أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شاكر خصباك - تساؤلات وخواطر فلسفية















المزيد.....



تساؤلات وخواطر فلسفية


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2486 - 2008 / 12 / 5 - 10:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


استهلال
في هذا الزمن الطافح بالعسف والمرارة والإحباط ، زمن السلاطين الطغاة ، يجد المرء قدراً من العزاء في حواره مع نفسه حين يعز الحوار مع الآخرين .

مرحلتنا الحضارية
- ما اسم المرحلة الحضارية التي نشهدها اليوم في رأيك يا صاحبي ؟
- إذا كنت تبحث عن اسم يكمل التقسيم التقليدي للحضارة البشرية في تسلسله من مرحلة المشاعية إلى مرحلة العبودية إلى مرحلة الإقطاعية إلى مرحلة الرأسمالية فلا أدري أي اسم يمكن أن تختار لمرحلتنا الحاضرة.
- لكنني لا أعتقد أننا تجاوزنا بعض مراحل هذا التقسيم التقليدي يا صاحبي.
- ماذا تعني ؟!
- أعني أننا ما زلنا نتخبط في مرحلته الثانية وهي مرحلة العبودية .
- لكن المعروف أن هذه المرحلة بادت من أمد بعيد في كل بلدان الدنيا .
- أتعني أن البشر صاروا أحراراً حقاً يا صاحبي ؟!
- أولا تزال هناك بلاد يبُاع ويشترى فيها الإنسان إذن ؟!
- وهل تعرف أنت يا صاحبي بلاداً لا يُباع فيها الإنسان ولا يُشترى بشكل أو بآخر ؟!
- أنت محق في ذلك 0ولكن اطمئن فلا بد لنا أن نجتاز هذه المرحلة يوما0
- ومتى سنجتاز هذه المرحلة في تصورك يا صاحبي؟
- يوم يصبح السلاطين أثرا من آثار الماضي، ويوم يتحرر البشر من همومهم المادية,ويم يقهر الإنسان أنانيته وعنجهيته وغروره فحينئذ نتخطى مرحلة العبودية0
- أي أننا لن يتسنى لنا تخطي مرحلة العبودية يوما0
- لعلك محق في ذلك0


- المستضعفون في الأرض
- ألم يقل الله وهو خير القائلين:
- ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكنهم في الأرض؟
-صدق الله العظيم0
- ترى متى يمن الله في تصورك يا صاحبي على المستضعفين ويمكنّهم في الأرض؟
- إن الله يمنّ بين الحين والحين على المستضعفين ويُتيح لهم الفرصة ليكونوا سادة ، ولكن ما أن يُفسح لواحد منهم فيبوأ كرسي السيادة حتى ينتقض على إرادة الله فيردّ المستضعفين إلى ما كانوا عليه .
- إذن متى ينتفع المستضعفين بمثل تلك الفرص يا ترى فيحتفظون بسيادتهم يا صاحبي؟
- حينما يعقدون العزم على أن لا يتيحوا لفرد منهم أن يستأثر بالأمر دون الآخرين.




هذا الزمان
- سأصارحك بأمر يمضنّي يا صاحبي .
- أفض بما في نفسك لعلك تخفّف عنها .
- لقد بتّ أحتقر نفسي يا صاحبي لأنني أعيش في هذا الزمان .
- وهل لديك خيار في هذا الأمر ؟!
- أجل ، لديّ خيار يا صاحبي ، ولكنه خيار صعب .
- وما ذاك ؟
- أن أثور على هذا الزمان وإن كلّفني ذلك حياتي .
- ما عهدتك ثوريّاً إلى هذا الحدّ ! أفلست من الداعين إلى الاعتزاز بالحياة مهما تقس الظروف ؟!
- بلى ، لكن الحياة قد تصبح عبئاً ثقيلاً يوقر ظهر المرء يا صاحبي ، وهناك من يفرّط بها من أجل زمان أفضل للبشر فيقدّمها ثمناً لمجاهدة الجور والطغيان والفساد ومن أجل الحرية والعدالة ، وهؤلاء هم أبطال الإنسانية الحقيقيون أشباه الأنبياء .
- وما يمسكك عن أن تتشبه بهؤلاء الأبطال ؟
- يمسكني أمران يا صاحبي ؛ الأول افتقادي للشجاعة التي تعينني على مجاهدة سلاطيننا الطغاة .
- والثاني ؟
- الثاني اتعاظي بتجربة الشاعر اليوناني القديم هزديوس الذي شكا من فساد زمانه وانحطاطه وتمنى لو بعث بعد ألف عام ليحيا في زمن صالح يعمّ فيه الخير جميع البشر . وها قد انقضت ثلاثة آلاف عام على أمنيته والزمان هو هو إن لم يكن أشدّ نكداً !
- إذن فما عليك إلاّ أن تتعزّى بأنك إن لم ترزق الشجاعة للتمرد على زمان الاستبداد والفساد والانحطاط فلست في الأقل من الجفاة الذين لا يعنيهم أن يكون الزمان ما يكون .

















الإنسان أثمن قيمة على الأرض
- أتراك تعتقد يا صاحبي أن الإنسان أثمن قيمة على الأرض كما يقول البعض ؟
- بالطبع أنا من المؤمنين بهذه المقولة .
- ولماذا تعدّه أنت أثمن قيمة يا صاحبي ؟!
- لأنه لولاه ما ازدهرت الحياة على الأرض .
- ولولاه أيضاً ما هدّدت الحياة على الأرض بالفناء يا صاحبي 0ولاشك أن الأرض كانت أفضل حالاً قبل ظهوره .
- وما الذي يحملك على هذا القول !!
- أفلا ترى يا صاحبي أن الأرض ضاقت بمشكلاتها منذ عمّرها الإنسان ؟! أفلا ترى كيف قضى على الكثير من غاباتها ، وكيف أهلك العديد من حيواناتها ، وكيف لوّث هواءها ومياهها ، وكيف أوشك أن يستنفذ مواردها . ثم كيف استعبد كل ما يدب فوق سطحها ، بل واستعبد بعضه بعضاً ؟! وهاهو ذا يوشك أن يهلك الأرض وما عليها إن لم يتدارك أمره !
- لا تخش على مصير الأرض من تصرفات الإنسان الحمقاء ، فما هي سوى مرحلة عابرة من حياته المضطربة ، وحينما يخرج عقله من أسر الهوى سيوفر لنفسه وللأرض الحياة الزاهرة .






عالم الألغاز !
- هل لك أن تقدّم لي بعض الوصايا ألتي تعينني على النجاح في عالمنا الصغير يا صاحبي ؟
- إليك هذه الوصايا التي ستقودك في طريق النجاح : إذا كنت تشقى بخلّة يعابها المجتمع فأسرف في ذّمها جهاراً .
- لم أفهم عنك يا صاحبي !
- إذا كنت ممن يستحل الجرائم بحق المجتمع فالعن مرتكبي أمثال تلك الجرائم .
- لم أفهم عنك يا صاحبي !
- إذا كنت ممن يمارس الفساد تجاه المجتمع فالعن الفسدة دوماً .
- لم أفهم عنك يا صاحبي !
- إذا كنت ممن يبدّل هواه حسب هوى السلاطين فالعن المتلوّنين في هواهم.
- لم أفهم عنك يا صاحبي . إن وصاياك هذه أشبه بالألغاز !
- ما ذنبي إذا كان عالمنا الصغير هو عالم الألغاز !؟







أمل
- أليس الإنسان خليفة لله في الأرض يا صاحبي ؟
- بلى ، فقد قال الله في كتابه العزيز : " وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " .
- فإذن لا شك أن السلاطين قد خانوا الأمانة التي حمّلوها بما ملئوا الأرض من جور وعسف وفساد .
- أنت محقّ في ذلك ، بل إن بعضهم يتصرف وكأنه أصيل في مركزه وليس خليفة لأحد !
- لو تذكر السلاطين أنهم خلفاء في الأرض لامتلأت الأرض عدلاً وخيراً يا صاحبي !
- وهذا ما سيحدث في يوم من الأيام حينما يتولّى أمر الناس أشخاص يدركون جوهر الحكم .









ميزان الإدراك

- لابد أنك تلاحظ يا صاحبي أن التعاسة تكاد تكون القاسم المشترك الأعظم بين البشر ، فما سبب هذه الظاهرة في رأيك ؟
- إذا لم تكن تقصد التعاسة الصادرة عن الفقر والحرمان أو عن بغي السلاطين فإني أعتقد أنها تؤول إلى اختلال كفتي ميزان الإدراك لدى البشر ورجحان كفّة الهوى على كفّة العقل ، وقد عجز البشر حتى اليوم عن موازنة كفتي هذا الميزان .
- ومن المسؤول عن ذلك يا صاحبي ؟
- إنك تثير بسؤالك هذا معضلة طالما شغلت بال المفكرين المسلمين فانقسموا إلى مؤمن بـ " الجبر " مؤيّد " للاختيار " ومن الآراء الراجحة ان الخالق قد خلق الإنسان بشراً سويّاً ومنحه الإدراك وترك له حريّة توجيه حياته .
- فهل تعتقد إذن يا صاحبي أن البشر سيفلحون يوماً في تقويم هذا الميزان؟!
- بالطبع ، وحينئذ سيهتدون إلى الحياة القويمة .
- وكيف سيدركون ذلك الهدف يا صاحبي ؟
- حينما يتم للعقل أن يخرج من أسر الهوى .
- إذن فلا أمل في بلوغ هذا اليوم يا صاحبي لأن الهوى سيظل السيّد المطاع وسيبقى العقل خاضعاً له ما دام الإنسان هو الإنسان وإلا لانتفع بوصايا الحكماء بدءاً ببوذا وكونفوشيوس وسقراط وديوجونيس وأبيقورس والقارابي وابن سيناء وابن رشد وانتهاء ببسكال وديكارت واسبنوزا وماركس .
- أحسب أنك مغرق في تشاؤمك هذا ن فلو لم يكن هناك أمل في بلوغ هذا اليوم ما كان هناك وجود لمن ذكرت من الحكماء .

















كما تكونوا يولى عليكم
- أطمع منك يا صاحبي في جواب يبدّد عجبي في شأن السلاطين في عالمنا الصغير الذين يحركون شعوبهم كما تحرك الدمى والذين يتصرفون نيابة عنها في كل شيء .
- وفيم عجبك ؟
- أفلا ترى يا صاحبي أن أكثرهم بعيدون عن الكفاية التي تؤهلهم لشغل مراكزهم ؟
- وما حاجتهم إلى الكفاية ما دام في استطاعتهم ان يسجنوا أو يقتلوا أو يشرّدوا معارضيهم بما لديهم من بأس .
- ولكن أفلا ترى أيّ نوع من الأشخاص يشغلون هذه المراكز في العالم الكبير يا صاحبي ؟
- وهل نسيت المقولة الشهيرة " كما تكونوا يولى عليكم " ؟









المجتمع الأمثل
- بودّي لو بصرتني بأمر يحيرني يا صاحبي .
- إني سامع لك .
- إني لا تساءل دوماً إن كان البشر سيبلغون يوماً المجتمع الأمثل دون أن أحظى بجواب شاف .
- وماذا تعني بالمجتمع الأمثل ؟
- أعني المجتمع الذي يوفّر العدل والمساواة والرفاه للجميع ويقضي على ظلم الإنسان واستغلاله لأخيه الإنسان ويحافظ على الكرامة الإنسانية .
- أي انك تعني ما أسماه أفلاطون والفارابي وتوماس مور " بمجتمع المدينة الفاضلة " .
- شيئاً من هذا القبيل .
- من المعلوم ان المجتمع الأمثل كان حلم الفلاسفة دوماً ، ولابد أن يكون هذا الحلم مستنداً إلى دعائم من الواقع ، أي أنه لابد ان يتحقق في يوم من الأيام .
- أما أنا فيبدو لي أن الإنسان لن يدرك ذلك اليوم يا صاحبي .
- ولماذا اليأس ؟
- لأن الإنسان لن يكون أمثل يا صاحبي ، فهو أسير أنانيته ومآربه الشخصية ولم تنفع معه وصايا الأنبياء والحكماء الذين صاغوا له على مرّ الزمان نظم الحياة المثلى . ويبدو أن الوقت ما زال بعيداً جداً ليتخلى عن أنانيته وعنجهيته وغروره .
- الإنسان ابن المجتمع ، فإذا ما ارتقى المجتمع وأصبح أمثل فسيكون الإنسان أمثل بطبيعة انتمائه لمجتمعه .
- ولكن رقيّ المجتمعات أمر غير مضمون الدوام يا صاحبي . ولدينا العديد من الأمثلة التاريخية . فكثيراً ما اقتربت بعض المجتمعات في نظامها وطريقة حياتها من المجتمع الأمثل الذي رسمه الأنبياء والمصلحون والحكماء ثم هوت إلى الحضيض ثانية وسادت فيها من جديد مفاهيم الإنسان البدائي التي تتمركز حول المآرب الذاتية وكأن الكتّاب لم يكتبوا شيئاً وكأن الإنسان لم يتعلم شيئاً ! حتى ليحسب المرء انه لا جدوى من هذه المحاولات التي يبذلها الحكماء والمصلحون والكتّاب في تقويم المجتمع البشري .
- دعك من الأفكار اليائسة واعلم أن مثابرة الإنسان على بلوغ المجتمع الأمثل هي التي أخرجته من عهد الغابة ورفعته إلى مجتمعاته الحاضرة رغم نقائصها0 ولا ريب انه سيظل يكافح لبلوغ هذا الهدف حتى يدرك له بغيته مهما طال الزمن .

الدنيا العجيبة
- لقد أرتنا الدنيا العجب العجاب يا صاحبي . فمن كان يتخيّل أن أمثال أولئك الرجال الذين عُرفوا بصلابتهم في الحقّ والتزامهم بأماني المستضعفين يسفّون هذا الإسفاف الشنيع فيتنافسون في التقرّب إل سلاطيننا الطغاة ؟!
- وفيم العجب ؟! أفتنكر دور المغانم والرغبات في سلوك البشر ؟
- فما مصير المُثل والمبادئ إذن يا صاحبي ؟! إذا كان أمثال هؤلاء الرجال يتنكرون لمثلهم بدافع من المغانم والرغبات الذاتية فيتملقون السلاطين، فما بالك بالبسطاء من الناس ؟!
- وهل تحسب هذه الظاهرة بدعة في عالمنا الصغير ؟ ألم تقرأ في أسفار التاريخ عن جاذبية السلاطين ؟
- زدني علماً يا صاحبي .
- ما عليك إلاّ أن تقرأ صحائف من قصة الصراع بين عليّ ومعاوية حتى تدرك أن ما تعجب له ليس سوى ظاهرة مألوفة لدينا منذ القدم . فمن المعلوم أن الإمام عليّ كان رجلاً يمثل الدين الإسلامي بكل ما يطمح إليه من عدل ونزاهة وخير ، وأن معاوية كان رجلاً يمثّل الدنيا بكل ما تسعى إليه من مطامع ومغانم . ومع ذلك أفلح معاوية في اجتذاب أقرب الناس إلى علي وهو أخوه عقيل .
- ما أعجب ذلك !
- وفيم العجب ؟! هذا هو القانون الذي يسيرّ الدنيا منذ وُجد السلاطين على هذا الكوكب المبتلى .

















عالم لا عقلانيّ
- ألا ترى يا صاحبي أن عالمنا هذا عالم لا عقلانيّ ؟!
- أرجو ألاّ تكون واقعاً تحت تأثير ذلك الفيلسوف السوداوي شوبنهور0
- أنا لا أقصد المعنى الذي يقصد إليه شوبنهور بهذا التعبير يا صاحبي. ولكني أقول أنه لو لم يكن عالما لاعقلانيا فعلا ما عانى البشر ما عانوه من حروب لم يخب أوارها في جميع الأزمان منذ تميّزت مجتمعاتهم من الحيوان .
- أنا أتفق معك في انه كان خليقاً بالبشر ان يتعاونوا لخلق المجتمع الأفضل بدلاً من الانهماك في حروب مدمّرة ، ولكن إدراكهم لم يبلغ هذا المستوى من الرقيّ في عهودهم الغابرة .
- فإذا لم يكن إدراكهم في الماضي قد بلغ من الرقيّ ما يبصرّهم بهذه الحقيقة يا صاحبي ، فهل يمكن اتهامهم اليوم بذلك بعد ان بلغ العقل البشري ما بلغ من رقّي ؟! ومع ذلك فنحن نراهم يتهيئون لحرب شاملة لن تبقى ولن تذر بدلاً من ان يتعاونوا على خير البشرية .
- ذلك لأن السلاطين البغاة وحواريهم ما زالوا هم المتحكمون في مصير البشر ، كما أن الهوى لا العقل ما فتيء المحرّك الأول للبشر .
- إذن متى يحلّ اليوم الذي يصبح فيه للعقل السلطان الشامل على البشر فينقذهم مما يتهددهم من دمار ؟!
- لا أحد يدري ، لكن المعروف انه قد مضى على دعوة كونفوشيوس العقلانية القائلة : " لا تحبب لغيرك ما لا تحبه لنفسك " أكثر من ألفين وخمسمائة عام ولم تأت بثمارها بعد !

قوانين حمورابي
- هل توحي إليك قوانين حمورابي بمعان معينة يا صاحبي ؟
- بالطبع ، إنها توحي إليّ بعراقة الحضارة في عالمنا الصغير ، فـ " القانون" هو أعظم ابتكار حضاري ابتدعه الإنسان لتنظيم حياته ، وهو جدير بأن يكون سيدّ الجميع . وبدونه لا يمكن أن تكون الدولة دولة حقيقية ، وهو جدير بأن يكون سيّد الجميع وبدونه لا يمكن أن تكون الدولة دولة حقيقية .
- وبماذا توحي إليك أيضاً فيما يخصّ السلاطين في عالمنا الصغير ؟!
- إنها توحي إليّ بأن السلاطين في عالمنا الصغير لا يحترمون اليوم القوانين كما كانوا يجلّونها بالأمس.
- أما أنا فتوحي إليّ بأمر آخر يا صاحبي .
- وما ذاك ؟
- إنها توحي إليّ بأن سلاطيننا الجدد هم أحفاد حقيقيون لحمورابي.
- وكيف ذلك ؟
- إذا شئت أن تدرك هذه الحقيقة يا صاحبي فما عليك إلاّ أن تقرأ التصدير الذي استهل به حمورابي قوانينه والذي بدأ كل مقطع منه بكلمة "أنا"0 ولا أظن بك حاجة إلى دليل أقوى من ذلك على تلك القرابة الحميمة .
- أنت محقّ في ذلك ، ولهذا صحّ وصف الحكم منذ ظهوره في عالمنا الصغير بـ " الاستبداد الشرقي " !



وصايا أخلاقية
- إن بي حاجة اليوم إلى وصاياك الأخلاقية يا صاحبي ، فأينما تلفتّ حواليّ افتقدت النزاهة والشجاعة والترفّع عن مطامع الدنيا !
- إليك إذن بعض الوصايا علّها تشدّ إزرك : إذا اختار المرء طريق الخير والحقّ والعدل فعليه أن يصمد للتبعات بشجاعة لأنه سيكون طريقاً محفوفاً بالمشقّات والتضحيات .
- صدقت يا صاحبي .
- التضحية هي سلم البشرية إلى الكمال ، وأولى عتباتها التضحية بالمصلحة الشخصية من اجل مصلحة المجموع .
- صدقت يا صاحبي .
- لا يستحي الرجل الفاضل من الحقّ ولا يجامل على حساب الحقّ .
- صدقت يا صاحبي . ولكن من أين لي بكل هذه الشجاعة للأخذ بهذه الوصايا ؟
- لماذا إذن تريد أن تميّز نفسك عن عبيد هذا الزمان الذي يفتقدون النزاهة والشجاعة ؟!


تعاضد البشر
- ألا تتذكر يا صاحبي " حكاية الحمامة المطوقة " من حكايات " كليلة ودمنة " ؟
- لعلك مذكري بها0
- إنها تلك الحكاية التي تحكي عن تآلف جرذ وغراب وسلحفاة وظبي وما جرى لها من خطوب وأحداث وكيف وسعها مواجهتها بتعاونها وتعاضدها .
- هي حكاية لطيفة فعلاً .
- فهل تتذكر العبرة التي خُتمت بها الحكاية يا صاحبي ؟
- لعلك مذكّري بها .
- لقد ختمت الحكاية بالقول : " إن الإنسان الذي أعطي العقل وأُلهم الخير والشرّ ومُنح التمييز والمعرفة أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد " .
- وهو قول حصيف فعلاً . وليت البشر ينتفعون بمثل هذه الحكاية فيتعاضدون لبناء المجتمع الأفضل بدلاً من أن يدمرّ بعضهم بعضاً حتى ضمن الأسرة الواحدة أحياناً . بل إن غربتهم عن بعضهم بعضاً لتشتد كلما ارتقت حضارتهم .
- أنت محقّ في ذلك . لو كان البشر يحسنون الاتعّاظ لتجاوزوا الكثير من متاعبهم المادية والروحية ولما رأينا الدنيا على ما هي عليه اليوم .



قانون الدنيا
- لقد ابتكرت قانوناً يحكم شؤون الدنيا يا صاحبي .
- ما عهدتك مشرّعاً للقوانين !
- أصغ إليّ يا صاحبي وسترى . يتمحور هذا القانون حول خلّتين ونقيصتيهما وهما : " والخوف والطمع " و " الشجاعة والنزاهة " .
- ماذا تعني بذلك ؟
- أعني يا صاحبي أن ترقيّ الدنيا يتناسب طردياً مع ازدهار الشجاعة والنزاهة وانتكاس الخوف والطمع وعكسيا مع انتكاس الشجاعة والنزاهة وازدهار الخوف والطمع .
- أجاد أنت ام هازل ؟
- وأين وجه الهزل فما قلت يا صاحبي ؟
- لأنك تزعم أنك ابتكرت هذا القانون مع انه مألوف للبشر منذ وجدوا على هذا الكوكب المبتلى .
- قد يكون مألوفاً للبشر منذ القدم فعلاً يا صاحبي لكنه لم يسبق ان صيغ بمنطق رياضيّ .
- فاعلم إذن ان منطقك الرياضي هو أمر مألوف ، وأن قانونك يمثـُل بديهيات الدنيا ، ولقد استثمر السلاطين جانبه السلبيّ فحكموا بمنطقة منذ الآف السنين وما زالوا يحكمون بمنطقة حتى اليوم .




الدول المتخلفة
- إن عجبي لا ينقطع يا صاحبي من حال السلاطين في عالمنا الصغير .
- وكيف ذلك ؟!
- أفلا ترى أنهم نادراً ما يتخلّون عن كرسي السلطنة إذا ما تبوئوه وكأنه قد أصبح حقاً إليهاّ لا ينازعهم فيه أحد ؟!
- وفيمّ عجبك ؟ أفترى الأمر بدعة هذا الزمان ؟
- أفليس الأمر كذلك إذن ؟
- فأنت لم تسمع بمقولة زيد بن المهلّب ؟
- زدني علماً يا صاحبي .
- سُئل زيد بن المهلب أحد ولاة بني أُميّّة : " ألا تبني لك داراً ؟ "فأجاب " منزلي دار الإمارة أو الحبس " .
- ربما كانت هذه المقولة تناسب السلاطين القدماء يا صاحبي ، أما سلاطيننا الجدد فقد ارتقى أكثرهم كرسي السلطنة بهدف القضاء على الاستئثار بالحكم ، فكيف يمكن أن يستسيغوا احتكار السلطان وكأنه لا يوجد غيرهم يصلح للحكم مع أن المفروض ان يتيحوا الفرصة لآخرين قد يكونون خيراً منهم ؟!
- وعلاّم إذن اختاروا السياسة حرفة لهم وجاهدوا وتعرضوا للمخاطر ؟ فكيف تريدهم أن يحرموا أنفسهم من هذا النعيم الذين لم يكونوا يحلمون به ومن هذه الأبهة والسلطان والتحكّم في الناس ؟
- لكن الأمر خلاف ذلك في العالم الكبير يا صاحبي .
- ليس في كل العالم الكبير . ثم فيمّ تسمى دول عالمنا الصغير ومن لف لفّها علانية بـ " الدول النامية " وسرّاً بـ " الدول المختلفة " ؟!

موقف ذوي الحكمة والرشاد في عالمنا الصغير
- أنت تعلم يا صاحبي أن أجدادنا من ذوي الحكمة والرشاد كانوا يزهّدون الناس في الحياة الدنيا ويلزمونهم بمعايشة الموت دوماً . فهل تُراك تقرّهم على هذه السياسة ؟
- الموت أشنع حقيقة ملازمة للحياة ولن يستطيبه البشر حتى لو كانت حياتهم أمرّ من العلقم . غير أن هناك معايير وضرورات إذا فقدت تساوت الحياة والموت .
- فماذا كان قصد أجدادنا الحكماء إذن يا صاحبي ؟
- أظن أن قصدهم واضح لكنهم كانوا يخشون التعبير عنه صراحة تجنباً لبطش سلاطينهم . فحياة الناس كانت تحت ظلّ أولئك السلاطين خير منها الموت .
- فهل ترى أن حياة الناس في عالمنا الصغير قد تغّيرت في ظل سلاطيننا الجددّ ؟
- إن كانت قد تغيّرت فلا يمكن القول أن التغيير جوهري .
- فما موقف رجالنا من ذوي الحكمة والرشاد من هذه الحقيقة يا صاحبي ؟
- أفليس رجالنا هم سلالة أولئك الأجداد ، فهل تتوقع أن يكون موقفهم مغايراً لموقف أجدادهم ؟!




العدل
- ونحن نسمع بما يجري في العالم الصغير والكبير من مصادرة لحقوق الإنسان ومن سحق لأبسط مبادئ العدالة والكرامة الإنسانية ، هل تتصور يا صاحبي أن هناك أملاً في بسط العدل على الأرض يوماً ؟!
- بالطبع هناك أمل ولا ريب في ذلك .
- ومتى يتحقّق هذا الأمل يا صاحبي ؟
- عندما يقتنع كل امريء قناعة خالصة أن العدل ليس هو ذلك الثوب الذي فصّل على قدّه فحسب ، بل الذي فصّل على قدّ الآخرين أيضاً ويعمل على الأخذ بذلك .
- وهل تعتقد أن هذا أمر ممكن يا صاحبي ؟
- لا أعتقد أنه أمر ممكن طالما يحكم في الأرض سلاطين بغاة . فالمعايير الخلقية في ظلّ هؤلاء السلاطين تفقد معانيها كلياً .








المال الحلال !!
- ألم يقل الله في كتابه المبين : " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم . يوم يُحمى عليها في نار جهنّم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " ؟
- صدق الله العظيم 0
- أو لم يقل السيد المسيح : " لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقّب السارقون ويسرقون بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا ينقّب سارقون ويسرقون " ؟
- هكذا ورد في الإصحاح السادس من إنجيل متّى .
- إذن أفلا يجد ذوو الثراء من أتباع رسولنا الكريم والسيد المسيح حرجاً فيما يبدون من التّقى وهم يكنزون القناطير المقنطرة يا صاحبي ؟
- ولماذا يجدون حرجاً وهم يزعمون أنهم كسبوا أموالهم حلالاً بعرق جبينهم ؟
- وهل يمكن أن تنمو ثروة باذخة لامرئ من دون ان تهدر بشكل ما حقوق آخرين صاحبي ؟!
- ولذلك قال السيد المسيح : " إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت الله " .





صمّ بكم عمي فهم لا يعلمون !
- زدني نصحاً يا صاحبي فإني أشعر اليوم كأن عصابة سوداء تحجب الرؤية عن عيني .
- وما فائدة النصح إن لم يترك أثره فيك ؟ فها أنت ذا تكشف عن تشاؤمك وكأنك لم تسمع مني نصحاً من قبل .
- وما حيلتي يا صاحبي إذا كان زماننا هو زمن الخيبة والإحباط ؟
- وهل تحسب أن الزمان كان في أي مكان من كوكبنا المبتلي خلاف ذلك يوماً ؟!
- أتعني أن الزمان على امتداده لم يكن سوى سلسلة من الخيبات المتكررة يا صاحبي ؟
- في نظر أصحاب المثل العليا فحسب . أما في نظر الأنانيين واللامباليين والانتهازيين والمنافقين فهو زمان طيّب والحياة فيه رخيّة ناعمة وادعة.
- فبماذا تنصحني إذن يا صاحبي ؟
- إذا ابتغيت الاستمتاع بحياة مطمئنة فما عليك إلا أن تسكت عن استبداد السلاطين ، وما عليك إلاّ أن تغمض عينيك عن مشاهد الفقر والتعاسة من حولك ، وما عليك إلاّ أن تصمّ أذنيك عن شكوى المسحوقين والمضطهدين والمظلومين .
- وأكون بذلك يا صاحبي من تلك الفئة التي وصفها الله في كتابه الحكيم بقوله: " صم بكم عمي فهم لا يعلمون " .
- هذه نصيحتي لك وليس عندي سواها .



ضمير الشعب
- هل ترى يا صاحبي أن الأدباء في عالمنا الصغير من كتّاب وشعراء قد أدّوا في الماضي ويؤدون اليوم واجبهم تجاه شعوبهم ؟ وبعبارة أدقّ ، أيمكن اعتبارهم ( ضمير الشعب) ؟
- إذا لم نكن متشدّدين فبوسعنا القول أنهم قاموا إلى حدّ ما بهذا الدور.
- وكيف يمكننا قول ذلك يا صاحبي مع أنهم لم يؤمنوا أصلاً بأقدس مهام الأديب وهي الانتصاف للمستضعفين والمسحوقين من سلاطينهم البغاة ؟!
- لقد قام البعض منهم بذلك فعلاً .
- ومتى حدث ذلك يا صاحبي ؟! فأنت تعلم أنه على امتداد تاريخ عالمنا الصغير لم يقم كتّابنا وشعراؤنا إلاّ بدور مدّاحي السلاطين أو وعّاظ السلاطين على أحسن الفروض .
- قد يكون هذا حالهم في الماضي ، أما اليوم فهناك من يرفع صوته عالياً ضد استبداد السلاطين ومن أجل الحرية والعدل ، وكثيراً ما فقد هؤلاء حياتهم دون هذا الهدف النبيل أو أمضوا أعواماً طويلة في السجون او تشردوا في ديار الغربة .
- ألست مبالغاً في قولك هذا يا صاحبي ؟ فأنت تعلم أن بعض سلاطيننا الجدد قد أعادوا تقاليد سلاطيننا القدماء فاتخذوا من الشعراء ندماء لهم يشيدون بمزاياهم بقصائد عصماء . وهكذا سخّر هؤلاء الشعراء شعرهم مطية للارتزاق وملأ البطون والحقيقة أن قلّة من الشعراء والكتاب قد ثبت على مبادئه ولابد لمعظمهم في النهاية أن يستجيب لإغراء المال والجاه بشكل او بآخر مختلقين لأنفسهم الأعذار .
- ها أنت ذا تعترف بأن " قلّة " منهم قد ثبت فعلاً على مبادئه . وهذه القّلة تمثل " ضمير الشعب " وإلاّ فهل تحسب أن الجديرين بمثل هذا اللقب كانوا " كثرة " في يوم من الأيام في أي بلد من البلدان ؟!
















كل ما في الحياة باطل
- ألست ترى يا صاحبي ما يراه البعض بأن كل ما في الحياة باطل ؟
- إذا كنت ترى أنت مثل هذا الرأي فلا ريب أنك أضحيت تعاني من الفراغ وأنه لم يعد لك من أهداف تسعى لتحقيقها في هذه الحياة وهو شرّ ما يصيب الإنسان . فالحياة بلا هدف معناها الموت البطيء .
- رويدك يا صاحبي ولا ترميني بمثل هذه التهم . فلست من دعاة هذا الرأي ، وكل ما هنالك أنني أعرض وجهة نظر أولئك النفر الذين يتبنون هذا الرأي ، وهؤلاء يحتجون على رأيهم بحجج كثيرة منها أن كل البشر في النهاية يتساوون أمام الموت مهما أحرزوا من نجاحات ومهما أنجزوا من مهمّات عظمى ومهما اغترفوا من مباهج الحياة ومهما طغوا واستبدّوا.
- إذن فاسمع مني هذا القول : إن دعاة هذا الرأي هم واحد من أثنين ؛ شخص قد شبع من الحياة ولذائذها حتى لم يعد أمامه من جديد يستمتع به ، وشخص يعيش على هامش الحياة لا يعنيه ما يجري أمامه من أحداث ولا يفكر في أن يضيف إلى الحياة ما يثريها سعادة وخيراً للبشر ، وهو يخرج منها كما دخل فيها وكأن لم يكن له وجود . فأيّ الشخصين أنت ؟!
- لست أي واحد من هذين الشخصين كما تعلم يا صاحبي ، فأنا أحبّ الحياة ولن تفرغ جعبتي في يوم من الأيام من الأهداف التي أسعى وراءها، وبودّي لو أضيف إليها كل يوم جديداً يجعل الآخرين سعداء بها.
- وهذا هو الهدف الأسمى لوجود البشر على هذا الكوكب 0 فليس للإنسان سوى فرصة واحدة يمضيها فيه ومن حقّه أن يعيشها سعيداً .
محنة
- قل لي يا صاحبي ؛ كيف يمكن أن يكون هتلر وموسيليني وفرانكو وستالين ومن لف لفهم وفلان وفلان وفلان من السلاطين في عالمنا الصغير خلفاء في الأرض ؟!
- لا ريب أن أمثال هؤلاء الطغاة لا يمكن ان يكونوا خلفاء في الأرض .
- ولكن لعل الله يقصد إلى معاقبة البشر على أنانيتهم وعنجهيتهم بمثل هؤلاء الخلفاء يا صاحبي .
- ولماذا لا تقول إن أمثال هؤلاء الطغاة هم الذين يستبدون في الأرض بدعوى أنهم يهدفون إلى خير البشر مستغلين هو ان المستضعفين أو جهلهم ؟!
- فكيف إذن يدعهم الله سادرين في غّيهم فيعيثون في الأرض فساداً ويسببون تدميراً ومعاناة وهلاك الألوف من البشر ؟
- تلك هي مشكلة البشر وهم مسؤولون عنها . وقد وكل الله إليهم علاج مشاكلهم بأنفسهم والتخلّص مما يلمّ بهم من محن .
- فهل سيكون هناك من علاج يوماً يستأصل هذه المحنة التي يمتحن بها البشر بمثل هؤلاء السلاطين يا صاحبي ؟
- ربما لا يتراءى لنا ذلك العلاج الآن ، لكن الحكماء من البشر سيجدونه حتماً في يوم من الأيام .




المذاهب الإنسانية
- متى تسود المحبة والعدالة البشر يا صاحبي ؟
- حينما يُخترع جهاز يحمله كل إنسان معه يرشده إلى السلوك القويم ويبصرّه الصحيح من الخطأ والحقّ من الباطل .
- وهل ينجح مثلّ هذا الجهاز في تحقيق المحبّة والعدالة للبشر يا صاحبي؟
- بالطبع ، لأنه سينمّى روحهم الإنسانية ويُذكى فيهم خصال الإيثارية .
- فهل تعني أن مثل هذا الجهاز سيفلح يوماً في تمكين مذهب كمذهب أوجست كومت مثلاً في عبادة الإنسانية ؟!
- حينما يتمّ لهذا الجهاز اقتلاع الأثرة من نفوس البشر وغرس الإيثار فيها ستتوفر الفرصة لكل المذاهب الإنسانية أن تسود في الأرض.
- ومتى يُخترع مثل هذا الجهاز في تصوّرك يا صاحبي ؟
- عندما يخرج العقل من أسر الهوى .









من تواضع لله رفعه
- لعلك تحلّ لغزاً يحيّرني يا صاحبي .
- أيّ لغز هذا ؟!
- لغز الشعور بالتميّز لدى البشر .
- وهل ثمة لغز في هذا الشعور ؟!
- أجل يا صاحبي0 فقد لاحظت أن كل إنسان يحتفظ في أعماقه بهذا الشعور حتى لو لم ينجز في حياته ما يميزه عن غيره . فما تفسيرك لهذه الظاهرة؟
- اعلم أن الشعور بالتميّز لدى الإنسان ليس لغزاً بل هو غريزة شأنها شأن غرائزه الأخرى . وأما مبعثها فهو محاولاته الدائبة لإثبات خصوصيته. لذلك نلاحظ أن هذه الصفة تتبدّى في أجلى صورها لدى السلاطين الطغاة.
- الآن فهمت لماذا يسخّر سلاطيننا كل الوسائل الإعلامية المتاحة لهم للإشادة بعظمتهم ولماذا هم مغرمون بأسمائهم وصورهم لدرجة تثير الغثيان في نفوس شعوبهم .
- السلاطين في عالمنا الصغير شأنهم شأننا نحن المستضعفين . وكل ما هنالك من فرق بيننا أن الظروف واتتهم ليعلنوا عما نكتمه نحن في دواخلنا . وإلاّ فهل سمعت بأحد يرفض المديح والتمجيد حقيقة إلا إذا كان هدفه الحديث الشريف : " من تواضع لله رفعه " ؟





نظام مختل
- أيّ تناقض هذا الذي نشهده في الحياة من حولنا يا صاحبي ؟!
- أيّ تناقض تعني ؟
- التناقض الذي نشهده في حظوظ البشر .
- أتعني أنك تؤمن بالحظّ ؟
- فماذا تسمّي ذلك إذن يا صاحبي ؟! أفليس من فعل الحظّ أن يمتد العمر بالبعض سنين طوال بحيث ينهلون من ينبوع الحياة حتى الثمالة ، وعلى أفضل الوجوه ، بينما يغادر البعض الآخر الحياة وهم في عنفوان عمرهم دون أن يستمتعوا بها ؟!
- ذلك هو لغز الوجود الذي عجز البشر عن حلّه منذ الأزل ، وليس لنا أن نتخذ هذا اللغز مقياساً للحظ ّ.
- فما تفسيرك إذن للظواهر التالية ؛ إنسان يولد وهو وريث للملايين وآخر يولد وهو لا يملك ما يسدّ به رمقه . إنسان يشقى طوال عمره ليؤفر لنفسه أدنى شروط الحياة الكريمة ، وآخر تحت تصرفه كل مباهج الدنيا وزينتها . إنسان لا يجني في حياته سوى الإخفاق والتعاسة ، وآخر يدرك كل ما يصبو إليه من جاه ورفاهية . قل لي ؛ كيف تفسرّ هذه الظواهر وأمثالها يا صاحبي ؟
- لا ريب أن هذه الظواهر ثمار نظام مختلّ ابتلي به البشر .
- فمن المسؤول عن هذا النظام المختل يا صاحبي ؟! أفليس هو التفاوت في حظوظ البشر ؟!
- كلا بالطبع ، بل المسؤول هم المستبدون بشؤون البشر . أفلا ترى أن الحكماء من البشر يحاولون منذ آلاف السنين أن يصحّحوا هذا النظام المختلّ ؟!
















حال السلاطين في عالمنا الصغير
- ما قرأت كلاماً دقيقاً يصوّر حال السلاطين في عالمنا الصغير كخطبة الخليفة أبي بكر الصدّيق التي أوردها الجاحظ في كتابه " البيان والتبيين " ولعلك تشاركني الرأي فيها يا صاحبي .
- أي خطبة تعني؟
- اعني الخطبة التي يقول فيها :" إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك من إذا ملك زهّده الله فيما عنده ورغّبه فيما بيد غيره ،وانتقصه شطر أجله ، وأشرب قلبه الإشفاق،فهو يحسد على القليل ويسخط الكثير ، ويسأم الرخاء ،وتنقطع عنه لذة الباء ، ولا يستعمل العبرة،ولا يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة ن فهو كالدرهم القسي والسراب الخادع ، جذل الظاهر ، حزين الباطن ، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحى ظله حاسبه الله فاشتد في حسابه وأقل عفوه"0
فما رأيك في هذه الخطبة يا صاحبي؟
-إنني أشاطرك الرأي في هذه الخطبة فعلا ، فكلامها ينطبق تمام الانطباق على سلاطيننا 0
-فإذا كان حالهم كذلك كما وصفته خطبة أبي بكر، فما بلهم يا صاحبي لا يترددون بالأخذ بأنكر الأسباب للاحتفاظ بسلطانهم؟
- لأن شهوة السلطة والحياة الرغدة قد أعمت عيونهم و بصائرهم0








قول مأثور للخليفة عمر
ـ ما تعليقك يا صاحبي على قول الخليفة عمر المأثور : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً "؟
ـ إنه لقول خليق بأن يصدر من رجل لقب بـ(الفاروق) ، وإنه ليدل على أن عمر كان يتصرف قولا وفعلاً كخليفة في الأرض .
ـ فمتى سيقتدي سلاطيننا الجدد بأمثولة هذا الخليفة الجليل ويعون مقولته العظيمة فلا يتصرفون بمصائر البشر على هواهم يا صاحبي ؟
ـ حينما يدركون جوهر الحكم .







نظرية العقد الاجتماعي
ـ اسمح لي أن أسألك يا صاحبي , كم من السلاطين في عالمنا الصغير من يأخذ بنظرية جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ويدرك أن سلطانه مستمد من إرادة الشعب , وأن بقاءه ينبغي أن يكون مرهونا برغبة الشعب ؟
ـ وأنا أيضا أسألك , كم من السلاطين في عالمنا الصغير من سمع" بنظرية العقد الاجتماعي"؟!وإذا كان بينهم من سمع بها ، فكم منهم من يزعم الأخذ بها؟ و إذا كان هناك من يزعم الأخذ بها ، فكم منهم من يعمل بها نصاً وروحاً ؟!













ظاهرة تاريخية
ـ أتراك تعتقد يا صاحبي أن أفراد تلك الطائفة من حاشية سلاطيننا الذين يمدحونهم جهرا ويهجونهم سراً هم أذكياء حقاً ؟!
- وهل تعتقد أنت أنهم أذكياء ؟
- بالطبع00 أفلم يفلحوا في كسب مغانم السلاطين بنفاقهم يا صاحبي ؟
- أفتحسب أن أمثال أولئك السلاطين من السذاجة بحيث يجوز عليهم هذا النفاق ؟
ـ فكيف تفسر الأمر إذن يا صاحبي ؟
ـ اعلم أن أمثال أولئك السلاطين يدركون نفاق هؤلاء الأتباع ولكنهم يسخّرونهم لمآربهم وهو كل ما يعنيهم . ومن المعلوم أن هذه الظاهرة ليست بدعة في عالمنا الصغير اليوم . فقد شهد عهد بني أمية وعهد بني العباس عددا من الشعراء كان هواهم من العلويين لكنهم كانوا يمتدحون بني أمية وبني العباس بقصائد عصماء . ودونك الشاعر الأحوص بن محمد الأنصاري والسيد الحميري وعبيد الله بن قيس الرقيات .
ـ فهي ظاهرة تاريخية إذن ؟!
ـ بوسعك أن تقول هذا , وبوسعك أن تقول أيضا أن النفاق ظاهرة بشرية لا تختص بعهد من عهود التاريخ ولكنها تلازم دائما حكم السلاطين .






جدوى الحكمة
- هل ترى يا صاحبي أن ما تضمه الكتب من وصايا الحكماء والمصلحين ينتفع بها الإنسان في حياته العلمية ؟
- وأنت ماذا ترى ؟
ـ أنا أرى أن الإنسان لا ينتفع بها في حياته العملية إلا فيما ندر .
ـ وما دليلك على ذلك ؟
ـ دليلي على ذلك أن الإنسان لم يخطو خطوة واحدة في حياته الروحية والاجتماعية منذ آلاف السنين . فما زال يؤمن بعقائد وأفكار تسيّر حياته الاجتماعية كان قد تبناها منذ عهود سحيقة , بينما يفترض تقدمه العقلي هجر تلك العقائد والأفكار البالية . وما زال خاضعا لغرائزه الفجة وأنانيته التي يغلفها بغلاف مهلهل من البرقع الحضاري 0وهو ينبذه حالما تصطدم مصالحه ورغباته الذاتية مع مصالح الآخرين دون أن يعبأ بوصايا الحكماء والمصلحين .
ـ هل تعني إذن أن من الخير للحكماء والمصلحين أن يكفوا عن محاولاتهم الإصلاحية ويتركوا الإنسان سادرا في غيّه ؟!
ـ من الواضح أن الحكماء يبدون وكأنهم ينفخون في قربة مقطوعة يا صاحبي , وقد يكون من الخير لهم التخلي عن محاولاتهم .
ـ أنت مغرق في تشاؤمك إذن 0 فمع أن الإنسان عموما لا ينتفع بالحكمة والموعظة لكن ما تقوله ليس حلا سليما . ولو تخلّى الحكماء عن مهمتهم لسادت الفوضى في هذا الكوكب المبتلى ولصارت غايات الإنسان الذاتية هي السيد المطلق .
ـ فما الحل لتقويم هذه الظاهرة في رأيك يا صاحبي ؟
ـ الحل هو أن نجعل هدفنا الالتزام بوصايا الحكماء بحيث تصبح من مجريات الحياة اليومية ..
ـ ومتى يدرك مثل هذا الهدف يا صاحبي ؟ ـ حينما يخرج العقل من أسر الهوى .

الديمقراطية
ـ أصحيح ما يزعمه البعض يا صاحبي بأن شعوب عالمنا الصغير بحاجة إلى الدكتاتورية العادلة لأنها لم تنضج سياسيا بعد ؟!
ـ هذه فرية ينشرها السلاطين الطغاة وحواريهم 0 فالدكتاتورية مهما يكن نوعها , أكانت ديكتاتورية فردية أم حزبية , لا بد أن تؤدي في النهاية إلى خلق طبقة مميزة من النفعيين التي تصبح ذات الحل والربط0 ويعتلي أفراد هذه الطبقة رقاب الناس ويستأثرون بالمناصب والمغانم , بينما يتحول بقية المواطنين إلى شعب سلبي ضعيف الإرادة يتخذ الهرج مذهبا والانتهازية شعارا والمصلحة الفردية مناراً 0 وهكذا يستسلم الشعب للمقادير ويقبل الذلة ويعنو لسلاطينه الطغاة . وهذه النتيجة وحدها كافية لإلغاء أية مزايا محتملة للنظام الديكتاتوري لأنها ستحطم الروح المعنوية الخلاقة للمواطن وتقتل فيه الطموح والنزاهة والمثل العليا وكل الرغبات الخيرة .
ـ ولكن بعض سلاطين هذا النظام يا صاحبي خدموا بلدانهم فعلاً ورفعوا شأنها وعملوا على ازدهارها اقتصاديا واستقرارها أمنياً .
ـ قد يكون هذا صحيحا , ولكن أمثال هؤلاء الحكام لا بد أن يتحولوا في النهاية إلى طغاة مستبدين إذا انفردوا بالحكم فيمسي همهم الوحيد الاحتفاظ بالسلطان بكل طريقة متاحة, بل لابد أن يتوهموا بتشجيع من حواريهم أنهم أحكم وأرجح عقلا من غيرهم , وأنهم وحدهم على صواب وغيرهم على خطأ 0 ثم أنهم يصدقون بالتالي أنهم مقتدرون وعظماء لكثرة ما يسمعونه من تملق وإطراء وينسون كيف دانت لهم السلطة 0 وهكذا يصبحون المتصرفين الوحيدين بشؤون البلاد والبشر . وينتهي بهم الأمر إلى خلق الكوارث لبلدانهم والمعاناة لشعوبهم .
-ولكن أفلست متشددا في حكمك هذا يا صاحبي ؟
ـ كلا لست متشددا في حكمي , ففي التاريخ القديم والحديث والمعاصر شواهد كثيرة عليه . فقد تبوأ الحاكم الروماني يوليوس قيصر مركزه ليحمي الشرعية الرومانية , ثم صار حاكما مستبدا حينما استقرت له الأمور . وبلغ نابليون بونابرت قمة السلطة بهدف حماية مبادئ الثورة الفرنسية , فلما دان له الحكم أعلن نفسه إمبراطورا وأنقلب إلى ديكتاتور جبار . واحتل ستالين مركز الصدارة في الحزب والدولة ليصون الثورة الاشتراكية , فلما انفرد بالسلطة تحول إلى دكتاتور مستبد . ودونك فلان وفلان وفلان من السلاطين في عالمنا الصغير الذين تولوا مقاليد الحكم في بلدانهم ليتيحوا الحياة الكريمة لشعوبهم , ثم انتهوا إلى ما هم عليه من تسلط واستبداد وفساد حينما انفردوا بالأمر , فالحذار الحذار من إيداع السلطة إلى فرد دون محاسبة مهما كانت نياته خيرة , فالإنسان أناني بطبعه ولن تجد لسنة الله في خلفه تبديلا . ولن يوفر المحاسبة الحقيقية للحاكم سوى النظام الديمقراطي السليم الذي تجسده الأحزاب المتعددة الممثلة لمجموع الشعب على اختلاف طبقاته ومصالحه والتي يراقب بعضها بعضا .
ـ أتعني أن الديمقراطية إذن يا صاحبي هي السبيل الوحيد لإدارة شؤون البشر ؟
ـ وهل الديمقراطية ابتكار جديد يحتاج إلى اختبار مزاياه بعد ؟ ألم تطبق في اليونان قبل أكثر من ألفي عام وتنجح أعظم النجاح ؟ ! فكيف يمكن أن نجادل ونحن في نهاية القرن العشرين في قضايا فرغ الإنسان من صحتها منذ أكثر من ألفي عام ؟ !







هدف البشر
ـ ألا ترى يا صاحبي أن البشر أخفقوا في إدراك الهدف من وجودهم على هذا الكوكب ؟
ـ وما الهدف من وجودهم على هذا الكوكب يا ترى ؟
ـ اليس الهدف من وجودهم أن ينالوا السعادة الروحية والجسدية ؟!
ـ إنهم سائرون نحو هذا الهدف .
ـ لكن واقع الحال لا يدل على ذلك يا صاحبي .
ـ وكيف ذلك ؟
ـ أفلا ترى أن الأرض قد ضاقت بالتعساء والمحرومين والمحزونين والبؤساء ؟! كم تظن نسبة هؤلاء إلى مجموع البشر يا صاحبي ؟
ـ ليس أقل من تسع وتسعين بالمئة .
ـ فكيف إذن تتوقع من البشر أن يدركوا هدفهم ؟ !
ـ وهل قلت أنهم أدركوا هدفهم حتى تستنكر قولي ؟ ! كل ما قلته إنهم سائرون نحو هذا الهدف .
ـ فمتى يدركون هدفهم هذا يا صاحبي ؟ ! وإلى متى يظل الإنسان يجري وراء سراب السعادة ويقاسي من حياته البائسة ؟
ـ من المعلوم أنه لم يمض على ظهور ما يسميه علماء الأجناس "الإنسان العاقل" (هوموسابيانس) كمخلوق متميز عن الحيوان أكثر من مئة ألف عام . فما ضر البشر لو صبروا عدة ألاف أخرى من السنين ليبلغوا هذا الهدف ما دام وجودهم قد يمتد إلى ملايين من السنين في هذا الكون السرمدي ؟



الرعية
ـ متى تكتسب "الرعية" في عالمنا الصغير اسم "شعب" بحق وحقيق ويصبح شأنها كما في العالم الكبير يا صاحبي ؟
ـ حينما يقتنع السلاطين أنهم أفراد من الرعية .
ـ ومتى يقتنع السلاطين أنهم أفراد من الرعية يا صاحبي ؟
ـ حينما تصبح الرعية جديرة بأن تحمل اسم "شعب" .
ـ ومتى تصبح الرعية جديرة بأن تحمل اسم "شعب" يا صاحبي ؟
ـ حينما تصبح مصدر السلطان قولا وفعلا .
ـ ومتى تغدو الرعية مصدر السلطان قولا وفعلا يا صاحبي ؟
ـ حينما لا يعود أفرادها من المستضعفين في الأرض .










حضاراتنا المادية
ـ هناك نظرية تزعم بأن حضارات الإنسان القديمة الراقية لم تكن من إنجاز البشر بل من صنع كائنات فضائية هبطت من السماء 0 فما رأيك في هذه النظرية يا صاحبي ؟
ـ رأيي أن هذه النظرية تعبير عن خيبتنا المريرة في ضآلة التقدم الروحي والاجتماعي الذي طاله الإنسان منذ ذلك الحين . فقد كان المفروض أن ترقى الجوانب الروحية والاجتماعية لدى الإنسان مواكبة لرقي حياته المادية والعلمية , لكن الذي حدث أن رقي اقتصر على الجوانب المادية فحسب وأنه ظل يحمل نفس الغرائز الحيوانية الفجة التي تتحكم في سلوكه اليومي . وبما أن إنجازاته المادية تفوق كثيرا ما أدركه من تطور في سلوكه وجوانب حياته الروحية والاجتماعية فقد أوحى هذا التباعد للبعض بالاعتقاد بأن صانع تقدمنا المادي القديم لا يمكن أن يكون هو نفسه حامل هذه الغرائز والصفات الروحية الفجة .
ـ فماذا ترى أنت يا صاحبي ؟
ـ أرى أن ننتظر ألوفا أخرى من السنين لنرى ماذا ينجز الإنسان من تطور روحي واجتماعي لكي يتسنى لنا الإفتاء في هذه القضية !!







ألف باء السلطان في عالمنا الصغير
ـ سأتلو عليك وصايا في أصول السلطان يا صاحبي لعلك تنتفع بها في يوم من الأيام .
ـ عجبا لك ! وما علاقتي بالأمر حتى تتلو علي هذه الوصايا ؟
ـ من يدري ؟ لعلك تغدو يوما من السلاطين في عالمنا الصغير .
ـ كيف تتمنى لي أن أكون من السلاطين في عالمنا الصغير وأنت تدري أن هؤلاء لا بد أن يطغوا ويستكبروا حتى وإن خرجوا من صلب الرعية ؟! ثم إنك تدري أنني لا أنتمي إلى حزب معين , كما أنني لست عسكريا ولا انتهازيا 0 فكيف يتسنى لي أن أكون سلطانا ؟! وعلى أية حال فإنني أبتهل إلى الله ألا يعرضني يوما لمثل هذا الاختبار فربما لن أكون خيرا من سلاطيننا الطغاة . فكل من يتسلق الحكم في عالمنا الصغير وحتى في عالمنا الكبير يصبح سلطانا ولا يفكر إلا بمصالحه الذاتية سوى الشواذ منهم .
ـ ما قصدت إحراجك , ولك أن تعتبر هذه الوصايا ثقافة سياسية 0
-0إني سامع لك0
-0
ـ ينبغي أن يكون مرشدك في السلطان كتاب "الأمير" لمكيافلي وأن يكون مبدؤك "الغاية تسوغ الواسطة" .
ـ ذلك من ألف باء السلطان في عالمنا الصغير . وبعد ؟
ـ وينبغي لك أن تؤمن في دخيلة نفسك بمقولة لويس الرابع عشر المعروفة "أنا الدولة والدولة أنا " وإن صرّحت علنا خلافها .
ـ ذلك من ألف باء السلطان في عالمنا الصغير . وبعد ؟
ـ وينبغي لك أن تتخيّر مساعديك من أدنى الأشخاص كفاية ممن لم يكونوا يحلمون بمثل هذه المناصب ليطيعوا أمرك في كل شيء .
ـ ذلك من ألف باء السلطان في عالمنا الصغير . وبعد ؟
ـ وينبغي لك أن تتبع السياسة التي تتبنّى المقولة المعروفة "أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس" .
ـ ذلك من ألف باء السلطان في عالمنا الصغير . وبعد ؟
ـ وأخيرا ينبغي لك أن تلوّح بالصريرة في يد وترفع السيف باليد الأخرى .
ـ ذلك من ألف باء السلطان في عالمنا الصغير . وبعد ؟
ـ تلك هي وصاياي يا صاحبي وأنت ذو خبرة بها كما يظهر .
ـ يؤسفني أن أقول لك إنك لم تثقفني عن السلطان بمعارف جديدة .
ـ وما يدريني ؟ ما كنت أحسبك عارفا بأسرار السلطان في عالمنا الصغير يا صاحبي .
ـ ليست هذه أسرار بل بديهيات يدركها الجميع .











الشرارة
- أتراك تعتقد يا صاحبي أن صمود الفرد الواحد له أهمية تجاه ما يتمتع به السلطان من أسباب القوة ؟
- بالطبع , لأن هذا الصمود سيكون الشرارة التي تشب منها النار , فالفرد الواحد سيتحول إلى أفراد , والأفراد سيتحولون إلى مجموعة , والمجموعة ستتحول إلى مجاميع , إلى أن يصبح الفرد جمهورا عظيما يندفع كالسيل العرم في مواجهة الطغيان . ولكن إذا لم يوجد هذا الفرد , فمن الذي سيدق المسمار في نعش الطاغوت ؟!












المثل العليا
- أود لو نصحتني يا صاحبي فقد ضقت بالبشر ذرعا , وأراني ما أفتأ أردد بيت المعري القائل :
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه فيخرج من أرض له وسماء
فأين المفر يا صاحبي , وأين ؟
- رويدك فلم أعهدك متشائما إلى هذه الدرجة . ثم أن المعري لم يحل مشكلته ولا مشكلات البشر بتشاؤمه , وكل ما هنالك أنه قضى على نفسه بالحبس . وما هكذا تحل مشكلات البشر .. باليأس والتشاؤم . ولكن فيم ضيقك إلى هذا الحد ؟
- أفلا تلاحظ أن الطموح إلى إتاحة العدل والرفاه للإنسان قد تراجع لدى الناس وأن المصلحة الشخصية التي يضحى في سبيلها بكل المثل ويسلك لإدراكها أقبح السلوك غدت القانون السائد في عالمنا يا صاحبي ؟
- ولكن المصلحة الشخصية كانت القانون السائد منذ وجد البشر على هذا الكوكب المبتلى . وكان الناس منذ الأزل يسلكون في سبيلها كل السبل0 فكان الناجحون منهم في الحياة هم الأنانيون والمنافقون والدجالون والكذبة إلاّ فيما ندر .
- فما الحل إذن يا صاحبي ؟ ! هل نظل نتخبط في هذه المتاهة ؟
- الحل هو أن تظل متشبثا بالمثل العليا إن كنت من دعاتها حتى يحل اليوم الذي تفارق فيه الإنسان أنانيته وعنجهيته وغروره ويخرج عقله من أسر الهوى 0 وإن لم تستمسك أنت وأضرابك بهذه المثل فلن يحل ذلك اليوم .




دون كيخوت
- كم أتمنى لو عبرت بصراحة عن كل ما يطوف في ذهني من أفكار يا صاحبي .
- وما الذي يمسكك عن ذلك ؟!
- إن لي عذرا في امتناعي يا صاحبي .
- وما عذرك ؟
- خوفي من بطش سلاطيننا الطغاة يا صاحبي , فأنت تعلم أنهم يمارسون في عالمنا الصغير مع مناوئيهم كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من وسائل القهر والإرهاب . ولقد تطورت تلك الوسائل في هذا الزمان ولم تعد ساذجة كما كانت في عصور جاهلية الإنسان . وإن من يوظفهم السلاطين في فرض هذا القهر والإرهاب قد يكونون أشد وحشية من الوحوش المفترسة . وأنا لا قبل لي بمواجهة هذا الجبروت والإرهاب يا صاحبي .
- أي أنك جبان !
- وهل ادعيت غير ذلك يا صاحبي ؟! ثم هل أنا الوحيد في عالمنا الصغير الذي يخشى بطش السلاطين الطغاة ؟! الناس كلهم كذلك . وإنهم ليرتعدون فرقا وهم ماشون في الشوارع أو قابعون في بيوتهم .
- ففيم تدين الجبناء مادمت لا تنماز عنهم ؟!
- ولكنني أدين نفسي أيضا كما ترى يا صاحبي , فنحن المستضعفين من طيئة واحدة وإلا ماصرنا رعية وصاروا هم سلاطينا .
- إذن لم يكن دون كيخوت وحده يحارب الجور بسيف من خشب !
- كلنا دون كيخوت في عالمنا الصغير يا صاحبي . أفلا تلاحظ أن مفكرينا لا يدينون السلاطين الطغاة إلا بعد موتهم وقد يتملقونهم أثناء حياتهم ؟!
- أنت محق في ذلك , فما أكثر من يتشبه بـ"دون كيخوت" في عالمنا الصغير !
وصايا شخصية
- إني في شوق إلى وصاياك المقومة يا صاحبي .
- إليك هذه الوصايا إذن :
إن كسب احترام الآخرين ومحبتهم أعظم مغنم يناله المرء في حياته , ولكن هذا الكسب لا يدرك إلا بالأفعال النبيلة .
- صدقت يا صاحبي .
- النفاق جرثومة تدمر روح المرء وهي أبغض الصفات عند الله .
- صدقت يا صاحبي .
- حب النفس المفرط مصيدة للرذائل .
- صدقت يا صاحبي .
- الغرور سوسة تنخر في عقل المرء فإن لم يقهره أفسد عليه سلوكه .
- صدقت يا صاحبي . إن وصاياك هذه بلسم شاف وليت أناس عالمنا الصغير ينتفعون بها .








دعـــــــــــــــــــــــاء
- لديّ دعاء أحب أن أسمعك إياه يا صاحبي .
- إني سامع لك .
- "يا رب . يا خالق السموات والأرض . لقد ملئت أرضك ظلما . وعاث السلاطين البغاة فيها فسادا فاضطهدوا المستضعفين وسجنوهم وشردوهم في ديار الغربة . فمتى تمد المستضعفين بقبس من بأسك ليقهروا الطغاة ؟! ماذا بوسعهم أن يفعلوا من دون عونك يا رب وقد صار البأس كل البأس بيد السلاطين ؟! إلى متى يا رب تمد للسلاطين البغاة من حبل صبرك ؟ صحيح أن صبرك يسع السماوات والأرض , ولكن أليس له من نهاية وشيكة ؟! متى تنقذ أرضك يا رب مما ملأها من ظلم؟!".
فما رأيك يا صاحبي بهذا الدعاء ؟
- من المعلوم أن الأرض قد امتلأت ظلما من زمن بعيد . ولقد جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الإصحاح السادس أن الله تعالى قال لنوح "إن نهاية كل البشر قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت ظلما منهم فاصنع لنفسك فلكا من خشب " وقد غسل الله يوم ذاك الأرض بالطوفان مما ملأها من ظلم . لكن الظلم ما لبث أن غمرها ثانية وكان الطوفان لم يحدث فلا أرى فائدة من دعائك هذا .
- ولكن لعل الله يغسل الأرض مما يملؤها من ظلم بطوفان جديد يا صاحبي .
- يبدو أن الله قد ترك أمر ذلك للبشر أنفسهم . فمنذ حل أدم وبنوه على الأرض وهم بين سلاطين ومستضعفين , والأقوياء منهم يظلمون الضعفاء والحروب بينهم لا تهدأ , وربما أغلقت أبواب السماء دون شكاواهم حتى يحلوا فيما بينهم معضلتهم , وهكذا امتلأت الأرض عسفا ونكدا وجورا

الحالمون
- هل تعتقد يا صاحبي بصحة القول المأثور :"الخيانة لا تجزي" ؟
- هذا يتوقف على طبيعة النظرة إلى الحياة . فإن كنت ممن لا يكترث بما يقوله الآخرون عنه , ولا يعتقد بمقولة "الإنسان موقف" , صارت الخيانة مجزية في نظرك 0 وها أنت ذا ترى الكثيرين من الناس فد خانوا مبادئهم وصاروا أتباعا للسلاطين كيما يتمتعوا بحياة رغدة .
- وهل تحسب أن هؤلاء هانئين بحياتهم يا صاحبي وازدراء الناس يلاحقهم حيثما ولوا وجوههم ؟!
- ومن قال لك إن الناس يزدرونهم ؟! بل إن الأمر على العكس من ذلك . فالناس يتملقونهم باعتبارهم أصبحوا من طبقة ذوي الحل والربط وقد ينتفعون من نفوذهم يوما .
- فهل يعني ذلك يا صاحبي أن على المرء أن ينتهز الفرصة السانحة بأية طريقة أتت لكسب المغانم , وأن التمسك بالمبادئ والقيم والمثل العليا لا يجزي شيئا ؟!
- وهل قلت ذاك ؟! فالذي يحفل بالمبادئ والمثل العليا لن يدرك الحياة الرغدة من خلال خيانة مثله , وإن حياته البسيطة المتواضعة التي يعوزها الكثير من أسباب الرفاه قد تكون في نظره أهنأ من حياة غارقة في الرخاء ما دام قرير العين بمثله , بل إن أمثال هؤلاء الأشخاص يكونون مستعدين للتضحية حتى بحياتهم في سبيل مثلهم وعقائدهم .
- أفلا يصح إذن يا صاحبي أن نسمي هذا النفر من البشر بـ"الحالمين" لاسيما وأن تضحياتهم تقابل غالبا بالإهمال والنكران والجحود ؟
- وهل كان يمكن أن ترتقي الحياة وتتقدم المجتمعات البشرية لولا أمثال هؤلاء "الحالمين" ؟

السلاطين الحواة
- ما قولك يا صاحبي في السلاطين الذين يسرفون في ترديد كلمة "الشعب" ويكثرون من الحديث عن "الديمقراطية" ؟!
- أظنك تتفق معي على أن هؤلاء السلاطين لا يشترون الشعب ولا الديمقراطية بقلامة ظفر , وأنهم لو كانوا يؤمنون بالشعب والديمقراطية حقا ما أسرفوا في الاستشهاد بهما .
- إذن , ما تفسيرك لهذا السلوك يا صاحبي ؟
- اعلم أن أمثال هؤلاء السلاطين الحواة هم أشد خطرا من السلاطين البغاة، ذلك أنهم يعمدون إلى تزييف كل مؤسسة سلطوية كي ما تكون في خدمتهم , وقد يلجؤون إلى ألاعيب أبرع من ألاعيب حواة السيرك لنشر هذا الزيف . وإن إسرافهم في الحديث عن "الشعب" و "الديمقراطية" هي جزء من تلك الألاعيب الشيطانية .








التعصب
- أو لم يقل رسولنا الكريم : "أيها الناس , ربكم واحد , وأبوكم واحد ،وكلكم لآدم وأدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على أعجمي من فضل إلا بالتقوى "؟
- بلى , فهذا ما أكّده الرسول الكريم في خطبة الوداع , وهي مقولة تدعو إلى المساواة المطلقة بين البشر على اختلاف أجناسهم .
- إذن ألا يدهشك يا صاحبي أنه لا يزال هناك في عالمنا الصغير من يحسب أنه بتعصبه لقومه ووضعهم في منزلة أعلى من منزلة بقية البشر يسدي خدمة جليلة لأمته ؟
- كلا لا يدهشني ذلك لأن أمثال هذا النفر لم يستوعب روح خطبة الوداع , بل إنه لم يطلع على ما قاله في هذا الشأن رجال هذه الأمة العظام الذين يتبوؤون موضع الفخر والاعتزاز في تاريخها . وقد نهى هؤلاء الرجال عن الإسراف في أمثال هذه النعرات البغيضة . ألم تقرأ ما قاله الإمام علي في هذا الشأن ؟
- زدني علماً يا صاحبي .
- قال الإمام علي : "فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة , فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام , والطاعة للبر ,والمعصية للكبر , والأخذ بالفضل , والكف عن البغي , والإعظام للقتل , والإنصاف للخلق , والكظم للغيظ , واجتناب الفساد في الأرض " .
- فأين موقع هؤلاء المتعصبين من أمثال هذه الوصايا الجليلة يا صاحبي ؟!
- وكيف تتوقع منهم أن يدركوا قيمة هذه الوصايا ولعلهم لم يطلعوا عليها أصلاً ؟

ما أشبه الليلة بالبارحة
- ما أشبه الليلة بالبارحة يا صاحبي 0
- ماذا تقصد بذلك , وما مناسبة هذا القول ؟!
- مناسبته ي صاحبي ما قرأته من تعليق في كتاب" للعميد " على آراء المعري وموقفه من الحياة .
- وماذا كان تعليقه ؟
- لقد قال العميد عن المعري : "ينتهي به العقل إلى أن الجور واقع لا شك فيه , وإلى أن العدل أمل لا سبيل إليه ,وإلى أن اليأس المريح على ما يثير من الآلام الممضة خير من الجهاد الذي لا يغني والمغامرة التي لا تجدي " . أفلا يعبر موقف المعزي هذا عن موقف أكثر أناس عالمنا الصغير اليوم يا صاحبي ؟
- بلى , فهذا ما ينم عليه موقف الكثرة من المتنورين وأنت واحد منهم , ومن الغريب أن تنتقد ذلك !
- صدقت يا صاحبي , فلست أقل سلبية من غيري ممن قنط من صلاح الدنيا ومن تحقق العدل والمساواة للبشر فتربع على التل يرصد الجور والتعسف والفساد من حوله ويتجرع الآلام الممضة .
- فهل أنت من المعتقدين حقا شأن المعري بأن الجهاد لا يغني في إصلاح الفساد ؟
- كلا , لست مؤمنا بهذا الرأي , ولكنني واقع شأن غيري من المتنورين تحت سلطان غريزة البقاء فهي التي تحركنا جميعا يا صاحبي . فمن الذي يهون عليه أن يمضي بقية عمره في السجن أو يفقد حياته الغالية في سبيل أهداف غيرية ؟!
- مهلا فليس جميع المتنورين أمثالك يخضعون لغريزة البقاء فيكتفون بالشقشقة اللسانية التي لا تعرضهم للمخاطر , بل هناك من ضحى بحياته في سبيل مجابهة الاستبداد والظلم وناضل من أجل تحقيق المساواة والعدل للبشر .
- هذا صحيح يا صاحبي، وهؤلاء المناضلين هم أبطال الإنسانية الحقيقيون وهم أشباه الأنبياء ولولاهم ما تقدم المجتمع البشري , أي أنهم أشخاص مميزون 0 ولكن ليس من المعقول يا صاحبي أن تطلب من البشر جميعا أن يكونوا من المميزين .وقد قال الله في كتابه المجيد : "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" .
- أحسنت قولا , وما أبرع أمثالك من الحاذقين في الشقشقة اللسانية ومدعي الفكر والإصلاح في التحصن وراء هذه الأعذار !











ظاهرة عجيبة !
- ألم تستلفت نظرك يا صاحبي ظاهرة عجيبة تحدث في عالمنا الصغير والكبير وهي أن بعض السلاطين قد يكونون مسؤولين عن هلاك الألوف من أبناء شعوبهم ومع ذلك تمر جرائمهم على العالم مر الكرام , بل وقد يهلل لهم ويكال لهم المديح باعتبارهم أبطالا وطنيين ؟!
- إعلام أن هذه الظاهرة ذات دلالة عميقة على مجريات الحياة في عالمنا الصغير والكبير , فهي تكشف عن جانب من الزيف المعشش في هذا الكوكب المبتلى . وإنها لتذكرني بقول الشاعر العربي :
"قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر !
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر !"










المصانعة
- هل صحيح يا صاحبي ما يوصف به بيت زهير ابن أبي سلمى القائل:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
بأنه من عيون شعرنا القديم؟!
- بالطبع , فهو من أبيات زهير ابن أبي سلمى الرائعة في معناه ومبناه .
- وأين الروعة في معناه يا صاحبي ؟
- يكفيه روعة أنه بمعناه العام من الأقوال ذات الدلالة على جانب من أخلاقنا المتوارثة .
- وأي جانب تقصد يا صاحبي ؟
- أقصد جانب المصانعة , كمصنعة السلاطين وذوي الحل والربط مثلا .
- لم أفهم عنك يا صاحبي .
- فدعني أسألك إذن , ما المصطلح الحديث المقابل لكلمة "المصانعة"
- أحسب أنه مصطلح "الانتهازية" يا صاحبي .
- فهذا البيت إذن يفسر خير تفسير ذيوع النفاق والانتهازية بيننا ويؤكد أنهما عريقان فينا .






خلق الحاكم
- لو أنك بصّرتني يا صاحبي بأجلّ ما في كتاب الإمام علي أبن أبي طالب الذي وجهه إلى الأشتر النخعي حينما ولاّه مصر .
- وكيف لي أن أبصرك بأجل ما في هذا الكتاب وهو يمثل أجمعه وثيقة جليلة في مسؤوليات الحاكم ومهامه وخلقه ؟!
- أنا أدرك ذلك يا صاحبي , ولكن لابد أنك معجب بفقرة من فقراته على نحو الخصوص .
- فاعلم إذن أن الفقرة التالية منه التي تقرر خلق الحاكم هي أحب فقراته إلى نفسي , قال الإمام يخاطب الأشتر :
" ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق بهم الأمور , ولا تمحكه الخصوم , ولا يتمادى في الزلة , ولا يحصر الفيء إلى الحق إذا عرفه , ولا تشرف نفسه على طمع , ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه , وأوقفهم في الشبهات وأخذهم بالحجج , وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم , وأصبرهم على تكشف الأمور , وأصرمهم عند اتضاح الحق ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء .
والصق بأهل الورع والصدق , ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله , فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة " .
-فأين موقع سلاطيننا من هذه الوصايا يا صاحبي ؟
- وهل تحسب أنهم معنيون بمثل هذه الوصايا ؟!




الزمان الأغبر
- أف لهذا الزمان ... ما أقبحه !
- رويدك ولا تسرف في ذم هذا الزمان .
- وفيم اعتراضك يا صاحبي وقد غدا البشر في هذا الزمان عبيداً للسلاطين الطغاة ؟ ودونك فلان وفلان وفلان من السلاطين في عالمنا الصغير وكيف يعاملون شعوبهم معاملة مزرية ألا تعسا لهذه الحياة التي نحياها تحت حكم هؤلاء السلاطين وليس لنا من حيلة سوى انتظار موتهم لعل الأمور تتغير ! ومن المحزن أن تطول أعمار البعض منهم حتى تبدو وكأنها لا نهاية لها .
- كل حال إلى زوال ولا بد أن تدول دولة الطغيان ,ودونك التاريخ فاستفد من عظاته.
- ولكنك تعلم يا صاحبي أنه إذا دالت دولة الطغيان في عالمنا الصغير فلكي تقوم دولة أشد طغيانا منها , حتى أن الناس ليترحمون على الدولة الزائلة . هذا هو حالنا من عهود طويلة . وأنت تعلم أن الطغيان كان ملازما للحكم في عالمنا الصغير منذ أقدم الأزمان , بل منذ ظهر لأول مرة مفهوم الدولة في هذه البقاع . حتى لقد أطلق بعض المفكرين على نوع الحكم السائد في عالمنا الصغير اسم "الاستبداد الشرقي" .
- أنت محق في ذلك , لكنني أسألك : ألم يفلح مستضعفونا مراراً وتكراراً في التحرر من قبضة سلاطينهم الطغاة ؟
- هذا صحيح , لكن أمثال تلك الفرص قد ضاقت أمامهم في عهدنا الحالي يا صاحبي. وإذا كانوا قد كسبوا بعض الجولات ضد سلاطينهم الطغاة في الماضي , فلن يتسنى لهم ذلك في زمننا الحاضر . فلقد تهيأ للسلاطين اليوم كل وسائل القمع الجبارة لإرهاب معارضيهم , واستأثروا بكل أشكال الإعلام لتخدير المستضعفين وغسل أدمغتهم ... كلا يا صاحبي . لا أمل بعد اليوم للمستضعفين في التحرر من أسر سلاطينهم الطغاة .
- ليس هذا منطق التاريخ وإلا لساد الطغيان في كل مكان , فلا تيأس ولا تدع صبرك ينفذ , فلا بد للمستضعفين أن يهبوا ضد الطغاة وينتصروا عليهم طال الزمان أم قصر . ولا تفكر كما يفكر السلاطين الطغاة الذين يتغافلون عن عظات التاريخ فيتخيلون أنهم قد روضوا مستضعفيهم ولن تقوم لهم قائمة ما داموا يمسكون بزمام القوة , ثم إذا بهم يفاجئون بانتفاضاتهم على غير توقع فتجعلهم كعصف مأكول .
- إن قولك هذا يثلج قلبي يا صاحبي وإن كنت غير مقتنع به تماما وأراني أهتف بك : لا فض فوك .










سلطان السلاطين
- نحن نتحدث عن السلاطين وما يلحقون بالبشر من إفساد , ولكن ألا تلاحظ يا صاحبي أننا نتغافل عن جبار أعظم بأسا في إفساد البشر ؟!
- وهل هناك أعظم إفسادا في الأرض من السلاطين البغاة ؟!
- أجل يا صاحبي .
- ومن تقصد ؟!
- أقصد " المال" يا صاحبي , فقد أصبح المال في زمننا سلطان السلاطين .
- ولكنه كان كذلك دوما .
- أنا أتفق معك في ذلك يا صاحبي , لكنه لم يكن يكتسب لدى أجدادنا الأهمية التي يحظى بها اليوم . فقد اتسعت حاجات الإنسان وتنوعت وسائل رفاهيته فباتت جاذبية المال وسطوته أقوى مما كانت عليه في الماضي . والحقيقة أن المال أصبح الساعد الأيمن لسلاطيننا الطغاة في اكتساب الأنصار والمريدين في عالمنا الصغير . بل ومدّ نفوذهم خارج عالمنا إذ مكنهم من شراء ذمم البعض في العالم الكبير وتسخيرهم في تزيين صورهم القبيحة بما يملكونه من وسائل إعلامية0 فيا لفداحة الإساءة التي ألحقها مخترع " المال" بالبشر يا صاحبي !
- ولذلك ترى الحكماء يحاولون تحرير الإنسان من عبوديته ويحلمون باليوم الذي ينهار فيه سلطانه .




أخوّة البشر
- ونحن نسمع بما يجري في بعض بلدان عالمنا الصغير والكبير من فظائع وقسوة وحقد وكراهية بين أفراد الشعب الواحد بسبب اختلاف العرق والقومية والدين والمذهب , هل تراك تعتقد يا صاحبي أنه سيأتي على البشر يوما يدينون فيه بالمساواة والأخوة والمحبة ولا يكترثون لمثل هذه الاعتبارات؟
- يقول المتفائلون بمستقبل البشرية إن مثل هذا اليوم آت لا ريب فيه .
- وما الذي يجعل المتفائلين واثقين من حلول ذلك اليوم يا صاحبي ؟ أعني ما الذي سيجدّ في حياة الإنسان بحيث يدرك مثل ذلك اليوم ؟!
- إنهم يعتقدون آت تعمق الثقافة والمعرفة فيه سيصقل نفسه فيتشرب مثل هذه الأفكار .
- وهل جهل الإنسان مثل هذه الأفكار في الماضي حتى يدركها في المستقبل يا صاحبي ؟! ألم يعلن بوذا أن الوصول إلى (النرفانا) يتم عن طريق قول الصدق وابتغاء الخير وتطهير القلب بالحب ؟ ألم تكن دعوة كونفوشيوس قائمة على مقولته العظيمة "ما لا تحبه لنفسك لا تحبه لغيرك " ؟ ألم تبشر دعوة السيد المسيح بالمحبة المطلقة في كلمته الشهيرة "أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم , وأحسنوا إلى مبغضيكم , وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" أمل تشدد أخر وصية لرسولنا الكريم على المساواة بين البشر بقوله في خطبة الوداع : "أيها الناس , إن ربكم واحد , وأباكم واحد , كلكم لآدم وآدم من تراب , ليس لعربي على أعجمي من فضل إلا بالتقوى" ؟ ألم يكن شعار الثورة الفرنسية "الحرية والأخوة والمساواة" ؟ ألم تهتد الثورة الروسية بمقولة "الإنسان أثمن رأسمال على الأرض" فما الذي سيضيفه المصلحون والحكماء والمفكرون في المستقبل إلى مثل هذه الأفكار فيتغير الإنسان ويتخلى عن أنانيته وعنجهيته وغروره يا صاحبي ؟!
- أنت محق في اعتراضاتك هذه .

حب القول في عالمنا الصغير
- بم يوحي إليك بيت المتنبي هذا يا صاحبي ؟
أنام ملء جفوني من شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
- يوحي إليّ باعتزاز المتنبي بشعره واعتداده بشاعريته , كما يوحي إليّ أيضا بمدى اهتمام أجدادنا بالقول .
- أفلا تلاحظ يا صاحبي أننا لا نزال نمتلك نفس الاهتمام بالقول ؟
- أنت محق في ذلك , فنحن نشغف بالقول أكثر مما نولع بالتفكير والعمل , ولعل ذلك من أثر الوراثة فينا !
- وألا تلاحظ أيضا يا صاحبي أن السلاطين في عالمنا الصغير يكثرون من خطبهم الجوفاء ؟
- هذا أمر طبيعي , فهم بحق أحفاد أجدادنا السلاطين القدماء !
- وعلى ذكر أجدادنا , ألا تلاحظ يا صاحبي أيضا أننا نسرف في الحديث عن الأجداد والماضي بينما لا يعنينا الحاضر كثيراً ؟!
- أنت محق في ذلك , وقد أطلق المؤرخ توينبي على مثل هذه الظاهرة اسم (العقلية السلفية) , وهي العقلية التي تميز من يلتفتون إلى الوراء نحو حضارتهم السابقة ويعدونها (العصر الذهبي) فيتشبثون بها ويتكئون عليها 0 وهذا ما نفعله نحن بالضبط !
- فمتى سيتاح لنا أن نعتز بحاضرنا أكثر مما نفخر بماضينا , ونولع بالعمل أكثر مما نشغف بالقول يا صاحبي ؟
- يوم يصبح عالمنا الصغير كبيراً !



من رأى منكم منكراً

- كثيرا ما يتردد في ذهني يا صاحبي الحديث الشريف القائل : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "0 كم واحدا منا يا ترى يهتدي بهذا الحديث الشريف ؟!
- القلة القليلة من ذوي الفئة الثالثة .
- ومن تعني بالفئة الثالثة يا صاحبي ؟
- أعني من يغيرون المنكر بقلوبهم فلا وجود بيننا لمن يغيرون المنكر بأيديهم أو بألسنتهم .
- أتعني أن الخوف قد استحوذ علينا بحيث نعجز عن استنكار الشر حتى بألسنتنا يا صاحبي ؟!
- بالطبع , فنحن نؤيد سلاطيننا البغاة بألسنتنا وإن استنكرنا أفعالهم بقلوبنا .
- وما تعليلك لهذا الخوف مع أننا خليقون بأن نهتدي بتعاليم رسولنا الكريم ؟!
- أعتقد أنه من آثار الوراثة فينا . ولعلك قرأت تلك القصة التي رواها ابن الأثير في كتابه "الكامل" عن المغول لدى اجتياحهم عالمنا الصغير .
- زدني علماً يا صاحبي .
- روى ابن الأثير في كتابه (الكامل) أن أحد جنود المغول جمع حشدا من الأسرى وراح يعمل سيفه في رقابهم حتى كلت يده . فأمر البقية الباقية منهم أن يعاونوه في مهمته ويتولى كل واحد قتل صاحبه . فسارعوا إلى الامتثال لأمره وأخذ يقتل بعضهم بعضا حتى فنوا جميعا .
- ألا تظن أن هذه القصة مختلقة يا صاحبي فلا يمكن أن يبلغ الخوف بالبشر هذا المبلغ ؟!
- وهل بك حاجة إلى إثباتها حقاً ؟!
















إنما هذه المذاهب أسباب
- ما أشد إعجابي يا صاحبي ببيت المعري القائل :
إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
- وما سر إعجابك بهذا البيت ؟
- إنه يذكرني بحقيقة السلاطين في عالمنا الصغير .
- وكيف ذلك ؟
- أنت تعلم يا صاحبي أن فلانا وفلانا وفلانا من السلاطين في عالمنا الصغير كانوا يزعمون قبل أن يعلوا كرسي السلطنة أنهم يناضلون لإحقاق الحرية والعدل والمساواة للبشر . وها هم أولاء قد ملؤا الدنيا شرا ونكرا بطغيانهم واستبدادهم وتعسفهم ، فحرموا شعوبهم من أبسط حقوق الإنسان وأباحوا لأنفسهم ولحواريهم ما كانوا يحلمون به من أطايب الحياة , فجمعوا الثروات العظيمة وشادوا القصور الباذخة وجعلوا من بلدانهم ضيعة لهم يتصرفون بشؤونها وأموالها ومواطنيها كما يشاؤون , بينما ترسف شعوبهم بالتعاسة والحرمان .
- ولماذا هم سلاطين إذن ؟! أم تريدهم يقتدون بالإمام علي بن أبي طالب حينما تولى الخلافة فلبس أخشن الثياب وتبلغ بأبسط الطعام واتخذ منزلا متواضعا كي يساوي أفقر رعاياه ؟!
- أنا لا أتوقع منهم ذلك يا صاحبي فقد اختلف الزمان , لكنني أتساءل عن مصير المذاهب التي كانوا يدعون إليها . لم يكن المعري مخطئا إذن حين قال إن تلك المذاهب ليست سوى وسيلة لجذب الدنيا إلى الرؤساء .
- وهل كنت تشك في ذلك ؟! ألم تر إلى بعض أصحاب المذاهب ممن طال انتظارهم للمغانم وقد انقلبوا على أعقابهم وصاروا أعداء لمذاهبهم كي يتقربوا للسلاطين ويجذبوا الدنيا من طرف آخر ويصبحوا من ذوي الحل والربط ؟
- فهل يعني ذلك يا صاحبي أن جلّ أصحاب المذاهب في عالمنا الصغير الذين يزعمون الدفاع عن المستضعفين ليسوا سوى طلاب دنيا ؟!
- لقد قيل في الأمثال : "لو خلت قلبت" , ولا ريب أن بيننا من يؤمن بالحكمة القائلة : "خير الناس من نفع الناس " ويعمل من أجلها .
















الخطبة البتراء
- كلما قرأت خطبة زياد ابن أبيه المدعوة بـ(البتراء) عجبت لكثرة من يتشبه به اليوم من سلاطيننا الجدد يا صاحبي .
- فأسمعنها إذن فقد يكون فيها موعظة وتفكهة .
- قال زياد خطيبا في أهل البصرة :
" ... إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله .. لين في غير ضعف وشدة في غير عنف . وإني أقسم بالله لأخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن , والمقبل بالمدبر , والمطيع بالعاصي , والصحيح منكم في نفسه بالسقيم , حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : أنج سعد فقد هلك سعيد ..
أيها الناس , إنّا أصبحنا لكم ساسة , وعنكم ذادة , نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا, ونذود بفيء الله الذي خولنا , فلنا عليكم السمع والطاعة , ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولينا . فادعوا الصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم , وكهفكم الذي تأوون إليه , ومتى يصلحوا تصلحوا . ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم , مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا عظيما . أسأل الله أن يعين كلاّ على كل , وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه على إذلاله . وأيم الله إن لي فيكم لصرعي كثيرة , فليحذر كل امرئ أن يكون من صرعاي "
وبعد أن استمعت إلى هذه الخطبة , ألا تتفق معي في الرأي يا صاحبي ؟
- أنا أتفق معك في ذلك فعلا , فهذه الخطبة لسان حال أكثر سلاطيننا وإن لم يصرحوا بها علنا .
- ولكن الأمر المؤسف يا صاحبي أنه لا يكاد يوجد بيننا أمثال أبي بلال مرداس بن أدية الذي وقف لزياد قائلا : "أيها الأمير , أنبأنا الله بغير ما قلت وحكم بغير ما حكمت , فقد قال الله : وإبراهيم الذي وفّى ألا تزر وازرة وزر أخرى , وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى , فكيف تأخذ البريء بالسقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر ؟"
فأين لنا بأمثال أبي بلال يا صاحبي ؟
- لا تأسف لهذا الأمر , فكم رجلا غير أبي بلال قال لزياد مثل ذاك القول ؟ وما نحن إلا أحفاد أولئك الرجال !












أمثولة للسلاطين
- من المعلوم يا صاحبي أن السلاطين بحاجة إلى أمثولات الصالحين لعلهم يرتدعوا . فهلا أتحفتهم بأمثولة شافية ؟
- فليقرؤا إذن هذه الأمثولة البديعة في خطبة الإمام علي التي يقول فيها :
"والله لأن أبيت على حسك السعدان وأجر في الأغلال مصفدا أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشيء من الحطام .
والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا0 ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم . وعاودني مؤكدا ,وكرر علي القول مرددا . فأصغيت له سمعي فظن أنني أبيعه ديني وأتبع قيادة مفارقا طريقتي . فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها , فضج ضجيج ذي دنف من ألمها , وكاد أن يحترق من ميسمها . فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ؟! ".
- ما أروع ذلك يا صاحبي ! أو لا يكون خليقا بسلاطيننا أن يقتدوا بهؤلاء الرجال العظام ؟
- ومن قال إنهم يبتغون الخير والعدل حتى يقتدوا بالإمام علي وأمثاله ؟






أهمية الفرد
- إني لأعجب يا صاحبي من أمر أولئك الذين ينكرون أهمية الفرد سلبا أو إيجابا في سير التاريخ .
- ولماذا العجب ؟!
- لأن من الواضح أنه كان للفرد دائما وأبداً أهمية عظيمة , وهاك مثلا من السلاطين فلان وفلان وفلان في عالمنا الصغير وما صنعوا بشعوبهم . ألم يحيلوها إلى قردة ويجعلوها تتصرف كما يشاؤون وتصفق لما يقولون وتدين بما يدينون وإن كان في منتهى السخف والضلال ؟ ألم يسلبوها حرياتها الأساسية وحقوقها الإنسانية ويسمموا حياتها وينشروا بينها التعاسة ؟ ! وما هم سوى أفراد !
- إن مثلك هذا لا يقنعني . أفلا تدري كيف أفلحوا في ذلك ؟
- فاختر إذن من التاريخ البعيد والقريب ما شئت من أمثلته يا صاحبي . ماذا فعل الاسكندر باليونانيين ؟ وماذا فعل هانيبال بالقرطاجيين ؟ وماذا فعل نابليون بالفرنسيين ؟ وماذا فعل هتلر بالألمانيين ؟
- لكن هؤلاء جميعا كانوا يزينون ما يفعلونه لشعوبهم فيكسبون رضاها وتأييدها .
- وكانوا يرهبون من لا ينخدع بهم من أفراد شعوبهم . والنتيجة واحدة على أية حال وهي أنهم تحكموا بصورة أو بأخرى في رقاب شعوبهم وأصابوها بالكوارث وسببوا لها التعاسة والعناء ولم يكونوا سوى أفراد .
- لم أقتنع بمنطقك هذا , فلم يفلح من ذكرت من الأشخاص إلا بوسائل القهر والتضليل .
- فما قولك إذن فيمن لم يتبن سوى وسيلة العقل والمنطق ومن لم يكن له من سلاح سوى العقيدة ؟ !
- لهؤلاء شأن آخر بالطبع .
- فإليك إذن أسماء العديد ممن صنع التاريخ بالحجة والمنطق والعقيدة وممن يدين بدعاواهم اليوم ألوف الملايين من البشر ولم يكونوا سوى أفراد . إليك نبي المسلمين ونبي المسيحيين ونبي اليهود وبوذا وكونفوشيوس وغاندي وماركس . فهل بك حاجة إلى مزيد من الأمثلة يا صاحبي ؟
- قد تكون محقا في أمثلتك , ولكن اعلم أن الفرد لا يمكنه أن يتصرف إلا ضمن قبول أو استعداد للقبول من المجموع .














عالم الغربة

- إني ما أفتأ أفكر يا صاحبي في مقولة الإمام علي الرائعة "الفقر في الوطن غربة" وأدهش لما يكتظ به عالمنا الصغير من الغرباء , حتى لا يكاد يشكل المواطنون من غير الغرباء سوى نسبة ضئيلة . وإن هذه النسبة لتتدنى عاما بعد عام . فالأغنياء يزدادون غنى , والفقراء يشتدون فقرا , حتى لم يعد في عالمنا الصغير سوى طبقة ضئيلة ذات ثراء فاحش وطبقة عظيمة ذات فقر بالغ . فما رأيك في الأمر يا صاحبي ؟
- وماذا تتوقع ما دام عالمنا محكوم بسلاطين بغاة ؟ لكن المحزن في الأمر أن الفقر لا يمثل ظاهرة الغربة الوحيدة في عالمنا الصغير بل بات عالمنا عالم الغربة بكل أبعادها .
- أتعني يا صاحبي أن هناك غربة أشد من غربة المواطن الذي لا يجد لقمة العيش في وطنه ؟
- وهل نسيت مقولة السيد المسيح : "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان "؟







نصيحة !
- لعلك تتذكر يا صاحبي تلك النصيحة التي محض بها ابن المقفع في كتابه "الأدب الصغير" مساعدي السلطان بوجوب طاعته في كل شيء .
- لعلك مذكري بها .
- تلك النصيحة التي يخاطبهم بها قائلا : "فذلل نفسك باحتمال ما خالفك من رأي السلطان وقررها على أن السلطان إنما كان سلطانا لتتبعه في رأيه وهوان أمره , ولا تكلفه اتباعك وتغضب من خلافه إياك" .
- فعلا , تذكرتها . فما الذي تريد أن تخلص إليه ؟
- أفلا ترى يا صاحبي أن مساعدي السلاطين في عالمنا الصغير لا يزالون حتى اليوم يأخذون بهذه النصيحة ؟ !
- وكيف يصبحون إذن من ذوي الحل والربط إن لم يطيعوا السلاطين في كل شيء ؟ ففيم عجبك ؟ !
- أو لم يمض على تلك النصيحة قرابة ألف وثلاثمائة عام ولا شك أن أسلوب الحكم قد تطور خلال هذا الزمن الطويل , فكيف تصلح مثل هذه النصيحة لزماننا يا صاحبي ؟
- لعل تساؤلك هذا خير برهان على أن أسلوب الحكم في عالمنا الصغير لم يتطور عما كان يألفه أجدادنا في غابر الزمان !


حريات جون استوارت ميل
- أنت تعلم يا صاحبي أن الفيلسوف جون استوارت ميل اعتبر الحرية شرطا أسياسيا للرفاهية العامة وعنصرا جوهريا في السعادة الشخصية , فأين موقعنا في عالمنا الصغير من الرفاهية والسعادة بهذا المفهوم يا ترى ؟
- موقعنا في أدنى سلم الرفاهية والسعادة بالطبع . وليس الأمر كذلك فحسب , فمن المعلوم أن الحرية تعني لجون استوارت ميل من جملة ما تعني حرية الفكر، وحرية اختيار المرء لعمله، وحرية الكلام ،وحرية الاعتقاد، وحرية الانتماء . وهذه الحريات في رأيه هي المقياس الوحيد لدرجة مدنية المجتمع وتقدمه . أي أننا لو طبقنا مقياسه هذا على مجتمعات عالمنا الصغير لكانت درجتها في الحضيض .
- ومن المسؤول عن ذلك يا صاحبي ؟
- وهل بك حاجة إلى مثل هذا السؤال والكل يعلم أن السلاطين في عالمنا الصغير يسوسون رعيتهم كما كان يسوسها أسلافهم قبل ألف عام ؟








وصايا اجتماعية
- يسعدني أن أستمع إلى بعض وصاياك الاجتماعية يا صاحبي .
- إليك إذن هذه الوصايا : الكذب أول سلّمة للرذائل , ولا يعلم الكاذب ما ستكون سلّمته الأخيرة .
- صدقت يا صاحبي .
- صدق المرء مع نفسه مفتاح السلوك القويم في الحياة .
- صدقت يا صاحبي .
- محك الإيمان بالعقيدة التزام المرء بأخلاقياتها وصدقه تجاهها , فإن لم يفعل فهو مخادع وكذاب .
- صدقت يا صاحبي . ولكن ما بالك تؤكد أليوم على فضيلة الصدق ؟ !
- لأنه صار عملة نادرة في هذا الزمان .








أما الزبد فيذهب جفاء
- لقد تذكرت يا صاحبي الحكمة اليونانية القائلة : "لا تقل عن إنسان إنه سعيد حتى يموت" وأدركت مدى صدقها وأنا أقرأ أخبار أحد السلاطين الطغاة في العالم الكبير وما كابد من تعاسة وشقاء بعد أن ظفر به شعبه وراح يحاسبه عما اقترف بحقه من آثام , وليته يكون عبرة لمن اعتبر من سلاطيننا .
- الحكمة اليونانية حكمة عميقة المغزى , فلا ينبغي للمرء أن يغتر بالدنيا , وصدق أجدادنا إذ قالوا : "الدنيا غرارة" . لكن سلاطيننا لا يتعظون بعبر التاريخ مع أن ذلك خير لهم لو فعلوا .
- ولكن أفليس الأجدر بهم يا صاحبي أن يدخروا من حاضرهم السعيد شيئا لمستقبلهم المجهول وأن يتذكروا دائما أنهم لن يأمنوا انتفاضة المستضعفين ما داموا سادرين في غيهم ؟
- إن السلاطين لا يعنيهم المستقبل فهم يعيشون لحاضرهم , وإن غرورهم ليبلغ بهم حدا يتناسون فيه كل عظات التاريخ . ثم أنهم لا يكترثون بما يسببونه من شقاء وتعاسة لشعوبهم 0لذلك فهم يصيبون عادة ازدراء التاريخ , فلا يذكرون , إن ذكروا , إلا وهم مشيعون باللعنات0 ومن المعلوم أن التاريخ عسير الحساب ولا يرضيه إلا العمل الصالح والذكر الطيب ولا تعظوا بقول الله تعالى : "أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " .




شؤون البشر
- لو راقبنا الحياة من حولنا يا صاحبي لرأينا العجب العجاب من شؤون البشر .
- وكيف ذلك ؟
- إنني كلما أمعنت في مراقبة البشر ازددت يقينا يا صاحبي أنهم من الهوان على حظ عظيم . ولا يمكن أن يكون هؤلاء السخفاء الحمقى المغرورون الأنانيون الجشعون خلفاء في الأرض .
- وما الذي أوصلك إلى هذا الحكم القاسي ؟
- صدقني يا صاحبي , لو راقبتهم كما أراقبهم لوصلت إلى نفس هذا الحكم .
- ولكن هل من دليل ملموس على حكمك هذا ؟
- راقب الدول يا صاحبي وبعضها يحارب بعضا لخلافات تافهة أو أطماع خسيسة مع أنها قد ترتبط بروابط الجيرة منذ آلاف السنين فسترى أن وحشيتها لا تحدها حدود ! راقب شعوب بعض الدول وهي تتقاتل فيما بينها بزعم أن بعضها يدين بعقيدة تخالف عقيدة الآخر , مع أن تلك العقائد ليست سوى كلام منمق جاء به أحد البشر , فسترى أن فسوتها لا تحدها حدود ! وراقب البشر وهم يتصارعون على زخرف الحياة فيستغل بعضهم بعضا ويكيد بعضهم لبعض ويتفانون في كسب المال وفي تحقيق مآربهم دون أن يأبهوا لقواعد العدل والحق التي شرعتها السماء أو صاغها الحكماء ثم قل لي بعد ذلك كيف يمكن أن يصلحوا خلفاء في الأرض !
- أنت قلت كل شيء وليس عندي ما أقوله !



السلاطين والتاريخ
- هل ترى يا صاحبي أن السلاطين في عالمنا الصغير يكترثون للتاريخ ؟
- المفروض أن يكترثوا للتاريخ لو كانوا حكماء . فهو معلم الإنسان والانتفاع بعظاته والخشية من حكمه مؤشر حضاري .
- وهل يكترث السلاطين في العالم الكبير للتاريخ حتى يكترثوا به في عالمنا الصغير يا صاحبي ؟
- المفروض أن يكترث السلاطين في العالم الكبير للتاريخ لأنهم يدركون أن حكمه صارم .
- لو كانوا كذلك يا صاحبي ما كابدت الشعوب المستضعفة على أيديهم ما كابدت من قهر واستغلال , ومن نهب لثرواتها بشتى الصور والعلل .
- أنت محق في ذلك .
- أما سلاطيننا فلا يدركون قيمة التاريخ أصلا يا صاحبي ولا يخشونه . وإلا ما اتخذوا الاستبداد طريقة للحكم .
- اعلم إن السلاطين في عالمنا الصغير يدركون قيمة التاريخ غير أنهم يتصورون أن من اليسير عليهم تزييفه .
- وهذا ما يجري فعلا يا صاحبي , فأنت ترى أنهم يعملون على تزييف كل معاني ومجريات الحياة في بلدانهم وما يحكمها من معايير وأعراف وتقاليد وخلق , لاسيما وأنهم يحملون السيف بيد ويلوحون بالصريرة باليد الأخرى .
- ولكن هيهات لهم أن ينجحوا في مسعاهم مهما بذلوا لضعاف النفوس من مغريات!


ما جاع فقير إلا بما متع به غني
- ما رأيك يا صاحبي في مقولة الإمام عليّ : "ما جاع فقير إلا بما متع به غني " ؟
- لا ريب أن هذه المقولة تمثل حكمة إنسانية عميقة المغزى وهاديا لما ينبغي أن يكون عليه موقف الدولة تجاه الثروة . فلا ينبغي أن تركز الثروة بيد طبقة صغرى وتحرم من خيراتها الطبقة الكبرى . ولو كان هناك إشراف حقيقي للدولة على توزيع ثروة البلاد ما تمتع الأغنياء على حساب الفقراء . وقد أكد الخليفة عمر هذا المعنى أيضا بقوله في أخريات حياته : " لئن أخرني الله إلى قابل لآخذن من فضول أموال الأغنياء وأردها على الفقراء "0
- هذا معناه إذن أن وجود الأغنياء من ذوي الثراء الباذخ بحد ذاته ظلم للفقراء والمحرومين وافتآت على حقوقهم .
- هذا ما توحي به مقولتي الإمام علي والخليفة عمر .
- فكيف يتبجح الأغنياء إذن بثرائهم الباذخ يا صاحبي ويدّعون أنهم أصحاب حق لا يمارى فيه وليس لأحد عليهم من رقيب ؟
- لأن السلاطين معهم , ولأن الله ختم على قلوبهم غشاوة .







الإرادة
- قرأت يا صاحبي في بعض كتب الفلسفة أن الإرادة هي الإكسير السحري للإنسان ولولاها ما أدرك المجتمع البشري انتصاراته العظمى .
فهل تراك تقر هذا القول ؟
- إذا لم تكن تقصد بـ"الإرادة" ذاك المفهوم الضيق الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فخته فأنت محق في قولك . فبدون الإرادة يعجز الإنسان عن نيل أهدافه . وخذ مثلا من حياة الأنبياء والمصلحين والقادة والمكتشفين والعلماء والساسة فستجد أنهم جميعا امتازوا بإرادة صلبة . بل إن الشعوب تعجز عن إدراك أهدافها بدون إرادة صلبة . فلا يمكن أن تتحرر من تسلط الأجنبي واستبداد سلاطينها بدون إرادة صلبة .
- فهل يفلح المستضعفون في عالمنا الصغير في قهر سلاطينهم الطغاة يوما لو توفرت لهم الإرادة الصلبة يا صاحبي ؟
- بالطبع , ولكن ينبغي لهم قبل كل شيء الإيمان بهدفهم والتصميم على إنقاذه والاستعداد للتضحية في سبيله مهما غلا الثمن .
- وأنّى لهم ذلك يا صاحبي وقد أمدهم التاريخ بتجارب مرة عن بطش سلاطينهم واستئثار قادتهم بالسلطان وخيانتهم لأهدافهم إذ يصبحون هم أنفسهم سلاطين طغاة , فتذهب بالتالي تضحياتهم أدراج الرياح ؟
- ومتى كانت الأهداف الكبرى تدرك بدون تضحيات وعثرات ؟ !
- هذا كلام جميل يا صاحبي , ولكن كيف تراك تقنع مستضعفينا بضرورة التضحية في سبيل أهداف غيرية ؟
- وفيم حيرتك ؟ ! هل هذا الأمر بدع بينهم ؟ ألم يمر عليهم حين من الدهر آمنوا فيه بالأهداف الغيرية وقاموا بالمعجزات ؟ !
عالم مزيف
- أفلا ترى يا صاحبي أن عالمنا هذا عالم مزيف ؟
- وماذا تعني ؟
- أعني أن المهيمنين على شؤونه مزيفون ,وغالبية بشره مزيفون , وأن الكثير مما نسمعه من أقوال وأفعال مزيف . وأن القلة منا من يتصرف وفقا لما يؤمن بأنه الصدق والحق .
- حتى أنت ؟
- حتى أنا .
- ولماذا تحكم على نفسك هذا الحكم القاسي ؟
- لأنني لا أقول أو أتصرف دائما وفق ما أؤمن بأنه الصدق والحق إما مجاملة للآخرين أو مخافة غضب السلطان وذوي الحل والربط , وهكذا أشارك في الزيف العام .
- تعني أنك تشارك في الزيف لئلا يمسك الأذى أو لمغنم تتوقعه .
- لعل الأمر كذلك فعلا يا صاحبي .
- ها قد بلغنا بيت القصيد . فالبشر مزيفون حسب مفهومك هذا لأنهم يحاولون أن يتجنبوا ما قد يلحقهم من أذى أو لأنهم يهدفون إلى مطامع معينة . فإذا زال مثل هذا الظرف لم يعد هناك مسوغ للزيف . وبعبارة أوضح فإن شيوع الزيف بين البشر مصدره الخوف والطمع .
- فماذا بشأن المهيمنين على شؤون البشر يا صاحبي ؟ ! لماذا يختارون طريق الزيف ؟ !
- ومن تعني ؟
- أعني الحكام الذي يغشون شعوبهم بشكل أو بآخر ويعتمدون أسلوب التضليل والخداع في حكمهم . ما الذي يحملهم على سلوك طريق الزيف يا صاحبي .؟
- إنه الخوف من غضب شعوبهم , فأمثال هؤلاء الحكام لا يمثلون إرادة شعوبهم فلا يمكنهم بالتالي اعتماد أسلوب الصدق في الحكم .
- وماذا عن الحكام الذين يمثلون شعوبهم والذين يقيمون علاقات طبيعية مع الحكومات المزيفة بل ويدارون سلاطينها الطغاة الذين قد لا يختلفون عن أعتى المجرمين ؟ ! أليس هذا هو الزيف بعينه يا صاحبي ؟
- أنت تسمي هذا "زيف" وغيرك يسميه "سياسة" فمن ذكرت من الحكام يزعمون أنهم يراعون مصالح بلدانهم ,وأن هذا هو القانون الواقعي الذي يحكم السياسية الدولية .
- "فالسياسة" إذن معناها" الزيف "يا صاحبي والسياسيون مزيفون بشكل أو بآخر.
- قد يكون الأمر كذلك فعلا فالسياسيون الكبار هم الذين يكسبون دائما وأفراد الناس العاديون هم الذين يخسرون أو يفقدون حياتهم وقت الأزمات.
- فأين المفر يا صاحبي إذن , أين المفر ؟ أين نجد الحياة النقية الخالية من الزيف ؟
- عليك أن ترقب كشف الإنسان لعوالم أخرى في الكون فلعل الحياة فيها خالية من الزيف !

الله المستعان
- سأقرأ عليك يا صاحبي ما رواه أبو الفرج الأصبهاني في كتابه "الأغاني" حول بيت لبيد القائل :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
- إني سامع لك .
- قال أبو الفرج : حدثنا محمد بن جرير الطبري قال : حدثنا أبو السائب سالم بن جنادة قال : حدثنا وكيع بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تنشد بين لبيد :
"ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب"
رحم الله هشاما . فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم ! قال أبو السائب : رحم الله وكيعا . فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانهم ! قال أبو جعفر : رحم الله أبا السائب . فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم ! قال أبو الفرج : ونحن نقول : الله المستعان !
والآن قل لي يا صاحبي , ألا يجدر بنا أن نقول لأولئك الرواة الذين أوضحوا لنا أن تاريخنا سلسلة من المعاناة المتصلة على أيدي سلاطيننا القدماء : فكيف لو أدركتم من نحن بين ظهرانيهم من سلاطيننا الجدد !
- بل الأجدر بنا أن نردد قول الأصبهاني : " الله المستعان" !




الحكام الفاشلون
- لقد تذكر يا صاحبي مقولة الإمام علي الرائعة "استغن عمن شئت تكن نظيره" وأنا أستمع إلى حكاية فلان وكيف قابله السلطان في تعال وازدراء حينما ألجأته الظروف إليه .
- هذا أمر متوقع , فقد كانت فرصة سانحة لهذا السلطان للانتقام من تلك الشخصية الزاهدة في الدنيا التي لم تأبه له ولسلطانه من قبل .
- حقا إن في أقوال الإمام علي لحكما ثاقبة .
- هذا أمر لا ريب فيه . ولكن ألا تلاحظ أنك تكثر من الاستشهاد بأقواله ؟
- وما الغرابة في ذلك يا صاحبي ؟ ! أنا أحبه وأعتقد أنه قمة سامقة في النزاهة والعدل والتقى والحكمة .
- أنت محق في ذلك , فهو بلا جدال من أعظم الشخصيات التي يفخر بها تاريخ عالمنا الصغير في تقاها وحكمتها وعدالتها ونزاهتها .
- فاسمح لي إذن أن أسألك يا صاحبي : كيف يمكن أن يزعم البعض أنه أخفق كحاكم ؟
- اعلم أن مثل هذا القول لا يصدر إلا عن أولئك الذين يفهمون الحكم حسب المقاييس المكيافيلية : ولم يكن علي ابن أبي طالب من هذا الصنف من الحكام . فلم يكن يعوزه الدهاء ليصبح شأنه شأن الحكام الناجحين بهذه المقاييس , وقد قال هو نفسه في رده على من يقارن بين سياسته وسياسة معاوية : "والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر . ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس " . ولم يكن السلطان في عرفه هو الغاية بل وسيلة للأخذ مبادئ الإسلام الصحيحة . فإذا كان مثله يعد فاشلا فالخير كل الخير أن يتولى أمور البشر حكام فاشلون من هذا النوع يعملون في سبيل المثل العليا ومن أجل ضمان العدل والمساواة للبشر . ولا شك أن الدنيا ستكون حينئذ غير الدنيا التي نراها اليوم !

وصايا عامة
- ما أحوجني اليوم إلى وصاياك التي تعصمني مما أواجهه من مزالق الحياة في عالمنا يا صاحبي .
- إليك إذن هذه الوصايا : تجنب الوقوع تحت سلطان آفتين تكن سيد نفسك : المال والجاه .
- صدقت يا صاحبي .
- العقل أعظم هبة من الخالق للإنسان فحكّمه في تصرفاتك ولا تستسلم للعاطفة الهوجاء .
- صدقت يا صاحبي .
- الأصل حسن الظن بالآخرين فلا تستجب لوسواس الشك والنميمة
- صدقت يا صاحبي .
- تذكر الوصايا العشر التي وردت في "سفر الخروج" الإصحاح العشرين من "العهد القديم" وأعمل بها , ففيها قيم أخلاقية رفيعة جدير بنا أن نلتزم بها .
- صدقت يا صاحبي .
- تجنب الحقد والحسد فإنهما يختصران العمر، وتمسك بقيم الحب والصداقة فإنها ملح الحياة،
- صدقت يا صاحبي .
- احذر أن تفتن عن قيمك ومبادئك وتذكر قول السيد المسيح : "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه !" .
- صدقت يا صاحبي
- وأخيرا تدبر وصية الإمام علي القائلة : "خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم" .
- ما أجمل وصاياك يا صاحبي وما أجدر الناس أن ينتفعوا بها .
















أمل البشرية
- قرأت للعميد في كتابه عن المتنبي قوله : "إنه كان في صباه وشبابه لا يطلب الحكم والسلطان لنفسهما ولا يراهما غاية لما كان يلقى من مشقة ويحتمل من عناء , إنما كان يراهما وسيلة إلى إصلاح النظام السياسي والاجتماعي ورد الأمن والعدل والعافية إلى الناس . وهو الآن يكتفي من الحكم بالحكم ومن السلطان بالسلطان ويراهما الغاية كل الغاية والأمل كل الأمل , لا يفكر في إصلاح النظام السياسي لأن أحدا من الذين ثاروا لإصلاح هذا النظام لم يحاول إصلاحه , ولأن الناس الذين يكرهون هذا النظام ويشكون منه ويريدون تغييره لا يغيرونه ولا يعينون أحدا على هذا التغيير , ولأن الناس الذين يتحرقون شوقا إلى الأمن والعدل والعافية لا يكرهون أن يعيشوا في ظل الخوف والجور والخطر " .
ولقد تذكرت يا صاحبي وأنا أقرأ هذا الكلام القول المأثور : "ما أشبه الليلة بالبارحة! " .
- وكيف ذلك ؟ !
- أفلا ترى يا صاحبي أن السلاطين في عالمنا الصغير ممن ثاروا لإصلاح النظام لم يحاولوا إصلاحه بالفعل حينا تربعوا على كرسي السلطنة، وأن الذين يكرهون الأنظمة الجائرة في عالمنا الصغير ويبتغون تغييرها لا يعينون أحدا على هذا التغيير، وأن الذين يتحرقون شوقا إلى الأمن والعدل والعافية لا يكرهون عمليا أن يعيشوا في ظل الخوف والجور ما دام السكوت يضمن لهم وجودهم وما دام الجهاد يكلفهم المتاعب ؟ !
- إنني أوافقك على الشطر الأول من قولك 0 فلا ريب أن السلاطين في عالمنا الصغير قد أثبتوا أنهم طلاب سلطنة لا طلاب عدل وأمان . لكنني أخالفك الرأي في الشطر الثاني من قولك , فليس جميع الناس الذين يطمحون إلى العدل والأمن والعافية قد استسلموا للعيش في ظل الخوف والجور وإلا ما غصت السجون في عالمنا الصغير بطلاب العدل والأمان وأعداء الجور والطغيان وهم حملة المثل العليا الصادقون .
- من يسمعك تتحدث هكذا يا صاحبي يحسب أن الدنيا بخير , ويتصور أن الكثرة الكاثرة من البشر هم من حملة المثل العليا الذين يحاربون الجور والطغيان في حين أن أولئك ليسوا سوى قلة لا غناء في جهودهم ولا أمل في تضحياتهم .
- من السهل عليك أن تتحدث عن تلك القلة بهذه الاستهانة ما دمت متربعا أنت وأمثالك على التل تراقبون الأحداث من عل وتكتفون من الغنيمة بالأياب . لكنك ينبغي أن تدرك أن تلك القلة هم أمل البشرية الذين يقودونها نحو الحياة الكريمة , وهم الذين يأخذون بيدها إلى بر الأمان ويوفرون لها العدل والاطمئنان , وأن ما يقاسونه من عذاب وحرمان في السجون والمنافي وما يقدمونه من تضحيات هي أشبه بتضحيات الأنبياء إن لم تثمر اليوم فستثمر غداً .












مستقبل الكلمة
- أنت تعلم يا صاحبي أن "الكلمة" هي التي بنت مجد الإنسان ومهدت لتطوره الاجتماعي والسياسي . فعن طريقها استطاع الأنبياء والحكماء والمصلحون أن يرقوا بحياة الإنسان . وباختصار كانت "الكلمة" هي السيد المطاع في تاريخ الإنسان الحضاري .
- هذا أمر لا ريب فيه فما الجديد في الأمر ؟
- الجديد في الأمر يا صاحبي أن سلطان الكلمة مهدد بالأفول وأن السيادة ستكون للأسلحة الجبارة في المستقبل .
- وكيف ذلك ؟
- أنت تعلم يا صاحبي أن الكلمة لعبت دورا حاسما في توجيه حياة الإنسان السياسية . وكم من مرة أثمرت الكلمة في تقويم نظامه السياسي المعوج . ولكن أية سطوة ستكون للكلمة في المستقبل تجاه الأسلحة الجبارة ؟ ! وماذا ستكون قيمة القصائد الحماسية والخطب النارية والمقالات الملتهبة في إذكاء شعور الثورة ضد السلاطين الطغاة الذين يمتلكون الأسلحة الجبارة ؟ ! وإني أسألك : لمن تكون الغلبة : للكلمة العزلاء أم للأسلحة الجبارة ؟ !
- للأسلحة الجبارة حسب منطقك هذا .
- إذن يحق لنا أن نتوقع انحسار مجد الكلمة في المستقبل حتى يتلاشى تماما لتصبح السيادة والغلبة التامة للآلة الحربية الجبارة ... فيا له من مستقبل مظلم في انتظار الإنسان يا صاحبي !
- مهلا ولا تغرق في التشاؤم فقد أقمت منطقك هذا على التغافل عن حقيقة جوهرية وهي أن هذه الأسلحة الجبارة التي تخشى سلطانها خرساء ولن تنطق من تلقاء نفسها , وأن الإنسان هو الذي ينطقها , وهذا الإنسان لن يكون بمنأى عن سلطان "الكلمة" في أي زمن من الأزمان !

















الثورات الشعبية !
- ألا تتفق معي يا صاحبي على أن اكثر الثورات المسماة بـ" الشعبية" قد أخفقت في تحقيق أهدافها في القضاء على الظلم والطغيان وتوفير الحرية والعدل والمساواة , وانتهت إلى تقييد حرية الفرد والضغط عليه , بل وإلى سحقه أحيانا بزعم حماية النظام الجديد ؟
- هذا أمر لا ريب فيه .
- أو لا تتفق معي يا صاحبي على أنه كثيرا ما تلد هذه الثورات طبقة جديدة منتفعة من النظام الجديد ربما تكون أعظم استغلالا وعنجهية من الطبقة المستغلة القديمة ؟
- هذا أمر لا ريب فيه .
- ألا تتفق معي أيضا يا صاحبي على أنه كثيرا ما يفلح حزب معين بالاستبداد بالحكم والتسلط على الشعب , ثم يبرز من بينه فرد , ومعه طبقة ذوي الحل والربط , يسرقون ثمار تلك الثورة التي قد يهلك ضحيتها الألوف ؟
- هذا أمر لا ريب فيه .
- إذن فأين مكمن العيب يا صاحبي ؟ ! أفي الأفكار نفسها أم في الأشخاص الذين يدعونها ؟ !
- فتش عن الديمقراطية السليمة !






وحدة البشر
- أنت تعلم يا صاحبي أن الأنبياء والمصلحين قد بشروا منذ آلاف السنين بأخوة البشر ووحدتهم . وهذا أمر طبيعي . فالمفروض أنهم انطلقوا من أصل واحد . لكن تبشيرهم بهذه الأفكار لم يقرّب البشر جوهريا بعضهم من بعض , فقد انقسموا إلى شعوب وقبائل يدل بعضها على بعض بأرومتها وتتعصب كل منها على الأخرى . فكيف السبيل إلى عودة البشر إلى وحدتهم الأولى وقد قال الحكماء والمصلحون كل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد ؟ !
- ليس المفروض أن يكون انقسام البشر إلى شعوب وقبائل مدعاة إلى تباغضهم وتنافرهم , وقد قال الله في كتابه الحكيم : "وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا" . ولكن المسؤول عن هذا التباغض والتنافر هم طلاب السلطان والمال .
- زدني علما يا صاحبي .
- من المعلوم أن من يسوس مجتمعات البشر ويرسم لها نهج حياتها ويتخذ القرارات الحاسمة كانوا ولا يزالون ذوي السلطان والمال لا المصلحون والحكماء . وليس من مصلحة هؤلاء أن يحل الوئام والأخوة والسلام بين البشر وإلا فقدوا مكاسبهم .
- فما الحل إذن يا صاحبي ؟
- الحل واضح ولكنه بعيد المنال . فيوم يصبح السلاطين أثراً بعد عين , ويوم يشبع البشر مطالبهم المادية ويوم يخرج العقل من أسر الهوى يتغير نهج الحياة وتغدو وحدة البشر قريبة المنال .
















جوهر الحكم
- ألا تلاحظ يا صاحبي أن جوهر الحكم لم يتغير منذ وجد الحكام على هذا الكوكب ؟
- وكيف ذلك ؟
- أنت تعلم يا صاحبي أن فراعنة مصر كانوا منذ الأسرات الأولى في الألف الثالثة قبل الميلاد يعتبرون الصورة الأرضية المجسدة لرب الأرباب أوزريس . كذلك كان حال ملوك السومريين منذ فجر السلالات في الألف الثالثة قبل الميلاد حيث كانوا يقدسون شأن الآلهة 0 وحذا بعض قياصرة الدولة الرومانية حذو فراعنة مصر ورفعوا أنفسهم إلى مصاف الآلهة , واعتبر أباطرة اليابان أنفسهم منحدرين مباشرة من سلالة الآلهة. وهكذا أله الحكام أنفسهم في معظم الدول القديمة وإن تنوعت صور هذا التأليه . وورث الحكام في العهود الحاضرة فكرة التأليه هذه وترجموها إلى صور جديدة تتلاءم والمدنية الحديثة . فمن الواضح إذن أن جوهر الحكم لم يتغير في حقيقته بل تغير في زيه فحسب , فما رأيك في ذلك يا صاحبي؟
- كيف يمكنك أن تعمم مثل هذا الرأي على الزمن الحاضر وأنت تدري أن هذه الادعاءات قد رفضتها الشعوب منذ قرون عديدة ؟ فحتى فكرة الحق الإلهي التي كان يدعيها بعض ملوك أوروبا ويروجها الكهنة قد قبرت منذ الثورة الفرنسية ولم يعد ينظر إلى الحكام في العالم المتمدن , حتى الذين يرثون الحكم , إلا باعتبارهم حفظة لحقوق شعوبهم . فليس ما ذكرت هو جوهر الحكم بل هو الحكم المزيف .
- ولكن واقع الحكم في كثير من بلدان العالم يؤيد قولي يا صاحبي . وإلا فما تفسيرك لعبادة الفرد التي تشيع في كثير من بلدان عالمنا الصغير والكبير؟ ! أليست هي الصورة الحديثة لفكرة التأليه لدى الحكام القدماء ؟ !
- أنت محق في ذلك وحري بنا أن نقول "ما أشبه الليلة بالبارحة !"



















استغلال
- أفلا ترى يا صاحبي أن تعاليم الأنبياء والرسل التي بشرت دائما بالعدل والمساواة بين البشر ووقفت في صف المستضعفين ضد الطغاة والمستغلين كانت تنقلب على أيدي الكثيرين من أصحاب السلطان الديني والدنيوي إلى أدوات قهر واستغلال ؟
- هذا أمر لا ريب فيه . فقد عمد أمثال هؤلاء الأفراد إلى استغلال تلك التعاليم النبيلة وجعلها أداة طيعة بأيديهم وفي خدمة أغراضهم . فالديانة المسيحية مثلا التي هدفت فيما هدفت إلى الاستجابة لطموح المستضعفين للخلاص من بؤسهم وعبوديتهم قد تحولت على أيدي الكثيرين من أصحاب السلطان الديني والدنيوي إلى أداة يسحقون باسمها كل من يحاول الانعتاق من سلطانهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي . ودونك تاريخ الكنيسة في العصور الأولى والوسطى وما يحمله من مآسي وأهوال . وقل مثل ذلك عن أكثر الذين حكموا باسم الإسلام أو اليهودية أو الهندوكية , بل إن الكثيرين من أولئك الذين ثاروا تحت شعار تخليص الدين من شوائبه تحوّلوا هم وحواريهم بعد أن نجحت ثوراتهم إلى طبقة مستغلة .
- وبماذا تعلل ذلك يا صاحبي ؟
- إذا تحوّل الدين إلى كرسي للسلطنة فقد مقوماته الروحية وصار مكاسب مادية .






نحن والخلائق الكونية
- هل تتصور يا صاحبي أن من المحتمل وجود خلائق عاقلة على كوكب غير كوكبنا؟
- هذا احتمال وارد إذا توفرت ظروف الحياة في واحد أو أكثر من ملايين الكواكب المبعثرة في الكون .
- فهل تتوقع يا صاحبي أن يكون خلائق تلك الكواكب , إن وجدت , أرقى عقلا منا ؟
- هذا احتمال وارد , لأن ما أسموه علماء لأجناس بـ(الإنسان العاقل) (هوموسابيانس) لم يثبت أنه عاقل فعلا !
- فإذا كانوا أرقى عقلا منا , فكيف لا يحاولون يا صاحبي الاتصال بنا وهم لا شك قديرون على ذلك ؟
- وما الذي يشجعهم على الاتصال بنا ؟ ! لا ريب أن ما يحدث على كوكبنا المبتلى يزهدهم في عقد الصلات معنا , بل لا ريب أنهم محتارون في أمرنا .. أعقلاء نحن أم فاقدو العقول ! فبينما نعمد إلى إقامة أعظم البنايات التي تناطح السماء والتي تبذل في إنشائها جهودا جبارة إذا بنا نهدّها في غمضة عين حينما يندلع الخصام بيننا . وبينما ننشئ المستشفيات الفخمة للعناية بمرضانا ودفع خطر الموت عنهم ونبذل غاية الجهد في ذلك , إذا بنا نتسابق في صنع الأسلحة المدمرة التي تهلكنا بالآلاف في ساعات قليلة ! وبينما يشهدون البعض منا مرفهين قد أتخمهم الشبع, يرون البعض الآخر بائسين محرومين , بل قد تسحق المجاعات الملايين منهم! وأخيرا لا ريب في أنهم عاجزون عن فهم ما يجري على كوكبنا . فالمفروض أننا ننتمي إلى أصل واحد ,ومع ذلك نحن منقسمون على مئات الشعوب المتناحرة التي يحارب بعضها بعضا ويستغل بعضها بعضا ويتعالى بعضها على بعض ويبطش القوي منها بالضعيف , والتي يسمح البعض منها لفرد واحد أن ينفرد بالسلطة ويتصرف بشؤونها كما يشاء0 فهل ترى بعد ذلك من سبب يشجع الخلائق الكونية على محاولة عقد الصلات معنا ؟ !

















ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان
- أليس المفروض يا صاحبي أن ثمة دولا تدين بالمقولة الشهيرة "الإنسان أثمن رأسمال على الأرض" ؟
- بلى , وهذه الدول تكاد تستأثر بنصف مساحة العالم اليوم .
- فهل تعمل هذه الدول حقا بتلك المقولة الرائعة يا صاحبي ؟
- من المتعذر إجابتك بدقة عن هذا السؤال 0 لكن الذي لا ريب فيه أن تلك الدول تسعى جهدها لتوفير متطلبات الإنسان المادية وإن قصّرت في تطمين ضروراته الروحية .
- وكيف تسوغ هذا التقصير يا صاحبي ؟ أفليس المفروض ألا تقبل تلك المقولة التجزئة وأن تعنى هذه الدول بضرورات الإنسان الروحية قدر عنايتها بمتطلباته المادية ؟
- لعل هذه الدول لم تسمع بمقولة السيد المسيح : "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" !!








وبعد
- بعد أن فرغت جعبتك من الأسئلة يطيب لي أنا أيضا أن ألقي عليك بعض الأسئلة.
- سل ما بدا لك يا صاحبي .
- هل تعتقد أن الأجوبة عن أسئلتك ستفيد أحدا حقا ؟ وبعبارة أوضح : هل تتصور أن ما قد تتضمنه الأجوبة من حكمة تنفع أحدا فعلا ؟
- أنت تعلم يا صاحبي أنه طالما تعارضت الحكمة مع مصالح ونوازع الإنسان الذاتية تغلبت الثانية على الأولى حتى لو قرأ الإنسان كل كتب الحكمة . وعلينا أن نرتقب زمانا أخر يخرج فيه العقل من أسر الهوى . أما السلاطين فهم أخر من يتعظ بالحكمة وإلا ما كانوا سلاطينا ولاستفادوا من عظات التاريخ .
- عندي سؤال أخر .
- سل ما بدا لك يا صاحبي ؟0
- ألا تلاحظ أنك بهذه التساؤلات كنت متشائما وأنك قد رسمت صورة قاتمة للإنسان في حاضره ومستقبله ؟
- قد يكون الأمر كذلك فيما يخص حاضره , أما ما يخص مستقبله فالأمر خلاف ذلك يا صاحبي . فمهما بدت لنا صورة الإنسان قاتمة في حاضره فلا يمكننا أن نتغافل عما حقق من تقدم حضاري يبشر بمستقبل أفضل . فهل ننسى مثلا أن الإنسان كان قبل ما يزيد على بضعة مئات من السنين يحل أكل لحوم أخيه الإنسان في بعض جهات الأرض ؟ ! وهل ننسى أن الإنسان كان يباع ويشترى بصورة شرعية في كل جهات الأرض قبل ما يزيد على قرنين فقط ؟ ! وهل يمكن أن ننسى أن السلطة كانت تعد في نظر بعض السلاطين حقا إلهيا قبل ما يزيد على قرنين فقط ؟ ثم هل يمكن أن ننسى ما قدمه الإنسان من تضحيات عظمى للدفاع عن عقيدته وفي سبيل أهداف غيرية ؟ وأخيرا , هل يمكن أن ننسى أن الإنسان ظل يحتفظ خلال آلاف السنين التي مرت به بأثمن ما زودته به الطبيعة وهو "الحب" , وإن قصره على أفراد أسرته وأصدقائه , والذي لا شك أنه سيتسع في يوم من الأيام فيشمل أبناء جلدته جميعا ؟ ! فكيف لنا إذن أن نكفر بمستقبل الإنسان ؟ ! كل ما هنالك يا صاحبي أنني ضيق الصدر ببطء مسيرته نحو الكمال والسعادة , وهي أهداف سيدركها بلا ريب طال الزمان أم قصر .
- لدي سؤال أخير
- سل ما بدا لك يا صاحبي .
- أفلا ترى أنك بأسئلتك هذه قد بسّطت الأمور أكثر من حقيقتها وكأن مشكلات الإنسان كلها ناجمة عن السلوك الأحمق للسلاطين وعن تغلب الهوى على العقل ,وبالتالي فكل ما يحتاج إليه الإنسان هو انتهاء عهد السلاطين وخروج العقل من أسر الهوى ؟ فمن المعلوم أن المشاكل التي تواجه الإنسان في حياته المقبلة لا حصر لها وهي مشاكل معقدة للغاية 0 من أمثلتها مشكلة الزيادة العظيمة في السكان في بعض جهات الأرض مما سيواجه بلدانها بخطر البطالة والمجاعة والتشرد والعجز في الخدمات الصحية والتعليمية والسكنية 0 ومشكلة نفاد الموارد الطبيعية وما تخلفه من مستقبل غامض أمام البشر 0 ومشكلة تلوث البيئة وما تحمله من تهديد للصحة البشرية 0ومشكلة تدمير البيئة الطبيعية والإخلال بتوازنها بسبب الأنشطة الصناعية والزراعية وغيرها وما ينجم عن ذلك من تغيرات مأساوية في المناخ والمياه والنبات 00 إلى آخر ما هنالك من مشكلات تنبثق عن حياته المادية والحضارية المتطورة . قل لي : كيف سيحل الإنسان مشاكله هذه والمشاكل الأخرى الكامنة في ضمير الغيب بعد أن ينتهي عهد السلاطين ويخرج عقله من أسر الهوى ؟
- اسمع يا صاحبي . إذا انتهى عهد السلاطين وصار الإنسان يحكم نفسه بنفسه بحق وحقيق . وإذا خرج عقله من أسر الهوى وساد السلام وانتهى عهد الحروب فلا تقلق على مستقبل الإنسان لأنه سيكون قادرا على حل مشكلاته أجمعها الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية , وسيحلها بالطريقة العقلانية مستعينا بأداتين سحريتين هما "العلم" و "التعاضد" 0فهاتان الأداتان السحريتان كفيلتان بحل كل ما يعترضه في حياته المقبلة من معضلات !



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شاكر خصباك - تساؤلات وخواطر فلسفية