو قليل. فماذا يمكن ان تؤثر هذه الحادثة على شخص مثلك يعمل في سوق السّراجين؟
ثم التفت إلى أبي وقال وهو يرتجف غضباً: وأحب أن أنذرك يا أبي بأنه لو تمادى في سلوكه هذا فستكون له نتائج خطيرة على مستقبلي. وحينئذ سأعرف شغلي معه.
ثم نهض فجأة وغادر البيت. واختلست النظر إلى وجه أبي فإذا به ينطق بانكسار فاجع. وتملكني رثاء عظيم له.










خاطرة 17
لم أكن لأحضر حفلة عيد ميلاد عبير لولا إلحاح فاتن. فلم يسبق لي أن حضرت أية حفلة من هذا القبيل. ومثل هذه الحفلات لا تناسب مزاجي أصلاً. ثم أنني لا أستلطف عبير. فهي لا تكترث بأية واحدة منا. واتخذت عفراء فقط صديقة لها. وكنا نعلم أن أهلها بالغي الثراء. وهي ترتدي دائماً أغلى الملابس. وتحضر إلى الجامعة بسيارة فخمة يقودها سائق مهندم. ولم توجه الدعوة إلا إلى عدد محدود من الزميلات اللواتي من غير طبقتها من بينهن أنا وفاتن. وعلقت زميلة من غير المدعوّات قائلة: "عبير دعت إلى حفلتها من الزميلات اللواتي من غير طبقتها ممن تريد التباهي عليهن بقصر أهلها".
و ألحت عليّ فاتن الحاحاً شديداً. وقالت لي متوسلة: "أرجوك يا منتهى ألا تحرميني من فرصة رؤية بيت أهل عبير. فلن أذهب إن لم ترافقيني".
و بهرنا قصر أهل عبير. فهو قصر عظيم في حي المنصور تحيط به حديقة غنّاء واسعة مكتظة بالأشجار الجميلة وخمائل الورود على اختلاف أنواعها. وغصّت ردهات القصر الواسعة بالأثاث الفخم والرياش الغالية والتحف النفيسة. وهمست لي فاتن مبهورة: "هذا هو القصر الذي أحلم به يا منتهى". أما أنا فتخيلت بيتنا البسيط بأثاثه المتواضع وهززت رأسي في حزن.
واستقبلتنا أم عبير بلطف مصطنع. وبدت بفستانها الأنيق ومجوهراتها المذهلة إحدى تحف القصر النفيسة. وتذكرت وأنا أتأملها أمي المسكينة التي لا تغيّر ثيابها حتى تبلى ولا تمتلك من الحلي الذهبية سوى سوارين بسيطين. وهمست لنفسي: مسكينة أنت يا أم مصطفى0
وقد أحزنتني حفلة عبير. إذ شهدت كيف يعيش أناس في بذخ عظيم بينما يعيش آخرون بالشحّ والتقتير. وترددت في سمعي كلمات مصطفى التي كان يكررها دوماً: "لن يهدأ لي بال حتى تنمحي اللاعدالة من بلدنا ويتمتع الجميع بفرص الحياة المتكافئة".
وإني لأتساءل: من المسؤول عن هذه اللاعدالة في بلدنا؟






خاطرة 18
طرأ تحّول على سلوك مرتضى أسعدنا جميعاً منذ زيارة مرتجى الأخيرة. فلم يعد يسهر كعادته حتى منتصف الليل. وصار يتواجد في البيت قبل الساعة العاشرة. ولم يعد ينام حتى الضحى . وكثيراً ما سبق أبي إلى الدكان. وكان أبي أعظمنا سروراً. وسمعته يقول لأمي: "علينا أن نشكر مرتجى على شدّته مع مرتضى فهي التي عقّلته".
وطبعاً ابتهجت أنا أيضاً بسلوك مرتضى الجديد لكنني لم أفهم دوافعه. فهل استجاب حقاً لتهديدات مرتجى؟ وخالط ابتهاجي رثاء له. فسيلتزم بنمط من الحياة يحرمه من كل متعة. وأنا أعتقد إنه بحاجة لبعض الترفيه بعد نهاره الطويل في العمل. ‍‍‍




خاطرة 19
لست أفهم هذا التوجه الجديد لدى الدكتور رائد نحو فاتن. فبعد أن كان يتجاهلها تماماً باعتبارها من الطالبات غير الجادات صارت موضع أسئلته بين حين وآخر. ولم يكن يخطر لفاتن ذلك على بال. فهي ليست على استعداد في أية مادة من المواد لتلقّي أسئلة والجواب عنها. لهذا ركبها الهّم. وناقشت معي فكرة انسحابها إلى الصفوف الخلفية لتكون بمنأى عن عيني الدكتور رائد فلم أشجعها على ذلك. وهونت الأمر عليها. والحقيقة أنني محتارة مثلها في تفسير موقف الدكتور رائد الجديد.


خاطرة 20
انتقلت زكية قبل أيام إلى بيتنا زعلانة وبصحبتها مليكة وفطيمة. وكم أثار وجهها الناقع بالحزن الوجع في قلبي. لكنني لم أصارحها بحزني. وقلت لها: "ما زعلك سوى سحابة صيف يا زكية ولن يصبر جواد على زعلك". وكان موقف أبي من زعلها سلبياً. قال وهو يهز رأسه: "مكان الزوجة بيت زوجها، وما فعلته خطأ يا زكية". ولم تعلق أمي بشيء سوى أنها زفرت زفرة حرّى وقالت: "الله يساعدك يا زكية".
وأمي مطلعة طبعاً على تفاصيل حياة زكية. فهي تزورنا يوميا. ولا شك أنها تحكي لها كل شيء عن حياتها. وقد أدركت من زمن أن زكية ليست على وفاق مع حماتها مع أن علاقتها بزوجها ممتازة. فجواد تزوجها عن حب، وكثيراً ما رآها في أزقة الحي. وكان زواجها منه مصدر ارتياحنا جميعاً، وخصوصاً أبي، فأبوه جار أبي في السوق. وكانت أم جواد فرحة بزكية إيضاً. لكنها انقلبت عليها فيما بعد. وقد سمعت زكية أمس تقول لأمي: "لا تلوميني يا أمي. فحياتي مع أم جواد صارت كالجحيم. وهي تعاملني كأنني خادمة في البيت. وقالت لي أنت لا تملكين في البيت سوى أثاث غرفتك. وسأقنع جوادا بأن يطلقك ويتزوج بأخرى فأنت لا تلدين سوى البنات. وهي تناكفني طول النهار وتختلق لي الهفوات. وتحاول الانفراد بجواد دائماً ولا أدري ماذا تقول له، وأية أكاذيب تلفقها عني".
وأنا حزينة على زكية. فهي متألمة جداً من فراق زوجها خصوصاً وأنه لم يسأل عنها.









خاطرة 21
اليوم كان يوم انتصار لي حقاً. فلم أنل طوال حياتي الدراسية القدر الذي نلته من مديح وإطراء وإشادة. وصحيح أنني اعتدت على سماع الإطراء من الدكتور رائد منذ بداية العام الدراسي، إلا إنه بلغ اليوم الذروة في إطرائي. وكان قد كلفّنا بكتابة أبحاث، فخصص محاضرة اليوم للحديث عنها. وقد علّق على بحثي بإسهاب. قال إنه كان يتصور وهو يقرأ بحثي إنه يقرأ بحثاً لأحد زملائه الأساتذة. وقال أيضاً إنه مهما أشاد بالبحث فلن يوفيه ما يستحقه من تقدير. وختم تعليقه بالقول إنه اقتنع بأنني طالبة موهوبة وأنني سأكون بلا شك إحدى المفكرات اللواتي سيشار إليهن بالبنان. وكان أثناء تعليقه يسلّط عينيه القويتين على وجهي. ولم أقو على مبادلته النظر ولبثت خافضة الطرف، خفاقة القلب، تلتهب وجنتاي بدمائي الحارة. وما أن انتهى من تعليقه حتى دوّت القاعة بالتصفيق. وحين غادر قاعة الدرس أقبل عليّ الزملاء والزميلات يهنئوني بحرارة. وطبعاً كانت فاتن أعظمهم غبطة. وأشهد أنها كانت وهي تطبع على وجهي قبلات حارة تبدو وكأنها هي المكرمة.
ويخيل إليّ وأنا أستعيد الآن نظرات الدكتور رائد المتوهجة وصوته المتدفق أن موقفه مني كان جديداً. وصحيح أن موقفه مني كان متميزاً على الدوام لكنه كان مختلفا اليومً. كان وهو يطري عليّ يبدو كعاشق يطري معشوقته.










خاطرة 22
حضر اليوم جواد لزيارة زكية. وقد أمضت زكية الأسبوعين الفائتين في أسوأ حال. وكنت أسمع بكاءها كل ليلة وهي مختلية في غرفتها. وقد تأثر أبي لغياب جواد وقال لها بحنوّ: "لا تحزني يا ابنتي زكية. فهذا بيتك مثلما بيت أهل جواد بيتك".
وبدا على جواد التأثر الشديد المشوب بالخجل. وانفرد بها طوال الوقت. وحينما خرج بدت زكية مشرقة الوجه. وسألتها أمي ضاحكة: هل ستفارقيننا يا زكية بعد أن اعتدنا عليك وعلى مليكة وفطيمة؟
فأجابتها: لا يا أمي. ولكن الحمد لله على كل حال.
وخلوت بها في غرفتها وقلت لها: بشّريني يا زكية. كيف تسير الأمور؟
فقالت بأسى: ماذا أقول لك يا منتهى؟ جواد ممزق بين حبه لأمه وحبه لي. وقد هددّته بترك البيت إذا صالحني. ومنعته من زيارتي. فرجاه أبوه أن يؤجل زيارتي حتى تهدأ ثائرتها.
وسكتت وعيناها شاردتان ثم أضافت متوجعة: مسكين جواد. إنه يتعذب أكثر مني.
فقلت: كان الله في عونكما يا زكية.

خاطرة 23
ضبطت نفسي في محاضرة اليوم وأنا أختلس نظرات خاطفة من وجه الدكتور رائد. وأنا غير مرتاحة لذلك. فالمفروض ألاّ يمثل الدكتور رائد لي سوى الأستاذ الغزير العلم. وقد وهبت نفسي للعلم وينبغي ألاّ يشغلني أي أمر آخر. وهو عهد قطعته لأخي مصطفى كي أثبت بأن المرأة يمكن أن تكون نداً للرجل في ميدان العلم. فكيف سيتسنى لي ذلك إذا سمحت لذهني بالانشغال بالقضايا العاطفية؟
ولقد أقنعتني النظرات التي اختلستها من وجهه أن هناك شبه بينه وبين مصطفى .. في طوله وملامحه المتناسقة وابتسامته المشرقة .وإنني لأعجب كيف لم يلفت نظري هذا الشبه من قبل!






خاطرة 24
قالت لي أمي أمس: حاولي يا منتهى أن تقنعي أختك زكية بالموافقة على العودة إلى بيت زوجها.
فقلت: لكنك تعلمين يا أمي أنني لا أتدخل في القضايا الشخصية.
فقالت: لكن هذه ليست قضية شخصية يا منتهى. وجواد وسّطني ففشلت معها.
فقلت: إذا كنت أنت فشلت فما فائدة وساطتي يا أمي؟
فقالت: زكية تقّدر كلامك. وتقول منتهى لا تقول الغلط.
فقلت: سأفعل يا أمّي وإن كنت غير مقتنعة.
وكنت أخمن مقدّماً أن وساطتي ستفشل، فزكية لن تتخلى عن قرار لها إذا اقتنعت بصوابه. فشخصيتها قوية وهي عنودة وإن كان هدوؤها يخفي ذلك. ومن الواضح أنها اتخذت قرارها بعد تفكير طويل. وانفردت بها وقلت لها: كيف تسير الأمور مع جواد يا زكية؟
فقالت: هو ليس مرتاحاً يا منتهى.
فقلت: طبعاً. فوجوده بعيداً عنك وعن ابنتيه يتعبه.
فقالت بأسى: هذا نصيبه ونصيبي.
فقلت: ألا يمكنك أن تحلّي المشكلة يا زكية؟
فقالت بحزن: ياليت بيدي ذلك يا منتهى.
فسألتها : بيد من إذن؟
قالت وهي شاردة الأنظار: إنه بيد الظروف.
فقلت: علمت من أمي أن جواد يرغب رغبة قوية في عودتك إلى بيته يا زكية.
فقالت وهي عابسة الوجه: إنه ليس بيته. إنه بيت أمه. وهي لا تريدني في البيت.
فقلت: ولكنه بيتك أيضاً يا زكية.
فقالت: أبداً. لا تصدقي ذلك يا منتهى. وهو نفسه يعرف ذلك. فهو لا يصرف فلساً واحداً على البيت. فهو لا يملك موردا مستقلا عن أبيه.
فقلت: وهذا ما قاله مصطفى حينما عارض في زواجك منه. أفلا تتذكرين ما قاله يا زكية؟
فقالت بأسى: وهل قال مصطفى يوماً قولاً غلطاً؟! الله يرحمك يا أخي مصطفى. لو كنت موجوداً لحللت مشكلتي.
فقلت: ولكن ألا يمكنك أن تتنازلي قليلاً وتهاودي أم جواد يا زكية؟
فقالت: ليست المسألة أن أهاودها وأتنازل عن شيء يا منتهى، إنها صارت تكرهني ولا تطيق مرآي.
فقلت بعجب: ولكن لماذا تكرهك يا زكية؟ الكل يعلم أنك رزينة ولا تؤذين أحداً!
فقالت مفكرة: أنا أيضاً ظللت متعجبة لتغيرها من ناحيتي. وأعتقد أن السبب هو تدليل جواد الزائد لي . كان ينفرد بي في غرفتنا حالما يرجع مساء من الدكان. وكانت تستاء لذلك وتحتال بشتى الحيل لكي تمنعه من ذلك. فهو لم يعد يجلس معها كالسابق. وكانت تفرض على أبيه أن يشتري لها من الثياب كل ما يشتريه جواد لي . وكانت تكتم مشاعرها نحوي في البدأ . فلما ولدت مليكة أخذت تصرّح بها وتعيرني بأنني لم أنجب ولداً يفتخر به جواد. وحينما جاءت فطيمة صارت تسخر مني أمام الجميع وتسميني "أم البنات". وكنت كلما شكوت حالي لجواد طيّب خاطري وقال لي: "ماذا بإمكاني أن أفعل لها يا زكية وهي أمي؟" ويوماً قلت له: "يجب أن نستقل في بيت وحدنا يا جواد". فقال لي: "وكيف نفعل ذلك وليس لي مورد مستقل يا زكية؟ وأنا لا استطيع ترك أبي في الدكان وحده وهو شبه عاجز". فأقنعني كلامه إذ تذكرت حاجة أبي إلى وجود مرتضى معه. وصبرت على حالي. ولكن لم يتبق عندي طاقة على الصبر يا منتهى. وأرجوك ألا تلحّي عليّ كما تفعل أمي.
فقلت: كان الله في عونك يا زكية.
خاطرة 25
ترى أيحق لي أن أبقى بعيدة عن العواطف الذاتية؟! لا أدري. فما زلت أعتقد أن حياتي ينبغي أن تكرس للعلم. وإذا استسلمت للعاطفة فلن يتسنى لي أن أحقق طموحاتي العلمية. وسأكون مجرد تابعة للرجل. وإذا لم أثبت أنا ويثبت غيري من النساء أن إمكاناتنا العقلية ليست دون إمكانات الرجل فلن نكون جديرات بالمساواة به. وسيظل محقاً في مقولته بأن مكان المرأة هو بين جدران البيت. وستبقى له السيادة علينا. فلا بد لي إذن أن أقاوم عواطفي الذاتية. وأنا أدري أن ذلك أمر عسير. فيوماً بعد يوم ازداد اقتناعا بأن نظرات الدكتور رائد إليّ تحمل معنى معيّنا وتوجه رسالة خاصة. ومن واجبي أن استجيب لتلك الرسالة. وهو يضيف كل يوم دليلاً جديداً على صحة ملاحظتي. فهيئته تغيرت عما ألفناه في أوائل العام الدراسي. وأضحى وجهه أكثر طلاقة. وصار أكثر أناقة0 إنه ليس الدكتور رائد القديم. ومهما حاول أن يكتم عواطفه برزت واضحة في أسارير وجهه ورنة صوته. وإنني لأكتشف فيه يوماً بعد يوم خصالا تقرّبه من مصطفى. فحينما يتحمس في الكلام تشترك يداه في التعبير عن حماسه، كما كان يفعل مصطفى تماماً. وإن النشوة لتسري في عروقي وأنا أسترق النظرات من وجهه. ويخيل إليّ أن وقت محاضرته بات أقصر من السابق. وعندما تنتهي المحاضرة تداخلني الخيبة لانتهائها بهذه السرعة. وبعد كل شيء.. ألست امرأة ذات قلب حيّ مهما شغفت بالعلم؟!
خاطرة 26
أمس حلمت حلماً غريباً. حلمت بأن الدكتور رائد استدعاني إلى مكتبه ودار بيننا الحوار التالي.
سألني: لماذا تلبسين السواد يا منتهى؟
فقلت: أنا ألبس السواد على أخي المتوفى مصطفى.
فسألني: ومتى توفى أخوك؟
فقلت: منذ عامين.
فقال: وما زلت تلبسين السواد عليه؟ هذا أمر غير مألوف في تقاليدنا يا منتهى. أنت بذلك تجنين على نفسك.
فقلت: ولماذا؟
فقال: لأنك تضفين على نفسك طابعاً قاتما يضيع من حيوية شبابك.
فقلت: هذا أمر لا يهمني. فالذي يهمني هو العلم.
فقال: لا.لا. لا بد أن يهمك يا منتهى وإن كان العلم من أولوياتك. فينبغي لك ألا تفرّطي في حقك بأن تعيشي سعيدة. وهدف الحياة النهائي هو تحقيق السعادة. وسعادة المرأة هي بمشاركة الرجل حياته.
فقلت: الرجل لا يهمني.
فقال: لا يا منتهى. هذا تفكير خاطئ. فالرجل والمرأة هما الركنان المتلازمان للحياة البشرية0
فنظرت إليه في عجب وفارقت المكتب.












خاطرة 27
تغيّرت العلاقات بين طلبة وطالبات صفّنا عن بدء العام الدراسي. واختلفت أوضاع الطلبة على نحو الخصوص . فلم يعد غالبيتهم يشعرون بالحرج تجاه الطالبات. بل إن البعض منهم رفع الكلفة بينه وبيننا بدرجة تثير الاشمئزاز. وهؤلاء هم الذين يتشبهون بـ"دون جوان". ولكن هناك أيضاً من بقي محتفظاً برزانته ، وظلت علاقته بالطالبات علاقة يحكمها الإحترام. وهؤلاء هم الطلبة المعنيون بالدراسة أو السياسة. وهم يذكرونني بأخي مصطفى.
وخرج عن تحفظه كذلك عدد من زميلاتنا اللواتي كن محسوبات على فئة المتحفظات. بل وبالغ البعض منهن في علاقاتهن مع الطلبة، وهن اللواتي أطلقت عليهن فاتن لقب "المنفلتات". ولعل من أشد المنفلتات زميلتنا منى.. ومنى من بين الطالبات المتواضعات في جمالهن، ومع ذلك فهي تتنقل باستمرار من زميل إلى آخر وتلقى إقبالاً واضحاً منهم. وكان ذلك مصدر تساؤل فاتن الدائم حتى بات ذلك شغلها الشاغل. وصباح اليوم قالت لي فاتن وهي تتنفس الصعداء: أخيراً حللت لغز منى يا منتهى.
فقلت: وكيف استطعت ذلك؟
فقالت: هي التي حلّته لي. فبعد محاورة ومداورة بيننا قالت لي: اسمعي مني هذه الحكاية يا فاتن وافهمي مدلولها. قبل أيام اصطحبت زميلنا حسّون إلى "المتجر الشرقي" لشراء فستان لي. وتخيرت فستاناً وسألته أن يرافقني إلى مقصورة التبديل. وأغلقت علينا باب المقصورة وتجردت من ملابسي ووقفت أمامه عارية كما خلقني الله وفرّجته على جسدي الجميل. فكاد يهوي على الأرض من شدة ذهوله.
فقلت: ربما كانت هذه حكاية مختلقة يا فاتن.
فقالت فاتن: وأنا أيضاً تصورت ذلك. وقلت لها: حكايتك غير معقولة يا منى.
فنظرت إليّ في برود وقالت: ولماذا غير معقولة؟ هل تريدين من كل الطالبات أن يسلكن تجاه الطلبة سلوكك المتعالي وقد خصّك الله بكل هذا الجمال؟ إعلمي أن واجب من هنّ مثلي أن يدارين أنفسهن وأن يلجأن إلى كل الحيل لاجتذاب الرجل.
فقلت: ما أعجب حكايتك هذه يا فاتن!
قالت بانتصار: الآن سيرتاح بالي بعد أن حللت هذا اللغز.
أيوجد من زميلاتنا من تهون عليهن أنفسهن إلى هذا الحد في سبيل اجتذاب الرجل غير منى؟!










خاطرة 28
زارتنا اليوم أختي صفية مع زوجها الدكتور مراد. وكشفت لنا عن وضعها المأساوي حينما انفردت بي وبزكية. ولا تزورنا صفية إلا مع زوجها. لذلك تباعدت زيارتها لنا. وفي خلال العشرة أشهر التي مرت على زواجها لم تزرنا سوى ثلاث مرات بصحبة زوجها. لذلك لم نكن نعرف شيئاً عن حياتها. وكنا نعتقد أنها تعيش حياة زوجية سعيدة. فزوج مثل الدكتور مراد، وهو الطبيب الناجح، لا بد أن يكون غنياً. وهو الزوج الذي كانت تطمح إليه صفية طول عمرها. وقد خدمها الحظ حين مرضت فصحبها مرتضى إليه، فوقع في حبها من أو نظرة. ولا عجب فهي جميلة حقاً. ومع أن الفارق بين عمرها وعمره يقرب من خمسة وعشرين عاماً لكن أحداً من العائلة لم يهتم لذلك. فالكل يعلم أن صفية لا يعنيها سوى المال. فكانت صدمة عظيمة لي ولزكية حينما حدثتنا عن حقيقة حالها. وللوهلة الأولى شككنا فيما حكته لنا. وقالت لها زكية في ارتياب: ألست مبالغة في أقوالك يا صفية؟! فأنا اعرفك!
فقالت وصوتها يتفجر بالحزن: صدقاني فأنا لم أكذب عليكما. فأنا في أبأس حال. أنا في سجن حقيقي فهو يمنعني من الخروج ويقضي طول النهار وأول اليل في العيادة ، ولولا وجود الخادمة معي لجننت.
فسألتها زكية: ولماذا يمنعك من الخروج؟
فأجابت: لأنه يغار عليّ يا زكية غيرة جنونية مع أنني لم أفعل شيئاً يثير غيرته.
فتساءلت زكية في ارتياب: فلماذا يغار إذن؟
فقلت: إنه فارق السن بينهما يا زكية.
فقالت زكية: المفروض أن يدللها لا أن يحبسها في الدار.
فقالت صفية بلوعة: بل على العكس يا زكية. إنه لا يعرف الدلال. تصوري أنني طلبت منه مرة أن يأخذني إلى السينما فرفض.. فهل من المعقول أننا لم نر السينما حتى اليوم؟ ولم يصحبني في نزهة إلا ثلاث مرات. وفي المرة الثالثة أخذني إلى مطعم. وكان عدد من الشبان يجلسون حول مائدة قريبة. ويظهر أنني أعجبتهم فلم يرفعوا عيونهم عن وجهي. وكانوا يتهامسون فيما بينهم ويضحكون. فغضب مراد غضباً شديداً وانصرفنا قبل أن نتم طعامنا.
فقلت في عجب: هل من المعقول أن تبلغ به الغيرة إلى هذه الدرجة؟
فقالت صفية في لوعة: إلى هذه الدرجة وأكثر يا منتهى.
فقالت زكية ً: اصبري يا صفية فلعل الزمن يغيّره.
فردت عليها صفية:وكيف أصبر يا زكية؟ أنا أشعر أنني أختنق في البيت.. أنا التي كنت أتصور إنه سيخلصني من حبس بيتنا وإذا بي أقع في حبس أشد. على الأقل كنت أستأنس معكم ومع صديقاتي من بنات الجيران. أما الآن فصرت أكلم نفسي.
فقالت زكية: ليس لديك من حل سوى الصبر يا صفية. هذا ما كتبه الله لك كما كتبه لي.
فقالت صفية في لوعة: أنا لا قدرة لي على الصبر مثلك يا زكية.
فتساءلت زكية: فما الحل في رأيك إذن؟
فقالت صفية: يطلقني.
فهتفت زكية مرتاعة: نجوم السماء أقرب إليك من هذا الطلب يا صفية. فلا أبي ولا إخوتي يمكن أن يوافقوك عليه خصوصاً وأنهم راضون عن الدكتور مراد. وأنت تعلمين أن تقاليدنا لا تقبل المرأة المطلقة.
فقالت صفية وقد اعتراها الحزن: لو كان مصطفى موجودا لحل مشكلتي. هو الوحيد الذي بإمكانه أن يحل مشكلتي.
وظهرت أمي على الباب وهي باسمة وقالت: أطلتم جلستكم يا بنات والدكتور مراد يريد الذهاب يا صفية.
قالت صفية وهي تنهض وقد أظلم وجهها: أنا أخبرتكما بحالي وعليكما أن تخبرا أمي وأبي. وإذا بقيت على حالي هذا فسأنتحر ودمي في رقابكم جميعا.
وبقيت مسهدة بعد انصراف صفية وزوجها. وظللت أتقلب في فراشي ورأسي يعج بالأفكار والحزن يمضني. وفكرت بالحياة الفارغة الرتيبة التي عاشتها صفية وزكية. ولحسن حظي فقد جنبنّي مصطفى نمط حياتهما بما كان يحضر لي من كتب ومجلات كنت أهيم في رحابها. وربما لم تقاس زكية ما قاسته صفية من جفاف حياتها، فهي قنوعة لا تعرف للشكوى معنى. فحينما حرمها أبي من المدرسة لكي تساعد أمي في أعمال البيت، لم تشك ولم تتذمر. وتعلمت الخياطة على يد صديقة لها من بنات الجيران. وباتت مسؤولة عن خياطة ثيابنا. ولم تكن تخرج من البيت إلا نادراً. وصارت صديقة مقربة لأمي.
أما صفية فكانت متمردة على حياتها منذ طفولتها. وكانت تردد دائماً: "إلى متى يارب نظل نعيش حياة الفقر والبؤس؟" واشتد تمردها على حياتها حينما تعثرت دراستها فتركت المدرسة. وفقدت بذلك متنفسها خارج البيت. وزادها تمرداً تضييق مرتضى الدائم عليها حتى لم تعد قادرة على التجوال في أزقة الحي. لذلك تنفسنا الصعداء حينما وافاها الحظ وتزوجت من الدكتور مراد. وفرح الجميع بالدكتور مراد. فقد أسكنها في بيت فخم في راغبه خاتون0 ورقص مرتضى مبتهجاً وهو يردد: "زكي السّراح يصاهر طبيباً مشهوراً". أما أتا قبدا لي زواجا محكوما بالفشل. فكيف سيتعايش زوجان يفصل بينهما خمسة وعشرون عاماً؟ ولكن لم يخطر لي أن يتصرف شخص مثقف كالدكتور مراد تصرفاً بدائياً فيحيل بيت الزوجية إلى سجن. فما الفرق إذن بينه وبين مرتضى الجاهل؟
وإني لأتساءل: هل الرجل هو الرجل مهما يبلغ من ثقافة؟ وهل يظل ينظر إلى المرأة كأمة مهما اتسعت مداركه؟









خاطرة 29
بدأت شكوكي تتحول إلى يقين. ومن المؤكد أن الدكتور رائد مغرم بي. وأنا أفهم الآن سبب اهتمامه الخاص بي منذ البداية. فصحيح أنني أفضل طالبة في الصف ولكن هناك بعض الزملاء من يدانونني في تفوقهم. ومع ذلك لا يوليهم نفس الاهتمام.
وكنت أعجب لماذا لم يتزوج حتى اليوم. والآن يبدو لي إنه كان يبحث عن الشريكة المناسبة طوال هذه السنين. فهو مثقف واسع الإطلاع، بل عالم فذّ، ولا بد أن تكون شريكة حياته نظيرة له لتكون قادرة على فهمه ومواكبته في علمه. وها قد وجدها فيّ أخيراً. وصحيح أنني من بين الطالبات المتواضعات في جمالهن.. ولكن هل يمكن أن يكون هدف رجل مثله البحث عن زوجة جميلة وفارغة العقل لتشاركه حياته الحافلة بالعلم؟ فلا عجب إذن أن يقع اختياره عليّ. ألم يصرّح مراراً بأنني فخر صفنّا بل فخر قسم الفلسفة قاطبة؟ وأنا .. أما آن لي أن اعترف بأنني أضمر له من الحب ما يضمره قلبه لي؟!



خاطرة 30
جوّ البيت مشحون بكدر غير اعتيادي. وارتسم هذا الكدر على وجه أبي على نحو الخصوص. وفاضت عينا أمي بالقلق وتوارت الابتسامة القنوعة من ثغرها. وتصاعدت وتيرة حزن زكية. فهجس في نفسي أن ثمة أمراً غير اعتيادي قد حدث لنا. ولكن ما هذا الأمر يا ترى؟ فأمورنا تجري كالعادة ولم يطرأ عليها جديد. فأخي مرتجى يعيش حياته الخاصة المستقلة عنا حتى أننا لا نكاد نعرف أخباره. وزكية تمارس حياتها الجديدة وتساعد أمي في أعمال البيت وجواد يزورها بين يوم ويوم. وأخي مرتضى يرجع إلى البيت قبل الساعة العاشرة. وهذا يعني أنه أقلع عن السهر في الملاهي. فما الذي أصاب أبي بالكدر وانتقلت عدواه إلى أمي وزكية؟
وعصر اليوم أطلت عليّ زكية في غرفتي وهي تتنهد وتتوجع فسألتها: ما بك يا زكية؟ هل قال لك جواد شيئاً مزعجاً؟
فقالت: جواد المسكين لا يقول شيئاً مزعجاً. وهو اسلم مصيره إلى الله كما فعلت أنا.
فقلت: إذن ما الذي زوّد من همومك؟
فقالت: لا أنا ولا أمي نحب أن نشغلك بهذه الهموم يا منتهى.
فقلت: من واجبي أن أشارككم همومكم يا زكية.
فقالت: صحيح. وأنا قلت لنفسي ذلك. ولعلك لاحظت أن أبي مهموم هذه الأيام.
فقلت: فعلاً لاحظت هذا. ولم أفهم السبب.
فقالت: إنه مرتضى يا منتهى.
فقلت : وماذا فعل مرتضى حتى يثير هموم أبي؟!
فقالت: يظهرأنه لم يغيّر سلوكه القديم.
فقلت: وماذا فعل؟
فقالت: يظهرأنه ما يزال على صلته بالراقصة التي تشاجر من أجلها.
فقلت: لكنه يعود كل لية مبكراً يا زكية. وهذا يعني إنه لم يعد يسهر في الملاهي.
فقالت: أبي يقول إنه لم يغيّر سلوكه حقيقية.
فقلت: وكيف ذلك؟ فالملاهي تبدأ عادة في وقت متأخر.
فقالت: لا أدري ما الذي يجعل أبي يعتقد بذلك. وهو يقول ليته ظل على سلوكه القديم ولم يفعل ما فعل.
فقلت : وماذا فعل؟
فقالت: أخبر أناس أبي بأن مرتضى لا يزال على علاقة بتلك الراقصة وأنه أستأجر لها شقة وأنه يتردد عليها كل يوم. وأخبره أيضاً إنه ربما تزوج منها.
فقلت مرتاعة: فهي إذن مصيبة. ماذا لو سمع مرتجى بذلك؟
فقالت: وهذا ما يزيد من هموم أبي وكدره.
ولبثنا صامتتين. ثم قالت زكية: ومما يزيد من كدر أبي إنه واقع في الحيرة والشكوك وأنه غير مصدق تماماً لهذه الإشاعة. فسلوك مرتضى طبيعي. وكل ما لاحظه عليه إنه ينفق من "الدخل" أكثر من السابق.
فقلت: ولكن لا بد أن يقطع الشك باليقين يا زكية. فليس من المعقول أن يظل يقاسي من الشك.
فقالت: وهذا ما قالته له أمي، لكنه رد عليها بحزم: "إياك أن تواجهيه أنت بذلك يا أم مرتجى. فأنا لا أريد مثل هذه المواجهة لئلا تنكشف الحقيقة. فلو حدث ذلك وصّحت الإشاعة فسيفارق البيت ويذهب للسكنى معها. وربما ترك الدكان أيضاً. وصحتي لم تعد تعينني على العمل المجهد".. وكم أنا متألمة لحاله يا منتهى.
فقلت: كان الله في عونك يا أبي. وما أصدق مصطفى حين سماك بـ"المناضل".
نعم يا أبي.. أنت مناضل حقاً. فمنذ وعيت وأنت تبكر في الذهاب إلى الدكان ولا ترجع إلى البيت إلا عند المساء. ولا تخرج حتى صباح اليوم التالي. ولا تعرف الإجازة إلا في اليوم الأول من أيام العيد. ولم تخص نفسك بأية متعة من المتع. فأنت لا تدخن، ولا ترتاد المقهى، ولا تغيّر ثيابك حتى تبلى. وليس لك من أصدقاء سوى جيرانك في السوق. وأنت لا تتزاور مع أقربائنا ولا تكاد تراهم إلا في أيام الأعياد والمناسبات. فيالها من حياة رتيبة لا تعرف سوى العمل. أفلم يكن أخي مصطفى محقاً حين سماك "المناضل"؟
وأنت يا أمي .. أفلست "مناضلة" مثل أبي؟! أفلا تستحقين هذا اللقب أيضاً؟! فما حياتك؟! عمل في عمل في عمل. منذ وعيت وأنت لا تعرفين سوى العمل. ولا تكادين تفارقين جدران البيت إلا لزيارة بعض نسوة الجيران والأقارب في أوقات متباعدة. فيالها من حياة خالية من المتعة.. ويالك من أم مناضلة حقاً. وصدق أخي مصطفى حين شبّهك بـ"أمّ" غوركي.





خاطرة 31
عند انتهاء محاضرة اليوم سألني الدكتور رائد أن أوافيه إلى مكتبه. وكان هذا مذهلاً لي. فلم أعتد على لقائه في مكتبه. ودق قلبي دقاً عنيفاً، وماج رأسي بالأفكار.. أتراه قرر أخيراً مكاشفتي بالحقيقة؟ فما موقفي من هذه المكاشفة؟ هل استجيب لها وأصارحه أنا أيضاً بحبي أم أتظاهر بالرزانة وأطلب مهلة للتفكير؟!
ومضيت إلى مكتبه والدماء تجري ملتهبة في عروقي. واستقبلني بحفاوة. ثم نظر إليّ مترددا وقال بلهجة متئدة: أنت تعرفين يا منتهى مكانتك في نفسي. فأنت تمثلين الطالبة المثالية في اتزانها وثقافتها. وأنت تتفوقين على كل زميلاتك في ذلك.
قلت وأنا خافضة الطرف وقلبي يدق دقاً عنيفاً: شكراً يا دكتور.
وصمت لحظات وهو يختطف من وجهي نظرات سريعة ثم عاد يقول بلهجته المتئدة: لذلك وقع اختياري عليك لأداء خدمة لي أو على الأصح لصديق لي.
وفاجأتني كلمته الأخيرة وشعرت كمن صب على رأسه ماء مثلجاً. همست وأنا أحاول كتم خيبتي: أنا في الخدمة يا دكتور.
فقال بصوت أكثر ثباتاً: أنا أعلم أن تكليفي لك بهذه المهمة هو تجاوز مني. وقد يسبب لك بعض الحرج. لكنني كما قلت أنظر إليك نظرة خاصة هي التي شجعتني على ذلك.
فقلت: أنا في الخدمة يا دكتور.
فقال: صديقي هذا يفكر في خطبة صديقتك فاتن. وهو يرغب في التأكد من أمور معينة قبل الإقدام على ذلك. مثلاً وضعها الأسري.. ارتباطاتها العاطفية.. مدى استعدادها لقبول الزواج الآن.
لبثت خافضة الطرف وقد فاض قلبي مرارة. وسمعته يتساءل بلطف: هل أحرجك بهذا الطلب يا منتهى؟
فقلت: أبداً يا دكتور. أنا حاضرة لأية خدمة.
قال في لطف: الأمر ليس مستعجلاً. وخذي وقتك. وأرجوك ألاّ تشعريها بالهدف من أسئلتك. فصديقي يرغب في إحاطة المهمة بالسرية في المرحلة الحالية. وأشكرك مقدماً على هذه الخدمة.
قلت وأنا أنهض: العفو يا دكتور. سأحاول تقديم المعلومات المطلوبة بأسرع وقت ممكن.
ولازمتني مشاعر الخيبة والمرارة طوال اليوم. والآن وأنا أقلّب الأمر على وجوهه يبدو لي أنني مخطئة في ردّ فعلي. وكان ينبغي لي أن أكون مسرورة بالتكليف. فلو لم أحتل مكانة خاصة في قلبه ما عهد إليّ بهذه المهمة. وإذا لم يكن قد صارحني بحبه اليوم فسيفعل غداً حينما يكون الظرف مواتياً. ومن واجبي أن أقوم بالمهمة على خير وجه. ولكن من يا ترى الشخص الذي ينوي التقدم لخطبة فاتن؟ أهو من داخل كلية اللآداب أم من خارجها؟! وإذا كان من داخلها، فهل هو من أساتذة قسم الفلسفة أم من أساتذة الأقسام الأخرى؟! يبدو لي إنه من داخل كلية الآداب بل ومن أساتذة قسم الفلسفة. وإلا فكيف عرف فاتن؟
وهناك أربعة من أساتذة قسمنا من العزّاب، إضافة إلى الدكتور رائد، وهم الدكتور نائل والدكتور أمين والدكتور عمار والدكتور جمال. فمن منهم الخاطب يا ترى؟!
وتمثلت في ذهني مواقفهم من فاتن. ينبغي أن أشطب الدكتور جمال من بينهم فهو يبدي اعتداداً غير طبيعي بنفسه . أما الثلاثة الآخرون فكلهم يولون فاتن اهتماماً واضحاً. وحينما يخاطبونها تكشف أصواتهم عن رقة مصطنعة. ولعل الدكتور أمين أكثرهم اهتماماً بها. فهل يمكن أن يكون هو الخاطب؟ وإذا كان هو الخاطب فعلاً فلا أظنه سيحظى بقبولها. فوجهه يخلو من الجاذبية كلياً إن لم يكن منفّراً نوعاً ما. وصحيح أن ما يهم فاتن في الزوج هو إمكاناته المادية لكنها تفتش عن الوسامة أيضاً. ويبدو ذلك واضحاً من تعليقاتها على الأساتذة الذين حرموا الوسامة. فمن يكون الخاطب من بين أولئك الأساتذة الأربعة يا ترى؟ أيكون الدكتور نائل الذي يحاول دائماً أن يكون خفيف الدم بنكاته المتلاحقة؟ أم هو الدكتور عمار الذي لا يترك فرصة دون الإنخراط في ضحك متواصل؟ أو ربما يكون الدكتور جمال الذي يتظاهر بازدراء الطالبات بينما يعتني عناية بالغة بملبسه ومظهره؟!
وأنا أفكر بفاتن الآن أيضاً يبدو لي أنني لا أكاد أعرف شيئاً عن حياتها الخاصة. فأنا لا أعرف شيئاً عن أسرتها. ولا أعرف شيئاً عن ارتباطاتها العاطفية خارج الكلية. ولا أعرف شيئاً عن اشتراطاتها في الزوج سوى كونه غنياً. ثم أتراها مستعدة للزواج الآن؟
لا بد لي إذن أن أطرح عليها هذه الأسئلة. ولكن كيف سيتيسر لي ذلك دون أن أثير شكوكها؟ حقاً لقد حملني الدكتور رائد مهمة شاقة تتناقض والنهج الذي اتبعته طوال حياتي وهو عدم التدخل في شؤون الآخرين . ولكن ألا تستحق هذه المهمة مشقاتها؟! بلى انها تستحق. فستهيّء لي الالتقاء به خارج قاعة الدرس والتحدث معه. وإن ذلك ليملؤني سروراً.




خاطرة 32
لم أجد وسيلة لمباشرة مهمتي سوى مصارحة فاتن بها. لكنني كذبت عليها وزعمت لها أن الشخص المعني من خارج الجامعة. واعتقد أنها لم تصدق كذبتي لكنها لم تكترث لها. قالت بعدم اهتمام: وكيف تتوقعين مني يا منتهى أن أمدّك بالمعلومات المطلوبة وأنا لا أعرف هذ1 الشخص؟
فقلت: ألم تقولي لي يا فاتن يوماً أن كل واحدة منا مستعدة لقبول الزوج المناسب؟
فقالت: ها أنت تتذكرين جيداً ما قلته لك.. الزوج المناسب. فما يدريني إنه زوج مناسب؟ ومن قال إنني سأوافق على شكله؟!
فقلت: ستعرفينه يا فاتن ولكن في الخطوة اللاحقة.
فقالت: فليعلم إذن إنني لن أمدّه بأية معلومة ما لم أره وأوافق عليه.
وقصدت الدكتور رائد فاستقبلني قائلاً وقد انبسط وجهه: أهلاً برسولة المحبة.
فقلت: أنا آسفة يا دكتور رائد إذ أقول إن رسولة المحبة لم توفّق في مهمتها.
فتساءل في قلق: أتعنين أنها رفضت فكرة الزواج؟
فقلت: لا. لكنها اشترطت أن ترى الشخص المعنيّ أولاً.
فصمت لحظة مفكراً ثم تساءل: وهل استشففت من ردها أنها مصممة على رؤية هذا الشخص؟
فقلت: لا أدري يا دكتور.
فظل صامتاً دقائق وهو خافض الطرف. ثم رفع إليّ عينيه وقال ببطء: سأحمّلك إذن عبئاً إضافياً يا منتهى فأرجوك أن تعيدي الكرة عليها. فهذا الصديق يرفض الكشف عن هويته ما لم يتوصل إلى نتيجة إيجابية. وأسئلته على أية حال عامة ولا ضرر من ورائها. وهي:
أولاً: هل لديها رغبة في الزواج حالياً؟
ثانياً: هل هي مرتبطة بأحد رسمياً أو عاطفياً؟
ثالثاً: ما هي اشتراطاتها الأساسية في الزوج؟
رابعاً: ما هو وضعها الأسري؟
فقلت : سأحاول معها مرة أخرى يا دكتور وأرجو أن أوفق.
فقال وهو يرمقني بامتنان: شكراً جزيلاً يا منتهى.


خاطرة 33
تجنبت الخوض في الموضوع مع فاتن لأيام. لكنها لم تصبر على تجاهلي فسألتني صباح اليوم باسمة: ما أخبار الخطيب المبجل يا منتهى؟
فقلت بعدم اهتمام: لا أعلم. فأنت لم تمديني بالأجوبة المطلوبة.
فقالت: وأنت أيضاً لم تجيبيني عن سؤالي المهم.
فقلت: لأنني لا أعرف الجواب عن سؤالك يا فاتن. أما أنت فتعرفين الجواب عن الأسئلة.
فقالت: على كل حال أنت تعرفين بعض الأجوبة.
فقلت: لكنني لا أعرفها كلها.
فصمتت قليلاً ثم قالت: أنت محقة يا منتهى. فأنا أيضاً لا أكاد أعرف عن أمورك الشخصية شيئاً بالرغم من أننا صديقتان منذ أيام الثانوية.
فقلت: هذا لأنني ليس لديّ ما أخفيه عنك يا فاتن وإلا لعرفته خصوصاً وأنك فضولية من الدرجة الأولى.
فضحكت وقالت: بل هناك أمور لا أعرفها عنك فعلاً. لكنني لا أرى ضرورة لمعرفتها. فأنا تهمني منتهى التي أحببتها منذ عرفتها في المدرسة الثانوية. وهي فتاة قليلة الكلام، عظيمة الشطارة في الدروس، لا تتدخل في شؤون أحد، ومستعدة لمساعدة كل من يحتاج إليها. وهذا هو المهم بالنسبة لي. أما عائلتها فمن الواضح أنها عائلة مستورة. وبعد كل شيء وفوق كل شيء فهي صديقتي الصدوقة التي لا يمكن أن أفضل عليها صديقة والتي أموت فيها.
فقلت: القلوب عند بعضها يا فاتن. والآن ما رأيك في الجواب عن الأسئلة وهي أسئلة عامة لا ضرر من ورائها؟
فقالت: سأفعل لأجل خاطرك. فما هذه الأسئلة؟
فقلت: سألقيها عليك بالنص فانني حفظتها.
أولاً: هل لديك رغبة في الزواج حالياً؟
ثانياً: هل أنت مرتبطة مع أحد رسمياً أو عاطفياً؟
ثالثاً: ما هي اشتراطاتك الأساسية في الزوج؟
رابعاً: ما هو وضعك الأسري؟
فقالت: اعتقد أن جوابي عن السؤال الأول معروف لديك. فأنا لست مرتبطة بأحد عاطفياً أو رسمياً. وأنت تعرفين وضعي يا منتهى. وتعلمين أنه خطبني الكثيرون وأنا ما أزال تلميذة في الثانوية، لكنهم كانوا في مستوى أسرتي المتواضع أو أعلى قليلاً أي دون طموحي، فرفضتهم جميعاً. و آن الأوان يا منتهى لمصارحتك بأن أهلي فقراء جداً. وأبي يعمل ندّافا لا يكاد يسدّ مطالب أسرته المتكونة من ثلاث بنات كبراهن أنا، إضافة إلى أمي بالطبع. ولا أدري كيف تميزت أنا عن أختيّ بجمالي الباهر. ولم يفكر أبي في إرغامي على قبول الزواج من أي خاطب وترك لي حرية القرار. وهو مثال الأب الحنون الذي يتفانى في خدمتنا نحن أفراد عائلته بالرغم من شحة موارده 0 وهو يسأل كل واحدة منّا دائما عن احتياجاتنا ولا يريدنا أن نشعر بذل الفقر0 وهو يقتّر على نفسه من أجل ذلك0 وهو يعطف عليّ عطفاً خاصاً ويقدّر طموحاتي. ولم يقترّ عليّ يوماً، لذلك فمظهري وملبسي هما أعلى من مستواي الحقيقي. فهو يتمنى لي زوجاً ممتازاً ما دمت أتمتع بهذا الجمال. ونحن نسكن في محلة الشيخ معروف في بيت متواضع جداً. لذلك لم أفكر بدعوتك يوماً إلى منزلي.
فقلت: الحال من بعضها يا فاتن. فنحن أيضاً فقراء. وأبي يعمل في دكان سراجة، وبيتنا متواضع في محلة الشواكة .
فقالت: لذلك كنا منسجمتين دائماً. على كل حال كنت وما أزال آمل أن تحدث معجزة لي فيغرم بي أحد الأثرياء من أول نظرة ويعرض عليّ الزواج. ولم يحدث هذا حتى اليوم. وأرتاى أبي أن يهيّء لي فرصة أعظم لتحقيق طموحاتي فأدخلني الجامعة وإن كانت مصاريف الجامعة فوق طاقته. فأنت ترين إذن يا منتهى أنني لا يمكن أن أصوم ثم أفطر على بصلة. وهذا هو جوابي عن السؤال الأول والرابع.
أما جوابي عن السؤال الثاني فأنت تعرفينه. وأنا ذكرت لك مرة أنني مستعدة للزواج في أي وقت من الرجل المناسب الذي يتقدم لخطبتي فأنا لا أشترط الحب. أما اشتراطاتي في الزوج المناسب فعلى رأسها تمتعه بامكانات مالية كبيرة تتيح لي عيشة الأثرياء بكل أبعادها، مع التزامه بمساعدة أهلي، وهذا شرط مهم.
وسكتت لحظة ثم قالت: هذه هي أجوبتي عن أسئلتك يا منتهى، وهي أجوبة صريحة. وعلى هذا الشخص أن يتجاوب معها كلياً وإلاّ فلينس الموضوع. وكما قلت لك لا بد لي من معرفته أولاً فلست سلعة تباع وتشترى في سوق النخاسة.
فقلت: وأنا أؤيدك في مطلبك هذا يا فاتن.
وأسرعت بالأجوبة إلى الدكتور رائد. وكان وجهه يزداد انطلاقاً وبسمته تتسع على ثغره كلما انتقلت من جواب إلى جواب. وحينما انتهيت من الأجوبة قلت له: يجب أن أقول لك يا دكتور انها اشترطت رؤية الخاطب قبل موافقتها وإن لم تكن تشترط الحب قبل الزواج.
فقال وهو يبتسم: هذا من حقها طبعاً. والحقيقة أنني توقعت منها مثل هذه الأجوبة العقلانية يا منتهى. فمن الطبيعي أن تفكر على هذا النحو ما دامت صديقتك المقربة. وأنا أقدر طموحاتها، فمن حق فتاة وهبها الله هذا الجمال أن تحلم بحياة مرفهة. وأعتقد أن صديقي سيكون قادراً على تلبية طموحاتها العقلانية. وسأبلغه بهذه الأجوبة وأحمل لك رده خلال أيام.
وقد داخلني العجب وأنا ألاحظ سرور الدكتور رائد من أجوبة فاتن. فمن يا ترى هذا الصديق الذي يهتم به كل هذا الاهتمام؟! وهل هو أحد أساتذة قسم الفلسفة فعلاً؟ لكننا نعلم إنه لا يرتبط بصداقة حميمة مع أي واحد منهم. فكثيراً ما تميزت لهجته عنهم بالبرود. ولا يبدو لنا في الحقيقة أن أساتذة قسمنا يرتبطون بصداقة حميمة وإنما بمجرد زمالة سطحية لا غير. وقد يشوب تلك الزمالة شيء من التحاسد. فإذن لا بد أن يكون هذا الصديق من خارج قسم الفلسفة.
ترى لماذا لا يقتدي الدكتور رائد بصديقه هذا فيخطو مثل خطوته؟! وإلى متى يظل يكتم عواطفه؟!







خاطرة 34
أزمة أبي تشتد اختناقاً. وقد عكست ظلها على جو البيت. فباتت أمي كئيبة الوجه لا تكاد البسمة تتلمس الطريق إلى شفتيها. كما انعكست على زكية إيضاً. وعجزنا عن الخروج من هذه الأزمة. وقبل أيام قالت لي زكية: ما رأيك يا منتهى لو قمت أنا بمواجهة مرتضى ومعرفة الحقيقة منه؟
فقلت: ولكنك قد تثيرين غضبه يا زكية.
فقالت: أنت تعلمين يا منتهى أنني قريبة إلى نفسه منذ صباه ولي دالة عليه.
فقلت: ليتك تستطيعين ذلك إذن يا زكية.
وعصر اليوم أخبرتني أنها تحدثت مع مرتضى. قالت: كنت أتوقع أن ينكر الإشاعة يا منتهى لكنه نظر إليّ في لا مبالاة وتساءل ببرود: "ولماذا تهتمون بهذه الإشاعة؟" فقلت: "لأن أبي حزين جداً بسببها". فتساءل: "ولماذا يحزن؟" فقلت: "وكيف لا يحزن يا مرتضى؟ أهو أمر هيّن عليه لو صحت الإشاعة؟" فتساءل ببرود: "وما علاقته بهذه القضية الشخصية؟ أفلست راشداً ومسؤولاً عن سلوكي؟". فقلت: "كيف تقول هذا يا مرتضى؟ أفلست تعمل معه في الدكان وتعيش معنا في البيت؟". فقال بلهجته الباردة: "فهل ترين يا زكية إذن أن أترك الدكان وأفارق البيت؟". فارتعبت من جوابه وقلت: "لا.. لا يا مرتضى. لا تفكر بهذا. ستقتل أبي من الحزن لو فعلت". فقال: "فلماذا يتدخل إذن في شؤوني الشخصية؟". ثم أضاف وهو يتفرس في وجهي بنظرات غريبة: "لاحظي يا زكية أنني لم أقل بأن الإشاعة صحيحة. ولا شك أن من نقل هذه الإشاعة إلى أبي هو كلب ابن كلب لأنه يتدخل في شؤون غيره الشخصية. وكل ما اردت قوله لك أنني راشد ولا أحب أن يتدخل أحد في شؤوني الشخصية ما دمت لم أضر أحداً. ولو كان أخي مصطفى موجوداً لتفهم موقفي".
وسكتت زكية وهي عكرة الوجه، ثم تساءلت: فماذا تفهمين من أقواله هذه يا منتهى؟
فقلت: أفهم إنه لا يريد أن يتدخل أحد في حياته.
فتساءلت: ولكن هل ترين أن الإشاعة صحيحة أم لا؟
فقلت: أرى أن أبي محق في عدم مصارحته.
فقالت مغمومة: فهل سيظل الحزن مخيماً علينا؟
فقلت: أعتقد أن من الأفضل أن تظل الأمورعلى حالها يا زكية.
فزفرت زفرة حرّى وقالت: يا لخيبتنا فيك يا مرتضى.
نعم.. يا لخيبتنا فيك يا مرتضى! لماذا لم تتشبه بمصطفى؟! أفليس المفروض أن يكون مصطفى قدوة لك؟ ولماذا كرهت المدرسة منذ طفولتك؟! ولماذا كنت تحب اللعب في الطريق كل ذلك الحب؟ ما كان أشد سرورك حين وافق أبي على تركك المدرسة والعمل معه في الدكان. ثم انتبهت مبكراً إلى ما حباك به الله من وجه صبوح فاستثمرت ذلك وصرت "دون جوان" الأحياء المجاورة . ولحسن الحظ أنك احترمت سمعتنا في المحلة فلم تقم علاقاتك مع بناته . وما أن شببت عن الطوق حتى عرفت طريق الملاهي. وها أنت ذا تتمادى في مباذلك وفي تبذيرك للمال غير حاسب حساباً لمعاناتنا. فلماذا صرت أنانياً إلى هذا الحد يا مرتضى؟ ولماذا لم تتشبه بمصطفى وقد كنت تحبه حباً عظيماً؟!


خاطرة 35
أخيراً استدعاني الدكتور رائد إلى مكتبه. وظل صامتاً دقائق وهو مطرق. ثم رفع رأسه وقال بلهجة متئدة: بعد أن درست أجوبة صديقتك يا منتهى وجدت أنها معقولة وأنها تشجعني على مواصلة الخطوة التالية وهي إبلاغها باسم الشخص الخاطب الذي هو أنا.
ووقعت عليّ عبارته الأخيرة وقع الصاعقة. وهاجمني مغص حاد. ولا بد أن وجهي شحب شحوباً شديداً بحيث جعل الدكتور رائد يتساءل بقلق: ما بك يا منتهى؟
فقلت وأنا أبذل جهداً خارقاً للتحكم في مشاعري: لا أدري يا دكتور. أنا أعاني من مغص حاد وأريد أن أتقيأ.
فخرج مسرعاً من وراء مكتبه وقادني إلى الحمام الملحق بغرفته. وقضيت حاجتي ثم ظللت دقائق أتقيأ وجسدي يرتجف. وكان هناك مطارق هائلة تهوي على رأسي. وبذلت جهداً عظيماُ لكي أستعيد سيطرتي على نفسي. وكان حلقي قد جف وتصبب جبيني عرقاً بارداً. ثم خرجت من الحمام متوكأة على الجدران وأنا أكاد أهوي على الأرض. وتلقاني الدكتور رائد بيديه وقد ارتسم على وجهه قلق حاد. وقادني برفق إلى مقعدي. وتساءل بحنوّ وهو ما يزال واقفاً إلى جواري: كيف أنت الآن يا منتهى؟ هل تحتاجين إلى طبيب؟
فقلت بصوت واه: لا يا دكتور. أنا الآن أحسن حالاً.
فقال وهو يعود إلى مكتبه ووجهه يتعكر بالقلق: لعل من الأفضل أن نؤجل حديثنا في الموضوع إلى وقت آخر.
فقلت: لا يا دكتور. أنا الآن أحسن حالاً.
فظل صامتاً دقائق وهو يفحص وجهي بنظرات قلقة. ثم قال أخيراً في صوت متلكأ وهو يتجنبني بأنظاره: الحقيقة يا منتهى أنني لم أفكر بالزواج منذ نلت شهادة الدكتوراه. استغرقني العلم استغراقاً عظيماً. لكنني قلت لنفسي مؤخراً: لا بد لي أن أكمل ديني فلم أعد شاباً. ولم أكن لأفكر بالتقدم لخطبة فاتن لو لم تكن صديقتك. فأنا أؤمن بالمثل القائل " إن الطيور على أشكالها تقع". فما دمت ارتضيت بصداقتها فلا بد أن يكون خلقها مرضياً. فأنت في نظري الطالبة المثالية في علمها وخلقها.
فهمست دون أن أرفع أنظاري: شكراً.
وسكت لحظة ثم أضاف: فاسمحي لي إذن أن أطلب منك أن تبلغيها بشخصية الخاطب لأعرف رأيها فيه.
وسكت وهو يعلق أنظاره القلقة على وجهي ثم تساءل بلطف: هل أنت أحسن حالاً فعلاً يا منتهى وأنك لا تحتاجين إلى مساعدة؟
فهمست وأنا أنهض: أنا الآن بخير يا دكتور.
حين غادرت مكتب الدكتور رائد لم تكن ساقاي تقويان على حملي. والتاث تفكيري حتى عجزت عن تمييز طريقي. ولا أدري كيف وجدتني أخيراً أمام باب بيتنا. وما أن احتوتني غرفتي حتى ارتميت على فراشي وأنا أنفجر بالبكاء. وتراءى لي جثمان مصطفى محمولاً على أكتاف رفاقه وهم يقتحمون بيتنا وقد ضج بالنواح والعويل. وتسمرّت عيناي على وجهه المصبوغ بالدماء. ثم أخذ وجهه المخضب يتعاظم حتى ملأ فضاء الغرفة. واستحال كل شيء إلى لون داكن. ثم غاب كل شيء.
وصحوت على طرق الباب صباحاً فنهضت من فراشي وفتحته. ورأيت أمام الباب كل أفراد أهلي.. أبي وأمي ومرتضى وزكية وهم كاسفي الوجوه. وبادرتني أمي مفزوعة: ما بك يا منتهى؟
فقلت : لا شيء. كنت نائمة.
فقالت زكية بقلق: كيف لا شيء يا منتهى وأنت نائمة منذ ظهر أمس؟
وقال أبي بلهجة وشت بقلقه: ما لك يا أبنتي؟ هل أنت مريضة؟
فقلت: لا يا أبي. كل ما هنالك أنني منهكة.
فقالت أمي بلهجتها المفزوعة: ولكن وجهك مخطوف يا منتهى. لكأنك كنت مريضة منذ أيام.
فقال مرتضى: سأمر على الدكتور مراد عصراً وأحضره ليفحصك يا منتهى.
فقلت: لا يا مرتضى. لا تفعل. أنا لا أشكو من مرض. كل ما هنالك تعب.
قال أبي: طبعاً فأنت تهلكين نفسك بالدرس.
قالت أمي: تعالي افطري معنا يا منتهى فأنت لم تأكلي منذ البارحة.
فقالت زكية: لا يا أمي. أنا سأحضر لها فطورها في غرفتها.
وتناولت فطوري في غرفتي. وفكرت في الذهاب إلى الجامعة لكنني شعرت بصدود غريب. وفضلت البقاء في غرفتي0 شعرت أنني ما أزال أعاني من تعب شديد.





خاطرة 36
استيقظت هذا الصباح وقد استعدت عافيتي. وقد أمضيت طوال الليلة الفائتة في حوار مع الدكتور رائد وأخي مصطفى. أما الدكتور رائد فلم يكن يرد عليّ. كل ما كان يفعله هو أن يهز رأسه وقد اصطبغ وجهه بحمرة الخجل. وعجز عن النظر في وجهي. وقلت له: "لماذا فعلت بي هذا يا دكتور رائد؟ كنت دائماً تلميذتك المفضلة. ولم يكف لسانك عن الثناء عليّ منذ عرفتني. ألم تكرر على مسامع كل الزملاء بأنني فخر قسم الفلسفة قاطبة؟ ألم تقل مراراً أنني الطالبة المثالية في خلقي وعلمي؟ فلماذا لم تخترني زوجة لك؟ أليس المفروض أنني الزوجة المناسبة لعالم مثلك؟ صحيح أنني لست جميلة.. ولكن ماذا يعني الجمال بالنسبة لعالم مثلك؟ أنت جرحت قلبي يا دكتور رائد جرحاً لا شفاء له".
أما أخي مصطفى فقد اشتبك معي في حوار ساخن. قلت له: "أنت المسؤول يا أخي مصطفى عما حدث لي. فأنت الذي جعل حب الدكتور رائد يتغلغل في قلبي. فمنذ عرفته وهو يثبت لي يوماً بعد آخر إنه يحمل الكثير من خصالك وأفكارك. فتمكّن حبه في قلبي. والآن أجدني ضائعة لا حول لي ولا طول. قل لي ماذا أفعل؟ وكيف سأتعافى من هذه الضربة القاصمة؟ إرادتي سحقت يا أخي مصطفى".
وكان مصطفى يرد عليّ وعيناه تتوهجان: "ليس أنت التي تسحق إرادتها يا منتهى. أنت أقوى من كل العواصف. وستظلين صامدة أبداً أمام العواصف. فمتى استسلمت لعواطفك؟ وهل هذه هي المرة الأولى التي تجرح فيها عواطفك فتصمدين؟ أنت طول عمرك تفعلين ذلك. ألم تصمدي أمام الأحزان التي عصفت بك يوم قتلت؟ ألم تختزني أحزانك في قلبك وتكتميها عن الجميع؟ وها أنت ذي الآن تمتحنين امتحاناً أشد عسراً وعليك أن تنجحي فيه. عليك أن تمحي هذا الحب من قلبك يا منتهى. إنه امتحان عظيم لإرادتك فأثبتي للجميع أنك أقوى من كل الشدائد. وعليك أن تذهبي غداً إلى الجامعة وكأن لم يحدث لك شيء. فأنت منذورة لمهمة أعظم. أنت منذورة للعلم. ستكونين فيلسوفة عظيمة يا منتهى. وكيف سيتأتى لك ذلك وأنت تتهاوين من أول ضربة؟ عليك ألا تستعبدي لعواطفك. كنت كذلك دائماً. فانسي هذا الحب".
حينما مضيت إلى الجامعة كنت أشعر بشيء من الانتعاش. وما أن لمحتني فاتن حتى هرعت إليّ وقد افترسها القلق. هتفت في شوق: أين كنت يا منتهى؟ كلنا قلقنا عليك حتى الدكتور رائد. إنه سأل عنك وطلب مني أن أزورك في بيتك فقلت له إنني لا أعرف عنوانك. لماذا تغيبت أمس يا منتهى؟! هل كنت مريضة؟
فقلت: لا أدري ماذا جرى لي يا فاتن. أصبت بمغص حاد بعد المحاضرة فذهبت إلى البيت. وظللت ملازمة للفراش حتى صباح اليوم. لكنني الآن أحسن حالاً.
فتساءلت بقلق: ولكن لماذا؟ كنت في وضع اعتيادي أثناء المحاضرة. فما الذي حدث؟
فقلت: على كل حال كانت وعكة لا أكثر. أنا الآن بخير.
فقالت: الحمد لله. لو تعلمين كم قلقت عليك يا منتهى.
وتأملتها بنظرات محايدة وكأنني أراها للمرة الأولى. وبدا لي أن الدكتور رائد محق في اختيارها زوجة له. فهي جميلة جداً حقاً. وقفزت إلى ذهني نصيحة عفاف. كانت مصيبة فعلاً. فما أعظم الفرق بين وجهينا! وليتني أخذت بنصيحتها وافترقت عن فاتن فربما كنت جنّبت الدكتور رائد المقارنة بيننا. قلت: عندي لك خبر هام يا فاتن.
فتساءلت بتخابث: عن الخاطب؟
فقلت: نعم. فهو في الحقيقة الدكتور رائد.
وحدقت في وجهها وأنا ألقي على مسامعها النبأ. فلم ألاحظ أي رد فعل عليه. وظلت صامتة دقائق، فسألتها: ألا يفرحك هذا الخبر؟
فقالت: لا.
واجتاحتني موجة فرح طاغية حتى خشيت أن يفضح صوتي مشاعري. وقلت بلهجة حيادية: ولكن لماذا يا فاتن؟ إنه الدكتور رائد.
قالت بلهجة فاترة: وماذا يمثل لي الدكتور رائد؟ ربما يمثل لك أنت شيئاً باعتبارك طالبة مجتهدة. أما بالنسبة لي فهو مجرد أستاذ من أساتذتنا. وأنت تعرفين رأيي في الزوج المناسب.
فقلت: أتعنين أنك غير راغبة فيه إذن؟
فقالت: إنه لا يمثل طموحاتي يا منتهى.
فقلت وقلبي يدق دقاً عنيفاً: فهل أبلغه برفضك إذن؟
فقالت: تصرّفي بما ترينه مناسباً يا منتهى.
وأسرعت إلى الدكتور رائد وقد استخفني الفرح. وتلقاني بترحيب بالغ. قال في احتفال: شغلتنا عليك يا منتهى. أرجو أن تكوني في خير. لماذا تغيبت أمس؟
فقلت: اشتدت عليّ الوعكة يا دكتور فلم أتمكن من الحضور.
فقال باهتمام: سلامتك. وكيف حالك الآن؟
فقلت: أنا الآن بخير.
وصمتنا. ولاحظت وأنا أسترق من وجهه نظرات خاطفة إنه يعاني من توتر واضح. قلت أخيراً: أنا فاتحت فاتن بالأمر يا دكتور.
فسألني: وماذا كان ردها؟
فقلت: أنا آسفة يا دكتور إذ أقول إنها لم تكن متحمسة.
فتجهم وجهه وتساءل بجمود: وهل رفضت؟
فقلت: لا.. لم ترفض. لكنها لم تعلن عن موافقتها.
فتساءل بلهجته الجامدة: وما وجه اعتراضها إذن؟
فقلت: أظن إنه يتعلق بالجانب المادي.
فقال في تهكم خفيف: إذن كنت مخطئاً حينما تصورت تشابهاً في خلقيكما.
وسكت لحظة ثم أضاف: وعلى كل حال فلننس الموضوع الآن. وأرجو أن ينحصر بيننا نحن الثلاثة يا منتهى.
فقلت: بكل تأكيد يا دكتور.
لماذا تملّكني كل هذا الفرح بعد مقابلتي للدكتور رائد؟! ألأن ظنه خاب في فاتن وأنه سيصرف النظر عنها؟ وهل يعني ذلك أن فرصتي بالفوز به ستحيا من جديد؟ ولكن هل ترضى كرامتي بذلك؟ ألم يكن الأجدر به أن يختارني منذ البداية؟ألم يقل مراراً أنني الطالبة المثالية في الصف.. فكيف لم يخترني؟! كيف فكر في فاتن بدلاً من أن يفكر فيّ؟ لكنه بعد كل شيء معذور. فمهما يبلغ الرجل من علم وحكمة فهو عاجز عن مقاومة جمال المرأة. وفاتن امرأة جميلة جداً.. وأنا لست جميلة. وقد أكون مسؤولة عن تواضع جمالي في بعض جوانبه. فأنا لا أبذل أبسط مجهود لتحسين شكلي والعناية بمظهري. وقد آن الأوان لأغيّر سياستي. فمن واجبي أن أدافع عن حبي. وسأبدأ بالخطوة الأولى فأنزع عني رداء الحداد. فهو يزيد بشرتي قتامة على قتامتها.

خاطرة 37
فوجئنا اليوم بزيارة أخي مرتجى. ولم يكن قد زارنا منذ حادثة مرتضى. وقلقنا للزيارة أولاً. ولكن ما أن بدأ حديثه حتى أدركنا إنه يجهل الإشاعة عن مرتضى. فمن عادته ألا يحاور ويداور بل يفصح عن غرضه مباشرة. وسأل كلاً منا عن أحواله. وشاع جو من السرور بيننا. فلأول مرة يتبسط معنا في الحديث. وسألته أُمّي: كيف حال رتيبة يا مرتجى؟
فتجهم وجهه وقال بحدة: حال الزفت.
وتملكتنا الحيرة، فهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن زوجته بهذه اللهجة. وتساءلت أمي: خير يا مرتجى.. كنا نحسبكما سمناً على عسل.
فقال وهو مدلهم الوجه: الذي يدري.. يدري، والذي لا يدري قبضة عدس. وياليتك يا مصطفى موجوداً لترى إن كل توقعاتك قد حدثت.
فتساءلت أمي: هل حدث بينكما زعل لا قدر الله يا مرتجى؟ أليست هي راضية؟
فقال في تهكم: ومتى كانت راضية؟
فقالت زكية محتجة: ولماذا لا ترضى؟ عليها أن تشكر الله.
فقال في مرارة : لا هي ولا أهلها راضون. وهم يذكرونني دائما بأنني ابن سراج.
فقالت زكية: سامحني يا أخي مرتجى إذا قلت إنها ليس عندها سوى العنطزة.
فقال وهو يهز رأسه: على كل حال رحمني الله من عنطزتها الدائمة. فهي منذ شهر زعلانة في بيت أهلها.
فهتفت أمي محتجة: وكيف تتركك لوحدك؟ ومن يخدمك ويقضي حوائجك؟ يا ليت بيتك قريب من بيتنا لنخدمك.
فقالت زكية: كلنا نخدمك بعيوننا يا أخي مرتجى.
فقال بامتنان: تسلم عيونكم. وعلى كل حال فلتضرب رأسها بالحائط. ويجب أن تفهم أنني لن أصبر بعد على حالها هذا.
وظللنا نتبادل الحديث لأكثر من ساعتين، ثم فارقنا مرتجى وقد فاضت قلوبنا بالسعادة.
وإني لأتساءل: أهناك شيء أعظم من أن يحاول المرء بث السعادة في قلوب أهله؟!




خاطرة 38
تلقى أهلي نبأ عزمي على إنهاء حدادي ببهجة عظيمة. وكانت أمي أعظمهم بهجة. قالت لي وهي تقبلني في رأسي: الله يكبّرك في عقلك يا منتهى. يكفيك حزناُ وارحمي شبابك.
وهتفت زكية بحماس: سأطلب من مرتضى أن يحضر لنا غداً أقمشة حلوة وأنظف ماكنة الخياطة وأبدأ بالعمل. فليس عندك ثياب تليق بالجامعة يا منتهى.
وأنا مسرورة إذ أشاع قراري البهجة في بيتنا فبدد شيئاً من الحزن المخيم عليه. وفي خلال أيام أعدت لي زكية ثوباً جميلاً.وداخلني الارتياح وأنا أتطلع إلى شكلي في المرآة. فقد خفف ثوبي الزاهي شيئاً من قتامة لوني. واستقبلتني الزميلات بالتهليل. لكن فاتن كانت أكثرهن سروراً. قالت وهي تتنفس الصعداء: مبروك يا منتهى. أشعر كأن جبلاً انزاح عن صدري.
ولقد شعرت في اليوم الأول بشيء من الاستحياء والضيق وكأنني ارتكبت عملاً غير لائق. لكنني حلمت في نفس الليلة بمصطفى يضحك مسروراً وهو يتأمل فستاني الجديد. واعترف بأنني أصبت بخيبة أمل وأنا أسترق النظر من وجه الدكتور رائد. فلم يبد عليه أنه انتبه للتغيّر في ملبسي.
متى ستنتبه يا حبيبي إلى التغيّر في ملبسي؟! لقد خلعت ثياب الحداد من أجلك. فكيف لم يلفت ذلك نظرك؟ أما يزال فكرك مشغولاً بفاتن أم أنك كرهت النساء كلهن بسببها؟! إنسها يا حبيبي فهي لا تليق بك.. إنها فارغة العقل ولا تصلح زوجة لك. وقد تحيل حياتك إلى جحيم بمطالبها الجنونية. وإلا فهل بي حاجة لأن أذكّرك بما فعلته زوجة سقراط الجاهلة به؟! ألم تحل حياته إلى جحيم؟! فلماذ تنوي تكرار تجربة سقراط؟ ولكن لعلك نسيتها فعلا فأنت ًلم تعد تلتفت نحوها. فلماذا إذن لا ألفت انتباهك؟ أتحسب أن العلم يصرفني عن الحب؟ أفلست امرأة يا حبيبي.. فكيف لا أنجذب إلى رجل مثلك؟! وأؤكد لك أن زواجنا سيخلق منّا ثنائياً عظيماً.. ثنائياً يسبح في فلك الحب والعلم. وسأنتظرك يا حبيبي. سأنتظرك مهما طال الزمن. فلا بد لسفينتك أن ترسو أفي مينائي أخيرا.




خاطرة 39
وقع اليوم ما كان يهجس به قلبي والذي كنت أقاوم التفكير فيه طوال الأيام الماضية. فقد استدعاني الدكتور رائد إلى مكتبه فمضيت إليه خفاقة القلب. قال لي وهو جامد الوجه: أنا أسف يا منتهى لأن أتعبك معي. لكنني أحببت أن أسألك إن كانت صديقتك ما تزال متمسكة بموقفها.
فقلت : أنا آسفة يا دكتور لكنها لم تفاتحني بالموضوع ثانية. وأنا لم أفاتحها أيضاً لأنك لم تطلب مني ذلك.
ثم أضفت وأنا أختطف من وجهه نظرة سريعة: وقد ظننت أنك صرفت النظر عنها.
فقال وهو مرتبك النظرات: لا. لا. ليس الأمر كذلك. كل ما هنالك أنني أردت منحها مهلة كافية للتفكير.
فقلت: إسمح لي يا دكتور أن أقول بناء على معرفتي بفاتن إنها لن تتخلى عن أحلامها بسهولة.
فقال : إذن سأسألك استطلاع تلك الأحلام لأدرسها.
فقلت: سأفعل يا دكتور.
فقال : شكراً جزيلاً يا منتهى.
ولست أدري كيف استطعت التحدث معه بلهجة حيادية وكأن الأمر لا يعنيني. ولكن ما أن غادرت مكتبه حتى عصفت بي مشاعر خادة من الخيبة والمرارة والإحباط. ولازمتني هذه المشاعر طوال اليوم. وأشعر الآن أن تللك المشاعر قد تبلورت في قناتين. الأولى تطفح بالرثاء للدكتور رائد الذي استعبده جمال فاتن. والثانية تفيض بالاحتقار له لأنه لا يختلف عن الرجل العادي في نظرته إلى المرأة.
فإذن الرجال كلهم سواء لا فرق بين عالم وجاهل. كل ما يهمهم هو جمال المرأة لا عقلها. تلك هي الحقيقة وعليّ أن استوعيها وأتصرف بناء عليها. والآن ماذا سيكون موقفي من الدكتور رائد؟ ألا يجدر بي أن أنبذ حبه؟ ألا يجدر بي أن أغدر به كما غدر بي فاشجع فاتن على رفضه؟ ولكن لا.. لا يمكنني أن أفعل ذلك. فالمثلُ التي غرسها فيّ مصطفى لا تسمح لي بذلك. عليّ أن أبرهن أنني أهل للثقة التي أودعها فيّ وأتعامل مع قضيته بحيادية مطلقة. وقد اعتدت طوال عمري أن أدوس على مشاعري، ولا بد لي أن اجتاز هذا الامتحان العسير. أنا الآن لست منتهى التي تحب الدكتور رائد. أنا رسولة المحبة كما سماني وعليّ ألاّ أخون هذه الرسالة.


خاطرة 40
بادرت صباح اليوم بممارسة وساطتي فقلت لفاتن: استدعاني الدكتور رائد يا فاتن وطلب مني الاستفسار منك إن كنت غيّرت رأيك بشأن طلبه.
قالت بلهجة متلكئة: لا أدري ماذا أقول لك يا منتهى. فأنا أصبحت أخشى انتقامه. فلعله حقد عليّ. وربما لن أنجح في مادته.
فقلت: لا أعتقد أن هناك داعيا لمثل هذا القلق يا فاتن.
فقالت محتجة: ألم يفعل بعض الأساتذة ذلك يا منتهى؟ أنسيت ما فعله الدكتور عمار مع عفاف؟
فقلت: لكن الدكتور رائد ليس الدكتور عمار يا فاتن.
فقالت: أفلا ترين إنه لم يعد يطيق النظر في وجهي؟
فقلت: مهما يكن الأمر فلن يؤثر ذلك على حياده العلمي بالتأكيد. والمهم إنه ما يزال ينتظر منك جواباً قاطعاً.
فقالت: لكنني افهمتك يا منتهى إنه لا يمثّل أحلامي وطموحاتي.
فقلت: إنه طلب أن تحددي تلك الأحلام والطموحات ليرى إن كان بإمكانه الاستجابة لها.
فقالت: وكيف يمكنه الاستجابة لها وهو أستاذ في الجامعة ذو دخل محدود؟
فقلت: إنه أعرف بموارده.
ففكرت قليلاً ثم قالت: ليس لديّ اعتراض على شكله وشخصيته. لكنني لن أتخلى عن أحلام عمري.
فقلت: حدّديها يا فاتن.
قالت مفكرة: دار فخمة، وأثاث فخم، وملابس ومجوهرات فخمة، وسيارة فخمة، والالتزام بمساعدة أهلي.
فقلت بتهكم خفيف: ما أسهل طلباتك يا فاتن. كل شيء ينبغي أن يكون فخماً.
فقالت: هذه هي أحلامي يا منتهىوأنا حددتها بدقة.
وبعد ساعة كنت في مكتب الدكتور رائد. قال وهو يغتصب ابتسامة باهتة: ما أسرع ما أنجزت مهمتك يا منتهى. فما هي طلباتها؟
فقلت: سأذكرها لك بالحرف الواحد يا دكتور. وهي دار فخمة، وأثاث فخم، وملابس ومجوهرات فخمة، وسيارة فخمة، والتزامك بمساعدة أهلها.
قال وقد أظلم وجهه: ومن بوسعه الإيفاء بمثل هذه الطلبات سوى ثريّ كبير؟
فقلت: هذه هي أحلامها وتلك هي أبعاد تفكيرها يا دكتور.
لبث صامتاً دقائق وهو مدلهم الوجه. ثم هز رأسه وقال كمن يخاطب نفسه: ما كنت أتصور أنها تمتلك مثل هذه العقلية الضحلة. ويبدو أنني أسأت الاختيار.وعلى كل حال فالطريق واضح أمامي الآن. وشكراً لك يا منتهى.
فقلت وأنا أنهض ومشاعر الفرح تمور في صدري: العفو يا دكتور.
إن الفرح الذي امتلأ به صدري صباح اليوم له ما يبرره بلا شك. فقد قرأت في أسارير الدكتور رائد الرفض بل الاشمئزاز من جواب فاتن. وقد اعترف بشكل صريح أنه أساء اختيار الزوجة المناسبة له. كما اعترف أيضاً بأن طلبات فاتن فوق طاقته. أفلا يعني ذلك إنه أدرك خطأه؟ وينبغي لي أن اشجعه على هذا التراجع وأثبت له أن أمامه اختياراً أفضل.. بل اختياراً مثالياً بالنسبة لعالم مثله وهو أنا. ولكن كيف يتسنى لي أن ألفت نظره إلى هذا الاختيار؟ كيف يختارني وهو يجهل ما يمتلئ به قلبي من حب له؟! يا ليت بقدرتي أن أدلّه بشكل ما على هذا الحب. ولو فعلت لاختارني بكل تأكيد ولفضّلني على فاتن. ففاتن ليست سوى جسد. أما أنا فجسد وعقل. وشخص مثله لا بد أن يهتم بالعقل. ويا لها من مهمة عسيرة عليّ. إنني لا أجرؤ حتى على التحديق في وجهه. فيا لخيبتي! وأنا أعلم أن فتاة مثلي متواضعة في جمالها لا بد لها أن تلجأ إلى وسائل لاجتذاب الرجل. أما علمي فليس سوى حلية كما قالت فاتن. ويمكنني الآن أن أتفهم سلوك منى في محاولاتها العنيدة لاجتذاب الرجل. ويا ليتني أمتلك جرأتها. يا ليت بإمكاني أن اكشف للدكتور رائد عن جسدي الجميل، فأنا أمتلك جسداً جميلاً مغرياً. وبالتأكيد ليس أقل جمالاً من جسد فاتن الرائع. يا ليتني أستطيع أن أفعل ما فعلته منى مع حسّون. وسيذهل جسدي الدكتور رائد كما أذهل جسد منى حسّون. ولم لا؟ أليس من حقي أن أكافح بكل طريقة في سبيل حبي؟! ولكن لا..لا هذا مستحيل. كيف تخطر على بالي مثل هذه الأفكار الحمقاء؟ ربما كان من المناسب أن أصارحه بحبي بنفسي بدلاً من أن انتظر أن يفعل هو ذلك. ولماذا لا أصارحه بحبّي؟ ولماذا لا أنتفع بتجربة عفاف فأرسل إليه رسالة أشرح له فيها حبي؟ ألم تنجح طريقة عفاف هذه مع حبيبها مهدي؟ ولماذا يباح للرجل أن يصارح المرأة بحبه ولا يباح للمرأة أن تصارح الرجل بحبها ؟ لماذا كبّلت المرأة بهذه الأعراف الظالمة؟ ألم يخلقها الله كما خلق الرجل؟ ألم يمدّها بما أمدّ به الرجل من غرائز وأحاسيس؟ هذه فرصتي ولن أفلتها. وسأبذل كل ما في وسعي لاجتذاب الدكتور رائد. ويجب أن اعترف أن حبي له لم يضعف بسبب تشبثه بفاتن. وهو معذور على كل حال. فمن من الرجال يمكنه مقاومة جاذبية فاتن؟ ولكنني أنا أيضاً يمكن أن أكون جذابة للرجل إذا اعتنيت بمظهري على الرغم من أنفي الكبير نوعما . فأنا مثلاً لم أفكر يوماً بإزالة الشعر عن وجهي. وإنه ليزيد بشرتي قتامة. وكم لامتني زكية على ذلك. وأنا واثقة أن بشرتي ستبدو أكثر صفاء، وأن وجهي سيكون أكثر جاذبية. ثم هذه النظارات الطبية الغليظة التي اتخذها لتكسوني بوقار العلماء. هل أنا بحاجة إليها حقاً؟ أنا في الحقية لا أشكو من قصر نظر حاد. ويمكنني أن أرى بدونها بسهولة. والدليل على ذلك أنني أخلعها معظم الوقت وأنا في البيت. وكم سخرت صفية منها.. وكم أكدت لي أنها ترتكب جريمة بحقي. فهي تخفي سحر عيني. نعم.. نعم. إنها تخفي جمال عيني بالتأكيد. وكم ألحّت عليّ صفية بأن أخلعها ما دمت أستطيع الرؤية بدونها. والحق مع صفية. فهناك العديدات من زميلاتي يشكين من قصر النظر لكنهن لا يرتدين النظارات الطبية.. حتى فاتن نفسها تشكو من قصر النظر لكنها تحتفظ بنظارتها الطبية في حقيبتها. وهي لا تستخدمها إلا عند الضرورة. فهي لا تخفي عينيها الخضراوين الواسعتين وراء النظارات فتحجب بذلك اشعاعاتهما الساحرة. ويالجمال عينيها الخضراوين! ليتني أمتلك مثل هاتين العينين الساحرتين. لكن عيني جميلتان أيضاً. ومن واجبي أن أكشف عن جمالهما. ومنذ الغد سأستغني عن نظارتي الطبية. وسأزعم لمن يسألني أنها كسرت وأنني بصدد مراجعة الطبيب لعمل نظارات بديلة. وسأعالج أيضاً بشرتي الداكنة بالوصفات الشعبية التي تستخدمها زكية. يا ليتني أمتلك بشرة وردية كتلك التي تمتلكها فاتن! يا ليتني أمتلك جمال فاتن. يا ليتني أمتلك شعراً مثل شعرها الفاحم الغزير الذي ينسدل على كتفيها كشلال من الحرير. يا ليتني أمتلك أنفاً مثل أنفها البديع. يا ليتني أمتلك ابتسامة مثل ابتسامتها الساحرة. وصحيح أنها لا تمتلك عقلاً مثل عقلي.. ولكن ما فائدة عقلي وقد خذلني مع الدكتور رائد؟ على كل حال لا بد لي أن افعل المستحيل لأصلح شكلي. ومن واجبي أن أكافح في سبيل حبي وأبدو جذابة في نظر الدكتور رائد مادام مطلب الرجل الأول في المرأة هو الجمال. وسأنتصر لا بسلاح العقل بل بسلاح المرأة الخالد.








خاطرة 41
يبدو أنني منذورة للحزن. فما كدت أتمتع في الأيام الفائتة بشيء من الاطمئنان وأنا ألاحظ نظرات الزملاء المعجبة بمظهري الجديد حتى أصبت بانتكاسة. فقد جرى حوار بيني وبين زكية أمس عكّر عليّ اطمئناني. فبينما كنا نتحدث في شؤون عامة إذا بها تقول لي فجأة: انقطعت أخبار صفية عنا يا منتهى. ولا ندري كيف حالها مع زوجها. وأنا قلقة بشأنها. رأيتها أمس في الحلم وهي تبكي بكاء محرقا .
فقلت: الحق معك يا زكية. لا بد أن نعرف أخبارها. ولكن كيف لنا ذلك؟
فقالت: يمكن أن نخابرها فنحن نعرف تلفون منزلها. يمكنك أنت أن تفعلي ذلك يا منتهى حينما تذهبين إفى الجامعة.
فقلت: سأفعل.
واتصلت بصفية. وما كادت تسمع صوتي حتى ضجت ببكاء هستيري. وظلت تبكي دقائق قبل أن تبدأ الكلام. وأخيراً قالت بين شهقاتها: أنا في جهنم يا منتهى. أرجوك أخبري أهلي لينقذوني منها.
قلت في اضطراب: ولكن ما بك يا صفية؟ ما الذي جرى لك؟
فقالت بين شهقاتها: قلت لك إنني في جهنم .. في جهنم يا منتهى.
فقلت: اهدئي يا صفية وأخبريني ماذا جدّ في حياتك.
فقالت: مراد أخذ يضربني ضرباً شديداً يا منتهى. ولم يعد بإمكاني أن أفتح فمي بأية شكوى أمامه. وصرت أخافه جداً.
فسألتها: ولكن لماذا؟
فقالت: هو لا يقبل أن أشكو حالي أبداً. ويقول إنني صرت أصدّع رأسه بشكواي ليل نهار وأنه لا يستطيع أن يترك العيادة من أجل أن يسليني . وهدّدني بأن يسحق عظامي إذا شكوت حالي لكم. قولي لي ماذا أفعل يا منتهى؟
قلت في انزعاج: وكيف يتصرف طبيب مثله بهذه الهمجية؟
فقالت: أنا في جهنم يا منتهى . خلّصوني وإلا ستجدونني قد مت.
فقلت: اصبري وسنفكر بطريقة لخلاصك يا صفية .
وأبلغت زكية بما دار بيني وبين صفية من حوار. فدقت على صدرها في جزع وراحت تردد: المسكينة! المسكينة!
ثم سألتني: ماذا يمكن أن نفعل لها يا منتهى؟ أنا خائفة عليها.
فقلت: وماذا يمكن أن نفعل لها ومراد هددها بأن يسحق عظامها إن شكت لنا؟!
فقالت: وحتى لو أخبرنا أبي ومرتضى فلن يصدقاها. سيقولان أنها هي المسؤولة عن ما يحدث فهي طائشة.
وسكتت لحظة ثم سألتني: ما رأيك لو أخبرنا أخي مرتجى فربما يكون له تأثير على الدكتور مراد؟
فقلت: لو فعلنا ذلك يا زكية لزعل أبونا ومرتضى وحتى مرتجى .
وصمتنا في كمد. ثم قالت زكية أخيراً: نحن عائلة منكوبة يا منتهى. فمن منّا مرتاح في حياته؟ ويظهر أن هذا هو نصيبنا من الدنيا. وليس لصفية سوى الصبر.


خاطرة 42
مررت بأيام عصيبة من الترقب واللهفة مؤملة أن يتحول قلب الدكتور رائد من فاتن إليّ. وكان هناك بشائر تنبئ عن هذا التحول. فعيناه القويتان كثيراً ما ترق نظراتهما وهما تسمران على وجهي. وقد تنطلق أساريره وهو يلقي عليّ أسئلته المعتادة. و لم يعد يحوّل عينيه إلى وجه فاتن وصار يتجاهلها كلياً. ثم انكشفت لي صباح اليوم الحقيقة الصاعقة. فقد استدعاني إلى مكتبه فأسرعت إليه وقلبي يخفق خفقاناً شديداً. تطلعت إليه بنظرات مشغوفة وأنا أجلس على الكرسي أمامه وإذا بوجهه مدلهم لا ينبئ عن مسرّة. فغاص قلبي في أعماق جسدي. ولبث صامتاً دقائق وهو مدلهم الوجه ساهم النظرات. ثم قال أخيراً من دون أن ينظر إليّ: للأسف يا منتهى.. أثبت أستاذك بأنه إنسان ضعيف لا كما يتصوره الآخرون.
سألته بصوت مرتجف: لماذا تقول هذا عن نفسك يا دكتور؟
فقال وهو ينظر إليّ بعينين كسيرتين: لأنني ألقيت أسلحتي أخيراً يا منتهى وسلمت بالهزيمة كأي صبي مراهق ووافقت على كل شروط فاتن.
وتطلعت في هلع إلى وجهه الكسير الذي يطفح بالمرارة والخذلان فاجتاحني شعور غريب هز جسدي هزاً. وبدلاً من أن يفترسني الغضب امتلأ قلبي شفقة ورثاء لهذا الشخص الجبّار الذي سحقته الهزيمة. وأوشكت أن أنهض لأحتوية بين ذراعي كما تحتوي الأم طفلها الضعيف. ولبثنا دقائق نتبادل نظرات حزينة. ثم قال أخيراً وهو يبتسم بمرارة: لعلك الآن تسخرين مني بينك وبين نفسك يا منتهى إذ ترينني على هذا الحال الزرية.
فقاطعته: أبداً.. أبداً يا دكتور.
فواصل كلامه بلهجته المخذولة: والحق معك لو فعلت ذلك. فأنا أيضاً صرت أحتقر نفسي.
فقلت برقة: أبداً.. أبداً يا دكتور. فمهما فعلت فأنت إنسان عظيم.
فضحك ضحكة مرّة وقال بتهكمّ: أنا إنسان عظيم يا منتهى! ما أنا سوى مراهق نزق.
وخيّم علينا صمت كئيب لدقائق وكل منا يتأمل الأخر في حزن. ثم قلت أخيراً: إنها لا تستاهلك يا دكتور. وهناك ألف من تتمناك.
قال وابتسامته المخذولة تتسع على وجهه المنكسر: ولكن للأسف يا منتهى.. لن يعرف قلبي السعادة إلاّ معها. ومع أنني أردد مع نفسي ليلاً ونهاراً "أنبذها فهي لا تناسبك" لكنني أبدو عاجزاً تماماً عن فعل ذلك. وأنت طالبة فلسفة وتعلمين أننا نحن المشتغلين بالفلسفة عجزنا عن كشف أسرار ما وراء الطبيعة. والحب أحد تلك الأسرار العصيّة على التفسير يا منتهى وعلينا أن نقبله على علاّته. واعترف لك وقد اصبحت كالأخت الصغيرة لي أنها أسرتني بحبها. وإني بذلت أقصى جهودي للانفكاك من هذا الحب فعجزت. ولا أرى لي مخرجاً سوى نيل موافقتها بكل طريقة. ولم يبق لي من أمل سوى أن تتولّي أنت ذلك بما لك من دالة عليها. وهو فضل عظيم لن أنساه لك مدى العمر.
قلت وقد انبعثت في قلبي عزيمة جبارة: فاعلم إذن يا دكتور إنه لن يهدأ لي بال حتى أحقق لك أمنيتك. هذا عهد عليّ.
فقال وهو يرمقني بنظرات امتنان: أنت أعظم من أخت لي يا منتهى. وما خاب ظني حين توسمت النبوغ فيك من أول محاضرة.
وسكت لحظة ثم أضاف: وإذا رغبت حقاً في مواصلة وساطتك فأخبريها بأنني موافق على كل شروطها وأنني أعدها بشرفي أن أحققها بأجمعها. وكل ما أطلبه منها هو أن تمهلني بعض الوقت حتى يتسنى لي أن أوفى بالطلبات التي قد أعجز حالياً عن الإيفاء بها. وأرجوك أيضاً أن تخبريها بأن امكاناتي المالية ليست متواضعة . فمدخولي لا يعتمد على مرتبي فحسب بل على ما تدره عليّ أيضاً بعض الممتلكات.
فقلت بحماس: لن يهدأ لي بال يا دكتور حتى أنجز وعدي لك
فقال بامتنان: شكراً لك يا أختي العزيزة. أنا عاجز عن الشكر حقاً.
هل تراني تسرعت في قطع ذلك الوعد للدكتور رائد؟ فماذا عن حبي؟ ألا يعني هذا الوعد أنني حكمت على حبي بالموت؟ ولكن ألم يقل لي إنه لن يكون سعيداً إلا مع فاتن؟ فهل أرتضي أن يحكم عليه بالتعاسة؟ وما دمت أحبه فمن واجبي أن أسعده. وما دامت سعادته تقتضيني التضحية بحبي فسأفعل. وهل أنا الأولى أو الأخيرة التي تضحي بحبها من أجل سعادة حبيبها! إن تاريخ الحب مليء بأمثال هذه القصص. إنه امتحان لي ولا بد أن اجتازه بنجاح. ولعلني سأنسى حبه يوماً. نعم.. ربما أنستني الأيام هذا الحب. بل المفروض أن أنساه منذ اليوم ما دام حبّاً فاشلاً. فما فائدة عقلي الكبير إذن؟ ما فائدة ثقافتي الفلسفية إن لم تسعفني في محو هذا الحب من قلبي؟ أيمكن أن يتساوى موقفي مع موقف أية فتاة مراهقة يغزو قلبها الحب؟! ولكن هل بمقدوري حقاً محو هذا الحب من قلبي؟ ألم أحاول ذلك حينما تلقيت فيه الصدمة الأولى ففشلت؟ وقد نشدت العون على نسيانه يومذاك في كل ما قرأته من كتب الفلسفة فلم تفدني بشيء. وهل استطاع الدكتور رائد نفسه أن يقهر حبّه لفاتن؟! ألم يقل بأنه بذل أقصى جهوده لقهره ففشل؟ فهل أنا أوسع منه علماً وثقافة؟ ألم يقرأ هو الكمّ العظيم من كتب الفلسفة.. فكيف لم تعنه على قهر حبّه؟! ولا شك أن حالي لن يكون أحسن من حاله. وسأظل أحبه وأحبه وأحبه. ولكن لماذا نعجز عن قهر الحب؟ وما سر قوته الجبارة؟ ولماذا نحب أصلاً؟ وكيف يتسلل الحب إلى قلوبنا؟ الحب هو أحد غوامض الطبيعة وعلينا أن نقبله على علاّته كما قال الدكتور رائد. وأنا أسيرة حبه وسأظل كذلك طول حياتي. وقد وعدته أن أوفّر له السعادة وإن كان ذلك على حساب سعادتي. وسأفي بعهدي وإن كنت أعلم أن أمامي مهمة صعبة. فأنا أدري بحدود أحلام فاتن وبحدود تفكيرها. بل إنني لأشك إنه سيكون قادراً على تحقيق كل أحلامها بموارده المحدودة. ولكن لا بد لي أن أجتاز هذا الامتحان العسير. لا بد أن انجح. وسأثبت أنني جديرة بلقب "العاقلة" الذي كسبته على حساب التضحية برغباتي ومشاعري وعواطفي.








خاطرة 43
الليلة سأنام نوماً عميقاً بعد أن عدت من حفلة عقد قران الدكتور رائد على فاتن. ويا لها من أسابيع مرهقة ظللت أثناءها في شدّ عصبي بسبب مساعيّ لإقناع فاتن بالزواج من الدكتور رائد. وكم من مرة بدت هذه المساعي موشكة على الانهيار تجاه مطالب فاتن غير العقلانية. وكم من مرة وصلت أنا والدكتور رائد مع فاتن إلى طريق مسدود. بل إن تلك المطالب عرّضت الدكتور رائد إلى ذلّ الاستدانة من أقربائه وأصدقائه0 ولم أكن أدرك أنني أمتلك هذا الكمّ من العناد والتحدي وأنني قادرة على الصمود كالجبال. و قالت لي زكية التي كنت أطلعها أولاُ بأول على جهودي: "ما كنت أحسب أنك تملكين كل هذا العناد والصلابة يا منتهى. أنت الصامتة التي لم تعاند يوماً من أجل ما تريد. وكم في السواهي من دواهي كما يقولون".
وها أنذا الليلة أوفيت بوعدي للدكتور رائد وحققت له مرامه. ولقد شعرت بغصّة وأنا أتأملهما وهما بجوار المأذون. كنت أحسّ كأن ثمة سكاكين تقطّع أحشائي. وحينما قال لي الدكتور رائد وأنا أهمّ بالخروج: "لن أنسى لك يا أختي العزيزة هذا الفضل طول عمري، فلولاك ما تم هذا الزواج" شعرت كأن سطلة زيت مغليّ تصب على رأسي! ما أشد ما أحسّ به من إعياء! أشعر كأن جبال الأرض كلها انهارت فوق صدري. ولا شك أنني سأستسلم للنوم أياماً. فأنا متعبة جداً. سأرتدي قميصي الأسود قبل أن أنام. آن لي أن أستريح. لقد أثبتّ أنني قادرة على كتم مشاعري عن الجميع 0 و نجحت في الامتحان. ولكن ما لهذه الدموع الساخنة تتدفق من عينيّ بلا انقطاع؟










خاطرة 44
الأيام تمضي وأنا طريحة الفراش وقد سحقني الإعياء حتى أنني لا أقوى على مغادرة فراشي. و أثار حالي هذا قلق أفراد عائلتي وأصابهم بالغّم. وعرضوا عليّ أن يفحصني الدكتور مراد لكنني رفضت. إنني غير قادرة حتى على تسجيل خواطري.. وكم في رأسي من خواطر!








خاطرة 45
لماذا فارقتني يا مصطفى وأنت تعلم أنني لا أستطيع العيش بدونك؟










خاطرة 46
الإعياء يشتد بي يوماً بعد يوم. وسمعت أهلي يتهامسون في كرب بأنني مريضة جداً. وفي فترات يقظتي أسمع أمي تنتحب بصوت كليم. يجب أن أتغلب على إعيائي واذهب إلى الجامعة فقد فاتتني محاضرات كثيرة.








خاطرة 47
أظنني سمعت اليوم أبي ينتحب. لماذا؟ هل أنا مريضة إلى هذا الحدّ؟


خاطرة 48
صحوت على صوت الدكتور مراد. وحينما فتحت عينيّ رأيت كل أفراد أهلي يحيطون بي بمن فيهم مرتجى وصفية ووجوههم تطفح بالحزن والقلق. وقال الدكتور مراد وهو يهش في وجهي: ألم أقل لكم إنها لا تشكو مرضاً وكل ما بها هو إعياء بسيط؟! سأكتب لها هذه الأدوية وستتعافى خلال أيام.
وأردت أن أقول له: "لماذا أنت مزيف يا دكتور مراد؟" لكنني عجزت عن الكلام.






خاطرة 49
كلما صحوت من نومي رأيت أمي جالسة على الأرض بجوار سريري وهي تنتحب. متى ستكفين عن البكاء على مصطفى يا أمي؟ أنا مثلك لن أنقطع عن البكاء عليه.


خاطرة 50
لماذا تغصّ الحياة بكل هذا الشقاء؟ ولماذا عجز الفلاسفة عن إنقاذ البشرية من شقائها؟ لماذا فشلت يا سقراط؟ لماذا فشلت يا أوجست كومت؟ لماذا فشلت يا ماركس؟
وإني لأتساءل: هل تستحق الحياة أن تعاش وهي تغصّ بكل هذه التعاسة والمعاناة والإحباط؟ ولماذا لا توزّع فرص الحياة الرضّية بعدالة على البشر؟!






خاطرة 51
فتحت عينيّ على عدد من الرجال وهم يحيطون بسريري وبينهم الدكتور مراد. وأظنهم أطباء فالبعض منهم يحمل عدته الطبية. وسمعت أحدهم يقول: لم نكتشف سمات أي مرض فيها. ويبدو أنها تعاني من أزمة نفسية أفقدتها الرغبة في الحياة وحالة اكتئاب حاد سبّبت لها انهياراً عصبياً. وستتعافى إذا تغلبت على أزمتها النفسية وعاد إليها حب الحياة 0


خاطرة 52
سمعت جميع أهلي يبكون بحرقة. ينبغي لي أن أقهر مرضي لئلا أسبب مزيداً من الحزن والشقاء لهم.









خاطرة 53
لم يعد بإمكاني تسجيل خواطري. فأنا ما أكاد أقوى على الجلوس في فراشي. ثم ما الفائدة من تسجيل خواطري؟ كنت أفضل حالاً حينما كنت أحتفظ بها في رأسي. فلم يكن ينكشف لي بهذا الوضوح ما في الحياة من عبث وحماقة وشقاء!



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العنكبوت
- الخاطئة
- رسائل حميمة
- انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية


المزيد.....




- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - خواطر فتاة عاقلة