أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الهوية















المزيد.....



الهوية


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2499 - 2008 / 12 / 18 - 06:42
المحور: الادب والفن
    



الطبعة الأولى 1996
ليست بداية

أعلن ميكروفون الطائرة : لقد اجتزنا حدود البلاد المجاورة ونحن نطير الآن على ارتفاع خمسة وعشرون ألف قدم .
وتنفس فوزي الصعداء وأغمض عينيه ..
وأخيرا افلت من السجن الكبير ، لقد بدا الأمر لي ميئوسا منه وضابط الجوازات يردد أنظاره بين الجواز ووجهي ويراجع أوراقه . كان يطيل النظر في الجواز ثم يطيل النظر في وجهي ثم يعود فيتأمل الجواز ثانية ويقلّب أوراقه في تأنّ ثم يرفع عينيه إلى وجهي ويتفرس فيه . وخامرني شعور بأنني سجين فارّ من سجنه على وشك ان يقبض عليه . ولم يكف قلبي طوال الوقت عن الخفقان . والتفت ورائي فإذا بعيون فخري وفوزية مسّمرتين على نافذة الجوازات. وأخيرا ارتفعت يد الضابط بالختم وانحطت على الجواز ثم رماه إلىّ من النافذة . وتناولت الجواز ولوّحت به لفخري وفوزية فأنار وجهاهما بفرح غامر . تقدمت نحو قاعة المسافرين وانأ أحمل الجواز بيد وحقيبتي الصغيرة باليد الأخرى . ورفعت ذراعي مودعاً ولمحت فخري يتهالك على المقعد المجاور وكأنه قد ألقى حملاً ثقيلاً عن عاتقه ... مسكين أنت يا فخري! يا للقلق الذي لازمك منذ فارقت السجن . صحيح انك سررت سروراً عظمياً في الأيام الأولى، وكان سرورك يبدو جلياً على وجهك حين تجتمع العائلة في الأمسيات حول التلفزيون . وكنت لا تدري ماذا تفعل لتدخل الغبطة على قلبي . كنت تطلب من سميرة أن تهيئ كل مساء من ألوان الطعام أحبها إلى نفسي . وكانت فكاهاتك تتوالى على أسماعنا طوال وقت السهرة . وكانت ضحكاتك الصاخبة تملأ "الهول" . وكنت معروفا بطابعك الجدي ، فكان مرحك هذا يثير عجبي . وقد عزوته إلى محاولتك الاعتذار لي بصورة غير مباشرة عن تقصيرك في زيارتي أثناء السجن . لكنني كنت قد عذرتك وقدرت ظروفك يا فخري . واعترف أن مرحك قد أدخل الرضا على قلبي بالرغم مما كنت أشعر به من ضيق. وكانت أمّنا أعظمنا سعادة. كان الفرح يومض في عينيها وهي تردد : " اللهم صلي على محمد وآل محمد " .
أما سميرة الوديعة فقد كانت تبدو طافحة الوجه بالبهجة . ولكن مرحك هذا لم يلبث ان غاض شيئاً فشيئاً وخلفه قلق غامض . وصرت تتبادل وسميرة نظرات حائرة كلما ظهر الرئيس على شاشة التلفزيون فتدفقت من فمي اللعنات والشتائم . ثم حل يوم أخذت تتهرب فيه من المشاركة في سهراتنا العائلية وتعتصم بغرفتك زاعماً أن وراءك مشاغل مؤجلة . أو تمضي سهراتك خارج الدار مدعياً الارتباط بمواعيد رسمية . وحيرني جو من القلق أخذ يزحف على الدار . وكنت تبدو دائما قلقاً متضايقا من شئ ما وتعاني من توتر ما . .حتى أمي خبا البريق الفرح في عينيها وران عليها حزن هادئ . وتبدت سميرة مضطربة طوال الوقت . كل ذلك وأنا لا أفهم شيئاً مما يدور حولي . ولم يخطر لي على بال ان شتائمي للرئيس يمكن أن تعكر الجو إلى هذا الحد . وكيف لي أن أدرك أن النظام قد زرع جواسيسه حتى في أعماق البيوت لأكف لساني عن الشتم ؟ ثم أنني كنت أعرف أنك ضد النظام وأن موقفك لم يتغير . صحيح أنك لم تحسب نفسك يوماً في إعداد المناضلين . وصحيح أنك كنت تردد انك لست ( حمل البهدلة ). غير أنك لم تكن تخفي كراهيتك للنظام . وكنت فوق كل شئ معتزاً بنزاهتك التي صانتك من الانضمام إلى صفوف الانتهازيين من المثقفين وما أكثرهم ! وشكراً لك على كل حال ، فرغم حراجة موقفك أحجمت عن مصارحتي بمخاوفك . لقد فضلت ان تبتلع همومك على أن تجرح مشاعري بكلمة واحدة . وحينما اتخذت قراري بالهجرة عادت إليك سكينتك.وصحيح انك كنت تبدو مبتهجا ونحن في المطار وكنت تستحث الوقت لتحين ساعة سفري لكنك فشلت في اللحظة الأخيرة في ضبط صوتك المتهدج. وطبعت على خدي قبلتين أودعت فيهما كل محبتك وأحزانك .
أما أنت يا فوزيه فإن خجلك من المودعين المتجمهرين في صالة المطار من حولنا هو الذي حال بين بكائك من أن يعلو. لكن دموعك الصامتة المنهمرة على خديك لم تتوقف أبدا . وعجز منديلك عن تجفيفها. ولكم ذرفت من دموع من أجلي يا فوزية ! ولقد غزرت دموعك منذ قررت الهجرة وبرزت مشكلة الجواز . وكان حل المشكلة بيد رشدي لكنه أكد منذ البداية أنه لن يكون له دور في ذلك . فكان عليه بالمقابل أن يواجه دموعك .. دموعاً أحالت حياته إلى جحيم مقيم . وأخيراً لجأ إليّ .
_ لا تجعلني أندم على اليوم الذي عرفتك فيه يا فوزي والذي ورطني في الزواج من أختك.
_ ومن منا ينبغي أن يندم على معرفة الأخر يا رشدي ؟ فأنت تعلم أنني بسبب هذه المعرفة أمضيت خمس سنين من عمري في السجن . غير أنني لست نادما على معرفتك يا رشدي فقد هديتني إلى الطريق القويم .
_ لا تسمي طريقك بالطريق القويم يا فوزي ، لقد كنت مغشوشاً مثلك بهذا الطريق .
_ أكنت مغشوشاً يا رشدي أم أنك أدركت أنه ليس الطريق المؤدي إلى المكاسب ؟! .
- اسمع يا فوزي . يجب أن تفهم أن قضاءك بعض السنين في السجن لا يجعلك أفضل من غيرك أو أعلم من غيرك . وإذا كنت مسؤولاً عن قيادتك في هذا الطريق في أيام حمقي فاعلم أنني آسف لذلك . وإنني لأرثي لك ولأمثالك ممن يعجزون عن أن يكونوا واقعيين ويريدون أن يبددوا حياتهم . ويبدو أنك لم تتعلم من دروس السجن شيئا. وبسبب من هذا الغباء فانك تريد أن تخسر وطنك بدلاً من أن تعنو لضرورات الواقع.
_ إذن فاعلم أنني أفضل أن أخسر وطني على أن أعنو لواقعك هذا يا رشدي.
_ افعل ما تشاء بحياتك ولكن بعيداً عن حياتي . وعليك ان تفهم أختك أنني لست مستعداً أن أوظف نفوذي من أجلك واعرّض مكانتي الحزبية للخطر .
ورجوتك يا فوزية أن تضبطي عواطفك لتتجنبي مضايقة رشدي . ولكن هيهات لقلبك الرقيق ان يستجيب لمثل هذا الرجاء . وأخيراً استسلم رشدي للأمر الواقع ووعدك بالحصول على الجواز . لكنه اشترط عليك أن يكون ذلك نهاية دموعك من أجلي . وعليك أن تلتزمي بهذا الشرط يا فوزية . نعم عليك أن تلتزمي به وان كان سيقتضيك عناء كبيراً لا يطيقه قلبك الرقيق . هذا القلب الممتلئ حنانا.. حنانا لا نظير له إلا في قلب أمي .
وأنت يا أمي الحبيبة .. يا لشجاعتك ! لقد كنت أشجع الجميع في مواجهة هذا الفراق لصغيرك المدلل والذي قد لا يكون لك معه لقاء آخر . لقد ظللت إلى آخر لحظة كالطود الشامخ ! صحيح انك افتقدت الشجاعة لمرافقتي إلى المطار .. وصحيح أنني لمحت ظلالاً قائمة في عينيك وارتجافاً في شفتيك وأنا أقبلً يديك مودعاً . لكنك بقيت متمسكة بصمودك حتى اللحظة الأخيرة .. حتى وأنت ترشين عتبة المنزل بالماء آملة أن أعود ثانية . وكنت شامخة الملامح وضّاءة الجبين وأنت تهمسين لي : مّودع الله يا فوزي .
يا لروعنك يا أمي .. كم أكسبك إيمانك من صبر يفتقده الكثيرون ! لولا صبرك ما استطعت أن أمضي في طريقي هذا . لقد خانتني شجاعتي في اليوم الأخير ، فحينما رحت أتنقل في ذلك اليوم من درب إلى درب في محلتنا و من شارع إلى آخر ومن مدرسة إلى مدرسة ومن مقهى إلى آخر أسترجع ذكريات طفولتي وصباي وشبابي بدا لي الأمر مستحيلاً أن أتخلى عن بلدي وهويتي .. في دروب محلتنا استمتعت مع أقراني بلعب الدعبل والجعاب والكلكلي وكرة العكوس . وفي هذه المدرسة تعلمت قراءة الحرف للمرة الأولى .. وتعرفت فيها على زملاء الطفولة الذين صاروا أصدقاء الشباب . وكم لهونا في ساحتها .. وكأن كل شئ قد حدث بالأمس القريب .. بل كأن العقاب الذي نلته في أسبوعي الأول في المدرسة قد حدث اليوم . كانت طاولتي بجوار نافذة منخفضة . و رأيت زميلي يتسلل عبر النافذة إلى الساحة دون أن يلحظه أحد . وكنت قد مللت الاستماع إلى المعلم وسئمت الحبس في الصف . فلماذا لا أفعل مثله فنلهو معا في ساحة المدرسة؟! ولحقت بزميلي 0 ولكن ما أن شرعنا في لعبنا حتى أقبل علينا حارس المدرسة وقادنا إلى الصف . وكانت المرة الأولى التي أجرب فيها تورّم الكفين من المسطرة .
وهذا المقهى المنزوي على ضفة النهر .. كم ضج بصخبنا وحواراتنا السياسية . بل كم شارك بمؤامراتنا بعيداً عن عيون السلطة. وهذه و هذا .. كلا .. كلا .. لا يمكنني أن أهجر وطني وأتخلى عن هويتي . ولجأت إليك يا أمي لأجد تبريراً لإلغاء المشروع .
_ إنني غيرت رأيي يا أمي فقد يؤذيك سفري .
_سافر فوزي .. سافر مودع الله ، سأكون بخير ان شاء الله .
_ وكيف سأتركك للوعة الفراق يا أمي ؟
_ سأحزن أكثر وأنت بهذه الحال يا فوزي.
_ ولكن ألا تعلمين يا أمي انك قد لا ترينني مرة أخرى في وقت قريب ؟
_ أعلم ذلك يا فوزي .. أعلم إن عيني قد لا تكتحلان برؤيتك . ويعلم الله كم سيسبب لي ذلك في حزن ، لكنني أعلم أيضاً أن قلبي لن يقر له قرار وأنا أراك هكذا . إن كل نظرة إليك هي غصة في قلبي . سافر يا فوزي لعل الله يهدي سرك . سافر ولا تفكر بشيء . سافر موّدع الله .
أذاع ميكرفون الطائرة : اربطوا أحزمتكم رجاء وأطفئوا سجائركم فسنحط على أرض المطار بعد حوالي عشر دقائق .
قالت المضيفة وهي تنظر إلى فوزي : لو سمحت أيها السيد .. اجلس في مقعدك . نحن على وشك الهبوط .
قال فوزي : اسمحي لي بدقيقة . لابد أن أذهب إلى التواليت . لن أتأخر سوى دقيقة واحدة.
وقفز فوزي الى التواليت مسرعا . هتف وهو يمزق جوازه : وداعا يا هويتي .. سأستبدلك بهوية يحترم فيها الإنسان .


















وكان نهار
قال ضابط الجوازات : جوازك من فضلك .
قال فوزي : لا أملك جوازاً .
تحدث الضابط في ميكرفون يحمله وفي الحال حضر ثلاثة من ضباط أمن المطار وقادوا فوزي الى غرفة صغيرة + قال الضابط المسؤول : أين جوازك ؟ .
قال فوزي : ليس لدي جواز.
قال الضابط : كيف تكون بلا جواز ؟ لابد أن يكون معك جواز .
قال فوزي : لم يعد يهمني .. تخلصت منه ، لم يحفظ لي إنسانيتي .
قال الضابط : وما علاقة الجواز بإنسانيتك ؟
قال فوزي : أنا أنشد هوية جديدة .. هوية تحترم بها إنسانيتي ، لقد تخلّيت عن هويتي القديمة ومزقت جوازي .
قال الضابط : وهل هذا هو الأسلوب الذي ستحصل به على هوية جديدة ؟! هناك أساليب قانونية لمثل هذا الأمر .
قال فوزي : لست أعرف تلك الأساليب ، كل الذي أعرفه ان بلادكم تقبل أمثالي من المضطهدين وترعاهم .
قال الضابط : نحن بلد يسود فيها حكم القانون ولا تسير الأمور لدينا بالعواطف ، وكان يجب عليك ان تلتزم بقوانيننا. كان يجب ان تحتفظ بجوازك حتى يبتّ في أمرك.
قال فوزي : كنت اجهل ذلك .
قال الضابط : الجهل بالقانون لا يعفيك من هذا الخطأ الكبير . وكونك بلا جواز يجعلك موضع شك . ما يدرينا ما هي حقيقتك ؟ وما يدرينا أنك لست إرهابيا ؟!
قال فوزي : وهل يبدو على وجهي إنني إرهابي ؟ أنا هارب من الإرهاب .
قال الضابط : وهل الإرهابي مكتوب على وجهه أنه إرهابي ؟ كل الذي نعلمه أن أنظمتكم تصدر الإرهاب الدولي .
قال فوزي : وهل نؤاخذ نحن على هذا الذنب ؟ نحن أنفسنا ضحية هذا الإرهاب .
قال الضابط : على كل حال حقيقتك معضلة لا نستطيع حلها نحن وسيحلها المختصون.
واقتيد فوزي الى غرفة صغيرة أخرى وأغلق عليه الباب . ومكث ينتظر وقتاً طويلاً. ثم اقتيد الى سيارة شرطة اخترقت به شوارع المدينة . وحينما بلغت مشارفها انطلقت تنهب الأرض . وانقضت ساعات والحقول الخضر تنبسط على جانبي الطريق بلا حدود . وأخيراً توقفت السيارة عند مبنى تحيطه غابة كثيفة . واقتيد فوزي إلى داخل المبنى .





















و كان ليل

بالخيبة الأمل ! أين هي الأحضان التي يفترض أنها ستستقبلني ؟! كانت الأخبار تترامى إلينا بأنهم يستقبلون من هم أمثالي بالأحضان حال هبوطهم من الطائرة . وإذا بالأسئلة المهينة تنهال على سمعي كالمطارق .. وإذا بوجوه ضباط المطار جامدة كالصخر. كل ما وسعني أن اقرأ فيها هو اتهام قاس ! ثم يا لتلك الرحلة المضنية بين المطار وهذا المكان.كم استغرقت يا ترى؟ لا أدري فقد نسيت ساعتي في بلدي . كل ما أعلمه أنها بدت لي وكأنها دهر ! وفي البداية تراءت لي الرحلة مشوقة . لأول مرة تطالعني هذه البنايات الأنيقة والشوارع الزاهية النظيفة . . والعابرون يسعون على أرصفة الشوارع بثقة ورضا ووجوههم مشرقة بالاطمئنان . وكان الكثيرون منهم يبتسمون ! مرة حاولت أن أحصي الوجوه المبتسمة التي تجتاز شارع الرشيد فعجزت عن أن أرصد وجها واحداً مبتسماً خلال مسيرتي لربع ساعة.
ثم انطلقت السيارة تشق طريقها في الريف . وما كان أحلى بيوت القرى المنسقة الجميلة ! حتى الأبقار التي ترعى في الحقول بدت مطمئنة تنطق أجسادها المر بربة اللامعة بالشبع والسعادة ! وشتان بينها وبين أبقارنا بأجسادها الممصوصة وعظامها البارزة وألوانها الكالحة !يا لبؤسك يا ريفنا المسكين بحقولك الذاوية وبشرك الضامرين وحيواناتك العجفاء ! ويا لبؤس قراك التي لا تكاد سقوفها تنهض فوق سطح الأرض ! مرة وأنا طفل اقترحت إحدى معارفنا من الريفيات ان تصطحبني الى قريتها المجاورة لألهو في الريف. وسررت لذلك سروراً عظيما . واستغرقت الرحلة ساعة أو بعض ساعة سيراً على الأقدام كانت صاحبتي تحملني فيها معظم الوقت على كتفيها . واستمتعت بالرحلة غاية الاستمتاع . فقد كانت صاحبتي تنزلني كلما اعترضت طريقنا ساقية لألهو على ضفافها أو لأطارد الحشرات التي تتقافز من حولي . وإذا واجهتنا أشجار مثمرة رفعتني عاليا لكي اقطف من ثمارها المتدلية . وأخيرا أهلت علينا القرية فصعقت لمنظرها واستحالت بهجتي غمّا. لم يكن هناك بيوت من النوع الذي ألفته . كان ثمة أكواخ متراصة يتقاسمها البشر والحيوان . وارتميت على الأرض أبكي في حرقة وأطالب بإعادتي إلى منزلي في الحال. والتف حوالي أقارب المرأة يحاولون إغرائي بالبقاء ، لكن عويلي كان يشتد وأنا أصرخ : " ليس لديكم حيطان .. ليس لديكم بيوت .. أريد العودة إلى بيتي " . واضطرت المسكينة أن تحملني ثانية وتعود بي إلى المدينة قبل أن تلتقط أنفاسها .
وطالت الرحلة والريف ينبسط حوالينا وبدت بلا نهاية . إلى أين يحملونني يا ترى؟! ولم ينطق أي من السائق أو رجل الشرطة الجالس إلى جواري بكلمة واحدة . وذكّراني بالأشخاص الآليين ذوي البزات العسكرية في أفلام الخيال العلمي . وأخيراً .. أخيرا جداً ، بلغنا هذا المبنى المنعزل . ومع أن أشعة الشمس الغاربة كانت تصبغ السماء بلون جميل يزيد من جماله الغابة الخضراء المجاورة فقد بدا لي كل شئ حولي قاتما موحشا .
واستقبلنا على الباب حراس جهمو الوجوه . وجرى استجوابي مرة اخرى . ثم اقتدت الى هذه الغرفة . وها أنذا أمضي الليل فيها مع شخص يرفض التحدث معي . فهل فارقت السجن الكبير لأزج في سجن أخر ؟! فما هذا المكان سوى سجن مهما تكن اناقته . ولكن لابد لي ان اعترف انه نمط جديد من السجون غير التي ألفتها . كنا نتكدس في " القاووش" كأننا في قفص للدجاج . وفي الليل كان القاووش يختنق بالروائح الكريهة . كان النوم متنفساً للغازات لتنطلق من مكامنها . وكان هناك دائما أشخاص يطلقون تلك الغازات بما يصاحبها من أصوات طوال الليل . كانوا كأنهم يتناوبون العزف على الآت صدئه ، وكان شمخي أشد الأشخاص إلحاحا في إطلاق غازاته . وكان ضراطه من نوع فريد . كان أشبه بطلقات المدافع . وكان يتواصل طوال الليل فيطرد النوم عن عيوننا . وكان كل ما حولنا ينضح بالقذارة . وكنت أقاسي الأمرين حين أزور دورة المياه . وفشلت في التعود على الانكشاف على الآخرين في الحمامات العامة والمراحيض الخالية من الأبواب . وعجزت عن تقبل التعليقات السمجة التي يتبادلها السجناء وهم يتمرحضون او يستحمون . وقرفت من العلاقات المشبوهة التي تقوم بين البعض منهم . وكان طعامنا أردأ طعام . أما هنا فالأمر مختلف . فالغرف الخشبية نظيفة وأنيقة . والحمامات ممتازة . والطعام شهي . ولكنه سجن تحدق به الكلاب البوليسية من كل الجهات ويحرسه حراس أشداء . فإلى أين المفر ؟ إلى أين ؟!


وكان نهار


بعد الفطور انطلق فوزي إلى الحديقة الواسعة التي تسور المبنى والتي تماثل الغابة بأشجارها الباسقة . كان ثمة عدد قليل من المتنزهين . دنا أحدهم منه وقال : أتسمح لي أن أرافقك يا زميل ؟
قال فوزي : على الرحب والسعة .
قال الشخص : أنا سامان مصطفى .
قال فوزي : وأنا فوزي السعيد .
قال سامان : أحب أن أضع نفسي في خدمتك فانا من الضيوف القدماء في هذا "الكامب".
قال فوزي : شكرا جزيلا .. منذ متى وأنت تقيم هنا ؟
قال سامان : ما يقرب من ستة أشهر .
قال فوزي في انبهار : ستة أشهر ؟ هل يمكن أن تمتد إقامة الواحد منا هنا لهذه الفترة الطويلة ؟
قال سامان : ممكن جدا ، بل قد تطول إلى ما يزيد على عام . فالأمر يتعلق بالبلد الذي قدمت منه ثم بإقناع المسؤولين انك من ضحايا الاضطهاد حقا.
قال فوزي : ولكنهم يعلمون أن أنظمة بلداننا تضطهد مواطنيها وتكبت حرياتهم وتصادر حقوقهم الإنسانية .
قال سامان : لكنهم في نفس الوقت يشكوّن في أن يكون أي واحد منا مدسوسا. وحتى تتوفر لديهم القناعة بأحقيتنا في اللجوء فنحن باقون في هذا الكامب . وإذا لم تتوفر هذه القناعة فإنهم يرّحلوننا إلى بلداننا أو يلقون بنا على حدود بلد آخر .
قال فوزي في انزعاج : أتعني أنهم يمكن أن يعيدونا إلى بلداننا ؟
قال سامان : نعم ، وقد جرى ذلك لبضعة أشخاص خلال فترة إقامتي هنا .
قال فوزي : يا للمصيبة ! أيمكن أن يعيدونا إلى الجحيم ثانية ؟
قال سامان : لا تبتئس مقدماً يازميل وتعال معي أفرّجك على مرافق الكامب .
قاد سامان فوزي في أروقة المبنى وتوقف عند باب غرفة فسيحة غاصة بالحضور. قال وهو يدير أنظاره في أرجاء الغرفة : هذه هي القاعة التي يسميها المحتجزون "قاعة الثرثرة " وهي التي ينفقون فيها معظم وقتهم يتبادلون الكلام والإشاعات والأخبار ويلعبون الورق والشطرنج ويتفرجون على التلفزيون .
هتف شخص من بعيد يحتل ركنا من القاعة : تفضل يا سامان .. تفضل .
قال سامان وهو يشير بعينيه إلى الشخص : هذا زياد الشيخ وهو أكبر الأشخاص عمراً وأقدمهم إقامة . وهو يمثل محور قاعة الثرثرة .. تعال لأعّرفك به .
وتقدمنا نحو مجلس زياد الشيخ . كان عدد من الحاضرين يلتفّون حوله . قال سامان : أقدم لكم زميلنا الجديد فوزي السعيد .
قال زياد الشيخ : أهلا بالجار العزيز .. لقد بلغتنا أخبارك . أنت من البلد الجار .. أليس كذلك ؟
قال فوزي : فعلاً .
قال زياد الشيخ ضاحكا وهو يهزّ رأسه الكبير المكلل بالشيب : لو كان هذا الكامب واسعاً بما فيه الكفاية لا نتقل كل شبابكم إليه .
قال فوزي مبتسما : وكذلك شبابكم فالحال من بعضها .
قال زياد الشيخ : أفلسنا جيرانا ورفاقاً . . فما العجب ؟ تفضل اجلس .. متّعنا بآخر أخبار البلد الجار .
قال فوزي : ليس عندي ما أضيفه إلى ما تسمعه من أخبار عن بلدك ، فبلدينا كما قلت تربطهما الجيرة والرفقة .
قال زياد الشيخ وهو يضحك ضحكة ساخرة : المهم إننا لا نزال عايشين يا أخ فوزي .
قال سامان : لا يمكننا الجلوس الآن يا زياد . نحن نقوم بجولة في الكامب .
قال زياد الشيخ : إذن ملتقانا هنا يا أخ فوزي .
قاد سامان فوزي إلى غرفة متوسطة السعة قد ازدحمت رفوفها بالبضائع وتناثرت فيها الموائد وقال له : هذا هو حانوت التسوق والكافتريا .
كان عدد قليل من الأشخاص يتناثرون حول الموائد . ولمح فوزي زميله في الغرفة ينتبذ مائدة منعزلة وأمامه زجاجات البيرة . قال وهو يشير إليه بعينيه : ذلك هو زميلي في الغرفة يا أخ سامان .
قال سامان : انه عباس الرضا وهو من مواطنيك . وهو يجلس لوحده كالعادة ويعب من البيرة منذ الصباح المبكر .
قال فوري : أهو من محبيّ العزلة ؟ إنه لم يتبادل معي سوى عبارة أو عبارتين وكأنه يتجنب التحدث معي .
قال سامان : هذه حاله .. لا يتحدث مع احد ولا يخالط أحدا ، ولا هواية له سوى كرع البيرة .
ترامى إليهما صوت المسؤول وهو يهتف : مرحبا يا صديقي سامان.
التفت سامان إلى فوزي قائلاً : هذا هو كارل وهو أحب شخصية لدى المحتجزين .
تساءل فوزي : لماذا ؟
قال سامان : أولاً لأنه النصير الحقيقي لهم . وثانيا لأنه يكاد يكون الوحيد من العاملين في الكامب ممن لا يتعالى عليهم . وهو يؤمن إيماناً حقيقياً بألاّ فرق بين الأجناس والشعوب.
اتجه سامان وفوزي نحو البار فاستقبلهما كارل بابتسامة عريضة غطت وجهه النحيل .
قال سامان : مرحبا كارل .
قال كارل : مرحبا يا صديقي سامان.
وأضاف وهو يجول بعينيه الضيقتين في وجه فوزي : ألا تعرفني بضيفنا الجديد؟
قال سامان : هذا فوزي السعيد يا كارل . إنه وصل عصر امس .
قال كارل بلهجة حارة : أهلاً بالضيف الجديد.
قال فوزي : شكراً .
تساءل كارل : من أي بلد ؟
قال سامان : من بلد عباس الرضا .
قال كارل وهو يهز رأسه الأصلع باستنكار : من بلد الدكتاتورية الباطشة ؟
قال سامان ضاحكا : وأي بلد من بلداننا الشرق أوسطية لا تتمتع بمثل هذه الميزة يا كارل؟
قال كارل : عندي أصدقاء كثيرون من بلدك يا سيد فوزي ممن استضافهم " المعسكر " والبعض منهم مازال يراسلني .
قال فوزي : إذن أضفني إلى أصدقائك يا سيد كارل .
قال كارل : بكل اعتزاز يا صديقي .
قال سامان ضاحكا : كارل من هواة جمع الأصدقاء وحاله حال هواة جمع الطوابع .
قال كارل : وهل هناك هواية أبدع من هذه الهواية يا صديقي سامان؟ تفضلا .. اشربا قهوة .
قال سامان : في وقت آخر يا كارل ، فقد وعدت الأخ فوزي أن أفرّجه على مرافق الكامب .. الى اللقاء .
قال كارل : إلى اللقاء القريب .
قال سامان وهما يغادران الكافتيريا : والآن سنزور المكتبة .
تساءل فوزي : وهل توجد مكتبة هنا ؟
قال سامان : فعلاً ومعظم كتبها باللغة الانجليزية .
قال فوزي : هذا خبر سار لي حقا .
بدت المكتبة لفوزي مزدحمة الرفوف بالكتب . كان عدد محدود من القراء يتوزعون الموائد . أشار سامان إلى شابّة فارعة الطول تشغل مكتباً متميزاً وقال : هذه أنجريد مسؤولة المكتبة .
رمقها فوزي بنظرة سريعة فشعر بهزة تنتظم جسده . ورفعت الشابة رأسها وتطلعت إلى القادمين بنظرة عابرة ثم انحنت على كتابها .
أتم سامان وفوزي جولتهما في المكتبة وغادراها . قال فوزي : لقد سررت بوجود هذه المكتبة فهي غنية بالكتب فعلا .
قال سامان وهو يضحك : إذن ستكون من روادها الدائميين .
قال فوزي : شكراً لك على هذه الجولة يا أخ سامان .



وكان نهار
طاف فوزي بين رفوف المكتبة مستعرضا الكتب الروائية . كان ينتزع بعض تلك الكتب ويتصفحها حينا ثم يعيدها إلى موضعها . اتجهت إليه أخيرا مسؤولة المكتبة وقالت : أنا أنجريد مسؤولة المكتبة .
قال فوزي مبتسما : وأنا فوزي السعيد .
قالت أنجريد : هل تحتاج مساعدة يا سيد فوزي ؟
قال فوزي : شكراً أنا أحاول الإطلاع على الكتب الروائية الموجودة في المكتبة .
قالت أنجريد : وهل في ذهنك روايات معينة أو كتّاب معينون ؟!
قال فوزي : أنا في الحقيقة أبحث عن روايات إريك ماريا رمارك فهو من كتّابي المفضلين .
قالت أنجريد وثغرها يفترّ عن بسمة لطيفة : أوه إنه كاتبي المفضل أيضاً .. بالطبع توجد كل رواياته هنا.
قادت أنجريد فوزي الى ركن أخر في المكتبة وتوقفت أمام أحد الرفوف .
سألت : عن أي رواية تبحث ؟
قال فوزي : لست أبحث عن رواية معينة . وانأ في الحقيقة قرأت كل رواياته .. كل شئ هادئ في الجبهة الغربية . وقوس النصر ، وليلة في لشبونه ، ووقت للحب ووقت للموت، وطريق العودة ، والرفاق الثلاثة ، والمسلة السوداء ، وومضة الحياة ، والدائرة الكاملة ، وشاشان في الجنة ، وليس في السماء أفضليات ...
قاطعته أنجريد في انبهار : هذا عظيم .. أنت تعرف كل رواياته فعلاً .
قال فوزي : لكنني أحب إعادة قراءتها وسأكون مسروراً لو وجدت هنا رواية ( وقت للحب ووقت للموت ) فهي من أحب رواياته الى نفسي .
عكفت أنجريد على الرفوف تفتش بين الكتب ثم انتزعت كتاباً وقالت : تعال نجلس هنا يا سيد فوزي لنتحدث عن رمارك . فأنا يعجبني الحديث عنه كثيراً .
وجلسا إلى منضدة مجاورة . قالت أنجريد باسمة : هل تسمح لي يا سيد فوزي أن أسألك لماذا تعد رمارك كاتبك المفضل ؟
قال فوزي : في الحقيقة يا آنسة أنجريد إنه ليس كاتبي المفضل الوحيد . لكنه من بين كتابي المفضلين . فهناك قائمة طويلة من الكتّاب الروائيين المفضلين لديّ من مختلف البلدان الغربية كلاسيكيين ومعاصرين وعلى رأسهم تشيخوف .
قال أنجريد وهي تهز رأسها : أنا أحب تشيخوف كثيراً .
قال فوزي : وأنا أميل على نحو خاص الى الكتاب الكلاسيكيين الروس أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتورغنيف وغوركي ، لكنني أعجب أيضا بعدد كبير من الكتاب الغربيين أمثال فلوبير وموبسان وستاندال وبروست من الفرنسيين وفولكنر وهمنغواي وشتاينبك وكالدويل من الأمريكيين وهاردي وديكنز وموم ووايلد من الانجليز .
قاطعته أنجريد وهي تضحك : إن قائمة كتابك المفضلين طويلة يا سيد فوزي . وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على اطلاعك الواسع على الأدب الغربي . أما أنا فلا يسعني أن أزعم أن لي نفس هذا الاطلاع على آداب الأمم الأخرى . ولكن هل تسمح لي أن أعود الى سؤالي مرة أخرى فأقول ما الذي يعجبك في أدب رمارك ؟
قال فوزي : هناك جوانب كثيرة يا آنسة أنجريد تجذبني في أدب رمارك . فمن الناحية الفنية أفضله على الروائيين الألمان قاطبة حتى على الروائي الكبير توماس مان . ففي أسلوبه رقة وحلاوة قلما تتمثل لدى كاتب ألماني أخر . وواقعيته من نوع مذهل حتى في أعقد أشكالها وأبعدها عن مجريات الحياة اليومية المألوفة . وشخصياته واضحة الملامح تتشبث بالذهن لمدة طويلة ، لكن مزاياه الفنية هذه ليست وحدها المسؤولة عن إعجابي الشديد بأدبه . بل لأن أدبه يصور أكثر من أي روائي آخر عيوب الأنظمة الدكتاتورية الشمولية .
قالت أنجريد وهي تهز رأسها : هذا صحيح فرواياته تتميز تميزاً خاصاً بتصوير الحياة في عهد الدكتاتورية في بلادنا . وقد صور ذلك العهد تصويراً ممتازاً . وطبعاً نحن الشباب لم نعايش مثل ذلك العهد ولذلك يبدو لنا الكلام عنه أقرب الى الخيال . وأنا شخصياً لا يمكنني أن أستوعب كيف كان بوسع الناس ان يمارسوا حياتهم في ظل ذلك النظام . ولا أكاد أصدق ما أقرأه .
قال فوزي : صدّقي يا آنسة أنجريد . فنحن نعيش في بلداننا في ظل أنظمة أشد بطشاً .
قالت أنجريد باستنكار : أيمكن أن تكون هنا أنظمة أشد بطشاً ؟!
قال فوزي : نعم يا آنسة أنجريد . فمعظم الأنظمة التي تسود في بلداننا الشرقية هي من هذا النوع . وصحيح أن الأنظمة الدكتاتورية متشابهة في خصائصها في العالم أجمع لكن الدكتاتورية الشرقية تبقى متميزة في خصائصها عن الدكتاتورية الغربية بتطرفها . ففي ظل الدكتاتورية الشرقية ينفرد شخص واحد في التصرف بحياة الناس وليس الحزب أو الأجهزة الحكومية التي لا تملك سوى سلطة شكلية . وفي وسع هذا الدكتاتور أن يميت أبناء شعبه أو يحييهم ، يسجنهم أو يعفو عنهم ، يسعدهم أو يشقيهم دون التقيد بأي ضابط أو قانون . إنه ينوب عن الإله في التصرف بأقدار شعبه . ولعلك تعلمين يا آنسة أنجريد أن حكّام الشرق القدماء كانوا يزعمون أنهم آلهة أو من نسل الآلهة . ونحن ندفع اليوم ضريبة هذا الإرث .
قالت أنجريد وقد تعكر وجهها : هذا فظيع . كيف يستطيع الناس أن يواصلوا الحياة في ظل هذه الأنظمة ؟!
قال فوزي : ولذلك ترينهم يفرون من بلدانهم ويبحثون عن وطن جديد يؤويهم ويعيد إليهم إنسانيتهم.
قالت أنجريد : ولكن من المؤكد أن ذلك يحزنهم كثيراً خصوصاً وأنكم الشرقيون ملتصقون بعوائلكم . وقد لاحظت أن وجوه الكثيرين ممن يتواجدون في هذا المعسكر تنطق بالكآبة.. من المؤكد أنهم ليسوا سعداء .
قال فوزي بنبرة حزينة : هذا صحيح جداً يا آنسة أنجريد . فالمهاجر يظل معذبا ويرمضه الحنين إلى وطنه أبداً. وهذه هي ضريبة الدكتاتورية على شباب بلداننا الشرقية يا آنسة أنجريد . ومن يرفض قبول هذه الأنظمة أمامه ثلاث خيارات . إما السجن وإما التشرد وإما فقدان إنسانيته .
قالت أنجريد ووجهها الجميل يشتد تعكراً : هذا أمر فظيع حقاً .
قال فوزي : ولذلك سمُيّت بلداننا ببلدان العالم الثالث يا آنسة أنجريد .
وصمتا . قالت أنجريد أخيراً وهي تنهض : من المؤكد أنني استمتعت بالحوار معك يا سيد فوزي وأرجو أن يتواصل حوارنا.
قال فوزي : شكراً لكِ .
وكان ليل
أنجريد ... أنجريد ... يا لابتسامتك الحلوة ! نفس ابتسامة فريال المتميزة .. نفس العينين البنيتين الضاحكتين .. نفس البشرة العاجية .. نفس اللفتات الرشيقة .. بل حتى نفس الصوت الدافئ . لو تعلمين يا أنجريد كم تذكرينني بفريال .. ذلك الجرح العميق الراقد في أعماق قلبي . لقد أيقظته من جديد يا أنجريد . ولكن رفقاً بي يا أنجريد فأنا لا أحتمل ان ينزف هذا الجرح من جديد .. ويا لغرابة المصادفات ! لقد جمعتنا اليوم المكتبة يا أنجريد كما جمعتنا المكتبة من قبل أنا وفريال . وكانت أحب ساعات يومنا هي تلك التي تضمنا فيها المكتبة . وستكون أحب ساعات نهاري هذا اليوم هي التي سأمضيها في المكتبة .
واعترف أنني لم أكن في البدء محباً للقراءة مثلك يا فريال . لم أكن أقرأ سوى كتب معينة. فقد كانت السياسة تشغل كل وقتي . ولم أكن أتردد على المكتبة إلا لأبحث عن مرجع يوصينا به أحد أساتذتنا . وكم اعتراني الأسف لذلك . فلو كنت عاشقاً للمكتبة مثلك لعرفتك في وقت مبكر ، ربما منذ السنة الأولى ولما تأخرت معرفتي بك حتى السنة الرابعة . ولو لم تلعب المصادفة دورها ما عرف أحدنا الأخر يا فريال . وقد آمنت منذ اليوم بدور المصادفة في حياة الإنسان . فلو لم تكوني تبحثين ذلك الصباح عن كتاب في رف من رفوف المكتبة وكنت أنا أبحث عن كتاب في الرف المجاور .. ولو لم تسحبي أحد الكتب فتتساقط الكتب المستندة إليه فوق رأسي فتعتذرين إلىّ في أسف .. ولو لم تفتر شفتاك عن تلك الابتسامة المتميزة التي لا تقاوم .. لو لم يحدث كل ذلك ما عرف أحدنا الآخر يا فريال . وتمت حلقة المصادفة حين عدنا إلى مقعدينا فإذا بنا نجلس حول نفس المنضدة . ورفعت أنظاري إلى وجهك فأفترت شفتاك عن ابتسامتك الفاتنة وانبسط نتوء الشفة العليا في سحر بالغ !
وفي الأيام التالية عرفت كل شئ عنك . أو على الأصح ما يهمني من أمرك . عرفت أنك في السنة الرابعة في قسم اللغة الإنجليزية . وعرفت أنك تتخيرين نفس المنضدة ونفس المقعد . ومنذ ذلك اليوم أصبحت من هواة المكتبة وصارت منضدتك والمقعد المقابل لك موضعي المفضل . وكم اقتضتني ملازمتي للمكتبة من سخرية لاذعة . أخذ زملائي يطلقون علي لقب (الجاحظ ) بل لم يعودوا ينادونني إلا بهذا اللقب . وكنا نجتمع يومياً في نادي الكلية فهو ملتقانا المفضل . بل إننا كنا نهرب إلى النادي من المحاضرات التي نستثقل دم أساتذتها . فكففت عن زيارة النادي واستبدلت المكتبة به . وكان ذلك مصدر احتجاج وعتاب دائميين من رفاقي المقربين .
ويجب أن اعترف لك يا فريال أنني مدين لك بحب الأدب .. هذا حق . فلولاك ما بت مشغوفاً بالأدب هذا الشغف . ولولا مناقشاتنا المسهبة ما تكونت لدي هذه الثقافة العالية في الأدب الغربي . وحين كان رفاقي يسألونني في عجب عن سر المحادثات الطويلة بيننا فأجيبهم إننا نتحدث عن الأدب كانوا يضحكون مني . بل إن عدداً منهم تطوع للتجسس علينا. ودأبوا على زيارة المكتبة والجلوس إلى منضدتنا متظاهرين بالانكباب على كتبهم وهم غير قادرين على كتم ضحكهم . والحق معهم يا فريال . فمن بوسعه أن يصدق إننا لم نتبادل كلمة واحدة خارج الأدب إلى أخر يوم من عامنا الدراسي ؟! وفي عصر ذلك اليوم وجدتني أقول لك فجأة : ماذا سيكون مصيرنا يا فريال والمكتبة ستغلق أبوابها غداً ؟
_ لا ادري يا فوزي ، ولم أواجه نفسي بمثل هذا السؤال .
_ أنت تعلمين إنني لا يمكن ان يقر لي قرار ما لم أرك كل يوم يا فريال.
-وانأ كذلك يا فوزي . ويبدو أننا لن يقر لنا قرار منذ الغد .
- أتعنين إننا لن نستطيع أن نلتقي يا فريال؟
- لا أظن أن بإمكاننا ذلك يا فوزي .
_ ولكننا لن نعدم وسيلة للقاء يا فريال .
_ أنا من أسرة محافظة يا فوزي ، وقد تربيت على احترام مشاعر أسرتي وقيمها . وأنت تعرف نظرة الأهل إلى مثل هذه الأمور ، وأنا لا أنوي أن اكذب على أهلي لأنني لو فعلت لاحتقرت نفسي .
_ وهل معنى ذلك أننا لن نرى بعضنا بعضاً بعد اليوم يا فريال ؟
_ أنا فكرت بذلك يا فوزي ووجدت طريقة يمكن أن تعوّض لنا بعض الشئ عن هذا الفراق، وهو ان نتبادل الأحاديث عبر التلفون .
_ الرأي رأيك يا فريال ، المهم ألا أحرم من صوتك الحبيب .
_ موعدنا إذن الساعة العاشرة من كل مساء .
وصارت أجمل ساعات يومي يا فريال هي الساعة العاشرة مساء . كنت أرابط بجوار التلفون منذ الساعة التاسعة ، وكلما رن هجمت عليه وقلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي . وواصلنا حوارنا في الأدب حتى حل اليوم الذي تحدثنا فيه في غير الأدب .
_ أريد أن أصارحك بشئ يا فوزي لم أعد أطيق كتمانه .
فلعلك تتصور أنني باردة العواطف أو أنني لا اضمر لك من الحب ما تضمره لي .
_ لم يخطر لي ذلك على بال يا فريال . وأنت لست ملزمة بان تصارحيني بأي شئ .
_ لا . لا يا فوزي ، لابد لي أن أصارحك لتفهم موقفي على حقيقته . فأنا كنت متحفظة في التعبير عن عواطفي نحوك لئلا أثير في قلبك أملاً بأن تنتهي علاقتنا بالنهاية الطبيعية وهي الزواج .
_ وتلك هي غاية مناي يا فريال .
_ وهي غاية مناي أيضا يا فوزي ، لكن أمام هذه الغاية عقبة كأداء لابد من تذليلها ، وقد عاهدت نفسي أن أذللها قبل أن أكاشفك بالحقيقة .
_ وما تلك العقبة يا فريال ؟ أنت جعلت الدم يفر من قلبي . أرجوك أخبريني بها .
_ إذن فأعلم أن هناك شبه خطبة بيني وبين ابن عمي بهاء ونحن أطفال .
_ وهل هذا الأمر معقول يا فريال ؟ هل يمكن أن تكون مثل هذه الخطبة ملزمة لك ؟! هل يمكن لأهلك أو لأهل بها ء أن يجبروا شابه متعلمة مثلك على الالتزام بمثل هذه الخطبة؟
_ أنا لم أقل أن أهلي حاولوا إجباري يوماً على الارتباط بابن عمي . وهم في الحقيقة يحترمون خصوصياتي ولا يفرضون عليّ أوامر تتنافي ورغباتي . . ولم يطرق هذا الموضوع بصورة رسمية لا من قبل أهل بهاء ولا من قبل أهلي . وحتى بهاء نفسه لم يدعّ يوماً انني خطيبته . فهو شاب جامعي مثقف ولا يمكن ان يعتقد أن مثل هذه الخطبة ملزمة لأيّ منا . لكنني متأكدة أنه راغب في الزواج مني. ولذلك لا أود أن أجرح مشاعره وأفاجئه بحبنا . وقد بدأت في تنفيذ خطة لضمان موافقته على إلغاء هذا الارتباط لكن هذه الخطة ستستغرق بعض الوقت.
_ وأنا مستعد لانتظار ثمارها مهما استغرقت من وقت يا فريال .
ودأبت على إبلاغي بمجريات الخطة أولا بأول يا فريال ، لكن سيرها كان بطيئاً . ولعل مردّ ذلك إلى انشغالك بعملك الجديد في المدرسة . ومن حسن حظي أنك عينت في ثانوية الأعظمية للبنات وعينت أنا في ثانوية الأعظمية للبنين المجاورة فأتاح لنا ذلك أن نرتب أوقاتنا وان نتبادل التحيات والبسمات من بعيد وقت خروجنا من المدرسة .
ثم أبلغتني ذات ليلة انك صارحت بهاء بحبنا فأصابه ذلك بكدر شديد لكنه قبله بتجلد وحسن تفهم . وتبادلنا لأول مرة القبلات عبر التلفون . وتراءت لنا تلك الليلة فاتحة مستقبلنا السعيد . وهل كان بمقدورنا أن نتخيل ما يخبئه لنا القدر الغادر يا فريال ؟ فبعد ساعة من حوارنا المفعم بالآمال والأحلام القي القبض علي وزججت في غياهب الاعتقال . وكم عذبني الشوق إليك يا فريال . كم عذبني ! كان ما ألقاه من آلام التعذيب الجسدي في كفة واشتياقي لرؤيتك ولسماع صوتك في كفة أخرى. وكنت أظل مفتوح العينين كل ليلة أحدق في سقف زنزانتي حتى ينبلج الفجر . فإذا هوّم النوم على عيني ضج سمعي برنين التلفون فهببت مذعوراً .
ثم فوجئت بالحارس ذات صباح يقتادني خارج زنزانتي ، وعجبت لذلك. فالتحقيق أو بالأحرى التعذيب لا يجري عادة إلا بعد منتصف الليل . ومثلت أمام المسؤول فقال لي : "لديك زائر" ونهض خارجاً وإذا بك تهلين عليّ . كانت مفاجأة كادت تطيح بعقلي . كان آخر شئ يمكن أن أحلم به هو أن أراك ماثلة أمامي . ولبثنا صامتين لدقائق يلتهم أحدنا وجه الأخر ونحن معقودي اللسان .
ولأول مرة اكتشفت فيك شخصية غير التي أعرفها ! كان صوتك متهدجاً ونتوء شفتك العليا يتحرك في اضطراب شديد وعيناك لا تستقران على قرار . أهذه هي فريال حقاً ؟! فريال الواثقة من نفسها أبداً ؟ غير أنني لم أكن أحسن حالاً منك يا فريال . كان كلامي أقرب إلى الهذيان . وصدقيني يا فريال .. لست أتذكر ما قلت لك بالضبط في تلك المقابلة . وحينما حانت لحظة الفراق .. يا للدمعتين الكبيرتين اللتين انحدرتا من عينيك وأنت تلقين عليّ تحية الوداع.. لقد شعرت كأن نصلاً حاداً يغمد في قلبي وأنا أراقب انسيابهما على خديك !
وأحيت تلك المقابلة الأمل في قلبي يا فريال بما حملته إليّ من أنباء متفائلة . وترقبت بلهفة ثمار مساعي بهاء لدى معارفه من ذوي النفوذ لإطلاق سراحي . لكن ذلك الأمل لم يكن سوى سراب . فلم تنقض سوى أسابيع على مقابلتنا حتى نقلت إلى سجني الصحراوي النائي في نقرة السلمان .
ورضخت للأمر الواقع يا فريال فلم يكن السجن بعيداً عن ذهني في يوم من الأيام . لقد وضعته نصب عيني منذ انخرطت في العمل السياسي . ولولا انه بدّد آمالي في تحقيق حلمنا ما شعرت بتلك المرارة . وكان مما خفّف من مرارتي رسائلك التي توالت عليّ بانتظام في الأشهر الأولى . وكم وجدت في تلك الرسائل من عزاء وسلوى ! كنت أتلوها مرارا وتكرارا. وكان لابد لي أن انتبذ زاوية منعزلة من باحة السجن لئلا يصرفني عنها شئ . وواصلنا حوارنا الأدبي . وتوالت عليّ الكتب التي كنت ترسلينها بانتظام . ثم أخذت رسائلك تتباعد في مواقيتها حتى انقطعت كلياً . وليتك تعلمين يا فريال كم كلفني انقطاعها من عذاب وحزن ! كانت تجتاحني قبيل ميقات توزيع الرسائل لهفة طاغية . ثم تستحيل تلك اللهفة الى حزن موّار ، وكان حالي يثير شفقة العريف خلف موزع الرسائل فيربّت على كتفي في حنو مردداً : " الصبر بالله يا فوزي" .ثم اعتدت ان ابتلع إحزاني وأعنو للأمر الواقع إلى أن دهمني ذلك اليوم الأسود. . يوم أخبرتني فوزية انك تزوجت من بهاء . كانت ضربة قاصمة عجزت عن احتوائها وان لم تكن مفاجئة لي . فقد كانت تلم بي في أحلامي دوماً على شكل كوابيس مفزعة . وهل كان ممكنا أن تربطي مصيرك يا فريال بمصير شخص لا يعلم إلا الله كم سيتلبث في السجن ؟! وكان من الطبيعي أن تكافئي بهاء على شهامته فتلتزمي بارتباطك القديم . ويا لأحزان تلك الأيام المجنونة يا فريال ! لقد ترسبت مرارتها في أعماقي حتى العظم ! وتراءى لي أن مسرات الدنيا كلها عاجزة عن إذابتها . ولم يكن يلم بي النوم سوى ساعات معدودات في اليوم . وبات الحزن رفيقي الدائم . تصوري يا فريال أن حالي تلك أثارت شفقة حتى المأمور مجيد الذي كان يكرهنا كراهية الموت! لكن الزمن كفيل بشفاء الجروح يا فريال وان يكن عاجزاً عن اقتلاع جذور الحزن من الروح . وستظل صورتك مطبوعة على شفاف قلبي لا يمحوها كرّ السنين والأعوام .



وكان نهار
اقبل سامان على فوزي وهو يطوف الحديقة وقال ضاحكاً : موعد الرياضة الصباحية ؟
أجاب فوزي : وهو موعد لابد من احترامه ، وقد تعلمت احترامه في السجن يوم لم يكن لي من فسحة سوى ساحة ضيقة ، فما بالك بهذا الحديقة الغناء ؟
قال سامان : ليت الزملاء يلتزمون مثلك بهذه الرياضة ، فمن المتفق عليه أنها أفضل أنواع الرياضات .
قال فوزي : وما الذي يمنعهم ؟ أليس ذلك أفضل من قضاء الوقت في "قاعة الثرثرة" او في الكافتريا ؟
قال سامان : للأسف استسلم الغالبية منهم للكسل فهم لا يمارسون سوى رياضة الثرثرة !!
قال فوزي : هذا أمر مؤسف .
قال سامان : أحببت أن أخبرك ان الرفاق اتفقوا على الاجتماع في قاعة الثرثرة للتداول في امر هذا الاحتجاز الذي طال أمده بالنسبة للكثيرين ، هل ستحضر ؟
قال فوزي : بالطبع سأحضر وإن لم أكن قد أمضيت في الكامب ما يجيز لي الاحتجاج.
قال سامان : المفروض ان يحضر الاجتماع زميلك عباس الرضا فهو من المحتجزين القدامى ولكنه يرفض ذلك .
قال فوزي : في الحقيقة ان أمره يحيرني يا أخ سامان . لقد سمعته مرة يبكي في نومه بكاءً محرقاً . لابد انه يطوي في صدره قصة أليمة .
قال سامان : ومن الذي يخلو في هذا الكامب من قصة أليمة يا أخ فوزي ؟ لكن ذلك لا يعني مقاطعة الآخرين .
قال فوزي وهو يهز رأسه : إن أمره يحيرني فعلاً يا أخ سامان ، كلما حاولت الاقتراب منه اشتد ابتعاداً عني .إنه يرفض أن يتبادل معي أي حديث سوى التحيات المألوفة وأنا زميله في الغرفة ومن بلده .
قال سامان : مع أن المفروض أن تنشأ بينكما صداقة حميمة .
قال فوزي : هذا ما كنت أتوقعه . ويبدو أنه مر بتجربة أليمة أسلمته إلى هذا التقوقع .
قال سامان : على كل حال أنا شخصياً يصعب علي فهمه . فأنا أعتقد أن التجارب الأليمة تجعل الشخص أكثر انفتاحاً والتصاقا بالآخرين .
قال فوزي ضاحكا : فهل أفهم من ذلك انك مررت بتجربة أليمة جداً يا أخ سامان بحيث جعلتك " داينمو " الكامب ؟ فأنت كما يبدو لي أكثر ضيوف الكامب التصاقاً بالآخرين .
قال سامان وهو يهز رأسه : لو تعلم أي تجربة أليمة مررت بها يا أخ فوزي ، لكنني لا أريد أن أثقل على الآخرين بأحزاني . ويكفيك ان تعلم أنني فقدت كل أهلي في تلك التجربة .
تساءل فوزي مرتاعا: وكيف حدث ذلك يا أخ سامان !! كيف حدث ذلك ؟
قال سامان وقد علا الحزن وجهه : إنها قصة حزينة يا أخ فوزي وأنا أحاول تجنب روايتها للآخرين فيكفيهم ما لديهم من أحزان ، وما دمت راغباً في سماعها فلا مانع عندي . والحقيقة أنني لم أشهد وقائعها بنفسي ولكن منذ رويت لي انطبعت في ذاكرتي بحروف من نار وكأنني شهدنها بالفعل . وكنت قد عدت أنا واثنان من زملائي إلى قريتنا القابعة في حضن جبل عال من جبال طوروس في أعقاب معركة ضارية كبدّنا فيها جيش السلطة الغاشمة خسائر فادحة ، ويا لهول ما شهدنه عيوننا ! كانت قريتنا قد استحالت إلى أنقاض وأتت النيران على كل بيت فيها . لم يتبق منها سوى جامعها الصغير . ورحنا نتجول بين أنقاض البيوت ونحن ذاهلين وكأننا نعاني من كابوس مروع ، ولم يكن هناك أثر لإنسان . أين ذهب أهلونا ؟! ماذا جرى لهم ؟!
ثم سمعنا نحيباً ينطلق من جهة الجامع . وبرز لنا على بابه الحاج مامو إمام الجامع فهرعنا إليه كالمجانين وأمطرناه بأسئلتنا الوجلة . لكن نحيبه كان يتعالى وهو يتمتم ذاهلاً : " راح كل شئ يا أولادي .. راح كل شئ .. كل شئ " .
وكان قد فقد لحيته البيضاء وبدا أمردا .ً وأخيراً هدأ روعه فروى لنا قصة المذبحة التي أرتكبها جنود السلطة في قريتنا انتقاما من جيش التحرير . وقال ان ثلة من الجند اجتاحوا القرية أول أمس فتراكض الأهالي نساء وأطفالا وشيوخاً واعتصموا بالجامع . فاقتحم الجند الجامع وأخرجوهم عنوة ، ثم صفوهم في حلقة واسعة في ساحة القرية وعويل النساء وصراخ الأطفال وتوسلات الشيوخ يتصاعد إلى عنان السماء . وبدؤا به فنتفوا لحيته عن آخرها . ثم أطلقوا رشاشاتهم وحصدوا الجميع حصدا . ثم أضرموا النيران في بيوت القرية . وأبقوا على حياة الحاج مامو لكي يبلغ شباب القرية أن هذه هي عاقبة التمرد على السلطة . وهكذا فقدت كل أهلي في تلك المذبحة .
وسكت سامان وقد غام وجهه وأطل الحزن من عينيه . فقال فوزي في آلم عميق : ما أفظع تجربتك يا أخ سامان وما أبعد مظهرك عن هذه التجربة الأليمة . فمن يراقب حيويتك الدائمة واهتمامك بالآخرين يتوهم انك خلي البال .
فقال سامان : أنت أيضا يا أخ فوزي من يرى وجهك الباسم لا يتصور انك كابدت معاناة في حياتك.ثم أن معاناتنا هي جزء من معاناة شعوبنا ،و لابد من مواصلة التزاماتنا تجاه شعوبنا مهما لقينا من كوارث .
والآن دعنا من حديث الإحزان واعلم ان الاجتماع سيعقد في الساعة الرابعة .
وكان نهار
في الساعة الرابعة عصراً ازدحمت قاعة الثرثرة بالحضور . وافتتح سامان الجلسة قائلاً : تعلمون يا إخوان أن كل واحد منا لجأ إلى هذا البلد ليضمن لنفسه ما تتطلبه كرامته الإنسانية .و قد هربنا من أنظمة متعسفة تصادر حقوقنا الإنسانية وإذا بنا نعاني هنا من نفس المشكلة وهي مصادرة حرياتنا . وقد مكث البعض منا شهوراً عديدة في هذا الكامب من دون أن نمنح حق اللجوء . وهو إجراء تعسفي ضدنا لابد من الاحتجاج عليه .
قال احدهم : لقد انتقلنا من سجون كبيرة إلى سجن صغير .
وقال آخر : نحن نعامل معاملة السجناء ويجب ألا نسكت على ذلك .
قال زياد الشيخ : لا تنسوا يا زملاء أنهم ليسوا ملزمين بقبولنا .
قال آخر : إنهم ملزمون بقبولنا أدبياً فقد تعهدوا بمثل هذه الالتزامات أمام العالم .
قال زياد الشيخ : وما أهمية الالتزام الأدبي ؟! إذا كانت بلداننا نفسها قد لفظتنا ونحن مواطنون لدينا حق المواطنة . فكيف نلوم بلداً أجنبيا ؟
قال آخر : وهل يمكن مقارنة الدول التي تحترم حقوق الإنسان بأنظمة دولنا التي لا تلتزم بأبسط حقوق الإنسان ؟ المفروض ان يختلف الحال هنا عما هو في بلداننا.
قال آخر : يظهر أننا كنا مغشوشين بنظام هذا البلد .
وقال آخر : يبدو أن المعاناة مكتوبة علينا أينما ذهبنا . فمنذ شهور و نحن معلقون بين الحياة والموت لا نعرف مصيرنا ، لقد خاست أعصابنا من القلق .
وقال آخر : أعترف لكم يا إخوان أنني ندمت على ما فعلت ويا ليتني لم أمزق جوازي .. وكم أشتاق إلى أهلي .. كم أشتاق إلى سهراتنا ليلة الجمعة .. كم أشتاق إلى كل شئ في بلدي .
وقال آخر : أنا مشتاق إلى المآكل التي تطبخها أمي ، وقد سئمت البطاطس المهروسة والصوصج .
وقال آخر : وأنا يكاد يقتلني الحنين إلى بستاننا . كم قضيت فيه من أوقات ممتعة لم أكن أقدرها حق قدرها .
وقال آخر : كان يوماً أسود يوم صدقت ما قيل لي وتورطت هذه الورطة . وما كان أغباني حين تصورت أن أنظمة هذه البلدان تحترم الإنسان فعلاً وإذا بها لا تختلف عن أنظمة بلداننا . وما أشد احتقارهم لنا وعداءهم تجاهنا .
قال سامان : أيها الزملاء . صحيح أننا جميعاً قد سحقتنا الغربة وخيبة الأمل ولكن ينبغي ألا نحمّل نظام هذا البلد ما يقع علينا من إجحاف . ولعل هذا التصرف تجاهنا صادر من قطاع معين ولا يمثل سياسة البلد العامة . ثم ما يدرينا بأن السلطات المسؤولة تعلم بما يجري لنا؟
تساءل أحدهم : وما الحل إذن ؟
قال سامان : لابد لنا أن نقوم بإجراء يلفت أنظار المهتمين بحقوق الإنسان إلينا حتى ينتبه المسؤولون إلى وضعنا .
تساءل أحدهم : وما نوع هذا الإجراء ؟!
قال سامان : الإضراب عن الطعام مثلا .
قال أحدهم بلهجة مازحة : أنا لا أصبر على الجوع .
وقال آخر ضاحكاً : وهل يشمل الإضراب عن الطعام الامتناع عن شرب البيرة ؟ فانا لا اصبر على ذلك يوماً كاملا .
قال زياد الشيخ : أيها الزملاء . لا تنسوا أن هذا الإجراء قد يحمل إدارة الكامب على طردنا جميعاً .
قال أحدهم : وماذا سنخسر ؟ ألسنا مسجونين هنا ؟
قال زياد الشيخ : نخسر كثيراً .
قال أحدهم : لن نخسر شيئاً فما هو سوى سجن .
قال زياد الشيخ بلهجة جادة فيها رنة سخرية : عن أي سجن تتحدثون ؟
قال أحدهم : الحق معك يا أخ زياد . فصحيح أننا لا نستمتع بحريتنا كاملة في هذا المكان غير أننا نعامل كبشر على الأقل .
وقال آخر : ولا يهددنا سيف الرعب المصلت على رؤوسنا أربعاً وعشرين ساعة في اليوم .
قال زياد الشيخ بلهجة ساخرة : المهم أننا لا نزال عاي





شين يا أخوان .
قال سامان : ولكن لا تنسوا أيها الزملاء أننا ما تخلينا عن هويتنا لكي ننتقل من سجوننا في بلداننا الى سجن آخر هنا .
قال زياد الشيخ : يا أخ سامان . . لا تبالغ . ويجب ان نكون منصفين فلا يمكننا أن نطلق على هذا المكان اسم " سجن " هل نسيتم كيف هي حال السجون في بلداننا ؟ هل تريدون ان أذكركم كيف تمتهن فيها الكرامة الإنسانية ؟! ثم أن وضعنا في هذا الكامب هو وضع " الموقوفين" في انتظار البت في قضاياهم . فهل نسيتم أحوال سجون " المواقف " في بلداننا؟!
قال أحدهم : سجون " المواقف" في بلدي أسوا بكثير من السجون نفسها ويعامل فيها " الموقوفون " معاملة المجرمين الذين أدانتهم المحاكم .
قال زياد الشيخ : على كل حال إن لم يكن بعضكم قد جرب سجون "المواقف" في بلده وليس لديه فكرة واضحة عنها فانا قضيت سنين من عمري أتنقل بين هذه " المواقف " . كانت بعض غرف "المواقف " أقرب إلى الأقفاص . وكنا في أيام الصيف المحرقة يكاد يغمي علينا من قسوة الحر. بل كان يغمي على البعض منا فعلاً . تخيلوا غرفة ضيقة تتجاوز حرارتها الأربعين مئوي مكدسة بالبشر . وكانت القذارة متناهية والطعام غير لائق حتى بالحيوانات0 فما وجه المقارنة بين هذا " المواقف " الذي نعيش فيه وسجون " المواقف " في بلداننا ؟!
قال أحدهم : وماذا عن معاملة هنريك لنا ؟ أنه يعاملنا كأسرى حرب .
قال زياد الشيخ : وماذا تعنينا معاملة هنريك ؟ ثم ماذا نتوقع من شخص مثله يعتبرنا محجوزين بسبب مخالفتنا لقوانين بلاده ؟
قال أحدهم : أنها معاملة تخدش كرامتنا .
قال زياد الشيخ متهكما : وهل نسيتم كيف كان يعاملنا حكامنا ؟! أي واحد منكم يمكنه أن يزعم بأن حاكم بلاده يعامل أبناء شعبه أفضل من معاملة الأسرى ؟
قال أحدهم : لسنا مستعدين لأي عمل انتقامي ، كفانا ما نلناه من انتقام حكامنا .
وقال آخر : علينا بالتعقل فعلاً .
قال زياد الشيخ : إذن فلنبحث عن إجراء آخر ، وأنا اقترح ان نقدم لهنريك التماساً ونرجوه ان يرفعه إلى السلطات المختصة للتعجيل في البت في أمرنا .
قال سامان : على ان ينطوي هذا الالتماس على احتجاج على وضعنا .
قال أحدهم : نعم لابد من الاحتجاج .
قال آخر : هذا اقتراح معقول .
وقال آخر : معقول جداً .
قال زياد الشيخ : كما تشاؤون . وإن كنت أعتقد أن الاحتجاج لن ينفعنا وقد يّضرنا .
قال سامان : هل انتم موافقون على هذا الاقتراح أيها الزملاء ؟
ورفع غالبية الحاضرين أيديهم . وكلف سامان وزياد الشيخ وفوزي السعيد بإعداد هذا الالتماس . وانفض الاجتماع .

وكان نهار
اجتمع سامان وفوزي وزياد الشيخ في الكافتريا ليتداولوا في كتابة " الالتماس " . كان ثمة بضعة أنفار يتوزعون حول الموائد . وكان عباس الرضا ينتبذ مائدة لوحده يكرع أقداح البيرة . هتف زياد الشيخ : قهوة يا كارل .
وأحضر كارل ثلاثة فناجين قهوة . قال مبتسماً : أهلا بك يا صديقي زياد في الكافتريا . هذه فرصة طيبة ان نراك هنا.
قال زياد الشيخ ضاحكاً : أنت تعلم يا كارل أن مقري الدائم هو في قاعة الثرثرة . هناك أستطيع أن أثرثر على هواي فلا أزعج الغارقين في أحلامهم من شاربي البيرة . ولا تعجب من وجودي هنا فانا في عمل رسمي مع الزميلين سامان وفوزي . سنصوغ التماساً نقدمه إلى هنريك باسم المحتجزين لرفعه إلى السلطات المسؤولة لحل قضيتنا .
قال كارل بلهجة ساخرة : نعم سمعت أنكم قررتم ذلك . ولكن هل تتصورون حقاً ان هنريك سيرفع التماسكم إلى السلطات المسؤولة ؟
قال زياد الشيخ : المفروض أن يرفعه يا كارل فذلك جزء من وظيفته كمدير للكامب .
قال كارل بلهجة متهكمة : كأنكم لا تعرفون أية عقلية يحمل هنريك ! أفلا تدركون أنه من غلاة المتعصبين وانه يرفض أصلاً وجودكم على أرض هذه البلاد ؟
قال فوزي : وكيف ذلك ؟! أليس من المفروض أن يقدس أبناء هذه البلاد المتحضرة حقوق الإنسان ؟
ضحك كارل ضحكة ساخرة وقال : وهل تتصورون أن جميع الناس هنا يعنون بهذه القضية ؟ إن الكثيرين منهم ليود أن يمزقكم بأسنانه . فما انتم في نظره سوى ديدان حقيرة جئتم من بلاد متخلفة وتريدون مشاركته في خيرات بلاده . لكنني لا أنكر ان هناك بيننا من يتحمس لحقوق الإنسان وللمساواة البشرية . ولكن عليكم ألا تنخدعوا وتتصوروا أن أمثال هؤلاء الناس يمثلون الأغلبية .
قال فوزي : ولكن أليست حكومتكم ملتزمة أمام العالم بالدفاع عن حقوق الإنسان وعن المضطهدين في العالم ؟ ونحن هاربون من بلاد تتنكر لحقوق الإنسان .
قال كارل : حكومتنا ملتزمة بالدفاع عن حقوق الإنسان بالقدر الذي يحقق مصالحها ضمن الارتباطات العالمية . هذا هو حال الحكومات الغربية بلا استثناء . إنها سياسة يا صديقي فوزي وليست عقيدة . يجب أن تدركوا ذلك ولا تنخدعوا . أليس وجودكم في هذا "المعسكر" هذه الشهور الطويلة دليلاً على ذلك ؟ !
قال زياد الشيخ وهو يضحك : أنت تبالغ في آرائك يا كارل وأنت متطرف في ذلك .
قال كارل : أنت تتهمني بالتطرف دائما يا صديقي زياد ، لكنني أؤكد لك أنني لا أقول سوى الحقيقة . وحينما يتم لكم القبول في هذه البلاد والعيش ضمن هذا المجتمع سترى أن الناس يرفضون الغرباء الشرقيين رفضاً كاملاً ويحتقرونهم بل ولن يتيحوا لهم فرصة العمل الجيد . وستتذكرون أنني كنت أقول أقل من الحقيقة عن عيوب هذا المجتمع الذي تصنف طبقاته حسب نوع السيارة التي يمتلكها الفرد . وإن غالبية أناسه لا يهتمون بالسياسة بل ولا يفهمون فيها . وكل ما يهمهم هو العمل وكرع البيرة في المساء . إنه مجتمع الأقوياء وذوي النفوذ يا صديقي زياد . وإن الغالبية الساحقة من رجال السياسة الذين يتشدقون بحب العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان ما هم سوى طلاب سلطة ونفوذ ولا يشترون الإنسان بقلامة ظفر . وهم لا يحبون الشرقيين وإنما هي مصالح . وأعتقد أن هذا هو الوضع في بقية الدول الأوروبية .
قال زياد الشيخ وهو يضحك : عيبك أنك ثوري جداً يا كارل وأنت خطر على الديمقراطية الغربية .
قال كارل وهو ينصرف:عيبي أنني لا أداري على عيوب مجتمعي يا صديقي زياد.
قال زياد الشيخ ضاحكاً وهو يتابع كارل بأنظاره : كارل ثوري من الطراز الأول .
قال فوزي بإعجاب : من الواضح أنه على ثقافة عالية .
قال سامان : إنه شخص مثقف فعلاً . حدثني أنه كان يعمل قبل تقاعده مدرساً في إحدى المدارس الثانوية وانه ما اتخذ هذا العمل إلا ليتيح له التعرف على أبناء العالم الثالث .
قال زياد الشيخ : ولكنه متطرف في أفكاره وهو يكره هنريك كراهية شديدة .
قال سامان : لكن ما قاله عنه هو الحقيقة يا أخ زياد . فكلنا يعلم أن هنريك مغالٍ في تعصبه وعنجهيته . وأنا مقتنع بأن هنريك سيرمي " التماسنا " في سلة المهملات .
قال زياد الشيخ : أنت تتصور ذلك بناء على التجارب التي تعهدها عن بلداننا . لكن هذه البلاد غربية وليست شرقية والمسؤولون هنا منضبطون ولا يتصرفون حسبما توحي لهم به أمزجتهم.
قال فوزي مبتسماً : من الغريب يا أخ زياد أن يكون لك أنت بالذات هذه الثقة بالأنظمة الغربية وقد مضى عليك كل هذه الشهور هنا دون ان يبتوا في قضيتك .
قال زياد الشيخ : أنا أعذرهم يا أخ فوزي . نحن ندفع ثمن السمعة التي لحقت بنا بأن بلداننا تدعم الإرهاب ومن حقهم ان يشكوا فينا وان يترددوا في قبولنا.
قال سامان : هذه حجة باطلة يا أخ زياد فهم يعلمون جيداً أننا ضحية هذا الإرهاب وأننا ما هجرنا بلداننا إلا لهذا السبب .
قال زياد الشيخ : يجب أن نعترف أن بلداننا بارعة في دس عملائها أينما تريد . ما نفع رجال المخابرات إن لم يلاحقوا المعارضة في كل مكان ؟! علينا ان نكون منصفين يا أخ سامان فنقدر ظروفهم .
قال فوزي وهو يضحك : أنت أصبحت مهادنا يا أخ زياد . لقد فعل الزمن فعله فيك فصرت تبحث عن حسن الختام .
قال زياد وقد اكتسى وجهه بطابع الأسى : هذا صحيح يا أخ فوزي ، أنا لم أعد شاباً مثلكم . نعم يجب أن اعترف أنني فقدت حيوية الشباب وصلابته . ولكنك لو اطلعت على قصة حياتي لعذرتني . أترى هذا الشعر الأشيب الذي يكللّ رأسي ؟! إنه لم يشب بفعل الزمن فحسب . لقد شاب رأسي من هول ما قاسيته من أحداث . تصور أنني أمضيت سني عمري منذ مطلع شبابي أتنقل من " موقف " إلى " موقف " ومن سجن إلى أخر أقاسي من صنوف الإهانة والإذلال والمعاناة النفسية والجسدية .. حتى لقد أمسيت خبيراً في كل سجون بلدي . وبوسعي أن أمدك بتقرير مفصل عن أي منها إذا شئت .
قال فوزي وهو يهز رأسه : هذه ضريبة النضال يا أخ زياد .
قال زياد الشيخ بأسئ : هذا صحيح يا أخ فوزي . وكنت مستعداً أن أستمسك بأفكاري وأواصل نضالي ولا أهجر بلدي . فأنا مقر بأن هجران البلد معناه خذلانه والتخلي عن كل مطمح في إصلاحه. لكن التجارب علمتني أنني لو استمسكت بهذا النهج لكنت على قدر كبير من السذاجة والغفلة . وذلك بعد أن رأيت الغالبية العظمى من رفاقي قد انحازوا إلى النظام وساروا في ركابه واغترفوا من مغانمه . وكانوا قبل ذلك أكثر تطرفاً وحماساً مني . ووجدتني بين نارين ؛ إما أن أحذو حذوهم فأضيع كل تاريخي وأفقد كرامتي إلى الأبد أو أن أنجو بنفسي وأحتفظ بما تبقى لي من كرامة . وها أنت ذا تراني مستسلماً للبقاء في هذا الكامب ولا أفكر حتى بالخروج منه . تصور ان الحياة تبدو لي ممتعة فيه . وإنني لأهب من نومي مذعوراً أحيانا وأنا أحلم بأنني قد أعدت إلى سجوننا . هكذا أنا يا أخ فوزي . لم أعد أنشد في خريف حياتي سوى حسن الختام . وإنني لأسائل نفسي أحياناً : ألم أكن مخطئاً في تشددي وصلابتي ؟! فها أنذا في خريف العمر بلا زوجة ولا أولاد ولا أي مورد مالي . فماذا كسبت من الحياة ؟! ولو أثمر نضالي تحقيق حياة أفضل لشعبي لأ مدني ذلك بالعزاء . لكن معاناتي ومعاناة من هم أمثالي ذهبت مع الريح وكأننا لم نقدم أية تضحية . فالنظام المتسلط هو مهما تعددت أشكاله وتنوع زيفه . وحكامه وحواريوهم الذين يكونون طبقة طفيلية يتمتعون بأفضل الحياة .. بل يتمتعون بتبجيل حتى الناس الذين يبطش بهم إن جهلاً وإن رهبة . والأنكى من ذلك أن زعماءه يتمتعون بالاحترام والتقدير حتى من قبل مسؤولي دول العالم التي يفترض أنها تؤمن بحقوق الإنسان ! أما نحن فنعيش عيشة البؤساء المشردين . وحتى حينما يتبوّأ الحكم مناضلون كانوا يدعون الدفاع عن الشعب فإنهم يتحولون إلى نفس نمط الحكام السابقين إن لم يصيروا أسوأ . وهكذا اختلطت الأوراق في بلداننا الشرق أوسطية ولم يعد ممكناً التمييز بين المناضلين الحقيقيين وبين أعداء الشعب التقليديين . فالثوار يتبعون نفس الأساليب المتجبرة في الحكم ولا يستندون إلا الى العملاء ورجال المخابرات ووسائل البطش والإرهاب . وإنها لخيبة أمل مريرة يا أخ فوزي . وإنني كثيرا ما أسائل نفسي : لأجل من هذه المعاناة والتضحيات التي يقوم بها أمثالنا ؟! ألأجل أن يمتطي السلطة أمثال هؤلاء الحكام في بلداننا ويستمتعوا بالحياة استمتاع الملوك ؟
وسكت زياد الشيخ لحظة وقد نضح وجهه بالمرارة ثم أضاف وكأنه يخاطب نفسه : وياليتني تزوجت شأني شأن غيري وكونت أسرة وأبناء . فهذا النضال الفارغ قد ضيع علي فرصة العمر في الزواج من الفتاة التي اختارها قلبي .
قال فوزي ضاحكاً : إذن فوراء ما تشعر به من مرارة قصة حب يا أخ زياد.
قال زياد الشيخ بلهجة مرّة وهو يهز رأسه الكبير : وهل تستكثر عليّ أن يكون لي قصة حب يا أخ فوزي ؟ لقد كنت شاباً مثلك ومثل سامان وقد اختار قلبي فتاة دمثة الخلق وحلمت بأن تكون شريكة حياتي . وقد أسرني حبّها وان لم تصدق هي ذلك . كانت تردد دائما : " كيف تدعى بأنك تحبني وأنت تفضل السياسة ؟ " والحق معها يا إخوان .. كنت أحب السياسة بقدر ما أحبها . وأعترف أنها ضحت في سبيلي وصبرت علي طويلاً . ولكن صبرها نفذ في النهاية وهي تجدني أنتقل من " موقف " إلى " موقف " ومن سجن إلى آخر . وكان آخر لقاء لنا يوم زارتني وأنا في أحد " المواقف " في انتظار المحاكمة . وقالت لي : "إسمع يا زياد . إذا كنت تحبني حقيقة فيمكنك إثبات ذلك لي الآن " . فقلت : "وكيف ذلك يا بهيجة؟" فقالت : "لقد حصلنا على وعد من المسؤولين أنك إذا تعهدت بنبذ السياسة أطلقوا سراحك وتركوك وشأنك " فقلت : " وكيف ترضين لي ذلك يا بهيجة؟ لو فعلت ذلك ضعت " . فقالت : " وأنا لا أقدر أن انتظرك طول حياتي يا زياد . أنت لا تريد ان تتزوجني .. أنت تزوجت السياسة " . فقلت : "أنت والسياسة شئ واحد يا بهيجة . فأنا أناضل في سبيل سعادة بلدي وهي جزء من سعادتنا " . فقالت :"هذا كلام لا يوصلنا إلى نتيجة يازياد وهو كلام خيالي وأنت تعلم ذلك . وعليك أن تقرر إما أنا وإما السياسة " . وكان ذلك آخر لقاء بيننا . فقد تزوجت وكوّنت أسرة وأولاد . وها أنذا أمامكم أعيش حياة فارغة بلا أسرة ولا أولاد ولا مستقبل .
وسكت زياد الشيخ وأطرق محزوناً . فقال فوزي بأسىً : الحال من بعضه يا أخ زياد. فالكثيرون منا قد مرّوا بهذه التجربة القاسية .
قال زياد الشيخ وقد علت شفتيه بسمة كاسفة : ها أنذا قد نفضت أمامكما مكنون قلبي لكي لا تلوماني على ما يبدو مني من تخاذل .
قال سامان بحرارة : نحن آسفان يا أخ زياد إن كنا قد أثرنا شجونك . وأنا شخصياً أقدر ظروفك كل التقدير ، لكنني لا أتفق معك على أن نضالك ونضال أمثالك قد ذهب مع الريح.
قال فوزي : وأنا مع الأخ سامان فيما قاله يا أخ زياد . فصحيح أننا نعاني من مثل هذه المرارة ومن مثل هذه الخيبات ولكن علينا ألا نيأس . وإن التجاء أمثالنا إلى البلدان الغربية ينبغي ان يكون محطة استراحة ليس إلا وألا يكون غاية أحلامنا ونهايتها.
قال زياد الشيخ وهو يهز رأسه : هذا بالنسبة لأمثالكم من الشباب يا أخ فوزي . أما بالنسبة لي فإنني لم أعد شاباً . لقد أمسيت شيخاً وعليّ أن اعترف بأنه لم يعد لي طاقتكم على النضال .
قال فوزي وهو يضحك : أنت لازلت شاباً يا أخ زياد وكل ما هنالك أنك شيخ الشباب .
قال زياد الشيخ بلهجة مرة : المهم أننا لا نزال عايشين يا أخ فوزي .
ثم أضاف وهو يهز رأسه الكبير : يقول المثل العربي يا أخ فوزي " رحم الله امرأ عرف قدر نفسه ". والآن علينا يا أخوان أن نعد ( الالتماس ) وأرجوكما ان تضعا نصب عيونكما أننا لابد ان نصوغه بأخف ما يمكن من عبارات الاحتجاج حتى لا نثير غضب هنريك ، فنحن نعلم أنه عنصري مغال وانه كلب ابن كلب !

وكان نهار
تساءلت أنجريد : كيف وجدت رواية ( للحب وقت وللموت وقت ) بعد قراءتك الثانية لها يا سيد فوزي ؟
قال فوزي : رائعة كما وجدتها في القراءة الأولى .
قالت أنجريد : أنا أرى أن رمارك أعظم روائي غربي كتب عن فظائع الحرب .
قال فوزي : وأنا أشاركك الرأي ، وفي الحقيقة إنه يكاد يكون متخصصاً في الكتابة عن شرور الحرب منذ نجاح روايته الأولى [ كل شيء هادئ في الجبهة الغربية ] .
قالت أنجريد : أمي تحب أدبه حباً عظيماً ، وهي تعتقد انه أكثر الكتاب إخلاصاً لشعبه .
قال فوزي : من المؤسف ان كتابات أمثال هذا الكتاب لا تؤتي ثمارها . فمع أنه حذر بلاده ضمنياً في روايته الأولى من الانغماس في حرب أخرى وصور ما جرّته الحرب الكبرى الأولى من ويلات على بلاده فان رجال الحكم زجوا البلاد في حرب ضروس أخرى . واقتضت هذه الحرب بلادهم عشرة ملايين مواطن وكلفت العالم خمسين مليون إنسان . ولقد حملت الملايين من شعبه والشعوب الأخرى معاناة لا حدود لها وخربت مدناً وقرى لا حصر لها .
قالت أنجريد : إن الشباب يجهلون مرارة تلك الفترة ولا يكادون يدركون بصورة جلية فظائعها . ولولا أمثال تلك الكتابات وتوفر بعض الأفلام الوثائقية عنها ما عرفوا عنها شيئاً. وتقول أمي إن المعاناة التي سحقت الناس خلال تلك الحرب أفظع بكثير مما صوره الكتاب في كتاباتهم . وقد خبرت أمي تجربة تلك الحرب والسنين التي تلتها وكانت ما تزال صبية .
قال فوزي : لابد أنها عانت كثيراً إذن .
قالت أنجريد : أكثر مما يمكن ان تتصوره يا سيد فوزي .
قال فوزي : بوسعي أن أتخيل ذلك .
قالت أنجريد : تصور أن أمي عجزت عن نسيان ما واجهته من فظائع الحرب وما لقيته من بؤس في الفترة التي أعقبتها . كان الناس يشاركون الكلاب والقطط في البحث عن طعامهم في المزابل ويقاسمون الفئران مأواها في الخرائب والجحور . وقد ظلت فظائع تلك الأيام تلاحقها في منامها حتى أواخر حياتها . وما أكثر ما حدثتني عن المآسي التي شهدتها بلدتها في أواخر أيام الحرب. فقد كانت تحلق في سمائها آلاف الطائرات كل يوم وتلقي عليها عشرات الألوف من القنابل مع أن البلاد كانت على وشك الاستسلام ولم يكن هناك داع لذلك . تصور يا سيد فوزي أن سكان البلدة كانوا يهربون من الموت إلى الموت ، فكانوا يلقون بأنفسهم في نهر البلدة اتقاء للقنابل ، وقد ابتلع ذلك النهر الألوف منهم وتحولت بلدتهم إلى أطلال .
وصمتت أنجريد وقد علت وجهها إمارات الحزن . ثم قالت بأسى وكأنها تخاطب نفسها : كيف كان بوسع أمي أن تنسى تلك الأحداث الفظيعة ؟
قال فوزي : ما حكيته الآن يا آنسة أنجريد هو صورة واحدة من مئات الألوف من الصور المشابهة التي خبرتها شعوب الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية التي اكتوت بنيران تلك الحرب المجنونة والتي أشعلها قادة مجانين .
قالت أنجريد وهي تهز رأسها ساهمة : ومع ذلك فإن أولئك القادة كانوا يزعمون لمواطنيهم أنهم يخوضون الحرب من أجل الدفاع عن مصالحهم . وكانوا يخدعونهم بمظاهر زائفة لاكتساب ولائهم . وكم حكت لي أمي من ذكريات طفولتها عن مظاهر الطيبة الزائفة التي كان يتزيا بها أولئك القادة . فقد كانوا يزورون رياض الأطفال والمرضى في المستشفيات والعمال في المصانع والفلاحين في المزارع .. كل ذلك ليظهروا لهم حباً وعطفاً زائفين وليقدموا أنفسهم بصورة قادة طيبين مخلصين لشعبهم .
قال فوزي : في الحقيقة إن هذه الأساليب المضللة هي القواسم المشتركة التي يلجأ إليها أمثال هولاء أحكام . أما ما يخص الحرب فصدقيني يا آنسة أنجريد .. لا علاقة لمصلحة البلدان أو الشعوب بتلك الحروب . وكل الحروب التي شهدها التاريخ – إلا إذا كانت حرباً دفاعية أو من أجل التحرير – هي لخدمة مطامع الحكام وحواريهم . ولم تنتفع الشعوب منها يوماً بل هي التي تكتوي بنارها . ومنذ أقدم الأزمان يقدم الحكام نفس التبريرات التي يقدمونها في الوقت الحاضر ، وهي أنهم يشنون تلك الحروب من أجل مصلحة شعوبهم وبلدانهم . وأنا أقول هذا القول عن علم يا آنسة أنجريد لا عن عاطفة . فأنا احمل شهادة جامعية في التاريخ وكنت مدّرس تاريخ . وقد درست حروب العالم قديمها وحديثها دراسة علمية وانتهيت إلى هذا الرأي .
قالت أنجريد بدهشة : أوه .. فأنت إذن تحمل شهادة في التاريخ يا سيد فوزي ؟! لكن اطلاعك الواسع على الأدب الغربي أوحى إلي بأنك متخصص في الأدب .
قال فوزي مبتسماً : الأدب هوايتي أما التاريخ فدراستي .
قالت أنجريد وهي تنظر إليه بإعجاب : كلما تعددت حواراتنا يا سيد فوزي ازددت اعجابا بثقافتك .
قال فوزي وقد احمر وجهه : وأنا اعتز بهذا التقدير كل الاعتزاز .
قالت أنجريد وهي تبتسم : أنا أريد أن اعرف أكثر عنك يا سيد فوزي .. عن أمورك الشخصية ان سمحت لي بذلك .
قال فوزي مبتسماً : تفضلي .. سليني أي سؤال تشائين .
قالت أنجريد : أريد أن اعرف شيئاً عن أسرتك . هل والداك حيّان ؟ هل لك أخوات ؟ هل لك إخوان ؟
قال فوزي : والدي توفي منذ سنوات وأمي لا زالت حية ، ولي أخ واحد وأخت واحدة .
قالت أنجريد في شئ من التردد وهي تبتسم ابتسامتها اللطيفة : سأسألك سؤالا آخر قد يبدو شخصياً جداً يا سيد فوزي فاعذرني .. هل تركت زوجة وأبناء وراءك في الوطن ؟
قال فوزي وهو يبتسم : ليس لي زوجة ولا أولاد يا آنسة أنجريد .
قالت أنجريد وابتسامتها تتسع على ثغرها : وكيف ذلك ؟ أنتم الشرقيون تتزوجون في سن مبكرة كما علمت .. أليس كذلك ؟!
قال فوزي : هذا صحيح عموماً .. وأنا شخصياً كدت أتزوج قبل سنوات عديدة . ولذلك قصة ربما حكيتها لك يوماً .
قالت أنجريد مبتسمة : من المؤكد أنني سأنتظر هذه القصة بشوق .





وكان نهار
اجتمع هنريك في مكتبه بسامان وفوزي وزياد الشيخ للتداول بشأن " الالتماس" كانت ملامحه صارمة ووجهه عابساً يكشف عن عجرفة فظة . قال بلهجة مترفعة : ما هذا "الالتماس" الذي تريدون رفعه إلى السلطات المختصة ؟
قال سامان : أنت تعلم يا سيد هنريك أن بعض المحتجزين قد مضى عليهم وقت طويل في هذا الكامب دون ان يبت في أمرهم .
قال هنريك بلهجة متعالية تشوبها سخرية : لا أظننا وجّهنا إليهم دعوة رسمية للحضور إلى بلدنا .
قال فوزي : كان من المعروف لدينا يا سيد هنريك أن بلادكم من البلدان الغربية المتحمسة لحقوق الإنسان . وقد ألزمت نفسها أمام هيئة الأمم المتحدة برعاية هذه الحقوق والدفاع عنها. وهذا ما دعانا نحن الفارين من دول لا تحترم حقوق الإنسان الى الالتجاء إليها .
قال هنريك بلهجته المتعالية : لا أعتقد أن بلادنا مسؤولة عما يجري في بلدانكم من تجاوز على حقوق الإنسان كما تزعمون لكي نهب إلى إنقاذكم ، وأنا شخصياً لا اعتقد ان الأمر كما تصورونه . فلا شك أن البعض منكم يتمرد على النظام والقانون وعلى السلطة الشرعية . ومن حق الحاكم أن يلجأ إلى الأسلوب الذي يرتئيه لصيانة النظام والقانون في بلده .
قال فوزي بسخرية مبطنة : هل أفهم من قولك هذا يا سيد هنريك أن علينا أن نقبل الأنظمة الدكتاتورية التي تحكم في بلداننا وألا نفكر بالديمقراطية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا رفضتم انتم أمثال هذه الأنظمة ؟
قال هنريك بلهجته المتغطرسة وهو يبتسم في تهكم : هل ينبغي عليّ أن أذكّركم يا سيد فوزي بأن هناك فجوة حضارية عظيمة بين بلدانكم الشرقية وبلداننا الغربية وان أمامكم سنوات طويلة حتى تصلوا إلى المستوى الذي بلغناه ؟ ومن غير المعقول ان تطمحوا الى تطبيق أنظمة شبيهة بأنظمتنا كالنظام الديمقراطي على شعوب ما تزال بعيدة عن النضج السياسي . وأنا لا ألوم حكامكم إذا التجؤا إلى الأساليب الدكتاتورية لكي يحافظوا على هيبة الدولة وعلى سيادة القانون والنظام .
قال سامان بشئ من الحدة : اسمح لي يا سيد هنريك أن أقول بأننا لم نحضر إلى هنا لنناقش طبيعة الأنظمة في بلداننا . وكل ما هنالك أن رفاقنا طلبوا منا أن نحمل اليك شكواهم من البقاء هذه الفترة الطويلة في هذا المعسكر دون ان تحل قضاياهم .
قال هنريك بلهجته المتغطرسة : ليس أمراً غريباً أن تستغرق السلطات هذا الوقت الطويل في حل قضاياكم فانتم أساسا لم تقدموا إلى هذه البلاد بطرق قانونية . وأنتم جميعاً خارجون على قوانين الدولة . ويجب ان تشكروا دولتنا إذ هيأت لكم مثل هذا المعسكر الذي يشتمل على كل وسائل الرفاهية .
قال سامان : ولكن لا شك انك تعلم يا سيد هنريك انه لم يكن الهدف من لجوئنا إلى دولتكم العيش في معسكرات الاحتجاز .
قال هنريك بلهجته المتغطرسة : وما العيب في هذه " المعسكرات " ؟هل ينقصكم شئ هنا؟
قال زياد بلهجة متملقة : الشهادة لله يا سيد هنريك .. كل شئ موفر لنا في هذا "الكامب".
قال هنريك بسخرية مبطنة : بل بصورة أكثر مما اعتدتم عليه في بلدانكم كما أظن .
قال فوزي : نحن لم نهجر بلداننا يا سيد هنريك ونتخلى عن هويتنا طمعاً في حياة مادية أفضل بل لأننا كنا نفتقد متطلبات الكرامة الإنسانية . وهذا المعسكر لا يوفرها لنا .
قال هنريك بلهجته المتعالية : حينما يقتنع المسؤولون أنكم تستحقون أن تمنحوا هذه المتطلبات فستمنح لكم ، وهذا أمر مرده إلى السلطات المسؤولة وليس لكم ، وهذه السلطات ليست مسؤولة إمامكم بالالتزام بأية مواعيد .
قال سامان : أليس من حقنا إذن في رأيك يا سيد هنريك أن نلفت نظر هؤلاء المسؤولين إلى ان فترة احتجازنا قد طال أمدها ؟
قال هنريك : لا . فليس لديكم حقوق هنا . وأنتم كما قلت خارجون على القانون . ولا شك أنكم تعلمون كيف ينبغي أن يعامل الخارجون على القانون .
قال سامان بشئ من الحدة : نحن لسنا خارجين على القانون يا سيد هنريك . نحن لاجئون سياسيون نطلب حماية دولة متمدنة تعلن عن نفسها أمام العالم بأنها تدافع عن حقوق الإنسان .
قال هنريك بلهجته المتغطرسة : على كل حال أنا اختلف معكم في تحديد مفهوم الخروج على القانون . وأؤكد لكم انه لو كان الأمر بيدي لطبقت عليكم أحكاما غير التي تطبق في هذا المعسكر . ولكن رأي حكومتي مع الأسف يختلف عن رأيي .
قال فوزي في تهكم مبطن : فهل في رأيك يا سيد هنريك ان نزج في معسكرات للاعتقال شبيهة بتلك المعسكرات التي كان يزج فيها أسرى الحرب ؟
قال هنريك في غضب مكتوم : وما اعتراضك على معسكرات الحرب ؟ هل يفترض ان تكون متنزها لأعداء الدولة ؟! أم انك تريد أن تحاسبنا على ما كنّا نتخذه وقت الحرب من إجراءات رادعة لحماية دولتنا ؟ يبدو انك يا سيد فوزي قد قدمت إلى هذا البلد وقد امتلأ رأسك بالسفاسف والخزعبلات التي روّجها عنا المنتصرون علينا في حربنا الوطنية . ومن المؤسف أننا هزمنا فيها وإلا لتغير كل ما قيل عنا . واعلم ان كل ما قيل بهذا الصدد لا يتناقض وحقنا الشرعي في حماية دولتنا من الأعداء ونحن غير آسفين على ذلك . وأحب ان ألفت نظرك أيضاً أن تردادك لأقوال أعدائنا هو إساءة إلى الضيافة التي تقدمها إليكم هذه الدولة .. نهاركم طيب أيها السادة .

















وكان نهار
غصت قاعة الثرثرة بالحاضرين . قال زياد الشيخ : لقد تبينّ لكم أيها الزملاء أن التماسنا قد جعل هنريك يتخذ خطوات ردعية ضدنا ، فتقلصت الساعات التي تفتح فيها أبواب قاعة الثرثرة وأمست الكافتريا تغلق في وقت مبكر مع أن "التماسنا" لم ينطو إلا على اخف لهجة من لجهات الاحتجاج.
قال أحدهم : هذا أول الغيث ولا ندري ماذا سيتخذ هنريك من إجراءات لمضايقتنا .
وقال آخر : ربما بذل مساعيه لدى السلطات المسؤولة لرفض طلبائنا وطردنا خارج الحدود.
وقال آخر : أو إعادتنا إلى بلداننا .
وقال آخر : إنا أفضل ان انتحر على أن أعود إلى بلدي . أنا لست مستعداً لخوض تجربة الملاحقة والسجن في بلدي مرة أخرى .
وقال آخر : إن مجرد التفكير في العيش ثانية في أسر النظام في بلدي يسلب من عيني النوم. على الأقل هنا لا يعاني أهلنا من عذاب البحث عنا في السجون والمعتقلات دون أن يظفروا بجواب واضح عنا هل نحن أحياء أم أموات فيتكبدون من المعاناة والأحزان ما لا حدود لها .
قال فوزي بمرارة : كأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا . ما الفرق إذن بين بلداننا المتخلفة وهذا البلد المتمدن إن لم يسمح لنا بالاحتجاج؟! .
قال آخر : كان ينبغي علينا أن نتجنب الاحتجاج .
قال سامان : كلا وألف كلا . كنا نحتج في بلداننا بالرغم من السيف المصلت على رقابنا . فهل حضرنا إلى هنا لنستكين للقرارات الجائرة ؟
وقال أخر : أنا ما حضرت إلى هذا البلد إلا لكي يتاح لي الاحتجاج على حكام بلدي الطغاة بما سيتوفر لي من حرية لممارسة حقوقي الشرعية . أما في بلادي فلا يحق لأحد الاحتجاج على النظام إذا أراد أن يعيش في سلام . وعليه ان يعيش عيشة السوائم في الحقول يأكل ويتبرز وينام . وأظن ان ذلك لا ينطبق على بلادي فحسب بل على معظم بلداننا الشرق أوسطية التي تحكمها أجهزة المخابرات وان تزيت بزي الديمقراطية المزيفة لخداع العالم.
قال فوزي : صدقت أيها الأخ . أعتقد انك تتكلم بلسان الكثيرين منا . فقد حضرنا إلى هذه البلاد لكي نستطيع مواصلة الاحتجاج على أنظمتنا المتعسفة . فمصير أوطاننا أمانة في أعناقنا.
قال سامان : بالتأكيد . سنشن على حكوماتنا حرباً لا هوادة فيها من منفانا في هذه البلاد بعد ان نظفر بحق المواطنة . فتحرير أوطاننا هي من مسؤوليتنا وان كنا بعيدين عنها .
قال أحدهم في تهكم ومرارة : وما نفع معارضتنا من هنا وقد فشلنا ونحن في عقر دارنا ؟
قال آخر في سخرية غاضبة : عن أي أوطان تتحدثون ؟ إذا كان ما تقولونه صدقاً فأنتم ولا شك أسرى عاطفة جوفاء . كيف يمكن للمواطن ان يحب وطنه وهو يضطهده ولا يوفر له أدنى شروط الكرامة الإنسانية ؟! فلم نكن سوى أسرى في بلداننا . وإذا كان علينا ان نحب أوطاننا ونتمسك بها فعليها ان توفر لنا إنسانيتنا أولا .
قال أخر بتهكم : وكم هي متنوعة صور الاضطهاد في بلداننا . مرة بسبب سياسي .. ومرة بسبب عرقي .. ومرة بسبب طائفي .. ومرة بسبب ديني .. إلى آخره .. الى آخره .
قال زياد الشيخ وهو يضحك : تعددت الأسباب والاضطهاد واحد !
قال فوزي : لا يا أيها الزملاء .. الوطن غال مهما جار حكامه على أبنائه .
قال زياد الشيخ بلهجة جادة : على كل حال قد يتاح لنا بالفعل ممارسة نشاطنا الوطني من هذه البلاد . لذلك لابد لنا ان نصبر على وجودنا في هذا الكامب حتى لا نثير الخواطر ضدنا فتتخذ السلطات المسؤولة قرارات ليست في صالحنا .
قال أحدهم : هذا صحيح جدا . علينا ألا نضيع فرصة قبولنا في هذا البلد . وكلّنا قد مر بتجارب قاسية حتى استطاع الوصول إلى هنا . لقد كانت شرطة الحدود في البلدان التي حاولت اللجوء إليها يتقاذفوني كما يتقاذف اللاعبون الكرة . وصدقوني لقد شهدت مآسي تمزق القلب . كانت عوائل بأكملها بشيوخها ونسائها وأطفالها تلقى نفس المعاناة . وكانوا يتباكون ويسألون ربهم الرأفة بهم وإنقاذهم من تشردهم .
وقال آخر : وكلنا سمع كيف أن بعض مواطنينا الذين هجروا بلدهم مثلنا طامعين في اللجوء إلى بلدان تحفظ لهم كرامتهم قد غرقوا في البحر قبل أن يصلوا إلى تلك البلدان .. ومن وصل منهم إلى بعض تلك البلدان عوملوا أسوأ معاملة .
وقال آخر : الشهادة لله إننا لم نلق مثل تلك المعاملة السيئة هنا رغم صلف هنريك .
قال آخر : أما أنا فقد كلفني جوازي حلي أمي كلها وليس بإمكاني الحصول على جواز آخر حتى في الحلم .
قال زياد الشيخ : لذلك ليس لنا إلا التمسك بالصبر يا إخوان وقبول صلف هنريك حتى يأتينا الفرج .
قال سامان : مادام أغلبكم يفضل المهادنة فلنصبر إذن ونرى ماذا ستكون نتيجة صبرنا . وأنفض الاجتماع .


















وكان ليل
كلنا سواء .. لقد دمغنا حكّامنا بدمغة واحدة . لم يعد أحد منا يجرؤ على الوقوف في وجه الحاكم . لقد علمتنا أنظمتنا الجبن والخنوع . كيف لا تتمسكون أيها الزملاء بأيديكم وأسنانكم بهذه الفرصة التي تتيح لكم العيش بعيداً عن أوطانكم !! الأوطان التي ترعرعتم فيها وشهدت طفولتكم وصباكم وشبابكم !! الأوطان التي خلفتم فيها كل أحبابكم !! ولكن الحياة لم تعد تطاق في أوطانكم .. حتى العيش في هذا " الكامب " أفضل منها ! حتى العيش في السجن أرحم منها ! لم نكن نحس ونحن في السجن بالرعب الذي يفترس الناس خارج أسواره . لقد انطلقت في أيامي الأولى بعد خروجي من السجن أطوف الشوارع والأسواق والمقاهي بحثاً عن وجه من وجوه زملائي وأصدقائي القدماء فلم أعثر على أي واحد منهم . أين ذهبوا ؟ أتراهم يقبعون في بيوتهم ؟! ومرة رأيت واحداً منهم يتسكع في شارع الرشيد وكان قد لمحني في نفس الوقت . وخيل إليّ أنه حاول أن يزوغ عن أنظاري بين جموع السائرين لكن الوقت لم يمهله0 وأقبلت عليه في شوق فلحظت اضطراباً واضحاً على وجهه وتلكؤا في كلماته .
- أهلاً .. أهلاً فوزي ، متى خرجت ؟ أنا مسرور أن أراك قد خرجت .
- كيف حالك يا ظافر ؟ سمعت أنك غادرت السجن قبل عامين .
- فعلاً . أنا آسف أنك تأخرت كثيراً . الحمد لله انك خرجت . ما زال الكثيرون من زملائنا في السجن كما يظهر .
- طبعا. لقد خلفت ورائي الكثيرين منهم .
- وكيف أحوالهم ؟
- لا يزالون صامدين وهم يتمتعون بروح معنوية عالية . تعال نجلس في احد المقاهي لنتحدث .
- أنا آسف يا فوزي . لديّ موعد لابد لي من لحاقه .أعطني رقم تلفونك وسأخابرك ونلتقي . أنا مشتاق لأخبار الزملاء .
وسجل رقم تلفوني على ظاهر كله وأسرع مبتعداً وكأنه يخشى أن ألحق به . وكان وهو يبادلني الحديث يتلفت حواليه باستمرار . وكانت عيناه تتجولان في وجوه العابرين بقلق . ولم يحمل التلفون إليّ صوته أبدا .
وجربت الاتصال تلفونيا ببعض الأصدقاء القدماء الذين لم يزرني أي واحد منهم بعد خروجي من السجن . فكان الجواب الذي أتلقاه دائما " غير موجود " . ومرة ظفرت بأحدهم فاذا به يرحب بي ترحيباً فاتراً ويعدني بأنه سيزورني في أقرب فرصة .. ثم لم أسمع عنه أبداً .
وأدركت أن البطش الهائل قد سحق روح المقاومة لدى الناس فلم يعودوا يطمعون إلا بالمحافظة على حياتهم . وأيقنت أنني لابد لي أن أكيّف حياتي للعيش بدون عمل وبدون نشاط سياسي وبدون أصدقاء . ولكن ماذا سأصنع بهذه الحياة ؟! واقترح عليّ فخري العودة إلى عملي بالاستعانة برشدي .
- أنا أفكر بالعودة إلى التدريس يا رشدي فما رأيك ؟
- العودة إلى التدريس ؟! لا .. لا يا فوزي . أظن من الخير لك أن تستريح . لم يحن الأوان بعد .
- وهل هناك مانع في رأيك من أن أقدم إلى الوزارة طلباً لإعادتي إلى وظيفتي ؟
- أنت تعلم يا فوزي أنك لم تكن مثبتاً حينما فصلت . فلا حق لك أصلا في العودة إلى وظيفتك .. خصوصاً وانك لم تنشر " براءة ". .قد توافق الوزارة على إعادتك إلى الوظيفة فيما لو نشرت " براءة " .
- وهل أمضيت كل تلك السنوات في السجن وتحملت كل صنوف العذاب لكي أنشر في النهاية " براءة " يا رشدي ؟ هل هذا معقول ؟ هل أتخلى عن كرامتي أخيراً وهي كل ما تبقى لي ؟!
- كيف تريد من أخي أن ينشر " براءة " ويدوس على كرامته يا رشدي ؟
- ولماذا لا ينشر " براءة " يا فوزية ؟ ألم ينشر الكثيرون من أمثاله " براءة " ؟! احمدوا الله على ان النظام واسع الصدر بحيث يعفو عن أعدائه ويفسح لهم صدره .. افهمي ذلك جيداً يا فوزية .
- ولكن أخي فوزي ليس كغيره من الناس .. ممن ليس لديهم كرامة !!
- لا تخرّفي يا فوزية فالكرامة لا تؤكل خبزاً . والنظام غير مستعد للتهاون مع أعدائه. فمن لا يريد أن يكون مع النظام فعليه أن يرضى بالتبعات . أليس كذلك يا فوزي ؟ أنت تفهم ذلك أكثر من أختك .
- اعتقد انك تقول الحقيقة يا رشدي . فمن ليس مع النظام لا يحق له الحياة.
- ولماذا تحاربون الناس في أرزاقهم يا رشدي ؟ ألا يكفيكم أنكم احتكرتم كل شئ ؟
- وفيم اعتراضك يا فوزية ؟ لو لم يكن الأمر كذلك هل كنت ستتمتعين بكل هذه المزايا؟
- ومن قال لك إنني مسرورة بذلك ؟ نحن نتمتع على حساب الناس المساكين .
- لا تكسحي النعمة واشكري ربك يا فوزية .
- أنا لا أشكر ربي على المزايا التي نكسبها من نظام يظلم الناس . وسيحاسبكم الله يوم القيامة حساباً عسيراً .
- اسكتي ولا تحاولي ان تخربي بيتك يا فوزية .. وستفعلين ذلك يوماً !
إلى متى تظلين تضحين من اجلي يا فوزية ؟ قد تخربين بيتك فعلاً بسببي . ومن حسن الحظ أن زوجك يحبك وإلا لتخلى عنك من وقت بعيد . أرجوك .. أرجوك يا فوزية. كوني متعقلة مع رشدي . فلو حدث الصدع بينكما ما غفرت ذلك لنفسي أبدا . ولكن كيف لي أن ألومك على قلبك الرقيق يا فوزية ؟ القلب الذي لا يحتمل أذية أحد ؟ والعينان اللتان سرعان ما تستجيبان لندائه ؟ هكذا كنت دائما يا فوزية منذ كنت طفلة . هل تتذكرين يا فوزية يوم عدت من المدرسة وأنا أحمل شهادة آخر العام الدراسي التي تنبئ بسقوطي فقرر أبي أن يحرمني من "يوميتي" لمدة أسبوع؟ لكم أحزنك ذلك القرار وكم بكيت بسببه . وكنت يوم ذاك شغوفاً بلعبة " الدعبل" وكنت أهرع إلى الطريق حال عودتي عصراً من المدرسة لأمارس هذه اللعبة مع رفاقي . ولم أكن أرجع الى البيت حتى يتعالى آذان الغروب . وبعد العشاء كنت أمضي وقتاً طويلاً في تصنيف " الدعبل " والتفرج على ألوانها مسحوراً . بل كنت أخبئ بعضها تحت مخدتي . فكان معنى ذلك القرار أن أحرم من " الدعبل " لمدة أسبوع . وحينما خاب بكاؤك في التأثير على أبي قررت أن تتنازلي لي عن "يوميتك" وحرمت نفسك طوال ذلك الأسبوع من شراء "الساهون" حلواك المفضلة.
هكذا أنت دائما يا فوزية .. سريعة الاستجابة لقلبك الحنون مهما يكلفك من عناء . ولكن يكفيك ما تحملته من عناء لأجلي يا فوزية .. وما أكثر ما تحملته من عناء خلال أعوام السجن ! لم تنقطعي أنت وأمي عن زيارتي لمرة واحدة رغم مشقات السفر إلى سجننا النائي. فما أعظم مشقات الطريق الصحراوي إليه وما أكثر من أكلتهم الذئاب في الليل وتاهوا في البادية الرهبية .
وكم رجوتكما أن تباعدا بين زيارتكما دون جدوى . وعلى العكس من أمي التي كانت ملفعة دائما بحزنها الهادئ الصبور كانت عيناك طوال وقت الزيارة مغرورقتين بالدمع. لكنني أصارحك يا فوزية أنني كنت سأغتم كثيراً لو أنكما استجبتما لرجائي وباعدتما في زيارتكما. فقد كنت أترقب يوم الزيارة بلهفة عظيمة . وكان زملائي جميعاً يترقبون ذلك اليوم بنفس اللهفة والشوق يا فوزية . كان يوم الزيارة هو يوم عيدنا الشهري الذي نعيش على ذكراه طوال الشهر . وفي ليلة الزيارة كانت القهقهات تتردد في " قاووشنا " . كانت الليلة الوحيدة التي تنطلق فيها قهقهاتنا من أعماق قلوبنا . وكم كنا نشعر بالحزن في ختام اليوم لأن علينا أن ننتظر زيارتكم بعد شهر كامل . وحينما تفتح أبواب القوا ويش المطلة على الباحة في صباح ذلك اليوم يحدث هجوم صاروخي وتزاحم شديد ليفوز كل منا ببقعة مناسبة في الظل يفرش فيها بطانيته للالتقاء بزواره .ثم تفتح بوابة القلعة ذات الأسوار العالية فيندفع الزوار في لهفة يفتشون عن أحبائهم . وكنت أنجح دائما في ضمان موضع مناسب لأمي ولك . ثم تتواصل احتفالاتنا في الأيام التالية بتناول الأطعمة التي تحضرونها لنا. وننسى لبعض الأيام طعام السجن المقرف الذي نعد فيه عدّا حبات الفاصوليا والبازليا أو الباقلاء .
يا لأيامك أيها السجن كم افتقدتها وأنا طليق ! لقد افتقدتها رغم ما حفلت به من عذاب ومعاناة ! فلم اشعر بالغربة في السجن كما شعرت بها وأنا طليق . وكم أرمضتني الرغبة في العودة إلى السجن ثانية ! كنت أعيش هناك مع أهلي الحقيقيين .. وكم أحن إليكم أيها الرفاق الأعزاء ! كم أحن إليك يا مرتضى .. كم احن الى وجهك السمح وثقتك المطلقة بالحياة. لم يفارقك هدوؤك في أحلك ساعاتنا في السجن وأشدها ضيقاً . لم يفارقك تفاؤلك يوماً . وكان تفاؤلك يمدنا بمعنويات عالية . كنا نقول لك ما أقسى ما تعرضت له يا مرتضى ! لو أنهم صبروا عليك أشهراً قليلة فحسب لأكملت رسالة الدكتوراه وصرت "دكتوراً " . فكنت ترد علينا والابتسامة تتسع على وجهك الصبوح : وما الذي حدث ؟ سأغادر السجن يوماً وأنال الدكتوراه . أن الدكتوراه يمكن أن تنتظر. أما مصير شعبنا فهو أمر عاجل لا يمكن أن نسوف فيه .
وكم أحن إليك يا أنور الصبور ! لقد كنا نستمد الصبر منك . وحينما كان يطفح بنا الكيل من استفزازات إدارة السجن كنت تحثنا على الصبر والصمود وعدم الانجرار إلى التصرفات المتشنجة . لم تشك يوماً ولم يبد عليك الضيق يوماً ! وحتى حينما كان يحل ميعاد الزيارة الشهرية فلا يزورك احد كنت ترقبنا بغبطة ونحن نلتف حول زوارنا وكأن زوارنا هم زوارك ! كنا نعلم إن زوجتك لم تكن قادرة على زيارتك إلا في أوقات متباعدة فوراؤها جيش من الأطفال لابد من رعايتهم . وكانت تلقي من الحياة عنتاً عظيماً . ولا شك انك كنت تعلم أن أطفالك كانوا كثيراً ما يبيتون على الطوى بعد أن فقدوا عائلهم . ومع ذلك كنت تشارك غيرك من الزملاء لوعتهم وحزنهم وتحاول جهدك التخفيف من معاناتهم وكأنك خلي البال .. وكأن كل شئ بالنسبة إليك على ما يرام !
وكم أحن إليك يا صالح .. لو تعلم كم كنت تثير أساي واشتياقي لفريال وأنت تتحدث عن خطيبتك سميحة . ولكن شتان بين حالي وحالك يا صالح ! كنت تنعم برؤية خطيبتك في مطلع كل شهر .. أما أنا فكنت قد فقدت فريال إلى الأبد . ولم تنقطع خطيبتك عن زيارتك يوماً . وكان علينا أن نستمع طوال الشهر الى أخبارها حتى يحل مطلع الشهر التالي . وكانت تحدثك عن دقائق حياتها اليومية بالتفصيل الممل فتنقلها إلينا وكأنها أنباء خطيرة يتوقف عليها مصير العالم كله !
وأنت يا عادل .. كم أحن الى الواجب الرياضي الذي كنت تفرضه علينا كل صباح .. والويل لمن يتقاعس عن أدائه ويحاول مواصلة النوم ! لم تكن تنفع معك توسلاته الا اذا أحضر لك إجازة مرضية من الدكتور حليم !
وأنت يا دكتور حليم .. يا محبوب السجن ، لم تكن تتوانى عن إغاثة أي واحد منا إذا ما شعر بتوعك حتى لو أيقظك من عز النوم . وإذا مرض أحدنا لازمته طوال الوقت . وكنت تتفنن في أساليب الحصول على أدوية لنا . فكنا مطمئنين أننا لن نصاب بسوء مادمت بيننا . ولقد كسبت حب الجميع واحترامهم حتى مسئولي السجن رغم عنجهيتهم . فكانوا يثقون ببراعتك أكثر مما يثقون ببراعة الأطباء خارج السجن !
وأنت يا رشيد .. وأنت يا رفيق .. وأنت يا عامر .. كم احن إليكم جميعاً ! حتى أنت أيها المأمور مجيد حننت إلى عنجهيتك التي كنت تتفنن فيها وقت "المسطر" .. حتى سخافاتك يا كريم إعدام حننت إليها . مرة زرعت إدارة السجن كريم إعدام في "قاووشتا" ليعكنن علينا . كان يفخر علينا بأنه قتل شخصين فحكم عليه بالإعدام ثم أبدل الحكم في اللحظة الأخيرة بالسجن المؤبد . وكان يردد على مسامعنا باستمرار انه مستعد ان يقتل شخصاً ثالثاً إذا اقتضى الأمر . كان ذا قامة عملاقة وعضلات مفتولة. وكان علينا منذ الصباح الباكر أن نستيقظ على زمجرته وهو يمارس تمارينه الرياضية عارياً كما خلقه الله . وصبرنا على مضايقاته وقررنا أن نكسبه إلى صفنا . وبدأنا نسقيه جرعات الوطنية جرعة جرعة ونغريه بقراءة كتبنا . وفي النهاية تحول إلى وطني متطرف وأعلن انه مستعد أن يخسر حياته دفاعاً عنا اذا ما تعرض احدنا إلى سوء !
يا لأيامك أيها السجن كم أحن إليها ! إنها بكل قسوتها ارحم من أيامي في سجني الجديد في البيت ! كان عليّ أن أدور طوال النهار بين جدران البيت لا أدري ماذا أفعل تلاحقني نظرات أمي المفعمة بالأسى . وإذا فاض بحزنها الكيل نهضت وأغرقته في الصلاة . كنت أحاول تمضية وقتي بالقراءة ولكن سرعان ما كان يدب الملل الى نفسي ويبدو لي كل ما أقرأه عديم الجدوى. فكل هذه الثقافة العظيمة قد عجزت عن الحيلولة دون قيام أنظمة دكتاتورية بربرية يسكت عنها الشعب مضطراً أو جاهلاً ويتغاضى عنها العالم المتمدن. فأين مني أيام السجن التي كنت ألتهم فيها الكتب التهاما ! وكنت أطالع الصحف فتقرفني الأسماء التافهة التي تتصدرها وقد صارت عمالقة البلاد وتوجعني أكاذيبها الفاجرة . أكاذيب .. أكاذيب .. أكاذيب ! وكنت أراقب التلفزيون فتطالعني صورة الرئيس محتلة شاشته لساعات طويلة .. والأكاذيب تنساب من بين شفتيه وكأنها حقائق دامغة ! ولم يكن لديّ من وسيلة للتنفيس عن غيظي سوى الشتائم الساخنة ! لكنني ما لبثت أن اكتشفت أن هذه الشتائم محرمة علي !
- أريد أن أصارحك بشئ يا فوزي ولكنني محرجة .
- تفضلي يا سميرة فأنت بمثابة أختي ولا داعي للإحراج .
- من الأفضل ألا تشتم الرئيس أمام الأطفال يا فوزي .
- ولماذا ؟ ألا ينبغي عليهم معرفة الحقيقة ؟
- أنت لم تستوعب الأوضاع على حقيقتها يا فوزي فقد ساءت كثيراً عما كانت عليه قبل دخولك السجن .. والناس صاروا يخافون من ظلهم .
_ أ ستطيع أن أدرك ذلك . حتى أصدقائي القدماء قاطعوني .. بل حتى من كان منهم مسجونا يتهرب من لقائي .
- لا تلم أصدقاءك يا فوزي . لقد أصبح الخوف القاسم المشترك الأعظم بين الناس . إن أي نقد للنظام ورجاله يكلف الشخص غاليا . وعيون النظام في كل مكان . وقد اشتريت الذمم بالمال والمناصب وتحول غالبية الناس إلى انتهازيين ومنافقين وتدهورت أخلاقهم وضاعت قيمهم . فصار من الممكن أن يغدر الأخ بأخيه بل الأب بابنه في سبيل الكسب . لذلك لم يعد الواحد يثق بأقرب الأشخاص إليه . وعليك ان تستوعب هذه الحقيقة جيداً يا فوزي .
_ إنه لأمر مؤسف حقاً أن تتدنى الأخلاق والقيم إلى هذا الحد وهي كل ما كنا نعول عليه . ويكفي هذا النظام عاراً أنه دمر أخلاق الناس ومثلهم وهو أمر لا سبيل إلى تجاوزه بيسر . وعلى كل حال فقد دمر هذا النظام كل المكتسبات الحضارية والاجتماعية والسياسية التي حققتها البلاد منذ بدء الحكم الوطني وأعادها إلى نقطة الصفر0 وستحتاج إلى سنين طويلة لتستعيد عافيتها0 وسيكون لذلك نتائج خطيرة في المستقبل ولاشك . و لكن اعلمي أنني محتاط لنفسي يا سميرة .
- ليس بالدرجة التي تتصورها يا فوزي .
- وماذا بدر مني ؟ أنا لا ألتقي بأحد خارج البيت وأكاد أكون سجين الدار .
- ولكنك تشتم الرئيس كلما ظهر على شاشة التلفزيون .
- إنني أنفّس بهذا عما في صدري من غيظ يا سميرة فلم يبق لي غير ذلك . فممن تخشين ونحن بعيدون عن أسماع أي غريب ؟!
- أنت تشتم إمام الأطفال يا فوزي وهذا يعرضك ويعرضنا إلى خطر عظيم .
- إلى هذا الحد يا سميرة ؟!
- بل وأكثر ، فالأطفال قد ينقلون ببراءة ما يسمعون من عبارات إلى رفاقهم أو معلميهم فتبلغ أسماع المسؤولين . والناس يتهامسون بقصة ذلك الطفل الذي قال لمعلمته أن أباه يشتم الرئيس كلما ظهر على شاشة التلفزيون فكان نصيبه الإعدام . وبالفعل فإن الإعدام هو مصير كل من يثبت عليه أنه شتم الرئيس .
- الحق معك إذن إن قلت إنني لم استوعب الأوضاع على حقيقتها يا سميرة . وأنا آسف على ما سببته لكل من إحراج .
- أنا آسفة ومتألمة يا فوزي إذ أقول لك هذا الكلام .
- معذرة يا سميرة .. معذرة عن كل ما سببته لكم من إحراج .

وكان ذلك هو اليوم الذي حاصرني فيه اختناق حقيقي واقتنعت بشكل حاسم بأن الحياة باتت مستحيلة في وطني .

وكان نهار
أدار فوزي عينيه في إنحاء الكافتريا . كان عباس الرضا يجلس على مائدة منعزلة بوجهه الممصوص المتجهم أبداً وأمامه زجاجات البيرة . وكان فوزي قد صمم على اقتحام عالمه منذ سمعه قبل ليال يبكي في منامه بكاء محرقاً لكنه ظل متردداً . اتجه نحوه بخطوات مترددة ووقف بجواره . تساءل : أتسمح لي بالجلوس يا عباس ؟
قال عباس في فتور : الموائد مشاعة للجميع .
قال فوزي باسماً وهو يجلس : إلا مائدتك .
ثم أضاف ضاحكاً : وعلى كل حال فقد صرت أنت عنواناً للكافتريا كما صار زياد الشيخ عنواناً لقاعة الثرثرة .
قال عباس : هنا يمكن للإنسان ان ينسي الدنيا وما فيها من أقذار .
قال فوزي : في الدنيا أشياء نظيفة أيضا يا عباس .
قال عباس وهو يهز رأسه ويجرع جرعة كبيرة من كأسه : لا أظن .
تأمل فوزي عباس بنظرات طويلة ثم قال : أنا متألم لوضعك يا عباس ويعز علي أن تستسلم لهذا الحزن الدائم . فمهما بلغت قسوة الظروف التي مررت بها قاسية لابد لك ان تتغلب عليها. وكلنا مررنا بظروف قاسية وإلا ما هجرنا أوطاننا .
قال عباس في تهكم : لم يمر أحد منكم بمثل ظروفي وإلا لصارت حالكم مثل حالي
قال فوزي : ولنفرض أن الأمر كذلك يا عباس ، فهل أذنب أحد من المحتجزين بحقك ؟ أنت تقاطعهم جميعاً وكأن لديك ثأراً عندهم .
قال عباس في فتور : أنا لا أحب الاختلاط بالآخرين .
صمت فوزي برهة ثم قال وهو يثبت عينيه على وجه عباس : وأنا يا عباس . ماذا بدر مني حتى تقف مني هذا الموقف وأنا ابن بلدك ؟
قال عباس في شئ من الخشونة : لا أحب بلدي ولا أبناء بلدي .
قال فوزي بدهشة : ييه ! إلى هذه الدرجة تجربتك مريرة !
هزّ عباس رأسه وهو يكرع كأسه واشتد وجهه الحزين تجهماً . قال فوزي برقة : أنا آسف إن كنت هيجت أحزانك يا عباس . ولكن لماذا لا تفتح لي مغاليق قلبك لتشرك شخصاً آخر بأحزانك وتخفف من وطأتها عليك ؟
قال عباس بلهجة فظة : لا أحب أن أشرك الآخرين بأحزاني ولن يقدر أحد ان يخفف من وطأتها عليّ .
وجثم صمت ثقيل عليهما . ومدّ فوزي يده وضغط على يد عباس المرتخية على المائدة ثم قال برقة : كلنا عانينا مثلك يا عباس . وكل واحد منا لديه تجربة مريرة لكنه يحاول ان يتغلب على أحزانه قدر استطاعته .
قال عباس بلهجته الفظة : ليس كل واحد منكم عانى ما عانيت. وأنت لم تعان ما عانيت بالتأكيد فأرجوك أن تعفيني من هذه المواعظ .
قال فوزي : وما يدريك أنني لم أعان ما عانيت ؟ لعلني مررت بتجربة أقسى من تجربتك.
قال عباس بتهكم : لا أظن ذلك .
صمت فوزي قليلاً ثم قال : صحيح أنني لا أعلم أية تجربة تلك التي مررت بها يا عباس لكنني أعلم أن تجربتي كانت قاسية جداً . وقد شهدت من صنوف التعذيب ما لا يخطر على البال . إنني شهدت احد زملائي تحطم جمجمته أمامي ويتناثر رشاشها على وجهي .
قال عباس وهو يهز رأسه استهانة : هذا لا شئ .
تساءل فوزي في استنكار : هذا لا شئ ؟ ما الذي يمكن أن تسميه" شيئا "إذن؟
ظل عباس مطرقاً دقائق ووجهه الحزين يشتد اكفهراراً . ثم رفع رأسه فجأة وقال وهو يسمر عينيه على وجه فوزي : أنت تضطرني الى التحدث عن ماساتي وأنا لا أحب الخوض فيها مع الآخرين فهي من خصوصياتي وتعيش معي ليلاً ونهاراً .
قال فوزي برقة : لعل التحدث عنها إلى الآخرين يخفف من وطأتها عليك يا عباس .
اطرق عباس طويلاً ثم همس وكأنه يخاطب نفسه : فاعلم إذن أنني من " المهجرّين " .
هتف فوزي وقد لاح انزعاج شديد على وجهه .. آخ .. يا لمأساتك إذن يا عباس !
رفع عباس رأسه وقال وعيناه تومضان بتهكم خفيف : ها أنت ذا تتألم لحالي لمجرد معرفتك بأنني من " المهجرين " . فماذا لو سمعت قصتي كاملة ؟

قال فوزي بلهجة متألمة : لست بحاجة إلى سماع قصتك يا عباس فانا أستطيع أن أدرك أبعادها. ولعلك كنت محظوظاً لأنك لم تزج في السجن بسبب هذه التهمة شأن الألوف من الشبان والصبيان .
نظر إليه عباس بقسوة وقال بلهجة وحشية : لا .. لا بد لك أن تسمعها . فأنت الذي طلبت ذلك. فلا أحسب أنك قادر على إدراك حالنا ونحن نجبر على هجر دارنا بحراب الجنود .. الدار التي اختزنت كل ذكرياتنا .. الدار التي شهدت أفراحنا وأتراحنا .. الدار التي تضم كل غرفة من غرفها وكل زاوية من زواياها وكل شبر من حديقتها جزءاً غالياً من حياتنا. حاول ان تتصور حالنا ونحن نغادرها تحت حراب الجنود تاركين كل شيء ومتاعنا الوحيد هي الملابس التي تكسو أجسادنا .. حاول أن تتصور حالنا هذا ثم قل لي بعد ذلك أن معاناتكم شبيهة بمعاناتي .
هتف فوزي متألما : آخ .. يا لمرارة تجربتك يا عباس .
اطرق عباس برهة ثم راح يتحدث بلهجة كسيرة : كنا قد تأهبنا أنا وأبي وحتى أختي لوقوع هذا البلاء لكن أمي عجزت عن تقبله . فلما حضر الجنود لطردنا من دارنا انطلقت كالمجنونة تقبل الجدران جداراً جداراً . وأبت أن تستسلم لهم فجروها عنوة . وما أن بلغوا الباب الخارجي حتى أفلتت منهم وارتمت على العتبة تقبلها في نهم وهي تنتحب بصوت كليم لا يزال يرن في أذني حتى اليوم فيسبلني النوم .
هتف فوزي بلهجة ضارعة : أرجوك يا عباس .. أرجوك .. يكفي .. يكفي .
التفت إليه عباس وقال بلهجة وحشية وعيناه تشتعلان: ما حكيته لآن لا يكفي .. لابد لك أن تصغي إلى النهاية . وما حكيته ليس سوى البداية .
وشخصت عينا عباس في الفضاء لحظات ثم عاد يقول وكأنه يحدث نفسه : في تلك الليلة الظلماء الملعونة كدّسنا في " اللوري " كما تكدّس الخراف .. شيوخاً وأطفالاً ونساء ورجالاً .. وكان عويل النساء وصراخ الأطفال يمزق القلب . وسرى بنا ركب "اللوريات " يقتحم عتمة الليل ويطوي السهول ثم التلال ثم الجبال . وكان الهواء القارص يهب علينا كالزمهرير . ولم يهدأ صراخ الأطفال ولا عويل النساء . وتملكني الإحساس طوال الوقت بأن ما يجري ليس سوى كابوس مخيف .. وأنني لابد سأفيق من نومي فينزاح عن صدري هذا الكابوس . ثم لا يتلبث صراخ الأطفال ونواح النساء أن يشدني إلى الواقع فيثير في ذهني خاطرة واحدة تقرع جمجمتي : " ما أحقر الإنسان الذي يتدنى إلى هذا الدرك من القسوة " .
همهم فوزي : في الحقيقة إن هناك أفعالاً اشد قسوة تحدث على أرضنا يا عباس .
التفت عباس إلى فوزي بقوة وقال بلهجته الوحشية : لا ... ليس هناك فعل أشد قسوة من تجريد الإنسان من هويته ومن حقوق المواطنة ومن كل ما يمتلك من دون أي ذنب سوى ما تمليه حقارات السياسة .
قال فوزي وهو يهز رأسه : آخ .. يا لمأساتك يا عباس .
استمر عباس يقول وهو يحدق في وجه فوزي بنظراته الوحشية : أنت لم تسمع شيئاً بعد .. وما ستسمعه أمرّ وأدهى .
وتاهت أنظاره ثانية وعاد يتحدث : أخيراً توقف ركب " اللوريات " وصاح بنا الجنود : هيا .. انزلوا .. وصلنا .. اذهبوا إلى بلاد أجدادكم .
فهب الجميع يتدافعون وقد علا صراخ النساء والأطفال . ولما فرغ حمل "اللوريات" هدرت ماكيناتها وانطلقت مسرعة حتى غابت في جوف الظلام .
كانت ليلة ظلماء حالكة ولم تكن تنير السماء سوى نجوم بعيدة خابية . ولم ندر ماذا نفعل. واشتد عويل النساء والأطفال بل وحتى بعض الرجال . ثم هتف هاتف من بيننا : أنا سأقودكم .. اتبعوني .
وزحفت جموعنا في اتجاه معين وراء صاحب الصوت . ومشينا لبعض الوقت نتخبط في سيرنا. وكانت تطالعنا من بعيد أشباح جبال توغل في السماء . وكلما تقدمنا في سيرنا تكاثفت الوحشة من حولنا . ثم تناهت إلينا أصوات بعيدة ولمحنا أنوارا خافتة تتدانى منا. فشاع الفرح بيننا وتوقفنا في انتظار الفرج . واقتربت الأصوات منا ثم انشق الظلام عن مجموعة من الفرسان يحمل بعضهم مصابيح كشافة . وأحاطوا بنا وهم يسددون بنادقهم إلى صدورنا وصاح أحدهم : القوا على الأرض كل ما معكم من حلي ونقود .
وتعالى العويل والصراخ من جديد . وراح بعضنا يتوسل إليهم أن يرأفوا بحالنا ويقسمون لهم إننا لا نملك سوى الملابس التي تستر أجسادنا . فنهرونا وأمرونا أن يصطف الرجال في جهة والنساء في جهة أخرى فامتثلنا لأوامرهم . وترجل عدد منهم وأخذوا يفتشون الرجال واحداً واحداً ويجردون البعض من ملابسهم . وعثروا لدى البعض على صرر نقود فضربوهم وانتزعوها منهم بين توسلاتهم وبكائهم . ثم اتجهوا إلى النساء وراحوا يفتشونهن بنفس الطريقة ويدسون أيديهم في صدورهن وتحت ثيابهن . واستخرجوا بعض الحلي المخبئة فتعالى نواح النساء . وانبعث من بعضنا صيحات احتجاج وحاولوا الاندفاع ناحية النساء فأطلقوا سيلاً من الطلقات فوق الرؤوس . وفرغت العصابة من التفتيش وجمع أفرادها ما تهيأ لهم من مال وحلي وتأهبوا للرحيل . ثم وقفوا بعيداً يتهامسون وعيونهم تتجول في وجوه النساء . وفجأة هجموا على ثلاث من النساء كان من بينهن أختي فاطمة ورفعوهن بقوة ووضعوهن على صهوات الخيل وانطلقوا مسرعين . جرى ذلك في لحظات خاطفة فافترسنا ذهول أصابنا بالشلل . وما أن أفقنا حتى كانوا قد تواروا عن الأنظار . وجريت وراءهم كالمجنون وجرى معي عدد من الرجال ولكن كان عبثا ما نفعل . لم يكن هناك سوى الظلام والصمت . وعدنا أخيراً إلى موضعنا مقهورين فاستقبلنا بالصراخ والعويل . وما أن تهالكت بجوار أبي حتى أنخرط في نحيب مرير . وحملت رنة بكائه من الحزن مالا يمكنني وصفه . وأردت أن أشاركه البكاء لكن الدموع تحجرت في عيني . وفي صباح اليوم التالي كان ابي جثة هامدة فدفناه في نفس الموضع .
وسكت عباس ودموع صامتة تنحدر على وجنتيه . وامتقع وجهه حتى حاكى وجوه الموتى . همهم فوزي في حزن عميق : يا لفظاعة ما شهدت يا عباس .. إن أي عبارة عزاء أقولها لك لن تكون سوى فقاعة في الهواء .
وطال صمت عباس فاحترم فوزي صمته . وأخيراً رفع رأسه وقال وهو يطالع فوزي بعينين حزينتين : هل اقتنعت يا أخ فوزي ان معاناتي تختلف عن معاناتكم ؟ لقد فقدت هويتي وأختي وأبي وأمي التي توفيت بعد أيام من نقلنا إلى المخيم في البلد المضيف .. كل ذلك في أسبوع واحد . وبالمناسبة انتم تشكون من سوء الحياة في هذا المعسكر وياليتكم شهدتهم "المخيم" الذي احتجزنا فيه . كنا نتكدس بالمئات في قاعات شديدة القذارة . وكان الذباب يأكلنا . وفي ذلك " المخيم " سمعت من قصص " المهجرين " ما جعل مأساتي تبدو لي هينة . تصور ان البعض منهم كان من سراة القوم فتحولوا إلى شحاذين . واحترف البعض منهم أوضع المهن . وتشرد آخرون في كل أقطار الدنيا . وقد مات عدد منهم في " المخيم " حزناً وغماً .
قال فوزي وهو يهز رأسه في أسى: هذه الجريمة البشعة التي طالت عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء في بلدنا سيسجلها التاريخ للنظام بمداد من العار .ولكن قد تكون هناك جرائم أبشع منها يا أخ عباس لا يعرف الناس عنها شيئاَ , ففي أقبية النظام ترتكب جرائم يعجز اللسان عن وصفها من التعذيب والبطش والقتل والاغتصاب 0ولكن هل ينبغي لتلك الجرائم أن تجعلنا نكره بلدنا وموطننا ونقف هذا الموقف السلبي من الحياة ؟ فمرتكبو تلك الجرائم ما هم سوى مجرمين .وقد شهد التاريخ أمثال هذه الجرائم البشعة في بلدان عديدة من العالم . وان الموطنين العاديين في تلك البلدان غير مسؤولين عن مثل هذه الجرائم فهم مغلوبون على أمرهم . فكيف يمكن ان تحقد بسببها على مواطني بلدك ؟
قال عباس بنبرة حادة : لا يا أخ فوزي . . من حقي أن احقد عليهم فلم يرفع أي واحد منهم صوتاَ للاحتجاج على ما وقع لنا . كان جيراننا يقفون على أبواب بيوتهم يتفرجون علينا ونحن ننتزع من بيوتنا ونساق إلى ( اللوريات ) كالحيوانات .
قال فوزي : ولكنك تعلم يا عباس أن المواطنين يرزحون تحت سيف الإرهاب البتار والإنسان بطبيعته ينشد الحفاظ على حياته .
قال عباس بلهجة حادة : إذن فما قولك في أولئك الذين راحوا يتسابقون على شراء بيوتنا وممتلكاتنا حينما عرضت في المزاد ؟
قال فوزي : أولئك لا يمثلون سوى نفر ضئيل ممن أعماهم الطمع ففقدوا ضمائرهم . أما الغالبية فقد امتنعوا عن شراء دور وممتلكات " المهجرين " واعتبروها مالاً حراماً . وأنا واثق أن الحقوق لابد أن تعاد إلى أصحابها يوماً .
قال عباس وهو يهز رأسه بقوة : مهما تقدم من أعذار يا أخ فوزي فإنها لا تبرر الموقف السلبي الذي وقفه الناس من مصيبتنا . كان عليهم أن يحتجوا على ما وقع لنا بشكل من الأشكال .
قال فوزي : اسمح لي أن أقول لك يا أخ عباس أنكم أنتم أنفسكم لم تحتجوا احتجاجاً عمليا يلفت الأنظار إلى مأساتكم آملين أن تعفوا من هذا العقاب . ولو ان نفرا منكم قام بعمل احتجاجي يثير الغضب في صدور الناس .. مثلاً أن يضرموا النيران في بيوتهم عند مغادرتها ربما لترددت السلطة في إجراءاتها .
قال عباس : ومن الذي يهون عليه أن يدمر ممتلكاته بيده يا أخ فوزي ؟ ثم هل تتصور حقاً أن مسؤولي النظام كانوا سيكترثون لمثل هذا النوع من الاحتجاج ؟ أنت تعلم انهم لا يكترثون حتى لو أضرمت النيران في البلد بكليته .
قال فوزي وهو يهز رأسه بأسى : في هذا أنت محق يا أخ عباس .. أنت محق جداً .



















وكان نهار
قالت أنجريد : ماذا يدور بين المحتجزين يا فوزي ؟
قال فوزي : أنت تعلمين يا أنجريد أن مدة حجز البعض منهم قد طالت كثيراً . وقد أثار ذلك التذمر بينهم . وإن معاملة هنريك لهم تزيد من تذمرهم .

قالت أنجريد : أنا لا استغرب ذلك , فعقلية هنريك هي من نفس عقلية أولئك الذين وصفهم رمارك في روايته من مريدي نظام ما قبل الحرب .
قال فوزي : مضى أكثر من شهرين على الالتماس الذي قدمه إليه المحتجزون ليرفعه إلى الجهات المسؤولة ولم يفعل شياً , وقد بدأ الكثيرون منهم يفقدون صبرهم . وهم يفكرون بالقيام بنوع من أنواع الاحتجاج ليلفتوا نظر السلطات المسؤولة إلى قضيتهم . لقد سئموا الحجز في المكان .
قالت أنجريد : هذا أمر مفهوم فلا يمكن ان يعوض عن الحرية شئ . ومهما تكن المزايا التي يتمتع بها المحتجزون هنا فهم في آخر الأمر يعاملون معاملة السجناء .
قال فوزي : في الحقيقة يا أنجريد أن الكثيرين منهم خابت آمالهم . بل إن البعض منهم ليتمنى لو أنه لم يهجر بلده . كانت لدينا جميعاً فكرة أخرى عن عدالة بلدانكم الغربية ويظهر أنها كانت فكرة خاطئة .
قالت أنجريد برفق : على أية حال نحن أحسن حالاً من كثير من البلدان الشرقية التي تصادر حريات الإنسان الأساسية كما حدثتني يا فوزي .
قال فوزي : ولذلك هربنا منها . وكنا نتصور أننا سنستقبل هنا غير هذا الاستقبال ، كنت أنا مثلاً أتصور أنني سأنال حقوقي كانسان حالما أجتاز حدود بلدكم .
قالت أنجريد وهي تضحك بلطف : لو حصل ذلك لكان أمراً مؤسفاً لأنك لم تكن لتحضر حينئذ إلى هذا ( المعسكر ) ولما أتيحت الفرصة لي لمعرفتك .
قال فوزي وهو يوصل عينيه بعينيها : من هذه الناحية كان سيكون أمراً مؤسفاً حقاً .
قالت أنجريد بلهجة جادة وهي تتجنبه بنظراتها : وماذا سيكون موقفك من الإجراءات التي ينوي المحتزون اتخاذها يا فوزي ؟
قال فوزي : أعتقد أنني سأكون مع المحتجزين في أي قرار يتخذونه يا أنجريد .
ظلت أنجريد صامتة لدقائق وعيناها تتجولان حائرتين بين رفوف الكتب ، ثم قالت ببط ء من دون ان تنظر إليه : ولكن يجب أن تدرك يا فوزي أن الإدارة لن تتساهل معهم إن شاب احتجاجهم أي لون من ألوان التحدي . وقد تتخذ تجاه المشتركين إجراءات مضادة .
قال فوزي : هذا أمر محتمل فعلاً .
صمتت أنجريد وقد شحب وجهها قليلاً وازدادت بشرتها العاجية بياضاً ، ثم قالت : في هذه الحالة قد تمسك تلك الإجراءات المضادة أنت أيضا يا فوزي وقد تضيع عليك فرصة القبول في بلدنا .
قال فوزي بصوت مرتجف قليلاً : أتمنى من الله إلا يحدث ذلك لأنه لو حدث فسيفترسني حزن عظيم .
ورفع كل منهما رأسه وحدق في وجه الأخر . وتلاقت نظراتهما طويلاً . قالت أنجريد وهي تتجنبه بنظراتها وقد التهبت وجنتاها : أكاد أحدس أن نفس أفكاري تدور في رأسك يا فوزي .
قال فوزي : بكل تأكيد .
قالت أنجريد بلهجة بطيئة : هناك احتمال ان نخسر بعضنا بعضاً .
قال فوزي بأسى : أرجو الله ألاً يحدث ذلك .
ظلت أنجريد صامتة دقائق وهي مضرجة الخدين خافضة النظر . ثم رفعت رأسها أخيراً وقالت : أصارحك يا فوزي أنني لم أكن أعلم أنك صرت مهماً في حياتي إلى هذا الحد . وكنت أنظر إلى علاقتنا بكونها علاقة ثقافية فحسب . وكنت أستمتع جداً بحواراتنا الفكرية . ولكن منذ بلغني ما يدور بين المحتجزين من همس تكشفت لعيني الصورة الحقيقية لعلاقتنا. ووجدتني لا أحتمل فكرة خسرانك ولا أحتمل غياب هذا الوجه الباسم من أفق حياتي .
قال فوزي بحزن : أنت تتحدثين بلساني يا أنجريد .
صمتت أنجريد ثانية وهي خافضة الطرف ثم رفعت رأسها أخيراً وقالت ووجهها يتورد : أفلا تلاحظ يا فوزي أن هذه هي المرة الأولى التي يصارح فيها أحدنا اللآخر بعواطفه رغم مضي شهور على تعارفنا ؟!
قال فوزي وهو يتأملها بنظرات رقيقه : أعتقد أننا لم نكن بحاجة إلى هذه المصارحة يا أنجريد .
تطلعت أنجريد في وجه فوزي بعينين مفتونتين ثم قالت : أصارحك يا فوزي أنك لفتّ نظري منذ محاورتنا الأولى بكونك تختلف عن زملائك الآخرين .
قال فوزي : لا أظنني أختلف عن زملائي يا أنجريد وكل ما هنالك أن الفرص سمحت لك بأن تعرفيني عن قرب أكثر مما تعرفينهم.
قالت أنجريد : لكنني حاولت أن أعرفهم أيضا يا فوزي . من المؤكد أنني حاولت أن أعرفهم . ولا حاجة بي الآن بالطبع لأن أحدثك عن نفسي فقد عرفت كل شئ عني . وعرفت أنني لست ممن يحمل موقفاً معاديا تجاه الشعوب الشرقية . صحيح أن بعض كتابنا يبث أقاويل وتخرصات ضد هذه الشعوب مما يجعل الفرد الاعتيادي منا لا يحبهم ولا يحترمهم . فهم يقولون عنهم أنه ميالون إلى العنف والى عدم احترام حقوق الإنسان . ويتهمونهم بأنهم ينظرون إلى المرأة نظرة متدنية وأنهم بلا حضارة .
قاطعها فوزي بلطف :أنت ولا شك تدركين أن أمثال هؤلاء الكتاب متحاملين ومتعصبين يا أنجريد . فالشرق هو مصدر الحضارات العريقة منذ آلاف السنين حين لم يكن لدى الغرب أية حضارة.
قالت أنجريد : أنا أدرك ذلك بالطبع . وقد علمتني أمي أن أكون ذات نظرة واسعة وألا أحكم على الآخرين حكماً مسبقاً بدون معرفة حقيقة . وأمي يا فوزي ذات عقل راجح وقلب رقيق وأنا متأثرة بها جداً . وحينما عينت مسؤولة عن المكتبة في هذا ( الكامب ) وجدتها فرصة للتعرف على أبناء الشرق . وحاولت أن أقيم علاقات ثقافية مع بعض الذين يترددون على المكتبة،ولكن صدقني يا فوزي .. إن أي واحد منهم لم يفهم غرضي . لقد تصوروا أنني منجذبة إلى سحر الرجل الشرقي . وكان كل ما يدور في أذهانهم متى يجمعنا فراش واحد . وقد أحدث ذلك رد فعل سيء في نفسي فقصرت علاقتي معهم على مهام وظيفتي . وأظنهم قالوا لك أنني متكبرة وأنني أترفع على ضيوف الكامب لأنهم شرقيون .
قاطعها فوزي : بحرارة : أؤكد لك يا أنجريد أن أحدا لم يقل ذلك عنك . بل إنهم قدروا ظروفك .. وقد أخبرني بعض المحتجزين القدماء أن عدداً من الشبان الطائشين أساؤا السلوك معك . بل وأساؤا إلى سمعة الرجل الشرقي بتصرفاتهم الخرقاء معك ، وهم آسفون لذلك .
قالت أنجريد : أنا أدرك ذلك . وبالفعل كان سلوك بعضهم معي لطيفاً وحضارياً جداً . لذلك لم تصدني خيبة أملي عن إقامة علاقة ثقافية معك . وأنا أشعر بالامتنان لك يا فوزي لأنك قومت ما كان يمكن ان يحدث من سوء فهم لدي عن الرجل الشرقي . وأصارحك يا فوزي بأنني وجدتك أثقف من كثير من رجال بلدي الذين عرفتهم وأن ما يروّجه الكتّاب المتحيّزون عن الرجل الشرقي هي أكاذيب باطلة .
قال فوزي وهو يبتسم : شكراً لك على هذه الثقة يا أنجريد .
قالت أنجريد : هذه حقيقة ولست أجاملك يا فوزي . ولا أخفي عليك أن البعض من العاملين هنا ، بل حتى هنريك نفسه ، استنكروا صداقتنا . ولكنني أفهمتهم أنه لا يحق لأي واحد منهم التدخل في حياتي الخاصة وأنك بنظري أفضل من أي رجل عرفته من رجال بلدي .
قال فوزي وقد احمر وجهه : شكراً لك على ثقتك يا أنجريد .
قالت أنجريد وقد رقّت لهجتها : وأصارحك يا فوزي بأنني لم أكن أفكر أبدا في إقامة علاقة عاطفية معك 0 وكان غرضي أن أزداد معرفة بالرجل الشرقي الذي قدم لنا بكونه نموذج يختلف تماماً عن الرجل الغربي ويشكل مهين عموماً أو محاطاً بأساطير وأوهام زائفة . ولقد فهمت أنت غرضي على حقيقته وهذا ما زادني إعجابا بك . وما كان في حسباني أن تتحول هذه المعرفة إلى حب . والآن ماذا سيكون مصير حبنا يا فوزي فيما سيقبل من أحداث؟
قال فوزي وهو يهز رأسه بحزن : لا أستطيع الجواب على سؤالك هذا يا أنجريد فلا خيار للإنسان فيما تخططه له الأقدار .
قالت أنجريد وهي تحدجه بنظرات ثابتة : ليس دائما يا فوزي . الإنسان يستطيع بعض الأحيان ان يكون له خيار تجاه ما تخططه له الأقدار .
قال فوزي : وكيف ذلك ؟
قالت أنجريد وهي ما تزال تحدجه بنظراتها القوية : أن تبعد نفسك مثلاً عن مشاركة المحتجزين في خططهم .
ظل فوزي خافض الطرف دقائق والأفكار تتصارع في رأسه . ثم رفع عينيه أخيراً وقال وهو يطالع أنجريد بنظرات حزينة : يمكنني أن أقوم بذلك فعلاً يا أنجريد ، لكنني في هذه الحالة سأخسر نفسي ولن أكون فوزي الذي تعرفينه . ولا أظنك ستعجبين بمثل هذا الشخص .
تأملت أنجريد وجهه بنظرات طويلة وهي صامتة . ثم قالت أخيرا ووجهها يعبر عن حزن بالغ : أنا أفهمك يا فوزي ، وأنا معك . فلن يروق لي إلا فوزي الذي عرفته .














وكان ليل
أنجريد .. أنجريد ، لو تعلمين كم سيكلفني فراقك لو وقع لا قدر الله . إنه سينكأ جراح قلبي بعد ان اندملت . لقد أعدت إليّ حب الحياة منذ عرفتك . كيف سأحتمل فراقك يا أنجريد ؟ هل سيعيد التاريخ نفسه يا أنجريد ؟ ما أغرب التشابه بين ظروف معرفتي بفريال ومعرفتي بك . لقد جمعنا عشق الأدب وانتهى بنا إلى حب عميق .. لو تعلمين كم أحبك يا أنجريد ! لقد أحببتك منذ اليوم الأول الذي عرفتك فيه . لكنني أعترف لك بأنني لم أحببك حينئذ لشخصك بل لأنني وجدت فيك فريال . ثم ما لبثت أن أحببتك لذاتك يا أنجريد . ولم أكن أتصور إنني سأحب مرة أخرى . كنت أحسب أنني أودعت قلبي في صندوق حديد وأقفلته . لكنني أحببتك على الرغم مني . لقد فرض حبك نفسه على قلبي رغم مقاومتي يا أنجريد ، فقد تراءى لي في البداية انه حب يائس منذور للموت . فأين ظروفي من ظروفك؟ ما أنا سوى مشرد من بلد خامل .. وأنت شابة جميلة من بلد متألق . كيف لي أن احلم بأنك قد تحبينني يوماً ؟! وعبر حواراتنا المتواصلة كنت ألاحظ الدفء في صوتك يتعمق على مر الأيام ، وكنت أطالع في عينيك بريقاً مماثلاً للبريق الذي كان ينعكس في عيني فريال ونحن نتناقش في الأدب . لكنني كنت أسخر من نفسي وأقر بأن تصوراتي ليست سوى أوهام . وأن ما بيننا لا يعدو كونه مشاركة في حب الأدب . وإن التاريخ ليعيد نفسه حقاً يا أنجريد . فلم نجهر أنا وفريال بحبنا إلا حينما هددنا بالفراق . وها نحن نمر بالتجربة ذاتها . هل كتب على قلبي أن يموت مرتين يا أنجريد ؟ ولماذا ينبغي ان يحدث هذا لي ؟! أحياناً أقول لنفسي يا أنجريد ليتني لم اتخذ مثل هذا المنحى في حياتي . لماذا لا أكون كسائر الناس ؟! لماذا لا أحيا كما يحيى الناس العاديون لا يأبهون إلا لما يخصهم ؟ لو كنت كذلك لعشت مرتاحاً ولما أدميت قلبي ، ولكن هيهات 00 هيهات يا أنجريد . هناك قوة فوق إرادتي تدفعني إلى السير في الطريق الذي اخترته .. أو على الأصح الذي اختارته لي الأقدار . فلا بد لي أن أدافع عن العدالة الاجتماعية وأشارك في صنع حياة تليق بالإنسان مهما يكلفني ذلك من تضحيات . وها أنا ذا امتحن في عزيمتي من جديد . تسألينني يا أنجريد إن كان باستطاعتي أن أنأى عن المشاركة في احتجاج المحتجزين 00 لا وألف لا . لقد فعلتها مرة ولن أفعلها ثانية . وكم اقتضتني تلك التجربة من ندم .. وكم ألقمتني من مهانة وعذاب ! و يا لها من تجربة مرة يا أنجريد .. يا لها من تجربة مرة ! وكنا يوم ذاك معتقلين في أقبية المخابرات . وكانوا يحاولون انتزاع الاعترافات منا بكل وسيلة مهما تبلغ وحشيتها. كان التعذيب زادنا اليومي . ولا أحب أن أحدثك عن ألوان ذلك التعذيب لئلا أجرح قلبك الرقيق . ويكفيني أن أقول لك ان صور التعذيب التي عرضها مارياك في رواياته ليست سوى لهو بالقياس اليها . وكنا بين أمرين : إما أن نعترف أو نموت . وبالفعل حصد التعذيب عدداً غير قليل من رفاقنا . وذات صباح استدعانا المسؤول ، وهو نسخة طبق الأصل من صاحبنا هنريك ، وألقى فينا خطبة اتسمت بلهجة استرضاء غير التي ألفناها منه . وأكد لنا في خطبته أن أركان النظام لا يضمرون لنا شراً وكل ما هنالك أنهم يبتغون اعترافاتنا. وذكر لنا أنهم عازمون على تحسين ظروفنا الحياتية . . وقال إنهم سيسمحون للجنة العفو الدولية بالالتقاء بنا وأنهم يتوقعون منا أن نقدم لها فكرة طيبة عن المعاملة التي نلقاها . وختم خطبته بتحذيرنا من الإساءة إلى سمعة النظام . وأحدثت خطبته ردود فعل متضاربة في نفوسنا يا أنجريد . فدعا البعض منا إلى فضح النظام أمام اللجنة . لكن الأغلبية رفضوا هذا الرأي .
والتقينا بلجنة العفو الدولية وقدم لها البعض منا صورة مزيفة عن واقعنا . لكن اغلبنا التزم الصمت . وفجأة قفز رفيقنا محمود ، الذي كان أعظمنا صلابة وتمردا ، وصرخ غاضباً : " لا تصدقوا هذه الأكاذيب .. إنها أكاذيب حقيرة . لقد حذرتنا السلطة مقدماً من مغبة كشف الحقائق أمامكم وتوعدتنا بأقسى العقوبات . اعلموا أننا نعذب حتى الموت وأننا نلقى معاملة وحشية وتعذيباً دائميا . وإذا شئتم التحقق من أقوالي فيمكنكم الكشف على أجسادنا،ثم عرى جسده فبدت آثار التعذيب واضحة على صدره وظهره وبطنه . وصمتنا جميعاً ونكسنا رؤوسنا . فجمعت اللجنة أوراقها وقال مسؤولها : أعتقد أننا في غير حاجة إلى أدلة للتأكد من صدق زميلكم . ونحن نقدّر بواعث صمتكم .
واختفى محمود إثر ذلك اليوم . وفي صباح يوم من الأيام جمعنا في الباحة وأمرنا ان نكون حلقه واسعة . وأقبل المسؤول وهو عابس الوجه . وألقى فينا خطبة قصيرة شكرنا فيها على تعاوننا . وقال إن الإدارة ستحسّن من ظروف حياتنا كما وعدتنا . ثم قال إن واحداً منكم خرج على إجماع زملائه وضرب بالتحذير عرض الحائط وعليه أن يتحمل النتائج .
ثم نادى على الحراس فظهروا وهم يحملون قفصاً من حديد قد تقرفص فيه محمود . ووضعوا القفص على الأرض في وسط حلقتنا وفتحوا بابه واخرجوا محمود وهو مصفد بالأغلال . وما كادت أنظارنا تقع على وجهه حتى ارتدت عنه في هلع . كان وجهه مشوهاً تشويها فظيعاً . وخاطبه المسؤول قائلاً : كان عليك أن تدرك أننا لن نتساهل مع أي شخص يحاول الإساءة الى سمعة النظام أمام العالم . وقد نغفر أي شئ إلاّ هذا . وقد جنيت على نفسك وستكون عبرة لمن اعتبر .
وأشار بيده إلى الحراس فانهالوا على محمود بهراوات حديدية . وضجت الساحة بصرخاته الوحشية . وتناثر دماغه في كل الاتجاهات وأصابنا رشاش منه . وكان كابوساً مروعاً . ولا يمكنني أن اصف لك يا أنجريد وقع تلك الدقائق علينا . وقد ظل العديد منا يتقيئون حتى اليوم التالي .
واتفقت آراؤنا بعد ذلك على أن صمتنا أمام اللجنة كان مشاركة منا في هذه الجريمة . واقسمنا ألاّ يتكرر منا مثل هذا الموقف في المستقبل تحت أي ظرف من الظروف وفاء منا لذكرى محمود وتقديراً لتضحيته . وبقينا مضربين عن الطعام لمدة أسبوع . هذه الحادثة خلفت في نفسي يا أنجريد أثراً لا يمحى . وعانيت من الشعور بالضعة شهوراً طويلة . وقد عاهدت نفسي على ألا أخرج على أجماع رفاقي .
المناضلين اتقاء للعقاب مهما تكن خطورته . وهكذا ترين يا أنجريد أنني لا يمكن بأي شكل من الأشكال ان اخرج على قرار زملائي . وإذا كان في نية القدر أن يواجه حبي لك بنفس الموقف الذي واجه به حبي لفريال فليس أمامي إلا الانصياع لحكمه . وهل بقدرة الإنسان أن يفرّ من قدره يا أنجريد ؟!






ليست نهاية
جلس زياد الشيخ إلى مائدة عباس الرضا يشاركه كؤوس البيرة . قال عباس : أخيراً ستكون رفيقي الدائم يا أخ زياد في الكافتيريا .
قال زياد الشيخ : هل لديك مانع ؟
قال عباس : بالعكس . أصبحت راغباً في أن يشاركني الآخرون مائدتي . قال زياد الشيخ : مع انك لم تكن تطيق التحدث مع أحد .
قال عباس بنبرة حزينة : إنني بدأت أشعر بالوحدة يا أخ زياد بعد ان فارقني فوزي . ومن المؤسف أن صلتنا لم تتوثق إلا قبل فترة قصيرة من ذهابه .
قال زياد الشيخ وهو يجرع كأسه : إن فوزي شخص ممتاز وقد خسرناه .
قال عباس وهو يهز رأسه بأسى : إنه شخص ممتاز حقاً . ومن المؤسف أنني وقفت منه موقفاً سلبياً . وقد بدأت أعيد النظر في كثير من الأفكار التي كنا نتناقش فيها .
وساد صمت قصير بينهما كانت مسحة من الحزن تعلو وجهيهما . قال زياد الشبخ أخيرا : لم يعد الكامب كما كان بعد أن رحل منه العديد من رفاقنا . وأنا بالذات خسرت زملاء أعزاء كانوا يشاركونني في لعب الشطرنج والورق . أصبحت قاعة الثرثرة موحشة بعد أن كانت تضح بالحياة.
وسكت زياد الشيخ قليلا ثم عاد يقول بلهجته الحزينة: إنها بالتأكيد لم تعد كما كانت من قبل . وأنا شخصيا لم يعد يطيب لي الجلوس فيها .. بل لم تعد الحياة تطيب لي في الكامب بكليته . وقد بدأت أضيق ذرعا بوجودي هنا .
قال عباس وهو يضحك ضحكة قصيرة : فما عليك يا أخ زياد إذن إلاّ أن تشاركني مائدتي في الكافتيريا .
قال زياد الشيخ : أعتقد أنني سأكون من رفاقك الدائمين فعلاً .
وسكت لحظة ثم أضاف محزونا : المهم أننا لا نزال عايشين .
وران عليهما صمت ثقيل : ثم عاد زياد الشيخ يقول كمن يحدث نفسه : صحيح أنني حذرتهم من القيام بالاحتجاج لكنني لم أكن أتوقع أن تكون نتائجه على هذا النحو .. أن يُطرد نصف المحتجزين !
قال عباس : لا تنسى أن الاحتجاج خالطه شئ من العنف .
قال زياد الشيخ : كان ذلك أمراً مؤسفاً ولم يكن مخططاً له . ولم يكن في الحسبان ان يتحول الاحتجاج إلى تمرد وشغب . لكن أعصابنا نحن الشرقيين تفلت منا دائما في مثل هذا النوع من الاحتجاجات .
أقبل كارل على مائدتهما وقال : لماذا تبدوان حزينين إلى هذه الدرجة يا صديقيّ ؟! يجب ان تكونا واقعيين .
قال زياد الشيخ : لقد فقدنا رفاقاً أعزاء يا كارل لا ندري ما مصيرهم . فكيف لا نحزن ؟
قال كارل : هذا صحيح فأنا أيضا حزين لمفارقة بعض أولئك الأصدقاء وخصوصا سامان وكذلك فوزي .
قال زياد الشيخ : كان سامان قطب " الكامب " . وكنت تراه أمامك في كل مكان .
قال كارل وهو يهز رأسه : هذا صحيح . كنت أحب سامان كثيراً . أنا افتقده بالتأكيد . والذي يحزنني انه سيعود للمعاناة من جديد .
قال زياد الشيخ : ولكنه لم يكن يستحق لا هو ولا فوزي مثل هذا العقاب . بالعكس .. كان على الإدارة أن تشكرهما على موقفهما . لقد بذلا كل ما في وسعهما لكي يكون الاحتجاج سلمياً وألاّ يتحول على شغب .
قال كارل ساخراً : وهل تعتقد أن ذلك يجعل هنريك يغفر لهما دورهما في تدبير الاحتجاج ؟ ويؤسفني أن أقول لكما يا صديقيّ ان بعض زملائكما كانا يمدّانه بالأخبار أولاً بأول .
قال زياد الشيخ في استنكار : لقد خمنت ذلك .
قال كارل وهو يضحك باحتقار : على كل حال سيكافأ أولئك الأشخاص مكافأة طبية ، وستكون أسماؤهم على رأس قائمة المقبولين كمواطنين في هذه البلاد .
قال زياد الشيخ بمرارة : إذن فما الفرق بين أنظمتنا الشرقية المتخلفة وأنظمتكم الغربية المتقدمة يا كارل ؟
قال كارل : الفرق بينهما أن أنظمتكم تصادر حقوق الإنسان وتمتهن كرامته جهارا. أما أنظمتنا فتفعل ذلك سراً وبأساليب ملتوية تجعل تصرفاتها مقبولة ومرضية أمام المواطنين والعالم .
قال زياد الشيخ وفي صوته رنة أسىً : يا للعالم الصغير المعذب !
قال كارل : نعم إنه عالم معذب حقاً ، ولكن بوجود أمثالكم من المضحين لابد ان يصبح عالماً سعيداً في يوم من الأيام .
تمت












#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الهوية