أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - السؤال؟!!















المزيد.....



السؤال؟!!


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2491 - 2008 / 12 / 10 - 04:03
المحور: الادب والفن
    



" رواية "
الطبعة الأولى 1966
سأحكي لك يا ندى كلّ ما مرّ بي خلال تلك الشهور الكابوسية ما دمت مصرة على ذلك0 وقد حاولت طوال الأيام الماضية أن أجنبك الاستماع إلى هذه الحكاية المأساوية لأنها ستثير في قلبك أعمق الشجن. ولكن تذكري يا ندى أنك أنت المسؤولة عن ذلك بإلحاحك الشديد عليّ. واعلمي أنك كنت حاضرة معي دائماً طوال تلك الشهور.
حينما تحركت بي السيارة تعلقت عيناي بدارنا وهي تنأى عني بسرعة وتراءى لي شارعنا الصامت حزيناً كالحاً. تأملته بنهم وقد استبد بي شعور قوي بأنني سأحرم رؤيته إلى الأبد. وما أن توارى عن أنظاري حتى أسدل أحد الحراس ستارة على نافذة السيارة فغرقت في الظلام . ثم طرح فوق وجهي غطاء خشن وأحكم شدّه حول عينيّ. وسحبت ذراعاي بفظاظة وراء ظهري، والتف حول معصمي حبل غليظ. وخيّل إليّ للحظات يا ندى أنني أرزح تحت كابوس خانق. قلت: إلى أين تقودونني؟
ردّ عليّ أحدهم منتهراً: ليس هذا من شأنك.
فقلت: أليس من حقي أن أتساءل عن مصيري؟
فغمزتت خاصرتي بأخمص رشاشة وقال أحدهم: لماذا تجادل يا جبان؟
وقال آخر ساخراً: أتريد أن تعرف إلى أين نقودك أيها الكاتب؟.. إلى فندق السندباد لتقيم فترة في ضيافتنا.
تعالت القهقهات الساخرة ثم قال أحدهم معترضاً: أعتقد أن فندق السندباد لا يليق بمقامه.. ربما كان فندق رجنت أفضل منه.. أليس كذلك أيها الكاتب؟
استمسكت بصمتي. كانت حالة من اللامبالاة قد شاعت في كياني يا ندى فلم يعد يستفزني شيء. وتأهبت لتقبّل مصيري بشجاعة وصبر. لكمني أحدهم في ظهري لكمة أليمة وسأل بصوت غليظ: ألا ترد علينا يا جبان؟ هل أصبت بالخرس؟
قلت بهدوء: بماذا أرّد عليكم ؟!
فقال هازئاً: أخبرنا إذا كنت تفضل فندق السندباد أم فندق ريجنت.
قلت: إنني وديعة بين أيديكم ولا يحق لكم أن تسخروا مني أو تعتدوا عليّ.
فقال ذو الصوت الغليظ متهكما: اطمئن إذن. سنسلم هذه الوديعة الثمينة إلى الأيدي التي تحسن التصرف بها. إن نظامنا يحسن التصرف مع أعدائه!!
انعطفت السيارة بقوة فكدت أنكفئ على وجهي واحتكت عجلاتها بالأرض احتكاكاً شديداً ثم هدأت حركتها وسكن هدير ماكينتها.
قال أحدهم وهو ينتلني من كتفي: انزل يا جبان.
هبطت من السيارة، ثم مشيت بين الحرّاس وأنا أتلمس الأرض بقدمي كالأعمى وجسدي يرتعش تحت لسع الهواء البارد. وانبعثت الأصوات المختلطة والصيحات الآمرة وقعقعة السلاح وجلبة الأحذية من جميع الجهات. وأخيراً امتدت يد إلى صدري وأوقفتني عن السير. وسأل صوت جهوري: من هذا الجبان؟
فردّ ذو الصوت الغليظ: إنه رشاد الهادي.
قال ذو الصوت الجهوري بتهكم: أهلاً وسهلاً بالكاتب العظيم. كنا ننتظر تشريفك بشوق.
وتساءل أحدهم: هل أقوده إلى الغرفة رقم 7؟
أجاب ذو الصوت الجهوري: لا. لن نضعه في أية غرفة. لقد صدر عليه حكم بالإعدام وسينفذ فيه بعد قليل.
عجبت يا ندى للبرود الذي تلقيت به هذا النبأ وكأنه يخص شخصاً آخر. ولم يبد لي الحكم بالإعدام أمراً رهيباً بل نهاية طبيعية للكابوس الجاثم على صدري.
سأل ذو الصوت الغليظ: إذن فقد صدر عليه الحكم بالإعدام؟
أجاب ذو الصوت الجهوري: نعم صدر عليه الحكم قبل ساعات وسيعدم رمياً بالرصاص.
وسكت لحظة ثم أضاف: خذه يا خالد إلى موضع المحكوم عليهم بالإعدام.
دفعني أحدهم إلى الأمام صارخاً: تحرك يا جبان.
وقبل أن ابتعد هتف ذو الصوت الغليظ: إلى اللقاء في العالم الآخر أيها الكاتب.
قادني الحارس من يدي لبضعة دقائق ثم أوقفني وقال: اجلس هنا.
مددت يدي أمامي متفحصاً المكان فاصطدمت بالجدار، فخطوت حتى لامسته، ثم جلست القرفصاء مسنداً ظهري إليه. وهبّت على وجهي نسمات رقيقة تحمل شيئاً من برودة الهواء في الخارج. سألت نفسي يا ندى أين أنا؟ فلم أ كن في مكان مكشوف وإلا لتعرضت للهواء البارد، لكنني لم أكن في غرفة أيضاً . فالأصوات كانت تتناهى إلى سمعي من جهات عديدة.. لعل المكان صالة واسعة تنفتح عنها ممرات وغرف متعددة.
فجأة صكّ سمعي صراخ مذعور أشبه بصراخ حيوان جريح، وتتابعت الصرخات الملتاعة، فسبح جسدي بعرق بارد. وانتابني مغص حاد وشعور بالغثيان. ثم تخافتت الصرخات حتى استحالت إلى أنين بعيد . وناجيت نفسي وناجيتك . . خيرً لي أن أفارق الحياة على أن أعايش هذه الصرخات. مرحبا بالموت. سأعدم رميا بالرصاص إذن. ترى أي ألم يحدثه الرصاص وهو يخترق الجسد؟ لا شك أنه ألم عابر فلن تدوم فترة الانتقال بين الحياة والموت سوى ثوان معدودات. وماذا بعد الموت؟ هل ثمة ظلام مطبق وضياع مطلق؟! أم انتقال خاطف من حياة مادية إلى وجود روحي؟! قد أواصل الوجود وأنا كيان شفاف، لكنني لن أستطيع التحدث معك يا ندى.. لن أستطيع التحدث مع بهاء ونعمى. يا لها من تجربة قاسية ! سأكون بقربكم أراكم فلا ترونني، وأكلمكم فلا تسمعونني.. ولعلني لن أحتفظ بشخصيتي. ربما بعثت في هيئة جديدة وفي جسد جديد. ربما نسيت كل شيء عنكم يا ندى. هذه أفكار حمقاء! لن يكون بعد الموت سوى العدم وظلمات القبر والسكون الشامل. يا لها من تجربة قاسية! نوهب الحياة ونحبها ثم ما نلبث أن نسلبها! ولكن الحياة عزيزة يا ندى مهما تشتد مرارتها، وقد أخطأ من توهم أنه يكره الحياة. أي شيء يمكن أن يكون أغلى من الحياة؟! لكنني سأكون شهيد الخير.. شهيد المثل العليا. ألم أسخر قلمي لهذا الهدف يا ندى؟ وقد مات الألوف والملايين دفاعاً عن هذه الأهداف، لكن ذكرهم لم يمت، ولن يموت ما بقي الإنسان على هذه الأرض. وسيذكرني الناس دائماً يا ندى.. سيذكرونني دائماً. وسوف تفخرين بي. ولن تغيب ذكراي عن ذهنك.. وستحدثين أبناءنا بأنني متّ شهيد المثل العليا .

.ضجّ رأسي بتلك الخواطر وأنا ملقى في زاويتي بجوار الجدار . ثم اقتربت من بعيد جلبة أقدام كثيرة، وصاح أحدهم بلهجة آمرة: اجلسوا هنا حتى تتمّ الاستعدادات لتنفيذ حكم الإعدام فيكم.
وتدانت الخطوات مني.. خطوات متعبة تجر على الأرض جرا. وتكوّم عدة أشخاص على الأرض بجواري. وأطلقت زفرات حرّى. ثم أجهش أحدهم ببكاء خافت، وتلاحقت شهقاته الملتاعة. وردد أحدهم: الله كريم.. الله كريم يا إخوان.
تساءل أحدهم بمرارة: كيف يسكت عن هذا الظلم إذن؟
فرد عليه آخر: استغفر الله فنحن على أبواب ملكوته.
هتف أحدهم وهو يزفر زفرة حارة: ضاعت حياتنا وانتهى كل شيء.
أطبق علينا الصمت لحظات، ثم انبرى أحدهم يهمس في أنفاس متلاحقة: يا رب الرحمة.. يا رب الرحمة.. يا رب الرحمة.
اقتربت أخيراً أقدام ثقيلة، وتعالى صوت جهوري: انهضوا!
هببنا واقفين، وأخذ بعضنا يصطدم ببعض بارتباك. وهتف الصوت الجهوري: تهيأ.
خشخشت أصوات البنادق وهي تعد للإطلاق. وفي اللحظة نفسها سمعنا صوت ارتطام جسد بالأرض. فساح ذو الصوت الجهوري: انتظروا.. ارفعوا ذلك الجبان وأسندوه إلى الجدار.
دنت منا خطوات ثقيلة وقال أحدهم آمراً: استند إلى الجدار.
وما أن ابتعدت الخطوات الثقيلة حتى ارتطم الجسد بالأرض ثانية.
فصاح ذو الصوت الجهوري: إرموا هذا الجبان وهو على الأرض.
اصطكت أسنان الشخص الواقف إلى يميني، وانفجر أحدهم يصرخ مولولاً: لخاطر الله.. لخاطر الله.. ارحموني .. ارحموا عائلتي.. إنها بلا معيل. لماذا تيتمون أطفالي؟
هتف آخر في احتجاج: أنتم ترتكبون عملاً وحشياً بإعدامنا. نحن أبرياء. نحن لم نقم بأي عمل ضدكم.. كيف تعدموننا بلا محاكمة؟
فرد ذو الصوت الجهوري: أسكت أيها الجبان. أنتم جميعاً أعداء النظام ويجب أن تبادوا عن بكرة أبيكم.
ثم انفجرت بغتة قهقه عالية. وصاح أحدهم: انظروا إلى البول يسيل من بنطلونه.
قال آخر: امتلأ حذاؤه بالبول.
وقال ثالث: يا لهم من جبناء.
هتف أحدنا بصوت مرتجف: الشهادة يا إخوان.. لا تنسوا الشهادة.
سرت الهمهمات بيننا تتلو الشهادة بأصوات مرتجفة. ثم صرخ أحدنا: سلّموا جثثنا لعوائلنا. هذا واجب عليكم.
ردّ ذو الصوت الجهوري: بل سنرميها للكلاب.
ثم هتف آمراً: تهيّأ.
تعالت خشخشة البنادق ثانية وتواردت الأفكار على ذهني ثانية يا ندى .. ما هي إلا لحظة وينتهي كل شيء. ما الموت؟ إنه غفوة أبدية.. إنه إنقاذ من متاعب الحياة الموصولة.. إنه راحة للفكر والجسد. سألقاك في الحياة الأخرى يا ندى.. لا تستسلمي للحزن.. كوني أقوى من الطغاة.. ماذا تنتظرون؟ لماذا لا تطلقون النار علينا؟! نحن لا نخافكم يا أعداء الإنسانية.. نحن أقوى منكم.. وأنتم يا أحبائي الصغار.. أنت يا بهاء، وأنت يا نعمى.. وداعاً، ولتنعموا بحياة سعيدة.. نحن لا نخشاكم أيها الطغاة.. نحن لا نرهب رصاصكم.
وتعالى الصوت الجهوري: ارم.
فدوّى سيل من طلقات البنادق، وضجت صرخات الاستغاثة والفزع. هل متّ؟ هل تحولت إلى روح؟ إذن فسأحتفظ بشخصيتي .. بوسعي أن أفكر كما يفكر الأحياء.. بوسعي أن أتخيلك يا ندى، وأن أتخيل بهاء ونعمى! إن روحي لم تحلّ في جسد آخر. مرحباً بهذه الحياة الخالدة.. ولكن أتراني متّ حقا؟ إنني قادر على الحركة! لعلني جرحت ولم أمت. في أي موضع من جسدي أصبت؟ أنا لا أشعر بالألم. يقال أن الجريح لا يشعر بآلام جرحه في اللحظة ذاتها..
وأفقت من أفكاري على صوت يهتف : " قودوا الأحياء الباقين إلى الغرفة رقم 7 وسينفذ فيهم حكم الإعدام فيما بعد".
إنه ذو الصوت الجهوري يتكلم مرة أخرى. بوسعي أن أميّز خطوات الحرّاس الثقيلة وهي تدنو منا. وتساءلت في فرح :الأحياء؟ . . إذن لا يزال بيننا أحياء، وأنا من ضمنهم. أنا حيّ .. حيّ .. حيّ يا ندى! ما أجمل الحياة وما أغلاها! وكم تمنيت أن أضمك إلى صدري تلك اللحظة يا ندى !
وهمس جاري بصوت مرتجف: شكرا لك يا رب.. شكرا لك يا رب .. شكرا لك يا رب.
واختلطت التمتمات والهمهمات الفرحة.
تدافعنا كالعميان يتعثر بعضنا ببعض والحراس يدفعوننا بغلظة. وساءلت نفسي : كم واحد قتل منا ؟! ولماذا أُجّل حكم الإعدام فينا يا ترى ؟!
توقف طابورنا أخيراً ودفعنا الحراس إلى داخل الغرفة. كنت أسمع زملائي وهم يتعثرون ويسقطون عند دخولهم. ولما حان دوري عاجلتني دفعة قوية في ظهري فتعثرت بأقدام كثيرة وسقطت، فتلقاني شخص بين ذراعيه وأجلسني بجواره. وداهمني إعياء شديد يا ندى وأحسست كأنني قطعت طريقاً شاقاً طويلاً. صاح الحارس: انتبهوا جيداً لما أقول أيها الجبناء. الكلام ممنوع منعاً باتاً. سنعطيكم طعاماً مرتين في اليوم، وسنسمح لكم بالخروج إلى دورة المياه مرة واحدة، فلا تستفسروا عن أي شيء. ستلازمون الصمت التام. ومن يخالف الأوامر يلق العقاب الصارم. أنتم تستحقون الموت جميعاً فأنتم أعداؤنا. وسيأتي دور كل منكم في حينه.
وعجزت عن تتبع أقوال الحارس يا ندى. وشعرت برأسي يدور كالطاحونة وبجسدي يطير في الهواء كالريشة. وترامى إلى سمعي صوته وكأنه آت من مكان قصيّ..
,ولا أدري كم لبثت مستغرقاً في النوم يا ندى. وحينما صحوت كانت تتملكني حالة من الضياع. لم أدرك للوهلة الأولى لماذا كنت عاجزا عن فتح عيني وتحريك ذراعي. وحسبت أنني لا أزال أعاني من كابوس ثقيل.
وكان نومي قد تخللته أحلام مرعبة يأخذ بعضها بكتف بعض. كنت مرة أخترق غابات كثيفة تعجّ بالوحوش المفترسة ولم يكن لدي من سلاح سوى رمح مثلوم الرأس. وكنت أطيح بالوحوش عن يميني وشمالي، لكن جولتي في الغابة لم تشرف على نهاية. ومرة أخرى رأيتني في مكان قصي قد أحاط بي عمالقة غلاظ وطرحوني أرضا وأوثقوا يديّ وقدميّ بالحبال. ثم أضرموا النيران حواليّ فامتدت ألسنتها نحوي. وكنت أراقب دنوها مني في فزع ورعب. ومرة ثالثة وجدتني في غرفة ضيقة كالكهف يسودها ظلام قاتم ويخيم عليها صمت مطبق. وكنت أدور فيها من موضع إلى آخر باحثا عن مخرج في الجدران، لكن الغرفة كانت بلا أبواب ولا نوافذ. ثم دوّت بين جنباتها قهقهات مجنونة فرحت أندفع مذعوراً في كل اتجاه فيلطمني صداها.
أحسست بعصابة تحجب النور عن عيني، وبحبل يوثق يدي وراء ظهري. و أصغيت بانتباه فسمعت تنفس الشخص الراقد إلى جواري. وفي لحظة واحدة تذكرت كل شيء.
مكثت وقتا طويلاً غارقاً في جمودي دون أن تراودني رغبة في الحركة أو الكلام. وساد المكان صمت شامل لا يعكّره سوى تنفس الشخص الممدد إلى جواري وتنهدات خافتة تنطلق بين حين وآخر. وساءلت نفسي : هل انصرم الليل؟! وإذا كان الوقت نهارا فلماذا لا يتحدث الموجودون؟!
وقلت أخيراً: كم الساعة الآن؟
فردّ عليّ في الحال صوت زاجر: أخرس يا جبان.
فسكتّ مكرها. وبقيت صامتاً برهة حسبتها دهراً كدت خلالها أختنق ضيقاً. ثم عدت أتساءل: هل تسمحون لي بالخروج إلى دورة المياه؟
صرخ الصوت الزاجر: ألم نمنع الكلام أيها الجبان؟
فقلت: كيف نستفسر عن حاجاتنا إذن؟
وفي الحال هوت على كتفي ضربة جبارة فتلويت ألماً وانقلبت على بطني. قال الحارس: أنتم حيوانات ولا تفهمون الأوامر إلاّ بالضرب.
ظللت راقداً على بطني وأنا أعضّ على شفتي ألماً، وشغلت بألمي عن الصمت الرابض فوق المكان.
ما كنت أتخيل يوما يا ندى أن يفرض الصمت عقاباً على الإنسان. ولطالما رغبت فيه وفتشت عنه لأخلو إلى أفكاري. ألا تتذكرين يا ندى كيف كنت أضيق بضجيج الأطفال أحياناً وأتوق إلى مكان منعزل أخلد فيه إلى السكون؟ لكنني شعرت آنذاك ّ بأن الكلام أجمل اختراع في الوجود! وكم يزحم ذهني كلام كثير أحب أن أقوله لك. ولكم رغبت في أن أتحدث إليك طويلاً يا ندى ! يا لها من فكرة جهنمية تلك التي هدتهم إلى استخدام الصمت وسيلة للعقاب! لقد شلّوا أيدينا وعطلوا عيوننا وأبطلوا ألسنتنا. لم يعد ينقصهم سوى أن ينتزعوا الحياة من بين أضلاعنا ويمحونا من الوجود نهائياً!
زحف الوقت بطيئاً ثقيلاً ولم يخطر لي من قبل أنه يمكن أن يملّ إلى هذا الحد يا ندى! لا كلام ولا قراءة ولا نظر! لا بد لي أن أستسلم لتيار أفكاري، وكل موجة فيه تحملني إلى شاطئ جديد. وساءلت نفسي : كيف يقوى الأعمى على احتمال ظلامه الأبدي؟! كيف يواجه الظلام المطبق الذي يجعل من الذهن بئراً عميقة ذات أغوار سحيقة؟! كم من المزايا العظيمة يتمتع بها الإنسان يا ندى دون أن يقدّر قيمتها! فهل تصورت يوماً أن حكّ موضع في جسدك ينطوي على متعة بالغة؟! هذا ما أحسست به آنذاك و ظهري يهرشني بحرقة فلا أستطيع حكه ّ. فيداي المقيدتان لا تمكّناني من ذلك. فما أبدع أن يحك المرء جسده متى شاء!
و كانت تنهدات الموجودين تتوالى كلما تقدم الوقت. لكن الصمت ظل يجثم على الغرفة كنسر هائل! وأخيراً اقتربت خطوات ثقيلة من غرفتنا حتى توقفت عند الباب، وحيّا صاحبها حارس غرفتنا وقال: حان دور جماعتك يا جابر.
فخاطبنا حارسنا قائلاً: حان دوركم للخروج إلى المرحاض.
ستخرجون أزواجاً، وكلما عاد اثنان خرج اثنان آخران. والآن، من يريد الخروج؟!
قال أحد الموجودين بلهفة: اسمح لي فأنا متضايق جداً.
فصرخ به الحارس: ألم أمنعكم من الكلام؟! ألا تفهمون أيها الحيوانات؟!
عجبت كيف يمكننا التعبير عن رغباتنا. واستحوذت عليّ رغبة ملحة في الاستفسار بالرغم مما قد يجره ذلك عليّ من عقاب، لكنني تذكرت الثمن فسكت على مضض.
عاد الحارس يقول: كل من يرغب في الخروج يحرك ذراعيه، هل فهمتم؟ إذا فهمتم هزوا رؤوسكم بالإيجاب.
وبعد لحظة قال حارسنا لزميله وهو يضحك: أنظر إليهم يا ماجد كيف يهزون رؤوسهم كالخرفان تماماً.
قال زميله: يروحون فدوه للخرفان. إنهم من الحيوانات المنحطة.
قال حارسنا: والآن فليتقدم الزوج الأول.
ثم أضاف: أنت وأنت.
مضى الزوج الأول ثم عاد بعد وقت قصير. ثم أعقبه الزوج الثاني ثم الثالث. وتتابع خروج الرفاق. ولم أحاول منافسة الآخرين يا ندى ونويت البقاء حتى النهاية. لكن الحارس غمزني بماسورة رشّاشته وقال: أنت.
ثم هتف بجاري: وأنت أيضاً.
نهضنا معاً وارتطمنا ببعضنا بعضا . ثم تلمست طريقي نحو الباب وأنا أتعثر. كان الألم قد استعر بمعصميّ من أثر الحبال، وكان ثمة وجع شديد في مثانتي. وما أن أدركت الباب حتى امتدت يد قوية وقبضت على ذراعي. وقادني الحارس في رواق طويل انتهى إلى باب فتحه وقال وهو يدفعني عبره: ادخل ولا تتأخر.
وقفت حائراً لا أدري ماذا أفعل، ثم تساءلت: كيف سنقضي حاجتنا وعيوننا معصوبة وأيدينا موثقة إلى الخلف؟ ألا يمكن أن ترفعوا العصابة عن عيوننا وتحلّوا وثاق أيدينا؟
فغمز الحارس خاصرتي بماسورة رشاشته وانتهرني قائلاً: اسكت أيها الجبان.
وأغلق عليّ الباب. تسمرت لحظات في وقفتي يا ندى وأنا أخشى التحرك لئلا تغور قدماي في فتحة المرحاض. ثم مددت قدمي بحذر أفحص الفتحة حتى عثرت عليها وحددت موضعها. وبذلت جهداً عظيماً لاستخدام يديّ الموثقتين في خلع بنطلوني. وما أن تهيأت لقضاء حاجتي حتى قرع الحارس الباب بقوة وصاح: أسرع .. أسرع.
وعبثاً حاولت قضاء حاجتي وبدا لي أنني أعاني من إمساك مزمن. والتهبت مثانتي بآلام مبرحة. ثم سمعت نقرا خافتا على جدار المرحاض وتناهى إلى سمعي صوت هامس: ما اسمك أيها الزميل! أنا جارك الذي خرج معك.
أجبت هامساً: رشاد الهادي.
قال: تشرفنا يا أستاذ رشاد .. أنا سالم ناجي ولا أحسبك تعرفني لكنني قرأت لك وأنا من المعجبين بك . متى اعتقلت؟
قلت: ليلة أمس، إذا كان الوقت الآن نهارا. أهو نهار الآن؟
قال: إنه النهار، ففي الليل تشتد الضوضاء وينطلق صراخ المعذبين.
سألته: وكم أمضيت هنا؟
فقال: أعتقد أنني أمضيت أسبوعاً.
فسألته: هل تعرف أين نحن؟
فأجاب: لا، وأنت؟
فقلت: ولا أنا. إنهم عصبوا عينيّ قبل الوصول إلى هذا المكان.
انهال القرع على الباب وتعالى صوت الحارس: ألن تنتهيا؟سأفتح الباب وأجرّكما جرّاً.
فقلنا بصوت واحد: حالاً.
ثم همست وأنا أعالج ارتداء البنطلون: كم يوماً سنلبث محكوما علينا بالبكم والعمى؟
أجاب جاري: لا أدري. ربما أسبوعاً أو أسبوعين أو إلى الأبد!
صرخ الحارس في اهتياج: ألن تنتهيا؟
فهتفنا: حالا.
عدت إلى الغرفة وقد داخلني الارتياح يا ندى . كانت العبارات القصيرة الهامسة التي تبادلتها مع زميلي قد نفّست عن رغبتي الحبيسة في الكلام. حاولت أن أتكئ على الجدار لأتخذ وضعاً مريحاً، لكن يديّ المقيدتين إلى الخلف وقفتا في الطريق. فانبطحت على بطني وأسندت رأسي إلى الجدار.. ورحت أناجي نفسي وأناجيك يا ندى . .إنه النهار إذن. كم أشتاق لنور النهار يا ندى! كم أشتاق إلى ضوء الشمس! هذا الضوء الأصفر الفاقع البديع! لم أكن أتصور قط أن يتصف ضوء الشمس بهذا الجمال!
إنه النهار إذن بشمسه الدافئة الجميلة! ولكن أية ساعة من النهار هي الآن يا ندى؟ أهي ساعة من ساعات الصباح الأولى حيث تصخب حديقتنا بزقزقة العصافير وترانيم البلابل وحيث تهب عبر النوافذ النسمات الرقيقة حاملة شدو الطيور وعبير الزهور؟! أم تراها ساعة من ساعات الظهيرة حيث يعود أطفالنا وأطفال الجيران من مدارسهم وهم يملؤون الشارع بضحكاتهم البريئة وصخبهم اللطيف؟
وأنت يا ندى.. ماذا تفعلين الآن؟ هل تعدين طعام الغداء؟! لعلك تطلين الآن من سياج الحديقة وترسلين أنظارك عبر شارعنا تترقبين وصول الأطفال وقد أقلقك تأخرهم. مسكينة أنت يا ندى! كنت أتخيل أحيانا أنك تستمتعين بالقلق لكثرة قلقك! والآن لا حاجة بك للبحث عن موارد للقلق فلديك منه معين لا ينضب! أية وساوس تنتابك وأنت تجهلين مصير زوجك، أحيّ هو أم ميت، وفي أي سجن هو؟! سأحدثك عن سجني يا ندى وإن لم أكن أدري أين يقع هذا السجن. إنني مقيّد اليدين إلى الوراء بحبل غليظ، وقد بدأ هذا الحبل يأكل معصمي. إن جسدي يهرشني أحياناً فتمضّني الرغبة في حكه، لكن ذلك حلم بعيد المنال! إنني أقعد على الأرض متربعاً أغلب الوقت، فإذا اتكأت إلى الجدار تعثرت بيديّ. وقد أصبح النوم على ظهري حلماً من الأحلام وما عليّ إلا الانبطاح على بطني. إن عينيّ معصوبتان بقوة مؤلمة، وإن الظلام يطبق عليّ فأحسّ كأنني أتخبط في ليل حالك. إن الكلام ممنوع عليّ. ممنوع منعاً باتا! هل سمعت بمثل هذا العقاب يا ندى؟! إنه عقاب مبتكر فلم أقرأ أو أسمع عنه من قبل! ولعلك تتصورين أن الصمت عقاب هيّن، لكن الأمر يختلف إذا فُرض عليك. وليس من حقي أن أخرج إلى دورة المياه أكثر من مرة واحدة مهما تشتد حاجتي! عليّ أن أتصرف! ولحسن الحظ أنهم فرضوا الصوم علينا فلم يقدموا إلينا حتى الآن أي طعام!
ولكن لا تحزني من أجلي يا ندى. فأنا أؤدي ثمنا لواجب نبيل. وكم من آلاف بل ملايين دفعوا مثل هذا الثمن قبلي . لا بد لمن يدافع عن القيم الإنسانية الخيرة ان يؤدي ثمنا باهظا . هذه سنّة الحياة منذ كوّن الإنسان المجتمع يا ندى . وقد تتغيّر هذه السنّة في يوم من الأيام حين يعم الخير البشرية جمعاء . أما الآن فعلى أمثالنا ان يضحوا بدون شكوى وان يتحملوا الآلام بلا تذمر . وأنت تعلمين أنني رسمت لنفسي هذا السبيل ولن أحيد عنه . إن طريق الخير شاق وطويل يا ندى وإنه لحافل بالأشواك يا ندى . ونحن نحاول أن نفرشه بالورود. فاصفحي عني ولا تحزني.. إن وجهك الضحوك قد خُلق للابتسام لا للحزن . بددي عن الأطفال كآبتهم فلا شك أن فراقهم لأبيهم يحزنهم. كم يهزني الشوق إليك وإلى الأطفال يا ندى! كم يهزني الشوق إليكم. وكم أتمنى لو كنت أشارككم الآن مائدة الطعام ونحن نحكي قصص اليوم. ترى أيلتئم شملنا ثانية يا ندى؟
وغلبني النوم ثم أفقت منه على صدى صرخات مروّعة يا ندى. حركت جسدي يمينا وشمالاً فانضغطت يداي والتهب الألم في معصمي.. إذن هذا هو الليل. فقد بدأت حفلات التعذيب وإن هذه الصرخات شبيهة بالصرخات التي سمعتها بالأمس. ولكن أية صرخات هذه؟! أية آلام يقاسي صاحبها؟ تصبب جسدي عرقا بارداً يا ندى وشعرت بالغثيان. حاولت أن أصم أذني فلم أفلح فيداي مقيدتان ولا سبيل إلى الاستعانة بهما. ألصقت إحدى أذنيّ بالأرض لكن الصرخات خرقت الأذن الأخرى كسيل من الرصاص. تقلبت على الأرض وكأنني أهتز في أرجوحة.هتف الحارس: أنت.. ما بك؟
فقلت: لست أقوى على سماع هذا الصراخ.
فقال: هل أنت مريض؟
فقلت: هذه الصرخات الفظيعة.. لست أحتمل سماعها.
فقال بسخرية: لست تحتمل سماع الصرخات! ماذا ستفعل إذن حينما تكون في موضع صاحبها؟! هل ستبول على نفسك؟! يا لكم من جبناء!
خفت الصراخ شيئاً فشيئاً واستحال إلى أنين بعيد. وسكنت الارتجافة في جسدي لكنه ظل يتصبب عرقاً بارداً. وابتلّ قميصي والتصق بجسدي.
وران على المكان سكون مطبق.. سكون كأنه الموت. وانبعثت همسة خافتة من مكان ما، وترددت عبارة يا "رب" بين حين وآخر.
كم مضى عليّ وأنا ملقى في محبس الصمت معصوب العينين موثق اليدين يا ندى؟! لا أدري بالضبط . لم أكن أميّز بين الليل والنهار. كنت أتخبط في ظلام حالك طوال الوقت. لم أكن أميّز بين اليقظة والنوم. كانت الأحلام المزعجة تتواصل أثناء نومي وصحوي. واعتدت سماع الصرخات المذعورة ولم تعد تصيبني بالغثيان. كانت تخلف في قلبي كدرا عميقا. وألفت وضع يديّ الموثقتين إلى الخلف وابتكرت الأوضاع المناسبة لهما أثناء الجلوس والرقاد. وكان الحارس يحلّ وثاقهما مرتين في اليوم ويربطهما إلى الأمام عند إحضار الطعام فيبدو لي وضعهما مريحاً. وكان طعامنا من نوع تعافه حتى الكلاب .
واستمرأت الصمت يا ندى . أخذت الأصوات البشرية ترنّ في أذنيّ رنينا غريبا. ولم يعد الظلام يضايقني كثيراً. وأدركت يا ندى كيف يصبر الأعمى على ظلامه الدائم، فما يلبث المرء حتى يعتاد الظلام فيحلّ خياله محلّ عينيه في الرؤية والتصور. لكنني كنت أقاوم رغبة ملّحة في رفع العصابة عن عينيّ ولو للحظات كي أرى وجه حارسنا الليلي. كان هذا الحارس لعنة علينا يا ندى. كانت ألفاظه الجارحة تلسع أرواحنا كما تلسع السياط الأجساد. كان مولعاً بالتنكيل بنا فكأن ذلك هوايته في الحياة! وكثيراً ما خيّل إليّ أن له رأس بغل قد ركّب على جسد ثور، فلا يمكن أن يكون سلوكه سلوك إنسان على أية حال. كان يخلق المناسبات ليهوي على أحدنا بلكمة وينهال على الآخر بركلة ويصلي الثالث بشتائم مقذعة. وتحققت رغبتي ذات ليلة يا ندى . ففي حوالي منتصف الليل حضر أحد الحرّاس وتبادل مع حارسنا عبارات خافتة، ثم نادى حارسنا: رشاد الهادي.
فقلت: نعم.
فقال: تقدم هنا.
تقدمت بخطى متعثرة نحو الباب. تساءلت : هل جاء دوري للتحقيق؟ وهل سأواجه التعذيب أخيراً؟! و إنه لموقف عصيب يا ندى أن يدرك المرء أنه مرسل للتعذيب مهما أوتي من شجاعة. لقد واجهت تهديد الموت دون أن تعصف بي الرهبة ذاتها. لكنني فلت لنفسي : لابد لي أن أتشجع فسخريتهم أقسى عليّ من التعذيب الجسدي.
حينما أدركت الباب انتزع الحارس العصابة عن عينيّ، وما أن فتحتهما حتى أغمضتهما سريعاً وقد بهرهما نور المصباح. ثم جرّبت بعد لحظات أن أقاوم الضوء ففتحتهما ببطء. وعجّ الفراغ أمامي بنقط حمر وخضر وصفر. ثم بدأت أميّز المكان شيئاً فشيئا. كان الحارس منكبّاً على وثاق يدي يعالج فكّه. تأملت وجهه بدهشة. بدا نحيل الجسم صغير الوجه كبير الأنف غائر العينين ذا جبهة عالية ضيقة.
أجلت نظري في الغرفة وقد اضطرب في قلبي أسى عميق. كان البعض من زملائي منكفئا على وجهه على بلاط الغرفة، والبعض الآخر متمدداً على جنبه، واستند عدد كبير منهم إلى الجدران. بدت وجوههم جامدة خرساء تنطق ملامحها بيأس ساحق. وأضفت عليهم ذقونهم الطويلة وشعورهم الشعث تعبيرا وحشيا فبدوا أشبه بأهل الكهف . ودهشت لخليطهم العجيب بين فتيان صغار وشبان في عنفوان شبابهم وكهول قد وخط الشيب شعورهم!
فرغ الحارس من فكّ وثاقي فحركت ذراعي وقد خيّل إليّ أن أعصابهما تتمزق. كان الحبل قد طبع آثارا عميقة على معصمي. ولاحت مني التفاتة إلى الحارس الآخر المنتصب بجوار الباب. كان طويل القامة نحيف الجسد محنيّ الظهر قليلاً. قال بخشونة: اتبعني.
سرنا في رواق طويل تحفّ به غرف موصدة الأبواب يحمل كل منها رقماً. وانتهينا إلى سلم ضيق فارتقيناه، ثم انعطفنا يمينا واجتزنا رواقا آخر ذا أبواب موصدة. ثم بلغنا أخيراً صالة صغيرة تنفتح عنها ثلاثة أبواب فتوقف الحارس أمام الباب الأوسط. قرأت على قطعة من المقوى مثبتة على الباب "غرفة التحقيق"، فتسارعت ضربات قلبي. نقر الحارس أمام الباب فتناهى إلينا صوت من الداخل:"أدخل". فتح الحارس الباب ودفعني أمامه وأغلقه ورائي.
بدت الغرفة أنيقة. وفي أقصاها قامت منضدة ضخمة تكومت فوقها "الدوسيهات" وأطل من ورائها ثلاثة أشخاص قد شارفوا على الثلاثين. تساءل الشخص الأوسط بلهجة جامدة: السيد رشاد الهادي؟
فقلت: نعم.
فأشار إلى مقعد أمام المنضدة وقال: اجلس.
جلست وأنا أفحص وجوه الأشخاص بنظرة سريعة. كان الثلاثة يتميزون بأناقة مفرطة.. شعورهم اللامعة معقوصة أو مفروقة من الوسط بعناية بالغة.. قمصانهم بيضاء نظيفة ذات ياقات منشاة.. وجوههم تنضح بدماء الصحة. وانفرد الأوسط بضخامة لافتة للنظر. طالعت وجوههم العابسة فدوت في إذني الصرخات الملتاعة وسرت في جسدي ارتعاشة خفيفة. رفع الشخص الأوسط رأسه وتفرس في وجهي بنظرات جامدة ثم قال: نحن آسفون يا سيد رشاد على تأخير التحقيق معك. لكننا كما ترى مشغولون جداً.
وأشار إلى أكوام "الدوسيهات" فوق المنضدة. وانبرى الآخران يرمقانني بنظرات متعالية. واصل الشخص الأوسط كلامه: والحقيقة أننا نرغب في إطلاق سراحك ولن نحاكمك على جرائم قلمك إذا ما تصرفت معنا تصرفاً عقلانياً.
فقلت: ولكن اسمح لي أن أسأل، أية جرائم ارتكبها قلمي؟
فقال: كانت أفكارك خطرة دائماً.
فقلت: أي خطر فيها؟ لقد هدفت دائما في كتاباتي لخير الشعب وخير الإنسانية. وهو هدف يبتغيه كل إنسان شريف.
قال بلهجة جافة: نحن لا نحاسبك الآن على تلك الكتابات. وما أحضرناك إلى هنا لتناقشنا في هذه الأمور. إن مهمتنا العاجلة الآن هي الكشف عن التنظيمات السرية "لعصبة الشعب" التي تعمل ضد النظام ً. فلن يقرّ لنا قرار قبل سحقها، وكل من عاوننا في تحقيق هذه المهمة فهو آمن.
سكت لحظات وهو يحدجني بنظرات حادة ثم سألني بلهجته الجافة: ما رأيك؟
فقلت: رأيي في أي شيء؟
فقال: في معاونتنا في هذه المهمة.
فقلت: وكيف لي أن أعاونكم؟
فقال: سجّل لنا اعترافك بالتفصيل فهو كل ما نطلبه منك.
فقلت: اعترافي عن أيّ شيء؟
فقال: اعترافك عن تنظيمات "العصبة" وخلاياها وأعضائها.
فقلت: لكنني لست عضوا فيها.
فقال بنبرة حادة: اسمع يا سيد رشاد. نحن لا نقبل أية مناورة أو مداورة. لا بد لكل شخص أن يسجل اعترافه كاملاً إذا أراد حماية نفسه. وسنعمل على إطلاق سراحك بأسرع وقت ممكن.
فقلت: أؤكد لك أنني لست عضوا في العصبة ولا أعرف عنها شيئاً.
قال زميله الأول وهو ذو شارب أنيق: ألم تقتنع بعد يا ممدوح أن أسلوبك هذا عقيم؟
وقال زميله الآخر وهو قصير ذو سحنة متجهمة: أنت تضيّع وقتنا بهذا الأسلوب يا ممدوح وخير لنا أن نعالجه حالاً.
تأملني ممدوح بنظراته الحادة ثم قال ببطء وهو يشير إلى شخص في زاوية الغرفة منكب على الكتابة: لماذا لا تتعظ بما جرى لغيرك يا سيد رشاد؟ انظر إلى فتّاح مجيد.. إنه أحد أعضاء العصبة البارزين كما تعلم وقد حاول أن يراوغنا في البداية وأبى أن يتعاون معنا. ولما يئسنا منه..
وضحك وهو يرمي يديه استسلاما ثم قال: هاهو ذا الآن يسجل اعترافه كاملاً كما ترى.
راقبت الشخص المنزوي في ركن من الغرفة وهو عاكف على الورق يدّون باهتمام. كانت ذراعه اليسرى مربوطة إلى صدره وكفّه اليمنى ملفوفة بخرقة قذرة. وبرز جرح عميق في صدغه الأيسر. دوّت في أذني الصرخات الملتاعة فقلت في شيء من الارتباك: أؤكد لكم أنني لست عضوا.
فقال ممدوح في تهكم: أتحسبنا أطفالاً حتى يمكنك خداعنا؟ كيف لا ينضم كاتب مثلك إلى "العصبة"؟ لقد كنت دائماً تبشّر بأفكارها.وكنت على رأس الموقعين على عرائضها.
فقلت: إنني كاتب شعبي أدعو لخير الشعب والمبادئ الإنسانية الخيّرة . وليس من الضروري أن أنتمي إلى تنظيم سياسي معين.وإنني أضم صوتي إلى كل من يعمل لخير الشعب وأدافع عنه إذا وقع عليه ظلم .
شمل الغرفة صمت متوتر. وتفجرت في وجه ممدوح ضراوة بشعة. وأخذ ينقر بقلمه على المنضدة نقرات متساوقة. وانطلقت سلسلة المفاتيح تدور بسرعة حول إصبع الشخص القصير فتنبعث منها ضجة صاخبة. وانبرى زميله الطويل يفتل شاربه بحركة عصبية. تساءل ممدوح أخيراً بلهجة تهديد: أنت لا تنوي التعاون معنا إذن؟
فأطرقت متجنباً النظر إليهم. نهض الشخص القصير ودار حول المنضدة وراء مقعدي. وضجّ سمعي بصخب المفاتيح. وفجأة هوت على قفاي لكمة جبارة فاهتز جسدي واندفعت الدماء إلى وجهي. وزمجر الرجل القصير: اعترف يا ابن الزنا.
قال ممدوح بلهجة حازمة: اسمع يا سيد رشاد. أنت تضطرنا إلى معاملتك بقسوة فلا تلم إلاّ نفسك .. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى اعترافك فـ"دوسيهاتنا" تضم جميع أسرار "عصبتكم". لكننا رغبنا في منحك فرصة للتكفير عن سيئاتك. فما رأيك؟
وضجت الأفكار المعذبة في رأسي يا ندى وأنا مطرق وأنظاري مسمرة على نقطة دم بجوار قدمي ..إنها قطرة من دم زكيّ مسفوح تعقبها قطرات ثم أنهار من دماء الأحرار . فالدعوة إلى العدالة الاجتماعية ومهاجمة السلطة الغاشمة وتصوير آلام الشعب سيئات لا تغتفر في عرفهم . . إيه أيتها الأرض النهمة . . هذه فرصة لترتوي من دماء الأحرار . لقد حلّ عيد الطغاة وهاهم أولاء يرقصون على صرخات المعذبين السابحين في برك دمائهم .
بقيت مطرقاً وأنظاري مثبتة في الأرض. ثم سمعت ممدوح يسأل بصبر نافذ: ماذا تقول يا سيد رشاد؟ هل تنزل عن بغلتك وتسجل لنا اعترافك قبل أن نرسل جلدك للدباغ؟
فقلت: افعلوا ما تشاءون فلست عضوا في العصبة.
قال الرجل القصير وضجة مفاتيحه تتعالى: دعنا نعالجه يا ممدوح وكفانا ما ضاع من وقتنا.
قال ممدوح وهو يسمّر أنظاره الحادة على وجهي: اسمع يا سيد رشاد.. إنني أحذّرك للمرة الأخيرة أن تنزل عن بغلتك. إن تسجيل اعترافك طواعية خير لك من تسجيله كرهاً.. وسأفشي لك سرا من أسرار التحقيق، فاعلم أن عدّة أشخاص ذكروك في اعترافهم.
سكت لحظة كأنه يريد أن يسبر أثر كلامه في نفسي، لكنني تشبثت بصمتي. فتساءل في غضب: والآن ما رأيك؟ هل ترى فائدة في الامتناع عن تسجيل اعترافك؟!
فقلت: إذا اعترف عليّ أشخاص حقيقة فقد كذبوا عليكم.
قال الشخص القصير بصبر نافذ وهو يتلاعب بسلسلته في عصبية: لماذا نضيّع وقتنا معه؟ لدينا أعمال كثيرة ولا موجب لهذا التأخير.
وقال الرجل الطويل وهو يداعب شاربه: إنه يحاول أن يكون بطلاً على حسابنا.
حدجني ممدوح بنظرة ملتهبة ثم هزّ رأسه الكبير وقال ملتفتا إلى الرجل القصير: هو الآن من حصتك يا خليل.
ابتسم خليل ابتسامة كأنها تكشيرة الذئب وقال وهو يتقدم نحوي وقال: مرحبا بالبطل.
ثم التفت إلى زميله الطويل قائلاً: هيّا بنا إلى الاحتفال يا هيثم.
وقبض على ذراعي وسحبني بفظاظة نحو باب موصد في الجدار الشمالي، وركله بقدمه فانفتح على مصراعيه. ودفعني بعنف وأغلق الباب بالمفتاح.
كانت الغرفة ضيقة عارية من الأثاث سوى مقعدين صغيرين. وتدلىّ حبل غليظ من كلاّب في السقف، وتكومّ خرطوم مياه في إحدى الزوايا. تطلعت إلى الحبل برعب يا ندى وساءلت نفسي: هل سيشنقانني به؟
قال خليل وهو يخلع سترته ورباطه ويعلقهما على مسمار في الجدار: إذن فأنت كاتب شعبي.. ها؟! سوف نرى.
قال هيثم: بل هو بطل الأبطال، الكاتب الشعبي، وسنتحقق من ذلك الآن.
وبغتة هوت على وجهي قبضة قوية يا ندى أطارت صوابي، فتراقصت أمام عيني نقط حمر وخضر وصفر. وجرى سائل لزج على فمي. رفعت رأسي فإذا بخليل ينتصب أمامي في شراسة وقد شمّر عن كمّيه كأنه يستعد للنزال. وزمجر متوعدا: اخلع ملابسك يا ابن الزنا.. سأعلمك كيف تكون كاتبا شعبياً.
خلعت ملابسي ببطء وأنا أحاول عبثا وقف النزيف بمنديل وضعته على أنفي. وارتعش جسدي بردا وألما وجزعا. وخيّل إليّ يا ندى أنني أكابد كابوساً من كوابيسي المزعجة. وساءلت نفسي :أحقاً أنني موجود في هذه الغرفة العارية في انتظار ما يفعله بي هذان الشخصان الغريبان؟! وهذا الشخصان، ما الذي يبتغيانه مني؟! ما الذي يجعلهما يصليانني بهذه النظرات الحاقدة؟!
زمجر خليل: اخلع ملابسك كاملة يا ابن الزنا ولا تبق منها شيئا، فرّجنا على جسدك القذر.
وانهالت اللكمات على وجهي من كل صوب. وصار رأسي كرة تتقاذفها أيدي اللاعبين. أسرعت بخلع ملابسي الداخلية ووقفت عاريا كليّا . وطوّف بي الألم والبرد والجزع في جو مرعب.. جوّ غريب رهيب. ولم أعد أفهم شيئا مما يجري حولي.
قال خليل: هذا حسن. تعلموا إطاعة الأوامر أيها الجبناء. نحن لا نتسامح مع من يتردد في تنفيذ أوامرنا.. والآن اصعد على هذا الكرسي.
حمل هيثم أحد المقعدين ووضعه تحت الحبل. ارتقيت المقعد بحركة لا شعورية يا ندى وقد تراءى لي أنني سأحلّق في الفضاء! وسحب هيثم ذراعي إلى الخلف ولواهما بقوة حتى خيّل إليّ أن أعصابهما تتقطع وأوثقهما بطرف الحبل. ثم ركل خليل المقعد فتدحرج بعيداً وإذا بي معلقا في الهواء. وفي اللحظة ذاتها شعرت يا ندى بكتفي تنخلعان وبذراعيّ ينفصلان عن جسدي. وأفلتت من شفتي صرخة مدوية. واشتعل جسدي ألماً. ثم تتابعت صرخاتي الملتاعة المدوية.
كان خليل يصرخ: هل ستعترف أيها البطل؟
وكنت أرد عليه: ليس عندي ما أعترف به.
وتتابعت على جسدي لفحات السياط تبث فيه ألسنة من النيران، واستحال إلى قطعة مطاط تمتص الألم كما تمتص الإسفنجة الماء.
واصل خليل صراخه: اعترف .. اعترف يا ابن الزنا.
وظللت أردد: لست عضوا.. لست عضوا.
ودار جسدي في دوامة سريعة. وطافت خيالات مبهمة في ذهني. وتمثلت لعينيّ تهاويل عجيبة. وكان ثمة حركة غريبة حولي وشيء ما يرتفع وينخفض فيدغدغ جسدي. ثم تلاشى كل شي..
حينما فتحت عيني يا ندى طالعتني أشباح وجوه ثلاثة تشرف عليّ من عل. وسمعت ممدوح يقول وكأن صوته آت من بعيد: إنه استعاد وعيه.
ثم سمعت خليل يتساءل هازئاً: كيف حالك أيها الكاتب الشعبي؟!
وعلا صوت ممدوح وهو يقول: اعترف يا سيد رشاد ووفر على نفسك هذا الأذى.
غمغمت ولهيب الألم يتضرم في كل موضع من جسدي: لست عضوا.. وأساليبكم البربرية لن تفيدكم شيئاً.
ركلني خليل وزمجر: أخرس يا ابن الزنا.
ثم التفت إلى ممدوح قائلاً: دعنا نعيد معالجته يا ممدوح.. ابن الزنا هذا يحتاج إلى درس آخر.
قال هيثم بلهجته المتهكمة: إنه بطل الأبطال هذا الكاتب الشعبي.
وقال ممدوح: سنمنحه فرصة لمراجعة نفسه.
ثم التفت إليّ متوعدا: نحن مستعدون أن نمضي في التحقيق معك حتى الموت يا سيد رشاد. فكل من يأبى الاعتراف يعتبر ثائراً علينا.
غمغمت: لن تنفعكم أساليبكم الإجرامية.
ركلني هيثم في رأسي وقال: لن تكون بطلاً على حسابنا أيها الحيوان الحقير.
وقال ممدوح: على أية حال سنمنحك مهلة للتروي والتفكير. والآن عليك أن ترتدي ملابسك.
أغمضت عيني. وترامى إلى سمعي صوت خليل ساخرا: إلى اللقاء أيها الكاتب الشعبي.
سمعت صوت الباب وهو يغلق، وبقيت ساكنا مغمض العينين وقتا طويلا، ولما فتحتهما ثانية لم أرَ في الغرفة أحدا. حاولت الجلوس فوخزتني مئات الإبر في كل موضع من جسدي، وتعلقت عيناي بالسقف دون أن أفكر بشيء. وعضضت على شفتي مقاوما نيران الألم في جسدي.
تحاملت على نفسي أخيراً يا ندى ونهضت بمشقة وارتديت ملابسي متمهلا وأوجاع فظيعة تنهش كل عضو في جسدي. ثم خطوت في غرفة التحقيق فوجدتها خالية إلاّ من ممدوح . وما أن رآني حتى قرع الجرس فدخل حارس في الحال.قال وهو يومئ إليّ: خذه إلى الغرفة رقم 9.
سار الحارس أمامي فتبعته متمهلا وأنا أتوكأ على الجدران. وما أن أدركت الباب حتى هتف ممدوح: فكّر جيدا يا سيد رشاد. سنمنحك مهلة للتفكير.
فلم أردّ عليه. عبر الحارس الصالة الصغيرة، ثم انعطف إلى اليسار وهبط سلما قليل الدرجات. ومشى في رواق ضيق ثم توقف أمام باب موصد. والتفت إليّ آمرا: أدخل.
فدخلت وأغلق ورائي الباب. تطلعت حواليّ يا ندى فألفيتني في غرفة فسيحة. وتدلى قنديل ضخم من السقف وأنار المكان بضوء ساطع.
أحاطت بي عشرات العيون تدرسني بفضول، ثم فسح لي أحدهم موضعا وهو يقول: تفضل يا زميل.
غمغمت وأنا أتقدم نحو المكان: شكرا.
ما أن تهافتّ في موضعي حتى انزلق جسدي فتمددت على الأرض بارتخاء. وهاجمتني الأوجاع الحادة وخيّل إليّ أنني أتقلب على جمر! .. ويا لها من آلام فظيعة أخذت تنهش جسدي يا ندى! انحنى عليّ جاري متسائلا: هل عدت الآن من التحقيق يا زميل؟!
فقلت: نعم.
قال وهو ينهض: هيّا بنا إلى إسعافه يا إخوان.
ثار الاهتمام بين الموجودين وتحلق حولي أشخاص عديدون ونضوا عني ملابسي وهم يتبادلون الملاحظات. ثم انبروا يدلكون جسدي برفق فهدأت آلامي شيئا فشيئا. ثم دثروني بالأغطية الثقيلة. وقال أحدهم أخيرا وهو يطفئ النور: حان ميعاد النوم ليرتاح زميلنا الجديد يا إخوان.
قال شخص آخر: نعم انتهت حفلة التعذيب لهذه الليلة ولا نتوقع ضيوفا جددا. تصبحون على خير.
تساءل أحدهم: وأي خير نتوقع في هذا المكان؟
أجابه ضاحكا: إذن تصبحون على شر.
تجاوبت في أنحاء الغرفة ضحكات قصيرة متعبة ثم خيّم الصمت.. صمت مطبق لا يعكره سوى تنهدات خافتة. أغمضت عيني علّني أنام. وتمنيت أن أغفو ولو ساعة واحدة لأتخفف من آلامي. لكن النوم بدا حلما بعيد المنال . كان إعياء ساحق يطحن جسدي. ورحت أناجيك يا ندى . ماذا تفعلين الآن يا ندى؟ أنت نائمة الآن بالطبع. لقد نسيت أنه الليل الذي جعلته الطبيعة مهجعاً للإنسان فهو هنا ميعاد اليقظة والعذاب. ولكن أتراك نائمة الآن حقاً؟! هل تغمض أجفانك ويطاوعها الرقاد؟! ذلك أمر أشك فيه. لعلك الآن تحدقين في السقف بعيون مفتوحة كما أفعل، فأنا خبير بقلبك المحب الحنون! كيف يهجع جسدك وأنت تجهلين مصيري؟ مسكينة أنت يا ندى! لا بد أنك أسيرة الوحشة والقلق والعذاب. لقد اعتقلوك أنت أيضا.. اعتقلوك في دوامة من القلق والحزن والعذاب.فلا ريب أنك تفكرين بي على الدوام.. فاعلمي أنني أفكر فيك كما تفكرين بي يا ندى. وإن وجهك الصبوح المشرق وبسمتك اللطيفة العذبة ونظراتك الضاحكة لا تفارق خيالي. هل ستعاودنا أيامنا السعيدة يا ندى؟! لقد انتصر الشر على الخير يا ندى. لقد انتصر الشر وسحق بيتنا السعيد كما سحق آلاف البيوت السعيدة. ليتك ترين زملائي وهم يتمددون في إهمال ويحملقون في السقف بعيون حزينة يائسة. إن كل واحد منهم يفكر بنداه وبأطفاله، أو بأمه وأبيه، أو بإخوته وأخواته. كم أتمنى لو كنت الآن بجواري يا ندى لتضمدي جراحي وتخففي آلامي. لقد عذبوني عذابا منكرا يا ندى. علقوني من يديّ الموثقتين وراء ظهري. خيّل إليّ أن كتفيّ تتمزقان! وانهالوا على جسدي العاري بخراطيم المياه المصفحة بالأسلاك. كانت كل ضربة منها تقتلع اللحم من جسدي! إن جسدي يتنزّى ألما يا ندى. أشعر كأن بين ضلوعي جمرات من نار مسعرة! كم أتمنى أن تمر أناملك الرقيقة على هذه الجراح وتضمدها.. كم أتمنى ذلك ! لكن منظري لا شك سيملأ قلبك بالألم ويضرم بين جوانحك العذاب. وأنا لا أحب أن تحزني يا ندى. إن وجهك المشرق لم يخلق للحزن، وإن عينيك الجميلتين لم تخلقا للدموع. ابتسمي يا ندى وكفكفي دموعك فلا بد لموجة الشر أن تنحسر، ولا بد للخير أن ينتصر، ولا بد للشمس أن تشرق غداً00!
و كان السكون يخيّم على المكان أثناء النهار يا ندى فيبدو كأنه مقبرة موحشة. وكان زملاء غرفتنا يمضون النهار في النوم لا يصحون إلا عند وجبات الطعام. وما أن يدنو الليل حتى تشتد حركة الحرّاس في الأروقة، ويضج المكان بلغطهم وضحكاتهم المجلجلة. وحينما ينتصف الليل تنطلق الصرخات المذعورة مدويّة في جنبات المكان. وكنا نصغي إلى تلك الصرخات بعيون زائغة وقلوب ملتاعة. وكلما دنت الخطوات الثقيلة من غرفتنا تبادلنا نظرات جزعة. كان كل منا قد منح مهلة للموافقة على تسجيل اعترافه ولا يعلم كم تطول تلك المهلة. فكان كل واحد منّا يترقب انتهاءها كل ليلة. وكان هذا الترقب الممضّ يهدّ أعصاب بعضنا، وخاصة حينما تنطلق الصرخات المذعورة.
وكان زميلنا نائل شديد الصلابة قلّما يهتز لأنباء التعذيب أو يكترث لها. ونادرا ما أسهم في النقاش حول هذه الأمور. لكنه تبدّى تلك الليلة في حال مضطربة كمن يعاني أزمة نفسية. راح يذرع الغرفة رواحا وغدوا بخطوات سريعة وعيناه مسمرتان في الأرض. سأله بهجة: ما لأعصابك ثائرة اليوم يا نائل؟
قال جميل ضاحكا: لعله يتوقع انتهاء مهلته الليلة.
كفّ نائل عن السير وقال في عصبية: لم أعد أطيق هذه الحال.
فعقب سليم: فعلاً، إنهم يحطمون أعصابنا بهذه الطريقة.. يا له من انتظار شاق.
قال حميد بلهجته الهادئة: الأعصاب السليمة لا تتأثر مهما تواجه من أساليب.
فرد سليم: هذا الانتظار الشاق لا يطاق.. فوق الاحتمال البشري.. ننام ونصحو على صور العذاب التي تنتظرنا .. لماذا لا يقتلوننا ويتخلصون منا ما دمنا نرفض الاعتراف؟
قال بهجة : طلبت أنا بالفعل من الأشخاص الذين قاموا بتعذيبي أن يقتلوني فسخروا مني. . إنهم يتلذذون بتعذيبنا.
قال جميل: مرحبا بالموت. كم حلمت به نهاية مضيئة لهذا الوجود المظلم! وكم تمنيت أن أكون قد قتلت في الليلة الأولى شأن المئات من رفاقنا الذين قتلوا في الشوارع والحارات0
توقف نائل وأجال أنظاره العكرة في وجوه الموجودين ثم تساءل: ما دمنا نرحب بالموت، فلماذا لا نقتل أنفسنا بأيدينا ونفوّت عليهم لذة تعذيبنا؟
غضّ الجميع أبصارهم وكأنهم يخشون افتضاح خواطرهم. وواصل نائل كلامه بازدراء: سأخبركم لماذا لا نفعل ذلك.. لأننا لا نملك الشجاعة لنقدم على مثل هذا القرار.لأننا جبناء فعلا.
فقلت محتجا : لا . . لا يا نائل . أنتم أبطال ولستم جبناء .
قال هاتف: فعلا ..لسنا جبناء. وإذا كان لا بد من الموت فمن الخير أن نموت على أيديهم حتى يصمهم التاريخ بالعار.
قال حميد بلهجته الهادئة: الانتحار هزيمة مخزية وهو شر من الموت. وعلى صاحب العقيدة أن يستمسك بها ويدافع عنها إلى آخر رمق لا أن يفرّ من الميدان.
هتف نائل وهو يخزر الموجودين بنظرات احتقار: بل لأننا جبناء فعلا وما هذه الأقوال سوى أعذار واهية. نحن نستمسك بحبل الحياة ونحتمل التعذيب فترة من الوقت ونحن واثقون أن مصيرنا الاعتراف وإذا ما اعترفنا تركونا نعيش في ذل ومهانة. لقد عجزنا عن مواجهتهم ونحن أحرار طلقاء. ولما وقعنا في قبضتهم جعلونا نقاسى تعذيبهم مترقبين اللحظة التي تخور فيها عزائمنا فنسجل اعترافنا. هذه هي الحقيقة.
وصمت برهة ثم قال وقد رق صوته وتحول إلى ما يشبه التوسل: لعل الشعب يثأر لنا يا إخوان ويهبّ في وجوههم.. لعله يثأر لنا حينما يعلم أننا فضلنا الموت على العيش بذلة ومهانة.
قال جميل: الشعب أعزل وليس بيده حيلة.
وقال هاتف : وماذا يستفيد الشعب من موتنا على هذه الصورة ؟
وأطرق الجميع صامتين. قال نائل أخيراً في احتقار: حاولوا أن تخلقوا المعاذير لأنفسكم لتمدوا في حبل حياتكم.. حاولوا أن تستمرؤا الذل.. ولكن عبثا ما تفعلون.
ثم اتجه إلى موضعه وارتمى على الأرض وسحب الغطاء فوق وجهه. ولفّ الغرفة سكون حزين. نقلت أنظاري بين الوجوه وقلبي يتنزى ألما . وساءلت نفسي : ماذا جنى هؤلاء الشباب الذين تتفجر أعطافهم بالحياة ليفكروا بالفناء؟! أية جريمة اقترفوا لينشر الموت فوق رؤوسهم ظله المرعب؟! كل ذنبهم أنهم يناصرون العدالة الاجتماعية ويدافعون عن الفقراء والمسحوقين ويبتغون الخير لبلدهم وشعبهم . فأي جزاء هذا لقلوبهم العامرة بحب الخير ؟
بسط الصمت الحزين جناحيه فوق الغرفة. ثم نشطت أصداء الأقدام الثقيلة في الرواق، وعلا ضجيج اللغط والضحكات والصيحات. وتوقعنا انطلاق الصرخات الملتاعة بين لحظة وأخرى إيذانا بانتصاف الليل. ومع أن تلك الصرخات باتت جزاء لا ينفصم من حياتنا يا ندى فإن سماعها كان يعصر قلوبنا وكأننا نسمعها للمرة الأولى. وتظل أعصابنا مرهقة متوترة، وقلوبنا وجلة، وأسماعنا تتصيد الخطوات التي تجتاز غرفتنا حتى يزحف السكون ثانية وتتسلّل أنوار الفجر عبر النوافذ. وحينئذ نتنفس الصعداء وترتخي أجسادنا ونحس بإعياء ساحق وتنطبق أجفاننا المرهقة ونستسلم للنوم.
انساب الوقت بطيئاً ثقيلا وقد دثر الغرفة صمت خانق. ثم تعالى صدى الصرخات المذعورة فانطوينا على أنفسنا وعيوننا تتبادل نظرات جزعة. كانت عيوننا تفصح عن قلق شديد كلما دنت الخطوات الثقيلة من غرفتنا. ثم نتنفس الصعداء حينما تبتعد الخطوات. وتقدم الليل دون أن تتوقف الأقدام الثقيلة عند باب غرفتنا، وتسرب الاطمئنان إلى نفوسنا، واقتنعنا أننا سنمضي ليلتنا بسلام. وأخيرا نهض بهجت إلى مفتاح النور وأطفأ المصباح وهو يقول: انتهت حفلة التعذيب لهذه الليلة.
تمدد كل منا في موضعه وأراح رأسه على الوسادة. لكن النوم كان يجفو عيني يا ندى حتى مطلع الفجر، فأظل أتقلب من جنب إلى جنب والأفكار تسرح بي في كل واد. وهذا هو شأن زملائي إذ يظلون يتقلبون وقتاً طويلا وهم يتنهدون ويتنحنحون. وهم لا ريب يستسلمون مثلي لأفكارهم الحزينة. كنا نسبح في الجحيم يا ندى.. الجحيم الذي لا يطاله خيال إنسان! لقد كان ذلك المكان هو الجحيم بعينه. و لقد أدركت فيه أن عذاب البشرية لا حدود له! و فاض قلبي بالحزن ولم يعد فيه متسع لمزيد! وكنت أسائل نفسي : كيف سأواجه العذاب الذي تخبئه لي الأيام في هذا المكان ؟!
ولم يكن أحد منا يصحو قبل الضحى العالي يا ندى. وكان الحارس يحضر فطورنا من البيض المسلوق والخبز قبيل الظهر ويسمح لنا بالخروج إلى دورة المياه. ولم يكن أحد منا يحس برغبة في النهوض فمآسي الليل كانت تطحن أجسادنا وتتركها جثثا هامدة. وفي ذلك الصباح بقي الكثيرون منا مستغرقين في رقادهم دون أن يوقظهم حضور الحارس. وما شعرنا إلا والحارس يصرخ في هياج: انهضوا.. انهضوا.. انهضوا.
هببنا من نومنا مذعورين فشاهدنا الحارس منتصبا بجوار نائل وعيناه مسمرتان بالأرض. وعاود يهتف في لهوجة: ما الذي حدث؟ ما الذي حدث؟
انتبهنا إلى الموضع الذي يحدق فيه فلاحت لنا بركة من الدم تتجمع عند قدميه. هرعنا إلى نائل وإذا به ينبطح على بطنه وقد عض على الوسادة. وامتدت ذراعاه في ارتخاء وطفحت الدماء من معصميه. قال الحارس وهو يهرع إلى الباب: سأدعو الحراس.
هتف محمود: لنربط ذراعيه، من عنده قطعة قماش ؟
بحثنا في ارتباك عن قطعة قماش. ثم عكف محمود على قميصه يمزقه بشراسة وأكب على معصمي نائل يربطهما بقوة حتى انقطعت الدماء. بدا وجه نائل شاحبا كوجوه الموتى. قال جميل وهو يتأمل بركة الدم: لابد أنه كان ينزف منذ وقت طويل.
اقتحم أربعة حراس الغرفة في جلبة وصاح أحدهم: أين القتيل؟
فقات محتجا: إنه ليس قتيلا. إنه منتحر.
ردّ أحد الحراس بتهكم: النتيجة واحدة.
فقلت : لا . هناك فرق .. فرق عظيم .
انحنى الحراس على نائل يتفحصونه بفضول. وسأل أحدهم بعدم اكتراث: هل مات؟
أجاب آخر: دقات قلبه ضعيفة جدا ولا تكاد تسمع.
قال حارس آخر: نحن نعلم أنكم جبناء لا تقوون على مواجهة مصيركم بشجاعة.
وقال آخر: إنها مؤامرة لتشويه سمعتنا. إنهم يقتلون أنفسهم ليوحوا للناس في الخارج أنهم ماتوا تحت التعذيب.
وهتف أحدهم غاضباً: أنتم لا تكفون عن مؤامراتكم القذرة وأنتم في قبضتنا. ماذا نصنع بكم؟ خير لنا أن نبيدكم مرة واحدة ونتخلص من متاعبكم.
رد آخر مؤمنا على قول زميله: هذا هو الإجراء الصحيح. ولست أفهم ما جدوى هذه المتاعب التي تتكبدها في سبيلهم.
قال الحارس الذي كان عاكفا على فحص نائل: دعونا نحمله إلى المستشفى.
انصرف الحرّاس الأربعة وهم يحملون نائل فتعلقت عيوننا بهم في لوعة حتى غيبّهم الباب. والتفت إلينا حارسنا وقال: سأحضر لكم سطلة وخرقة لتمسحوا الأرض في موضع زميلكم.
وخرج وأغلق الباب. تسمرّت عيوننا في موضع نائل حيث تجمعت بركة الدم. ثم قال حميد : ما كان ينبغي عليه أن يقضي على حياته.
فقات : لا يا حميد . قد يكون الموت أحياناً خيراً من الحياة. وإن انتحار نائل أبلغ احتجاج على هذا الوضع . وإنه لعمل بطولي.
وغمغم سليم: جدير بنا أن نحذو حذوه.
.وقال محمود : إن انتحار نائل أعظم احتجاج على حياتنا هذه . و إنه لعمل بطولي .
قال حميد بلهجته الهادئة: الانتحار فرار من الميدان، وتلك صفة لا تليق بالمناضل.
فقال محمود في تهكم مرّ : ولكن ألم نفر من الميدان بالفعل يوم كان علينا الصمود أمامهم ؟ أفلم يكن جدير بنا أن نلجأ إلى الغابات والجبال والأهوار ونحاربهم حتى آخر رجل ؟ ولكننا فررنا من الميدان واختبأنا في الجحور في انتظار القبض علينا وسوفنا إلى المعتقلات كما تساق الأنعام . وكان علينا ان نموت قبل الإسنسلام لهم وان نجابه القوة بالقوة . وإذا كان وجودنا في المعتقلات غير نافع للبلاد فالأجدر بنا أن نموت الآن ونثبت لهم أننا غير هيّابين من الموت .
قال حميد : من المؤسف أن تنتشر بينكم هذه الأفكار الانهزامية . ولكن عليكم أن تتذكروا أننا لا نؤمن بالقوة مثلهم ولا نحقق أهدافنا عن طريق الإرهاب بل عن طريق الإقناع .
فقال محمود في مرارة : إن للقوة ضرورتها إذا ما دعت الظروف إليها يا أخ حميد . لابد أن نواجه القوة بالقوة .
فتح الباب ودخل الحارس وهو يحمل سطلاً وخرقة لمسح البلاط. قال بقحة وهو ينقل أنظاره الساخرة في وجوهنا: زميلكم مات وكفانا متاعب إرساله إلى المستشفى.
تبادلنا نظرات جزعة ثم أطرقنا وقد استبد بنا أسى عميق. أضاف الحارس وهو يبرح الغرفة: البقية في حياتكم. إنه السابق فمن منكم اللاحق؟
وأطلق ضحكة ساخرة وهو يرد الباب. جمدنا في مواضعنا نحدق في بركة الدم. كان من الواضح يا ندى أننا نأبى إزالة آخر أثر مادي يذكرنا بزميلنا الراحل. وتردد صدى قول الحارس في رؤوسنا. وتساءلت عيوننا: "من منا اللاحق؟"
وناجيت نائل يا ندى وقلبي يتفجر أسى. . لقد سبقتنا يا نائل واسترحت من العذاب، فنم هانئا في قبرك. أما نحن فعلينا أن نقاسى العذاب إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا! لقد كنت زهرة يانعة يا نائل فكيف ودعت الحياة ولمّا تذبل بعد؟! كانت أحلام الشباب تترع قلبك بعبير عذب. كانت آمالك بغد مشرق تملأ أعطافك. ثم غبت فجأة كهبة من دخان! كمصباح متوهج انطفأ بغتة! كيف سيتلقى أحباؤك نبأ رحيلك يا نائل، كيف؟!
ومنذ أن رحل عنا نائل يا ندى جثمت فوق غرفتنا كآبة ثقيلة . رفرفت روحه في فضاء غرفتنا، وتخايلت صورته في نظراتنا الحزينة. وكنا نلفّ وندور حول مأساته دون أن نشير إليها صراحة أو نتحدث عنها مباشرة. صارت سيفا مسلط-ا على رؤوسنا يهدد كلا منا بنفس المصير. ثم دهمتنا تلك الليلة السوداء التي صرفت أفكارنا عن نائل وشغلتنا بأمراضنا. فقد أصيب أغلبنا بنزلة برد حادة، وقام في غرفتنا مجموعة من (المنشدين) يتبادلون السعال ليلا ونهارا.
وكان البرد قد اشتد ذلك اليوم منذ مطلع النهار، وتسرب الهواء البارد إلى غرفتنا من نافذة صغيرة في أعلى الجدار فبث فيها جوا كالحا ممضا. حاولنا أن نغلق تلك النافذة فعجزنا. صنعنا هرما من أجسادنا وتسلق محمود على قمته فطال النافذة، لكنه اكتشف أن عضادتها مكسورة ولا يمكنه تثبيتها. وما أن هبط حتى صفعتها الريح بقوة وفتحتها ثانية على مصراعيها. فلاذ بعضنا ببعض التماسا للدفء وتدثرنا بما لدينا من أغطية قليلة.
وحوالي العصر غابت حزمة الضوء المطلة من النافذة العليا وزحفت على رقعة السماء غمامة سوداء. فأفعم جو الغرفة برودة وكآبة. كانت تلك الحزمة تبث في الغرفة جوا مشرقا يطمئن أجسادنا بدفء كاذب. ثم انطلقت الغيوم السود تتراكض في السماء ويزحف بعضها فوق بعض، وعصفت الريح الباردة. تدثرنا بالصمت ولم تراود أي منا رغبة في الكلام.
وقبيل منتصف الليل تعالت في رواقنا جلبة الأقدام الثقيلة فوجفت قلوبنا وتراءت لنا نذر الشر. ثم صفق الباب واندفع الحراس يزحم بعضهم بعضا . و جمدت أبصارنا الجزعة على وجوههم العابسة وقد طاقت على شفاههم بسمات غريبة. وحمل أحدهم حزمة ضخمة من الأربطة والحبال. واتسعت البسمات الغريبة على شفاههم فتسارعت لاتساعها ضربات قلوبنا. مرت لحظات من الصمت المتوتر يا ندى وهم يتفرسون في وجوهنا بنظرات شرسة. ثم قال آمرهم أخيرا: اخلعوا ملابسكم.
ولم يمتثل أي منا للأمر وتبادلنا نظرات حائرة.. أيمكن أن نتعرى في مثل هذه الليلة؟! صاح الآمر محتدا: ألم تسمعوا؟! اخلعوا ملابسكم أيها الجبناء.
تساءل حميد: كيف نتجرد من ملابسنا في مثل هذا البرد؟
فرفسه أحد الحراس رفسة خبطت رأسه بالجدار وهتف: اخلع ملابسك أيها الجبان وامتثل للأمر. ألا تفهمون الأوامر إلاّ بالضرب؟
فتسارعنا ننضو عنا ملابسنا في عجلة وارتباك. كانت صرخاتهم وشتائمهم أقسى علينا من أي عقاب يا ندى. وأتم البعض منا خلع ملابسهم الخارجية فجلسوا القرفصاء وأجسادهم ترتعد. قال الآمر وهو يرميهم بنظرات شزرة: اخلعوا ملابسكم كلها..
قال حارس آخر وهو يضحك : نحن معجبون بأجسادكم ونريد التفرج عليها.
وقال حارس آخر وهو يمصمص شفتيه: إنها أجساد ريانة مغرية.
نضونا عنا ملابسنا واستوينا كما خلقنا الله. كان موقفا قاسيا على أجسادنا وأرواحنا يا ندى، ارتعدت أجسادنا المقرورة تحت لسع السياط الباردة، واحترقت أرواحنا في شواظ تعليقاتهم البذيئة. وأقبلوا علينا يربطون أيدينا بالحبال إلى الخلف ويعصبون عيوننا. ثم هتف الآمر: والآن سيروا نحو الباب.
انطلقنا نسير في جميع الاتجاهات. واصطدم بعضنا ببعض. وانصبت قهقهات الحراس الساخرة وتعليقاتهم البذيئة فوق رؤوسنا كحمم من نار . ثم جعلوا يدفعوننا باتجاه الباب . وتساءلت: إلى أين يقودوننا؟
قال جاري هاتف بصوت مرتعش: سيعدموننا الليلة بلا شك.
سألته هامسا: ولماذا يجردوننا من ملابسنا إذن؟
أجاب: لكي يسهل دفننا.
وبدا لي تأويله مقبولا يا ندى.. ربما قرروا أخيرا قتلنا. كانوا يهددونا دائما بالإفناء. واجتزنا رواقا طويلا تزاحمت فيه أجسامنا، ثم انتهينا إلى مكان رحب. وما أن دخلناه حتى هبّت علينا ريح قوية مصحوبة بهدير غريب. وتعالت صيحاتنا المرتاعة.
- أين نحن؟
- ما هذا الهواء الزمهرير؟
- إنهم فتحوا علينا المبردات.
- إنهم حكموا علينا بالموت بردا.
وأمضّ البرد أجسادنا يا ندى وتسرب إلى عظامنا فتنزت ألما. وعجز بعضنا عن الوقوف فهوى على الأرض. كان الهواء ينصب علينا من جميع الجهات. وذهبت جهودنا سدى للبحث عن زاوية محمية من الهواء. وغرقت في خيالات مروّعة!
لا أدري كم أمضينا من الوقت ونحن نتلقى صفعات الزمهرير يا ندى. ربما أمضينا ساعة واحدة فقط، وربما أمضينا ساعتين، وربما ساعات عديدة. لكن كل دقيقة تمثلت لي أطول من دهر! وشل البرد تفكيري واختلط عليّ الخيال بالواقع. ثم كفّ الهدير فجأة وسكن الهواء وشعرنا كأننا أفلتنا من إسار عاصفة ثلجية هوجاء. تعالت قهقهات الحراس، وقال أحدهم: إنهم استمتعوا بحمام هوائي ممتاز!
قال الآمر ضاحكا: هنيئا لهم.
ثم أضاف: انهضوا .. هيا إلى غرفتكم.
عدنا إلى الغرفة وقد أنهكنا البرد. وما أن أغلق الباب حتى أقبلنا على الأغطية بلهفة وأسناننا تصطك. ومع أن الدفء تسرب إلى جسدي بعد حين يا ندى لكن عظامي ظلت تستعر ألما.
بقيت آثار تلك الليلة السوداء تلازم نفرا منا أياما عديدة. عانى محمود وعباس ومجيد من نزلة صدرية. ولبثوا أياما يهذون من وطأة الحمّى. وأصيب آخرون ببرد حاد جعل غرفتنا تضج بالسعال. وكنت أنا من بين المصابين بالبرد.
دعوت الله يا ندى ألاّ أستدعى للتحقيق وأنا في هذه الحال، فلم تكن صحتي تحتمل أي تعذيب. لكن دعوتي لم تستجب طويلا. فقد استدعيت بعد الليلة الخامسة وما تزال صحتي معتلة. فمضيت وقلبي ينوء بهمّ ثقيل. تبعت الحارس وهو يضرب الرواق بأقدام قوية وينصب هامته الطويلة في خيلاء. وتزايل عن قلبي الهمّ شيئا فشيئا وحل محله شعور باللامبالاة. وتلاطمت الأفكار في رأسي ..إذن فقد انتهت مهلتي ولم أغيّر موقفي. سأرد على صيحتهم التقليدية "اعترف" قائلا: "لست عضوا"، فيغلي الغضب في صدورهم وينهالون على جسدي العاري بخراطيم المياه. ولكن لعلهم أعدوا لي وسائل جديدة للتعذيب فهم يجددون في أساليبهم دائما.
ارتقى الحارس سلما واطئا أفضى بنا إلى الغرفة المعهودة. وحينما دخلتها لاح لي ممدوح قابعا وراء أكوام "الدوسيهات" التي تكاد تحجب وجهه. وانتصب خليل عن يمينه وهيثم عن شماله، وجلس قبالته شاب ذو أناقة مفرطة. قال ممدوح وهو يشير إلى مقعد بجوار المكتب: اجلس.
تهافت على المقعد وأنا أحاول عبثا كبح سعلة قوية هزت جسدي. تساءل ممدوح وهو يرميني بنظرات ساخرة: كيف حالك يا سيد رشاد؟
فقلت: إنني بخير.
تساءل خليل بتهكم: هل استمتعت بالحمام الهوائي أيها الكاتب الشعبي؟
فقلت: شكرا على أية حال. أضفتم إلى معلوماتي ألوانا جديدة من التعذيب لم أكن قرأت عنها أو سمعت بها من قبل.
قال هيثم وهو يرمقني بنظرات متعالية: لعلك تنوي أن تكتب عنها في المستقبل. لكن هذا الحلم لن يتحقق لك فقد جئنا إلى الحكم لنبقى.
قال ممدوح بنبرة هادئة: حاولنا منذ البداية أن نعفيك من هذه المتاعب يا سيد رشاد، لكنك لم تأخذ بنصائحنا. وعلى أية حال فالمجال مازال مفتوحا أمامك.
فقلت: وأي نوع من المجال هذا؟! أنتم تريدون الانتقام مني وإن لم يكن لي صلة بالعصبة.
قاطعني خليل بخشونة وهو يتلاعب بسلسلة المفاتيح: هل ستعود إلى المحاورة والمداورة؟ ألم تر إنها لا تنفعك؟
قال ممدوح بلهجة بطيئة: لعلك أدركت الآن يا سيد رشاد بأننا ننتزع الاعتراف من الأعضاء بكل وسيلة مهما طال الوقت. إن صبرنا عظيم ولا مانع لدينا أن يرضي الشخص غروره فيأبى الاعتراف فترة من الزمن، فنحن واثقون أن مصيره الاعتراف عاجلا أم آجلا. لكننا لا نرغب في إيذائك ومن الخير لك ان تعترف لتنجو من التجارب القاسية. الصلابة لا تجدي معنا.
هززت رأسي وأنا أتجنب النظر إليهم وقلت: لست ادعي لنفسي صلابة ولست واثقا من وجودها، لكنني لا أملك شيئا أعترف به.
قال خليل بلهجة عصبية والمفاتيح تدور بسرعة حول إصبعه: لم تنفعه المهلة يا ممدوح وهو مصر على تضييع وقتنا. دعنا نعالجه بأسلوبنا ونقطع له لسانه.
قال ممدوح وهو لا يزال محتفظا بهدوئه: إننا منحناك مهلة كافية لمراجعة موقفك يا سيد رشاد. ومن الخير لك أن تستفيد من تلك المهلة.فإذا اعترفت الآن اعترافا كاملا فتحنا لك صفحة جديدة.
والتفت إلى الشاب الجالس قبالته وتساءل: أليس كذلك يا دكتور عصام؟
أجاب الدكتور عصام وهو يحك انفه: بالطبع، هذه هي خطتنا. إن هدفنا يتلخص بسحق "العصبة" وكل من تاب صفحنا عنه.
والتفت إليّ ممدوح متسائلاً: لماذا تصر على الإنكار يا سيد رشاد؟
نحن طوّعنا كبار قادة "العصبة" فدوّنوا لنا اعترافاتهم الكاملة وتبرؤا من العصبة تبرؤ الذئب من دم ابن يعقوب.
ثم سأل الدكتور عصام: أليس كذلك يا دكتور عصام؟
أجاب الدكتور عصام وهو يحك أنفه: بالطبع.. بالطبع.
استمر ممدوح يقول: سجل أولئك الجبابرة اعترافاتهم كاملة، فهل أنت خيرا منهم؟!
قال هيثم باحتقار: إنهم ليسوا جبابرة.. هم تماثيل من شمع.
وأضاف خليل: ليسوا سوى "طراطير".
فقلت: وماذا تتوقعون من بشر يواجهون هذا التعذيب الفظيع؟! إن للإنسان طاقة للمقاومة قد لا يستطيع الصمود إذا تجاوزها. ومع ذلك فقد صمد عدد كبير منهم وماتوا دون أن يعترفوا.
فقال الدكتور عصام وهو يحك أنفه: تدّعي أنك لست عضوا في العصبة ومع ذلك فأنت تدافع عنهم.
فقلت: أنا مستعد أن أدافع عن أي إنسان في مثل هذا الموقف. ولو كنتم في موقفهم لدافعت عنكم . ألستم أبناء وطن واحد؟ فكيف تنكلون بمواطنيكم هذا التنكيل ؟ أليس الأفضل لكم أن تمدوا إليهم أيديكم وتتعاونوا مع الآخرين على خير البلاد وترسون حكما ديمقراطيا إن كنتم تهدفون إلى الإصلاح حقا ؟
فقال ممدوح بسخرية : ونجعلهم يختطفون الثمرة منّا ؟
قال خليل بلهجة عصبية وضجة مفاتيحه تشتد صخبا: إذا لم تسكته يا ممدوح فقد أقتله في الحال. أنا لست مستعدا أن أسمع ابن الزنا هذا يتفلسف في رؤوسنا.


قال هيثم وهو يحدجني باحتقار مداعبا شاربه بعصبية: صحيح أنك كنت كاتبا لكن العهد الذي كنت تنشر فيه أمثال هذا الكلام في الجرائد قد مضى إلى غير رجعة، وما أنت الآن في نظرنا سوى شخص حقير.
قال ممدوح بهدوء وهو يثبت أنظاره على وجهي: على كل حال لسنا بصدد مناقشة هذه الأمور، وكل ما يهمنا الآن هو أن تسجل لنا اعترافك كاملا.
فقلت: أنا أخبرتكم بالحقيقة، ولو كنت عضوا لحاولت الاحتفاظ بالأسرار في صدري لأطول مدة ممكنة. لكنني لا أستطيع أن ادّعي هذه البطولة.
قال هيثم: لن نهيّء لك الفرصة لتكون بطلا على حسابنا وإن حاولت أن تتحدانا.
وقال خليل وهو يتلاعب بسلسلته بعصبية: قلت لكم منذ البداية إنه يتعمد تضييع وقتنا. وهاهو ذا الآن يتحدانا.. ابن الزنا.
فقلت: أنا لا أتحدى أحداً ولكنني أقرر الحقيقة.
تأملني ممدوح طويلا ثم قال: هل تدرك خطورة إصرارك على الإنكار يا سيد رشاد؟ نحن مستعدون لمواصلة التحقيق معك حتى الموت، ولا يهمنا إن كنت كاتبا كبيرا أم صعلوكا حقيرا.
وقال الدكتور عصام وهو يحك أنفه: أنت كاتب مثقف يا أستاذ رشاد وجدير بك أن تنظر إلى الأمور نظرة واقعية. ما جدوى تمسكك بالإنكار؟ لن يضرنا انكارك لكنه لن ينفعك. قد تعرقل عملنا بعض الوقت لكننا صبورون. وستعترف مهما طال بك الزمن شأنك شأن غيرك.
وعاد ممدوح يقول بلهجة حازمة: إسمع يا سيد رشاد. إنني أحذرك للمرة الأخيرة بضرورة النزول عن بغلتك والإدلاء باعترافك كاملا. ستندم إن لم تصغ إلى صوت العقل. ستضطرنا إلى إتباع أقسى الأساليب معك، ولدينا من الأساليب ما لا يخطر لك على بال.
قلت دون أن يهزني التهديد: بإمكاني أن اصدق ذلك فقد لمست بعضها وسمعت يبعضها الآخر من زملائي. لكن التعذيب والإرهاب لم يكونا في يوم من الأيام وسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف.
قال هيثم وقد اشتعل الغضب في عينيه: أنت تريد أن تكون بطلا على حسابنا.. وربما كنت تحلم بتمثال يقيمه لك الشعب بعد موتك..
ليكن. إننا حذرناك بما فيه الكفاية.
وقال خليل بصبر نافذ وهو يرميني بنظرات ملتهبة: لا داعي إلى تضييع الوقت يا ممدوح. لدينا عمل كثير. وسنضطره إلى الاعتراف ووجهه ممرغ في الوحل.
قرع ممدوح الجرس فانفرج الباب ودخل حارس ضخم الجسم ذو شارب كث وحاجبين غليظين معقودين. استخرج ممدوح من درج المكتب عصابة ناولها للحارس وقال: أربط عينيه.
أقبل عليّ الحارس وربط عيني ربطا موجعاً فغرقت في الظلام. وسمعت ممدوح يقول: هو الآن من نصيبك يا خليل.
قال خليل في سخرية: أهلا بالضيف العزيز.
ثم لكزني بكوعه في خاصرتي وقال: هيّا بنا أيها الكاتب الشعبي.
مشيت بين الحارس وخليل لبضع دقائق يا ندى وأنا أتحسس مواضع قدمي. ثم دخلنا غرفة أغلق بابها. ورفعت العصابة عن عيني فألفيتني في حمام متوسط السعة. قال خليل بلهجته الشرسة وهو يخلع سترته ويشمر عن ساعديه: اخلع ملابسك يا ابن الزنا.
نضوت ملابسي بيد مرتعدة يا ندى وأنا أتساءل ما الذي سيصنع بي هذه المرة. وما أن فرغت حتى رماني خليل بنظرات شرسة وتساءل: أتدري ما الحكم الذي صدر عليك؟ إنه الموت.. الموت غرقا في هذا الحوض.
أرسلت أنظاري إلى حوض طافح بالمياه في ركن من الحمّام ثم هززت كتفي استهانة وقد اصطرعت الأفكار في رأسي .. الموت.. الموت.. كم مرة هددت بالموت! ليكن. إنني مشتاق للموت فقد سئمت التهديد به. سئمت سيف التعذيب المصلت فوق رأسي. مرحباً بالموت. قلت بلهجة ثابتة: لا يرهبني حكمكم هذا لكنه لن يطيل بقاءكم.
ركلني خليل في بطني ركلة قوية وزمجر: قلت لك لا تتفلسف في رؤوسنا يا ابن الزنا.
ضغطت على بطني وأنا أتأود ألما وتمتمت: لن تنفعكم أساليبكم الإجرامية.
استعاد خليل هدوءه وقال بلهجة طبيعية: إذا اعترفت الآن أوقفت تنفيذ الحكم، فلا أمل لغير المعترفين بالحياة بيننا.
فقلت: لم يعد للحياة قيمة بينكم.
قال بحقد: مت ميتة الكلاب إذن. سنبيدكم جميعا فلا مكان لكم بيننا.
تساءل الحارس: متى نبدأ؟
أجاب خليل وهو يحدجني بنظراته الشرسة: إبدأ يا منعم.
انقض عليّ الحارس في غمضة عين وحملني بين ذراعيه كما تحمل الدمية وألقاني في الحوض بقوة أطارت المياه في جميع الجهات. غطست لحظة ثم رفعت رأسي فرأيت الحارس ينتصب كالعملاق على مقعد بجوار الحوض. وما أن برز رأسي حتى أراح حذاءه الضخم فوق صدري وضغط عليه بقوة كادت تقصف ضلوعي، فغصت ثانية حتى ارتطم جسدي بقعر الحوض. ضاق تنفسي وانحبس الهواء في صدري وخيل إلي أنه يوشك أن ينفجر. فتحت فمي لأتنفس فاندفعت المياه إلى جوفي وغصصت بها. ورحت أضرب المياه بذراعي وساقي محاولا الخلاص من القدم الجاثمة فوق صدري. ثم تراخت ذراعاي وساقاي وبدأ لي أن جبلا ثقيلا يرزح فوق صدري. انزاح الضغط عن صدري فرفعت رأسي بقوة فوق المياه وعببت الهواء عبّا. كان الحارس ينتصب فوق المقعد وذراعاه معقودتان فوق صدره. انحنى خليل على وجهي وهتف: هل ستعترف قبل أن تموت؟! هل ستعترف؟
تمتمت لاهث الأنفاس: لست عضوا.. لست عضوا .
أشار خليل إلى الحارس فانحط حذاؤه فوق صدري ثانية كما ينحط جبل. وانطلقت أضرب بذراعي وساقي بحركات جنونية وامتلأ أنفي وفمي وأذناي بالمياه. وانحبس الهواء في رئتي وشعرت برأسي ينفجر وبصدري يتمزق. وضعف إحساسي بوجودي وارتخت ذراعاي وساقاي. ثم بدا لي يا ندى أن رأسي يعلو فوق المياه، ففتحت عيني فبصرت بالحارس ممسكا بشعري وقد أسند رأسي إلى حافة الحوض. وتدفقت المياه من كل مكان في رأسي حتى خيّل إلي أنني استحلت إلى صنبور مياه. وبقيت دقائق وأنا أعب الهواء لاهثا والصداع يحطم جمجمتي. واستحال كل شيء إلى نقط خضر وصفر وحمر تتراقص أمام عيني. انحنى خليل فوق رأسي وقال وكأن صوته آت من بعيد: والآن هل ستعترف؟ لا أمل لك بالحياة إن لم تعترف. اعترف فينتهي كل شيء.
تمتمت بصوت متقطع النبرات: لست عضوا.. لست عضوا.
سدّد لكمة قوية إلى رأسي فارتطمت جبهتي بحافة الحوض. وفي الحال تدفق على عيني سائل لزج وجرى على فمي. وزمجر خليل: مت ميتة الكلاب إذن.
أشار إلى الحارس فانحط حذاؤه على صدري وما أسرع ما شعرت بالاختناق. وثقل رأسي حتى لكأنه ربط بأطنان من الحديد. حاولت أن أحرّك ذراعي وساقيّ فعجزت، وخيّل إلي أنها انفصلت عن جسدي. ودار رأسي في دوامة بطيئة أخذت تسرع وتسرع حتى ألفيتني محلقا في الهواء أسبح في غيوم خضر وحمر وصفر، ثم فقدت الإحساس.
تنبهت للحظات من غيبوبتي يا ندى كما يصحو النائم المستغرق في النوم. كان رأسي مقلوباً إلى الأسفل وعملاق يخضني بقوة فتتدفق المياه من فمي وأذني وأنفي. وفقدت الإحساس ثانية. ولمّا عاد إليّ وعيي وجدتني متمدداً على البلاط. أجلت أنظاري حوالي فأبصرت الحارس جالساً أمامي وعيناه مسمرتان في وجهي. بادرني بصوته الجهوري بصوته: هل صحوت؟
أغمضت عيني ولم أجب. كان الصداع يهوي بمطارق ضخمة على جمجمتي والإعياء يسحق جسدي. وكلما تنفست دفقة من الهواء شعرت كأن رئتي تتمزقان. ركلني الحارس قائلا: لا تتصنع الإغماء. هيا انهض وارتد ملابسك.
فتحت عيني ثانية وحاولت الجلوس لكنني لم أقو على الحركة. أخذ كل شيء يدور حواليّ يا ندى.. الجدران والسقف والأرض. وبدا لي أن السقف يوشك أن ينطبق على الأرض. أغمضت عينيّ وأنا أتمتم: أنا عاجز عن النهوض.
انحنى الحارس عليّ ونتلني بقوة حتى استويت على قدمي وما أن أفلتني حتى مادت بي الأرض وهويت على وجهي. أنهضني الحارس ثانية وسحبني إلى كرسي وأقعدني عليه. وجمع ملابسي ورماها بين قدمي وقال: ارتد ملابسك.
ارتديت ملابسي ببطء وأنا أعاني إعياء ساحقا يا ندى. كان الصداع يقرع جمجمتي بمطارق هائلة. نهضت فترنحت قليلا ثم استعدت توازني. ولم تقو ساقاي على حملي. تساءل الحارس بصوته الجمهوري: هل أنت مستعد؟
أومأت بالإيجاب. أقبل عليّ وهو يحمل عصابة وربط عيني بقوة، ثم لوى ذراعيّ إلى الخلف وقيّدهما بقيد حديد. وقادني عبر رواق طويل ثم توقف أخيراً. وفجأة عاجلتني رفسة قوية فسقطت على الأرض، ثم وجدتني أتدحرج بسرعة عظيمة على سلّم شاهقة. اصطدمت بحاجز فكففت عن التدحرج. حاولت طوال الوقت يا ندى أن أحتفظ برأسي مرفوعاً حتى لا يرتطم بالدرجات. وسمعت وقع أقدام سريعة على السلم ثم تلقيت رفسة قوية أخرى فعدت أتدحرج من جديد. وأيقنت أنني هالك يا ندى فظللت رافعا رأسي بعناد وجسدي يتدحرج كالكرة حتى استقر أخيرا وكفّ عن الحركة. وسمعت صرير باب يغلق ثم ساد السكون.
ظللت متكورا في موضعي بدون حراك. وفارت الآلام في كل موضع من جسدي وانبعث تساؤل في أعماقي: "هل عجزوا عن قتلي؟! إنني أقوى منهم إذن!". سرى خدر غريب في أعضائي يا ندى وخيّل إليّ أنني أسبح في الماء. وداهمني إعياء ساحق.. وقلت في نفسي: سيعودون مرة أخرى ليقتلوني لكنني أقوى منهم .. أقوى من الموت!
وما كان أفظع المكان الذي نقلت إليه هذه المرّة يا ندى. فهو قبو بارد رطب تنز أرضه ماء آسنا حتى تغمر القدمين. ولا بد للشخص أن يظل جالساً القرفصاء طوال الوقت إلا إذا شاء أن يسبح في الماء. وإلى متى يبقى المرء جالساً القرفصاء؟! عشر ساعات؟ يوماً كاملاً؟! أسبوعاً؟ شهراً؟! علم هذا عند أولي الأمر. فقد أمضى البعض هنا أسابيع عديدة ولا أمل في نقلهم. وأُبلغوا أنهم لن ينقلوا من القبو ما لم يسجلوا اعترافهم. و لم يكن وجودنا فيه عقابنا الوحيد. فقد عصبوا عيوننا وقيدوا أيدينا إلى الخلف. واقتصر طعامنا اليومي على كسرة من الخبز، وشرابنا على قطرات من الماء. لقد حكموا علينا بالتمرغ في الوحل والعيش في الظلام ومعاناة الجوع والعطش والبرد. وكانت روائح فضلاتنا الممزوجة بالعفونة والهواء الفاسد والرطوبة تكتم أنفاسنا. وما أشد ما قاسيته من أهوال في ذلك المكان الرهيب يا ندى! في هذا المكان أدركت أن عذابات البشرية لا حدود لها . و كان بوسع زملائي أن ينقذوا أنفسهم من تلك الأهوال بكلمة واحدة. ومع ذلك صمدوا كالطود! أي سر عظيم يكمن في أعماق الإنسان يا ندى؟! أي سر هذا الذي يحمله على التضحية بكل شئ من أجل عقيدته؟! التضحية بعواطفه وآماله، بأشواقه وحبه، بل بحياته كلها؟! إن الإنسان لعظيم يا ندى! إنه عظيم بصلابته وشموخه وتضحيته! وأولئك الزملاء يا ندى كانوا يدافعون عن عقيدتهم ببسالة منقطعة النظير !
وكانوا يحضرون لزيارتنا كل ليلة. وكلما هبط إلينا جماعة منهم انهالوا علينا بالشتائم والإهانات ووزعوا علينا الصفعات والركلات واللكمات. كانوا يستشعرون لذة عظيمة في استعراض آلامنا وتوجيه الإهانات إلينا! ولقد تدهورت صحتي يا ندى تدهوراً شديداً. فأخذت ارتجف من البرد طوال الوقت. وخدرت قدماي المغمورتان بالمياه وفقدتا الإحساس. وانتابتني نوبات سعال حاد تكاد تمزق رئتي. كنت أحس كأنني سراج قد اضمحلت ذبالته وأوشك أن ينطفئ. وكنت أتوقع أن أنطفئ بين يوم وآخر يا ندى.وكلما انقضى يوم جديد اشتد بي العجب وساءلت نفسي: أيمكن أن أخرج من هذا المكان حياً؟
ومرة صحوت من غفوتي وأنا أعاني إعياء فظيعا . ولم أدرك أي وقت من اليوم هو، أنهار هو أم ليل، فلم تكن صرخات الليل المذعورة تبلغ هذا المكان القصيّ. كان الصمت المطبق يهيمن على القبو، ولم يكن هناك أثر للآهات والأّنات التي تتردد دوما في أرجاء المكان. أصغيت بانتباه فتناهى إلى سمعي وقع خطوات بعيدة رائحة غادية فأيقنت أنه الليل فهو أشد حركة من النهار. وانتابني إحساس غريب، وشعرت بجسدي يلتهب وبشفتي تتفطران. أردت أن أبلل شفتيّ بلساني فعجزت. وهاجمني صداع يكاد يسحق جمجمتي وخدر يكاد يشل أعضائي. ولم أقو على مقاومة العطش فتمتمت: أريد جرعة ماء.
وسمعت الدكتور أحمد يتساءل: أتشعر بعطش شديد يا أستاذ رشاد؟
فقلت: يكاد العطش يقتلني يا دكتور احمد .. أحشائي تتمزق.
فقال: انتظر قليلاً. إنني اكتشف موضعاً يمكن الحصول منه على الماء. استطعت أن أزيح العصابة عن عيني قليلاً وبوسعي أن أرى ما حولي.
فقلت : حاذر أن يكتشفوا أمرك يا دكتور أحمد .
فقال: كن مطمئناً. اكتشفت أنبوب مياه في سقف السرداب تسقط منه قطرات من الماء. إذا شئت أرشدتك إلى ذلك الموضع لتضع فمك تحته.
جربت أن انهض فعجزت فتمتمت: لا فائدة يا دكتور أحمد فأنا عاجز عن الحركة.
قال الدكتور أحمد: أنا آسف فليس لدينا إناء نجمع فيه الماء.
واندلعت نار متأججة في جوفي. ثم سمعت كامل يقول بعد حين: لديّ حل يا أستاذ رشاد. ما رأيك أن تعيرني حذاءك فأجمع لك فيه بعض الماء؟
قلت متقززاً: وكيف تطاوعني نفسي على شرب هذا الماء ي دكتور احمد ؟
أجاب وهو يخوض في الوحل: وما حيلة المضطر إلا ركوبها يا أستاذ رشاد.
أقبل عليّ الدكتور أحمد وخلع فردة من حذائي، ثم ابتعد عني. وقال بعد لحظات: وضعت حذاءك تحت الأنبوب وستتجمع فيه قطرات الماء.
مرت دقائق حسبتها دهرا يا ندى. كان حلقي قد جفّ تماما وتلظى جسدي بنيران مسعرة. وأثار صوت سقوط القطرات على الحذاء أعصابي برتابته. واختلطت الأفكار في رأسي. ورحت أناجي نفسي وأناجيك يا ندى . . أحقا أنني أكابد هذا العذاب؟! ولماذا؟! لأي سبب؟! إنني مريض جداً يا ندى . فلماذا لا ينقلونني من هذا المكان الفظيع؟! ولماذا لا يحضرون لي الدواء؟! سأموت يا ندى فيدفنون جثتي في حفرة مجهولة. سأموت دون أن أراك أيتها العزيزة. سأموت دون أن أرى أطفالي الأعزاء. أهذه هي ثمرة السعادة التي كنا نحلم بها؟! أية أحلام وأية أوهام أيتها العزيزة ندى! هاأنذا أموت بعيدا عنك في هذا المكان الرهيب . ما اشد شوقي إليك يا ندى ! كم أتمنى أن أضمك إلى صدري الضمة الأخيرة! كم أتمنى أن أقبّل أطفالي القبلات الأخيرة! لكنني سأموت دون أن أقبّل أطفالي. وستبكينني في المنزل الحزين. ولكن لا تبكي يا ندى ولا تبللي وجهك بالدموع.. سأعود إليك يوماً لنعيش سعداء إلى الأبد.. إلى الأبد يا ندى.. إلى الأبد.
وسمعت الدكتور احمد يتساءل: ماذا تقول يا أستاذ رشاد؟! أتريد شيئاً آخر؟!
فأجبته: أقلت شيئاً؟! لعلني كنت أهذي. إنني أعاني من حمى محرقة يا دكتور احمد .. رأسي يتفطر من وطأة الصداع.
اقترب الدكتور احمد مني وأدنى الحذاء من فمي وقال: اشرب يا أستاذ رشاد لعلك عطشك يخف.
كرعت الماء دفعة واحدة فتسرب إلى جوفي وخفف من حدة النيران المشبوبة فيه. تمتمت: شكراً لك يا دكتور احمد ..
فقال: عفواً.. اُرجو المعذرة إن لم أجد وسيلة أخرى لإسقائك.
فقلت: شكراً لك على أية حال.. لكنني مريض جداً يا دكتور أحم. الحرارة تشوي جسدي والصداع يفطّر جمجمتي.
رفع الدكتور أحمد يديه الموثقتين ومس بهما جبيني ثم قال باهتمام: حرارتك مرتفعة جداً.
فقلت: أظن أن نهايتي قد دنت يا دكتور احمد .
فقال: لا تقل هذا يا أستاذ رشاد. علينا أن نصمد لهم وإ ن شاء الله تخرج سالما وتسجل بقلمك النزيه ما شهدته هنا .
فقلت : هذا عهد عليّ لكنني لا أظنني سأخرج سالما يا دكتور احمد . و أنت تدري أنهم لا ينقلون أحدا من هنا ما لم يعترف. وليس عندي ما اعترف به .
فقال: إنهم لا يتركوننا في هذا المكان إلى النهاية يا أستاذ رشاد بل يترقبون انهيار عزيمتنا. فإذا بلغنا حافة الموت نقلونا إلى مكان آخر وعالجونا لا حبا بنا بل لكي لا تضيع منهم الأسرار التي نحتفظ بها . وإن حالتك خطيرة ويجب أن ينقلوك. سأكلم الحارس عند حضوره.
فقلت: شكراً لك يا دكتور احمد .
كنت مستنداً إلى الجدار جالساً القرفصاء فوجدتني أنزلق على الأرض الموحلة. ضايقتني يداي الموثقتان إلى الخلف فنحيتهما جانبا. ودبّت برودة الأرض في جسدي فخففت من حرارته اللاهية. وغمرت المياه جسدي. وغرقت في بحران الحمى ثانية.
صحوت على صوت الحارس وهو يهتف: هل يريد أحد منكم أن يعترف؟
فلم يرد عليه أحد. فعاد يكرر هتافه: ألا يرغب أحد منكم في الاعتراف؟
فظل الجميع صامتين. فصاح مغضبا: أيتها الحيوانات القذرة. هل تفضلون الحياة في السرداب على الاعتراف والخلاص؟! أية عقول في رؤوسكم؟ أبشر أنتم أم حيوانات؟!
فلم يجبه أحد. هتف حارس آخر: أيتها الحيوانات المنحطة، ألا تعترفون فتخرجون من هذا المكان؟
فلم يقل أحد شيئاً. فهتف حارس ثالث: أتتصورون أنكم ستصمدون إلى النهاية؟ سنريكم ماذا سنفعل بكم.
وصاح أحد الحراس: أنت مطلوب للتحقيق يا معلم حسين.
فقال حسين في غير اكتراث: تعال واحملني فلا أستطيع السير.
قال حارس آخر في غضب: أما زلت تتصور أنك زعيم "عصبتك" تأمر وتنهي أيها الحيوان الوضيع؟ لسنا أعضاء في عصبة الحيوانات.
فقال حسين باحتقار: "عصبتنا" لا تضم إلا المناضلين الشرفاء وهي أسمى من أن تقبل أمثالكم.
اندفع الحراس نحوه وأمطروه بالرفسات واللكمات. وهتف أحدهم: سنقطع لسانك هذه المرة وننتزع منك الاعتراف انتزاعاً. سوف ترى.
صاح حسين ساخراً: أتتصورون أنكم ستفلحون يوماً في إرهابي أيها الأغبياء؟ أسرار "العصبة" كلها في رأسي لكنكم لن تفلحوا في انتزاع كلمة واحدة مني.
قال أحد الحراس وهو يلهث: سترى. سترى. إما الموت وإما الاعتراف هذه الليلة.
قال حسين: أتهددونني بالموت أيها الأغبياء؟ أنا لا أرهبكم ولا أرهب الموت. نحن أقوى من أن يرهبنا أمثالكم.
قال أحد الحراس: فلنسحله إلى "الهيئة" لتقطع له لسانه.
وحدثت طرطشة قوية في الوحل . وقبل أن يخرج الحراس قال الدكتور أحمد : رشاد الهادي مريض جداً ويجب إبلاغ "الهيئة" لتأمر بنقله.
تساءل أحد الحراس: وهل وافق على الاعتراف؟
فقلت: إنني لست عضوا.
فقال الحارس وهو يغلق باب السرداب: إذن مت في مكانك ميتة الكلاب.
وما أن تلاشت ضجة الحراس حتى قال الدكتور أحمد : لا تيأس يا أستاذ رشاد فسيأمرون بنقلك في أقرب فرصة.
وأطبق الصمت على السرداب. ولم نكن نتبادل الكلام إلا نادرا يا ندى. كان الألم والإرهاق والبرد والجوع يقتل فينا أية رغبة في الكلام. ومع الصمت المطبق غرقت في أفكاري المتلاطمة .. أية نيران تلك التي تندلع في جسدي؟! أية أوجاع تلك التي تسحق عظامي؟! نحن مقضي علينا جميعاً بالهلاك. أنا وجميع الزملاء. لقد حلت علينا لعنة الشر ولا بد لنا من أداء الضريبة. وفي يوم ما.. وفي مكان ما سنجتمع نحن أتباع الخير ونمسك يدا بيد ونرقص في الشوارع والميادين والحدائق. وسيفيض الخير ويكتسح الشر فترتدي الأرض رداء السعادة الأبدي. ولن يكون ثمة قتل ولا تعذيب. لن يكون ثمة دماء ولا دموع. لن يكون ثمة جوع ولا حرمان. وستتردد في الفضاء أصداء الضحكات السعيدة. وسيتعالى نشيد الأرض عذباً رقيقاً ساحرا. وستعمنا السعادة جميعا.. تعمنا جميعا..
وتناهى إلى سمعي صوت كامل وكأنه آت من مكان سحيق: أتريد شيئاً يا أستاذ رشاد؟
فحاولت أن أرد عليه لكنني عجزت يا ندى. كانت النيران تندلع نحوي من كل صوب. وكان هناك عمالقة يرقصون بصخب حولي. وكانت الطبول تقرع بضجيج عظيم. وفقدت الإحساس بكل شيء.
حينما فتحت عينيّ ثانية يا ندى واستعرضت وجوه الأشخاص المحدقين بي لم أفهم ما الذي حدث بالضبط . فالعصابة قد فارقت عينيّ ويداي حرتان أحركهما كما أشاء . وأشعة الشمس تنفذ إلى المكان من نوافذ عالية. فأغمضت عينيّ وأنا أتمتم: "إنه حلم جميل". وكانت تلك المرة الأولى التي يزورني فيها حلم جميل منذ أن احتواني المعتقل. كانت أحلامي دائما كوابيس خانقة.وسمعت أشخاص يتحدثون ففتحت عينيّ ثانية وتطلعت حوالي. وجدتني متمددا في غرفة فسيحة تغصّ بالأشخاص. سألني أحدهم: كيف حالك يا أستاذ رشاد؟
تلفت نحو جهة الصوت فإذا بجاري ينحني في اهتمام نحوي. تمتمت: شكراً لك يا أخ.
إذن فقد نقلت من السرداب وما أنا بحالم! وأومضت في ذهني صور حياتي في السرداب فسرت رعدة في جسدي. وداهمني فراغ هائل وإعياء ساحق. تساءلت: أين أنا؟!
أجابني جاري: أنت في غرفة فوق السطح.. أنت في المنفى.
في المنفى؟! مهما يكن هذا المكان فهو خير من السرداب. أجلت أنظاري في أرجاء المكان فطالعتني غرفة رحبة واطئة السقف ذات جدران ملوثة بالدماء. وتراقصت بقع الدماء أمام عيني. أينما وليت بصري طالعتني بقع الدماء! دماء! دماء! دماء! وتساءلت :هل بتّ أتخيل الدماء في كل مكان؟! لعلها بقع من طلاء أحمر وليست دماء. لعلني أصبت بعمى الألوان ولم أعد أميز غير اللون الأحمر!
دغدغ الفراغ رأسي وتدحرج شئ كالكرات فوق جبيني. واستعر الألم في عمودي الفقري. جربّت أن أرفع رأسي فارتفع عن الوسادة قليلاً ثم هوى ثانية. أحسست بالإعياء يسحقني سحقاً. تساءل جاري: أتريد أن تنهض يا أستاذ رشاد؟
فقلت: أود لو اتكأت على الجدار يا أخ فقد سئمت الانطراح.
فقال: خير لك أن تظل متمددا يا أستاذ رشاد فما زلت منهوك القوى.
فقلت: أفضل الجلوس قليلا فإنني تعبت من الرقاد.
أقبل عليّ جاري ورفع جسدي وأسند ظهري إلى الجدار. وأغمضت عيني وقد اجتاحتني موجة إعياء قوية وغمغمت: ما أشدّ ضعفي! أشعر كأن جسدي قد طحن طحنا .
قال جاري: هذا طبيعي ما دمت كنت في السرداب ، لقد بقيت على حافة الخطر أياماً عديدة.
سألته: ومتى نقلت إلى هذا المكان؟
فقال: نقلت قبل أسبوع. وظللت شبه غائب عن الوعي منذ ذلك اليوم.
تأملت وجوه الموجودين يا ندى وقد استثارني الفضول.. الجميع شاحبو الوجوه قد ربطت رؤوسهم أو أذرعهم أو سيقانهم بأربطة طبية. وتكدسوا فوق بعضهم بعضا.لم يكن يجد البعض منهم موضعاً للجلوس. ورحت أتفحصهم واحدا واحدا. كان البعض قد قيدت يداه إلى الخلف، وكان آخرون قد ربطت أيديهم إلى الأمام، بينما أطلقت أيدي النفر الثالث. وكانت عيونهم غائرة تائهة النظرات ووجوههم ذابلة و شعورهم مشعثة وذقونهم طويلة وكأنها لم تر الموس منذ شهور. وثمة كآبة عميقة تنضح بها الوجوه. وتمثلت لي الكآبة يا ندى طيراً هائلاً من الطيور الأسطورية يحلق في جو الغرفة خافقاً بجناحيه العظيمين، مادا منقاره المدبب ليفقأ به العيون، مكوراً أظافره الحادة ليمزق بها الأجساد! لكأن هذه الوجوه الحزينة الملتحية لم تعرف السعادة يوماً يا ندى.. أحقاً أن هذه العيون المظلمة ذات النظرة التائهة لم تعرف بريق السعادة يوماً؟! بلى، لقد عرفت السعادة وتذوقتها، لكن العذاب الذي تكابده قد أنساها طعم السعادة. إن ساعة من العذاب تمحو دهراً من السعادة. تلك هي الحقيقة يا ندى. وإن الأشهر التي أمضيتها في هذا الجحيم قد أحالت طعم السعادة في فمي إلى علقم وطمست صور السعادة في ذاكرتي فغدت أطيافاً باهتة.
اقترب وقع خطوات من غرفتنا فانتبه الجميع. ودار المفتاح في القفل ثم ظهر ممدوح يرافقه حارس وشخص زريّ الهيئة. وقف ممدوح لحظات يطالع الوجوه بنظرات فاحصة وهو يهز رأسه الكبير ثم قال: مساء الخير.
ردّ عليه بعض الموجودين التحية بفتور. كان أغلبهم قد اعتدل في جلسته، بينما لبث الآخرون غارقين في جمودهم. واستقرت عينا ممدوح على وجهي وتساءل: كيف حالك يا سيد رشاد؟
غمغمت: كما ترى.
تأملني لحظات ثم قال: ألم يكن خيراً لك لو كفيت نفسك مؤونة هذه التعقيدات؟
حوّلت عنه عينيّ ولم أتكلم. أجال أنظاره في الوجوه ثم تساءل: ألم يهد الله بعضكم إلى الصراط المستقيم فيقرر النزول عن بغلته؟
فاستمسك الجميع بالصمت. فابتسم ابتسامة ساخرة وقال: إنني أنسى أنكم أبطال!
ثم التفت إلى الشاب الزري الهيئة قائلاً: أرنا شطارتك يا سيد فخري.
شرع فخري يتجول على مهل في أنحاء الغرفة وهو يتفرس بأنظار وقحة في وجوهنا. كان ينحني على الراقدين ويزيح عنهم الأغطية ويتفحصهم مليا. وتوقف أخيراً بجوار شخص معصوب الرأس وقال بقحة: مرحباً مسعود.
فنظر إليه الشخص في استنكار ولم يجب. والتفت فخري إلى ممدوح قائلاً: اسمه الحركي "مسعود".
تساءل ممدوح: أأنت واثق من ذلك؟
أجاب فخري بحماس: كيف لا أكون واثقاً؟ كان رئيس خليتي.
التفت ممدوح إلى الشخص المعصوب الرأس وقال: أرأيت يا سيد فاضل؟ أنت رئيس خلية ومع ذلك تدعي أنك لست عضوا.
قال فاضل: هذا الشخص كذاب ولم يسبق لي أن عرفته.
فقال فخري بقحة: من الكاذب فينا؟ أنت أم أنا؟ اعترف يا فاضل فلن يفيدك الإنكار. إنني سجلت اعترافي عن خليتنا وفروعها ولا فائدة من الإنكار.
قال فاضل وهو يرميه بنظرات احتقار: أنت كذّاب. إنني لم أرك قبل الآن.
هز ممدوح رأسه الكبير وقال: سوف نرى.
وخطا في الغرفة متعثرا بالأجساد حتى توقف بجوار شخص قد غطّى وجهه بمنشفة. أزاح المنشفة عن وجهه وتساءل: كيف حالك يا سيد عبد الرحيم؟
فظل عبد الرحيم ساكنا. التفت ممدوح إلى الحاضرين وتساءل: أهو نائم حقاً أم متناوم؟
أجاب جاره: إنه نائم فعلاً.
قال ممدوح في استنكار: كلما مررت بغرفتكم وجدته نائما. ألا يتعب من النوم؟!
فقال جاره: إنه يعاني نحولاً شديداً لذلك فهو نادرا ما يستيقظ.
قال ممدوح: خير له أن يعترف إذن لننقله إلى المستشفى.
وواصل تجواله حتى توقف مرة أخرى بجوار شخص راقد على ظهره وعيناه موصولتان بالسقف. فسأله: كيف حالك يا سيد مفيد؟
فلم يظفر منه بجواب. فأضاف قائلاً: نحن نبذل ما في وسعنا لمساعدتك بالرغم من عنادك السخيف. وقد سمحنا لزوجتك بالعناية بك مع أن هذا ينافي قواعد المعتقل.
وسكت لحظة ثم تساءل: هل ترغب في شئ آخر؟
حرك مفيد رأسه رافضا دون أن تفارق عيناه السقف. وعاد ممدوح يقول: لعلك تتدارك نفسك وتنزل عن بغلتك وتسجل لنا اعترافك كاملا قبل أن تشل يداك وإلا فسنكف عن علاجك.
سرحت نظرات مفيد في السقف وكأن الكلام لا يعنيه . فقال ممدوح مهددا وهو يواصل جولته: حذرتك فلا تلم إلا نفسك.
تطلع أخيراً في وجوه الموجودين وقال في استعلاء: نحن على استعداد لسماع اعترافاتكم في أية ساعة من النهار أو الليل ولا يهمنا أن نضحي براحتنا في سبيلكم. فكونوا واقعيين واتركوا عنادكم فلن يفيدكم في شئ.
وخرج الثلاثة فبصق فاضل في الهواء وقال: نذل حقير.. إنه يتحدث عن اعترافه بكل صفاقة.
وقال شخص آخر: كان يفحص وجوهنا بكل دقة.. أنا لا أستطيع أن أفهم نفسيات هؤلاء "المشخصّين".. إنهم فقدوا ضمائرهم كلياً.
تساءل شخص ربطت كلتا يديه إلى الخلف ولاح جرح عميق في جبهته: كيف قبل هذا الصنف من الناس أعضاء في "العصبة"؟ لا بد أن هناك خطأ ما.
فقال آخر في سخرية : وما أكثر الأشخاص بيننا الذين ركبوا الموجة طمعا في الكسب فكشفتهم هذه الكارثة .
قال فاضل وهو يهز رأسه بحزن: من المؤسف أن أمثال هؤلاء الأشخاص كانوا يوماً أعضاء في عصبتنا.
فقلت : ولكن لابد أن البعض منهم قد تعرض بلا شك إلى تعذيب فظيع. وليس في طاقة كل إنسان الصمود أمام التعذيب. فلا تدينوهم يا إخوان ولا تقسو عليهم .
وقال آخر: هذا صحيح يا أستاذ رشاد . وما أكثر دورات التعذيب التي نمر بها والتي تؤدي بالبعض منا إلى انهيار صمودهم. وقد كتب على الأقوياء منا مقارعة التعذيب حتى ينقذهم الموت.
ودوت عبارته في سمعي فسرت قشعريرة في جسدي.. تلك هي الحقيقة يا ندى! لقد كتب على الصامدين من زملائي الموت ولكن في بطأ وتأنِّ. فيا له من مصير1

وشعرت بالإرتياح في غرفتي الجديدة يا ندى . فقد كانت مستوفاة للشروط الصحية . فالشمس تغمرها طوال النهار والهواء يتجدد فيها باستمرار، ولم يكن من عيب فيها سوى الازدحام الشديد. وكان الزملاء قد شكلوا هيئة دائمة للإشراف على شؤون الحياة فيها. فكان المرضى يمنحون أفضل المواضع. وكان الموجودون يتناوبون النوم والجلوس والوقوف، فلم تكن الغرفة تتسع لنوم وجلوس الجميع.
وكانت ليالينا مشغولة على الدوام. فلا بد أن يشمل التحقيق جماعة منا كل ليلة. ولم يكن أي واحد منا يدري متى سيستدعي للتحقيق. فقد يستدعى الواحد مرات متعاقبة ليلة بعد ليلة إن لم تكن جراحه خطرة، وقد يعفى لأسابيع عديدة. وكان البعض يذهبون فلا يعودون، وهم أولئك الذين تنهار عزائمهم أو ممن يموتون في التعذيب.
وكانت عودة المعذبين إيذاناً ببدء الحفلة الترفيهية. وكانت تلك الحفلات مزيجاً من الغناء والفكاهات والألعاب المسلية. فكانت الفكاهات والضحك والغناء والأناشيد تتردد بين جدران غرفتنا في الوقت الذي يهيمن على المعتقل جوّ مرعب. وكانت معنوياتنا العالية تغيظ الحراس فيقبلون علينا مزمجرين مهددين، وقد ينهالون بالضرب الموجع على بعضنا. وما أن يبتعدوا حتى نستأنف صخبنا من جديد. وكنت أعجب يا ندى لهذه المعنويات العالية وأنا أراقب زملائي وهم منغمرون في صخبهم وضحكهم وأناشيدهم.. حقاً إنها روح عالية تلك التي تستهين بالآلام والتعذيب والمصير المجهول يا ندى! إنها روح لا يمكن للمرء أن يدرك مدى عظمتها!
ولم يمّل سجانونا من ترديد نصائحهم التقليدية عن مزية الاعتراف. وكان ممدوح يزورنا دوما فيحاضر في كل زيارة عن فضيلة الاعتراف. ويختم محاضرته بعبارة تقليدية: "اعترف وانقذ نفسك فلا إطلاق سراح بدون اعتراف".
وفي بعض الأحيان كان يزورنا مسؤولون في النظام، فيستعرضوننا مبتهجين كما تستعرض حيوانات "السيرك"، فيذكرون أسماءنا ويقرنونها بنعوت بذيئة. وقد يحلو لهم أحياناً أن ينهالوا علينا بالصفعات والركلات. ولكنهم كانوا يختمون زيارتهم دائماً بمحاضرة عن فضيلة الاعتراف.
وفي أحيان أخرى كانت المحاضرات عن الاعتراف تلقي علينا من بعض المعترفين أنفسهم. وكثيراً ما كان يؤتى بهؤلاء للتعرف على رفاقهم في "العصبة". فكانوا يؤكدون لنا أن أسرار "العصبة" قد انكشفت برمتها ولم يعد هناك من جدوى في التمسك بالإنكار. لكن محاولات أولئك الأشخاص ما كانت تثير سوى الاشمئزاز والاستنكار. ففي ذات مساء زارنا خليل وبرفقته أحد أقطاب "العصبة" الكبار واسمه سلمان. أقبل سلمان على بعض الموجودين يحييهم بحرارة، لكنهم ردوا عليه التحية في فتور. واتجه إلى مفيد وجلس بجواره وهو يقول بحرارة: كيف صحتك يا مفيد؟ آلمني جداً نبأ مرضك.
كان مفيد متمددا على ظهره وعيناه مثبتتان في السقف. وكان قد فقد القدرة على الكلام. فلم نكن نسمع صوته إلا حينما يصاب بنوباته المرضية فتندفع من بين شفتيه صرخات مبحوحة. تجهم وجهه حينما جلس سلمان بجواره وراح يحدق في السقف بإصرار. وواصل سلمان كلامه بحرارة دون أن يبالي ببرودة الاستقبال: إنني آسف لما وصلت إليه حالك يا مفيد ولا أوافقك على هذا السلوك. لا يحق لك أن تجور على نفسك بهذا الشكل. أنت أديت واجبك تجاه "العصبة" كاملاً كما يؤديه أي مناضل جسور، لكن لكل تضحية حدودا ومن حق البلد عليك أن يستفيد منك في مجالات أخرى.
جمدت أنظار مفيد على موضع معين في السقف، ولم تطرف عيناه. وأثار جموده خليل الذي انتصب بجواره وهو يتلاعب بسلسلة المفاتيح. واشتدت السلسلة اهتزازا وتصاعدت ضجة المفاتيح. وتوقد الغضب في عينيه لكنه بذل جهداً واضحاً لضبط أعصابه. استمر سلمان يتحدث بهدوء دون أن يثبط عزمه جمود مفيد: إنني أثمّن صمودك يا مفيد وأقدر الحيرة النفسية التي تحملك على التمسك بالإنكار فقد قاسيت منها قبلك طويلاً. لكنني أدركت أخيراً خطأ موقفي. فصحتك لم تعد تتحمل الصمود، وأخشى أن تسوء العاقبة، وإن فقدك لا سمح الله خسارة لا تعّوض. وإني مستعد أن أضمن سلامتك وراحتك.
التفت مفيد إلى جاره عبد الله وأشار بيده إشارة تتم عن رغبته في الكتابة فناوله عبد الله ورقة وقلما. فانحنى خليل على مفيد في اهتمام. أسند مفيد الورقة إلى الجدار وكتب ببطء: بأي لسان تتكلم؟
قال سلمان بتيه: إنني أتكلم بلسان هيئة التحقيق العليا. إني وعدتهم أن أقنعك بالاعتراف فوعدوني مقابل ذلك بأن ينقلوك إلى المستشفى لتعالج علاجاً ناجعا، كما وعدوني بإطلاق سراح زوجتك.
وصمت لحظة ثم أضاف: إنني مهتم بقضيتك يا مفيد وما زلت أرعى حقوق الصداقة.
كتب مفيد: قل لهيئة التحقيق العليا إنني أبصق عليهم جميعاً.
وما أن قرأ خليل هذا الجواب يا ندى حتى جن غضباً. وانهال على مفيد ركلاً وهو يصرخ: أيها الحقير ابن الحقير.. يا ابن الزنا.. أأنت تبصق علينا؟! نحن نبصق عليك وعلى أجدادك.
واحمر وجه سلمان وبذل جهداً واضحاً ليحتفظ بهدوئه. توقف خليل برهة ريثما يلتقط أنفاسه، ثم أجال أنظاره الملتهبة في وجوهنا وابتسم ابتسامة ساخرة. قال يخاطب مفيد وهو يهز رأسه: سأريك كيف نبصق عليك وعلى أجدادك.
وصمت لحظة وهو يخزر مفيد بنظرات ملتهبة ثم عاد يقول وهو يهز رأسه هزات ساخرة: اسمع يا ابن الزنا. سينبت لك قرنان صغيران في جانبي رأسك عما قريب.
راح مفيد يحدق في السقف دون أن تطرف عيناه. والتفت خليل إلى سلمان وقال وسلسلة المفاتيح تلف حول إصبعه بعصبية: ألم أقل لك أنه لا فائدة ترجى من ابن الزنا هذا؟! هيّا بنا.
نهض سلمان في انكسار وغمغم: أنا آسف يا مفيد. كنت أريد منفعتك لكنك لم تيسر مهمتي.
اتجه الاثنان نحو الباب، خليل بقامته القصيرة وخطواته السريعة وضجة المفاتيح تسبقه إلى الباب، وسلمان بقامته الطويلة وجسده العريض يتبعه كالكلب الأمين. وما أن غيّبهما الباب حتى شمل الغرفة جو متوتر. ارتسم على الوجوه وجوم خانق، وغرق مفيد في جموده وتسمرت عيناه في السقف.
قلت أخيرا في غضب : سحقا لهم .أي مصير ينتظر البلاد على أيديهم ؟ إنهم لا يترددون في ارتكاب أحط الأفعال .
فقال عبدالله : إن هذا السلوك متوقع من أمثالهم يا أستاذ رشاد . ولكن ما بالك في من كانوا منّا يوما فأصبحوا الساعد الأيمن لهم الآن ؟
فقال مهدي : مات ماضي هؤلاء الأشخاص وتبدد كالدخان .
فقال كاظم : ما أصعب أن يعيش المرء بلا ماض . وقال جواد: وما أشق أن يفقد الإنسان احترامه لنفسه . أ
ظل التوتر يسود جو الغرفة طوال تلك الليلة يا ندى. وعجز أي منا عن تناسي تهديد خليل. حاولنا أن نلقي ستاراً من النسيان على زيارته فتحدثنا في مواضيع شتى، لكن أحاديثنا كانت فاترة. وكلما التقت عيوننا وشت بما يعتلج في صدورنا من قلق. وكانت نعيمة قد حدثتنا عن الرعب الدائم الذي يجثم على صدور المعتقلات من هذا المصير. كان ذلك آخر سلاح يشهر بوجوههن لإرغامهن على الاعتراف. وإذا ما اغتصبت إحداهن ضمت إلى زمرة الموكلات بالترفيه عن سادة المعتقل.
زحف الوقت بطيئاً ثقيلاً، واستدعى اثنان منا للتحقيق، ثم عادا وهما مثخنان بالجراح. لكننا لم نجد في أنفسنا رغبة في إقامة الحفلة الترفيهية المعتادة. وكانت عينا مفيد معلقتين بالسقف طوال الوقت. ولم نحزر ماذا يدور في ذهنه. ولما فات موعد الحفلة كتب بإصبعه على الحائط: لماذا لا تباشروا الحفلة الترفيهية؟
قال فاضل: نحن متعبون اليوم يا مفيد ولا طاقة لنا على إحياء الحفلة. أظن أن من الخير لنا أن ننام.
فارتفعت الأصوات مؤيدة، وتهيأ الجميع للنوم. حاولت أن أنام لكن النوم استعصى على أجفاني يا ندى. ظللت أتقلب وقتا طويلا وصورة نعيمة تتشبث بمخيلتي وعبارة خليل تدوّي في سمعي. كنت أرى نعيمة يا ندى وأنا بين الصحو والنوم وهي تضطرب تحت جسد خليل وصرخاتها المرعوبة تصكّ السمع. ثم تتوارى صورتها لتحل محلها صورتك فأفيق مذعوراً وجسدي يسبح بعرق بارد. ثم يعاودني النوم فتجتاحني الكوابيس المرعبة.
وأفقت على صرخات مبحوحة ففتحت عينيّ وإذا بنور المصباح يغمر الغرفة وطائفة من زملائنا يتحلقون حول مفيد. كان جسده يخفق كالدجاجة الذبيحة. وكانت ساقاه وذراعاه تضطرب في كل الاتجاهات. وكان رأسه يتطوح من جهة إلى أخرى. وكانت الصرخات المبحوحة المتلاحقة تندفع من بين شفتيه المزمومتين. وأقبل عليه البعض يدلكون جسده في همة. لكن نوبته كانت تشتد سوءاً. وتدفق الزبد من فمه، وضاقت عيناه واستحال باطنهما إلى بياض. كانت أسوأ نوبة تملكته منذ عرفته. وتصبب وجهه عرقاً والتصق قميصه بجسده. ثم هدأت حركته شيئاً فشيئاً فسكن جسده، وانطبقت أجفانه، وتباطأت حركة صدره فأدركنا أن النوبة قد تلاشت أخيرا. وتبدى على الكثيرين منا إرهاق بالغ وكأن النوبة قد افترست الجميع.
خيّم الهدوء على الغرفة أخيراً وأطفئ النور، وأخلد الزملاء إلى النوم. لكن التنهدات ترددت في جوّ الغرفة لساعات طويلة. وكنت أكابد إنهاكاً ساحقاً لكن النوم لم يطاوع جفوني.. كيف يطاوعني النوم يا ندى؟ كانت نعيمة بمثابة الأخت الحنون لنا . كان كل منا يرى فيها صورة أخته أو زوجته. كانت رمزاً لنسائنا جميعا. وكان فيض حنانها ورقتها يغمرنا جميعا. كانت تتفقد كل واحد منا بنفس العاطفة الجياشة. كانت إشعاعات روحها العذبة تتضوع في جو غرفتنا. وكلما راقبتها وهي تسعى من مكان إلى آخر في غرفتنا تسأل هذا وتداعب ذاك تصورتك بقربي يا ندى. وكم تخيلتك عاكفة عليّ وأنت تمررين أناملك الرقيقة على جبيني أو تريحين خدك إلى خدي أو تسندين رأسي إلى صدرك.فكيف يطاوعني النوم وهي مهددة بهذا الاعتداء الشنيع ؟.
في صباح اليوم التالي استيقظ أغلبنا مبكراً على غير العادة. وكنا نصحو عادة عند الضحى العالي. وافترستنا اللهفة لموعد الفطور لكي نرى نعيمة ونطمئن عليها. ولم تكن نظرات مفيد المعلقة بالسقف تشي بشيء.
زحف الوقت بطيئاً مرهقاً، وراح بعضنا يتحرك في أرجاء الغرفة في انفعال. تساءل فاضل أخيراً في عصبية: ما الذي أخرّ الحارس اليوم؟
فرد عليه مهدي: إنه لم يتأخر عن موعده المألوف يا فاضل.
وأخيراً ظهر الحارس وهو يحمل "زنبيلا" طافحاً بأرغفة الخبز والبيض المسلوق وألقاه بجوار الباب وانصرف صامتا. وكانت نعيمة تقدم إلى غرفتنا في العادة بعد إحضار الفطور بقليل. لكن الدقائق انسابت متباطئة ولم يبدو لها أثر. ووزّع علينا فاضل حصتنا من الخبز والبيض، فأكلنا فطورنا بدون شهية. وكانت عيوننا تتلاقى فيقرأ كل منا سؤالاً حائراً في عينيّ صاحبه: "لماذا تأخرت نعيمة؟" ولم يجرؤ أحد منا على طرح هذا السؤال. لكن جواد قال أخيراً من دون أن ينظر إلى شخص معين: تأخرت أم مناضل اليوم وفات موعد الفطور على أبو مناضل.
تساءل مهدي: لماذا لا نستفسر من الحارس عن سبب تأخرها؟
قال فاضل: سأستفسر من الحارس عن السبب.
نهض فاضل إلى الباب ونادى الحارس فأطل برأسه وتساءل بخشونة: ما بك؟
فقال فاضل: أردنا أن نستفسر عن موعد حضور السيدة نعيمة.
فقال الحارس: لن تحضر اليوم.
فسأله فاضل: لماذا؟
فقال: لن تحضر وكفى. منُعت من الحضور.
امتقع وجه مفيد وبان الاضطراب في عينيه لكنهما لم تتحولا عن السقف. وأيقنّا جميعا يا ندى بأن نعيمة قد اغتصبت. كانت عيوننا تتلاقى فيقرأ كل منا ما يجول بذهن صاحبه، وسرعان ما تتحول بعيدا .
وحان موعد خروجنا إلى دورة المياه فبرزت لنا مشكلة جديدة هي مرافقة مفيد . وكانت نعيمة في العادة تتولى ذلك . وكان خروجنا إلى دورة المياه يقتضينا تنظيما خاصا يا ندى . فقد كان لابد من معاونة غير القادرين من ذوي العاهات أو الجراح الخطرة . ولما كنا نخرج أزواجا فقد كان كل زوج يتألف من شخص سليم وآخر جريح . وكان السليم يتكفل بزميله فيساعده على السير والاغتسال والدخول إلى المرحاض . وكان خروجنا إلى المرحاض يمثل منظرا من مناظر أسرى الحرب المشوهين يا ندى . فقد كان نفر منّا يعرجون . والبعض قد علقت أذرعهم المشلولة بأعناقهم . وآخرون قد شوهت وجوههم بجروح بليغة ولفت رؤوسهم بالضمادات . وكان يدهشني تفننهم في ربط المناشف حول رؤوسهم . وكانت حالتان تمثل في غرفتنا مشكلة صعبة هي حالة مفيد وحالة عبد الرحيم . وقد حلت مشكلة مفيد بالسماح لزوجته بإطعامه ومرافقته إلى دورة المياه . وأضرب عبداارحيم عن الطعام فقل تردده على دورة المياه حتى لم يعد يشكل عبئا ..
مر الوقت متباطئا ثقيلاً، وصرنا نعد الدقائق انتظارا لموعد وجبة الطعام الثانية. ولم نتبادل خلال تلك الساعات سوى أحاديث فاترة. كنا جميعاً عازفين عن الكلام. ولم يّحول مفيد عينيه عن السقف، ولم ينظر في وجه أي منا.
وعند العصر ظهر الحارس وهو يجر "زبيل" الخبز والبيض، وركنه بجوار الباب وخرج صامتا. ولم تمتد أي يد إلى "الزنبيل"، ولم يتحرك فاضل لأداء واجبه في توزيع الطعام. حبسنا أنفاسنا واستحلنا إلى آذان حادة تلتقط أدقّ الأصوات في الخارج. ثم سمعنا خطوات الحارس الثقيلة تصطحبها خطوات خفيفة ميّزنا فيها خطوات نعيمة. وأشرقت وجوهنا ، وتعلقت عيوننا بلهفة بالباب. وحوّل مفيد عينيه نحو الباب وقد تقلصت عضلات وجهه. توقفت الخطوات عند الباب ثم انفرج وأهلت علينا نعيمة بوجهها المحبوب وعينيها الباسمتين. وما أن رد الباب حتى استوت تجيل أنظارها الباسمة في وجوهنا وقد فاضت عيناها بالحب. تساءلت بصوتها الحنون: كيف أنتم أيها الأعزاء؟
قال فاضل بلهجة وشت بسروره: نحن بخير يا أم مناضل لكننا قلقنا لغيابك صباحا..خيرا؟
قالت وغمامة من الكدر تعكّر وجهها: جرت في غرفتنا محاولة انتحار فمنعت من الحضور.
تساءل جواد بانزعاج: عساها محاولة فاشلة يا أم مناضل؟
قالت وهي تخطو نحو زوجها: لسنا ندري. نقلت من غرفتنا بحالة خطرة.
وصمتت لحظة ثم قالت بحزن: إنها زميلتنا منى.. يا عيني عليها! ما أعظم صلابتها! كانت شوكة في عيونهم 0ولم تكف يوما عن تحديهم والاستخفاف بهم وشتمهم 00 وهم يسمونها القطة المتوحشة0وقد ألحوا ّ معها كثيراً هذا الأسبوع. وجعلوا يستدعونها بين ليلة وأخرى ويغتصبونها0وكانت كلما عادت منهم تظل تبكي لساعات0 وقد أقدمت ليلة أمس على الانتحار بعد عودتها من سهرتهم.. يا عيني عليها!
رفعت نعيمة يدها إلى عينيها تمسح دمعتين انحدرتا على وجنتيها. وهزت رأسها بشدة كأنها تطرد خيالا مزعجاً عن ذهنها. ثم قالت وهي تحاول أن تبتسم من خلال دموعها: أنا متأسفة أيها الأعزاء وأعلم أنني يجب ألا أستسلم للحزن. لكن منى عزيزة علينا جميعاً. إنها لطيفة جداً وصبورة جداً وقوية جدا. لكن صبرها نفد.. يا عيني عليها!
هتف علاء ثائراً: يا للأنذال!
انحنت نعيمة على زوجها وقبلت جبينه وقالت: كيف حالك يا مفيد؟ انشغل بالي عليك.
حرّك مفيد رأسه بارتياح وابتسم لها بعينيه. تناولت نعيمة زجاجة الحليب ووضعت رأس مفيد في حجرها وراحت تسقيه قطرة قطرة. لكن وجهها غام بالحزن ثانية وبدا عليه الشرود. تساءل فاضل بعد حين: وما أخبار بقية الزميلات يا أم مناضل؟
نقلت نعيمة عينيها الساهمتين في وجوهنا وقالت وهي تغتصب ابتسامة كئيبة: بماذا أحدثكم أيها الأعزاء؟ أخباري كلها محزنة، فلماذا أزيد أحزانكم؟
قال فاضل: وهل نتوقع أن نسمع أخباراً مفرحة في هذا المكان يا أم مناضل؟! الأحزان لا تؤثر فينا ولن تؤثر فينا.
شعّت عينا نعيمة ببريق متقد وقالت بحماسة: سنسمع يوماً أخباراً مفرحة حينما يتخلص شعبنا من نيرهم وما ذلك اليوم إن شاء الله ببعيد.
وعاد فاضل يقول: حدّثينا عن أخبار الزميلات يا أم فاضل.
أطرقت نعيمة وهي تقول بصوت حزين: سمعنا أن إحدى الزميلات في غرفة أخرى ماتت أثناء التعذيب وهي حامل في شهرها السابع. وأعادوا عصر أمس إلى غرفتنا أم جلال ولمّا يمضِ على ولادتها أسبوع ولا تزال هي وطفلها في حالة سيئة. لكن أم جلال فرحة، فالمولود ذكر وقد سمته باسم أبيه المرحوم، وقالت إنها ستربيه ليكون بمقام أبيه الذي قتله المجرمون.
شاع الصمت الحزين في الغرفة لدقائق ثم تساءلت نعيمة وهي تنقل أنظارها في وجوهنا: وما أخباركم أيها الأعزاء؟ الزميلات متشوقات لأخباركم.
أجاب فاضل: ليست لدينا أخبار هامة.. استدعوا أمس صالح وكريم للتحقيق لكنهما عادا إلى قواعدهما سالمين. ولم يشهدا من التعذيب سوى التعليق واللف بالمروحة.
وعقّب صالح ضاحكاً: مع بعض اللكمات والصفعات والركلات، وهي "سلطات" ضرورية للتحقيق بالطبع.
قالت نعيمة ووجهها يشع عزيمة: سنصبر.. سنصبر أيها الأعزاء ولن يهزمونا.. شعبنا الجبار لن ينهزم. وسبكو ن النصر لنا وإن طال الزمن.
فقلت وانا أرمقها بإعجاب : شعبنا لن ينهزم فعلا أمام الطغيان يا ام مناضل ما دام بين نسائه أمثالك .
فقالت وهي تبتسم ابتسامة رقيقة : شعبنا عظيم برجاله ونسائه يا أستاذ رشاد .
تدانت الخطوات الثقيلة من غرفتنا ثم انفرج الباب وظهر الحارس. وقال وهو يومئ لنعيمة: انتهى وقت الزيارة.
قبّلت نعيمة جبين زوجها ونهضت وهي ترمقنا بعينيها الباسمتين. قالت وهي تخطو نحو الباب: أراكم في خير جميعاً أيها الأعزاء.
وشيّعتها عيوننا في شغف حتى واراها الباب. وخلّفت وراءها كآبتها الوادعة التي خيمت على الغرفة. وعزفنا عن الكلام، وتشبث سؤال ملح في أذهاننا .. لقد سلمت نعيمة اليوم من الاغتصاب فهل ستسلم غداً؟
بعد أيام تعرضنا لتلك التجربة المهينة القاسية,, . في ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم أخذت الريح القوية تصفع زجاج النوافذ بقطرات المطر فتحدث صوتا كنقر الطيور. وأنصتنا إلى ذلك الصوت الرتيب وقد تملكنا الانقباض. وعند العصر بدأ المطر برذاذ خفيف فراقبنا أسلاكه الدقيقة وكأنها خيوط مغزل ضخم تربط السماء بالأرض. ثم اشتدت تلك الأسلاك غلظة حتى بدت وكأنها حبال دقيقة. وتمكّن الانقباض من الجميع. كان الجو الممطر يجمع السحب في أفق خيالنا يا ندى. أما أشعة الشمس فكانت تبدد تلك الغيوم السود.
ولم يكن قد انتصف الليل بعد حينما ترامت إلى أسماعنا وقع خطوات حاشدة تدنو من غرفتنا. تبادلنا نظرات وجلة، وتساءل فاضل في توجس: أزوّار في مثل هذه الساعة؟
وتعلقت عيون الجميع بالباب. دار المفتاح في القفل ثم انفرج الباب عن حشد من الحراس يتنكبون الرشاشات.. أي شر يضمرونه لنا؟ قال آمر الحرس وهو يرمينا بنظرات شرسة: اخلعوا ملابسكم.
تبادلنا النظرات كأننا نتشاور في الأمر ثم حولنا عيوننا إلى وجوه الحراس فطالعتنا نذر الشر. شرعنا نخلع ملابسنا في صمت. تساءلت أخيرا : ماذا تريدون بنا؟!
أجاب آمر الحرس بفظاظة: ليس هذا من شأنكم.
قال حارس آخر وهو يقهقه: لماذا لا نخبرهم يا أياد؟
ثم أضاف متهكما: سنأخذكم إلى حمام يزيل أقذاركم فقد صارت روائحكم كريهة للغاية.
وعلق حارس آخر: روائحهم كريهة بطبيعتها يا ضرغام فالقذارة متأصلة فيهم.
ضحك الحراس ضحكاً عالياً وقد أطربتهم الدعابة. تساءل أحد الحراس: ماذا نفعل بهؤلاء النائمين؟
أجاب آمر الحرس: نخرجهم مع البقية.
ولم يكن قد بقي نائما سوى عبد الرحيم ومفيد. وقد واصل عبد الرحيم نومه منذ أكثر من يومين ولم يصحو للخروج إلى دورة المياه أو لتناول الطعام. وكنا قد يئسنا منه فتركناه وشأنه. أما مفيد فكانت حاله قد تردت منذ اغتصبت نعيمة. وافترسته النوبات التشنجية باستمرار. وكانت نعيمة قد فقدت معنوياتها منذ تعرضت لذلك الاعتداء يا ندى. غاضت البسمة من وجهها وتلفعت بكآبة ثقيلة. وكفّت عن التطلع في وجوهنا بنظراتها الحنون. وأخذت تتحرك في الغرفة كالآلة وعيونها مسمرّة في الأرض. وأمضنا جميعا حالها لكن مفيد كان أعظمنا تأثراً. تدهورت أحواله وغرق في جمود ثقيل. ولم تفارق عيناه السقف. وإذا ما تعب من التحديق في السقف أغمض عينيه لساعات طويلة. ولم نكن ندري أنائم هو أم متناوم.
صاح آمر الحرس وهو ينقل نظراته بين وجهي عبد الرحيم ومفيد: اخلعا ملابس هذين الجبانين.
أقبل أحد الحراس على عبد الرحيم ينضو عنه ملابسه لكنه بدا ساكنا وكأنه جثة هامدة. وعكف حارس آخر على مفيد يخلع ملابسه في عنف فتفلت من بين شفتيه آهات مكتومة. وفرغنا من خلع ملابسنا فأوثقوا أيدينا إلى الخلف ثم عصبوا عيوننا وساقونا إلى السطح. فاستقبلتنا الرياح العاصفة وصفعتنا بمياه المطر، صاح آمر الحرس: اقعدوا على الأرض.
فتربعنا على الأرض ولا مست أجسادنا بلاط السطح العاري. وكانت برك من مياه المطر متجمعة على البلاط. هتف أحد الحراس وهو يقهقه قهقهة عالية: اغسلوا أجسادكم جيدا لعل الرائحة الكريهة تزول عنها.
وقال حارس آخر: لن تزول روائحهم الكريهة حتى لو استعملوا كل ما في الدنيا من عطور.
انصبّ المطر فوق رؤوسنا كالسيل. وتسللت الرطوبة إلى عظامنا فارتجفت أجسادنا. وفجأة سمعنا عويل نساء آت من بعيد ، ثم تدانى العويل منا. تساءل جواد مذعورا: هل أخرجوا المعتقلات عاريات تحت المطر
فقلت محتدما: كل شيء جائز في عرفهم .
وصكّت أسماعنا قهقهات الحراس وتعليقاتهم البذيئة. صرخ علاء فجأة بهستيرية: أيتها الوحوش الضارية.. أليست لكم أخوات؟! أليست لكم أمهات؟!
فانقض عليه عدد من الحراس بالركلات والصفعات. حينما انقطع المطر وأعادونا إلى غرفتنا يا ندى كان الإعياء قد بلغ منا غايته. وكنت أتخيل طوال الوقت وأنا أتلقى صفعات الريح والمطر وأسمع عويل النساء وقهقهات الحراس وتعليقاتهم البذيئة أنني أعاني كابوسا من كوابيسي الخانقة. وتلهفت لانتهاء ذلك الكابوس. ارتدينا ملابسنا على عجل ونحن منهوكو القوى وأجسادنا ترتجف وقد أمضّها البرد والرطوبة. وكان جواد قد تكفل بأمر مفيد، بينما تكفل صالح بأمر عبد الرحيم. وبينما كان صالح منهمكا في تجفيف جسد عبد الرحيم توقف عن عمله فجأة والتفت إلينا متسائلاً: ما معنى هذا؟ ليس في جسد عبد الرحيم حراك.
قال جواد: ليس الأمر غريباً فهو لم يتناول طعاما منذ أكثر من ثلاثة أيام.
قال صالح وهو يرفع ذراع عبد الرحيم ويطلقها فتسقط تلقائيا: انظروا إلى ذراعه.. إنها عديمة الحياة.
أحاط الرفاق بعبد الرحيم يفحصون جسده باهتمام. وحرك فاضل رأسه يمينا وشمالا فتحرك بآلية كما يتحرك رأس الدمية. فقال بنبرة حزينة: أظن أن عبد الرحيم قد مات.
ومع أننا ألفنا ذكر الموت يا ندى لكن عبارة فاضل رنّت في أسماعنا رنينا مزعجا وتراءى الجزع في عيوننا. قال نوري وهو يقبل على فحص عبد الرحيم : لا تتسرع يا فاضل. قد يكون في غيبوبة نتيجة امتناعه عن الطعام.
وأضاف وهو يلصق أذنه بقلبه: سمعي حاد فدعوني أصغي إلى ضربات قلبه.
حبسنا أنفاسنا وتعلقت عيوننا في وجل بوجه نوري. أكب نوري على قلب عبد الرحيم يتنصت بانتباه. ثم تجهم وجهه وقال: أظننا خسرنا شهيدا آخر يا إخوان.
تساءل علاء جزعا: أواثق أنت مما تقول يا نوري؟
فهز رأسه دون أن يتكلم. فقلت وأنا أرسل أنظارا أسيفة إلى وجه عبد الرحيم: ها قد ذهب بطل آخر.
قال جواد: وأي بطل! إنه بطل نادر المثال! لقد عجزوا عن انتزاع كلمة واحدة منه. تمسك بصمته حتى النهاية.
وقال صالح: هل تتذكرون يوم تركوه عاريا ثلاثة أيام بلياليها فوق السطح يصطلي شمس النهار ويقاسي برد الليل؟! كانوا يتصورون أنه سيشكو حاله إليهم. لكنه لم ينطق بكلمة واحدة.. يا لها من خسارة فادحة!
وعقبّ فاضل: إن قائمة شهدائنا طويلة ولن يكون المحامي عبد الرحيم آخرها.
لفّ الغرفة صمت حزين. ثم تساءل جواد: ألا نخبر الحارس بالأمر؟
قال مهدي محتجا: وما الداعي إلى العجلة؟! فليبق معنا حتى الصباح لنودعه الوداع الأخير.
ولم تفارق عيوننا الجزعة وجه عبد الرحيم يا ندى. كان ممددا في موضعه وكأنه غاطّ في نومه الاعتيادي وقد اتسم وجهه بوداعة محببة. وغالبنا نعاسنا ساعات طوال بالرغم من تعبنا. ثم أخذت الرؤوس تسقط على الصدور مغمضة العينين.
خلف موت عبد الرحيم أثرا عميقا في نفوسنا يا ندى. فمع أنه كان يمضي أغلب الوقت مغمض العينين نائما أو متظاهرا بالنوم فإننا كنا نشعر بوجوده شعورا قويا. لبثنا طوال اليوم صامتين لا نتبادل سوى عبارات مقتضبة. ولمّا حلّ الليل استقبلناه بقلوب مثقلة بالهم. وقبيل منتصف الليل اقتربت الخطوات الثقيلة المألوفة من غرفتنا، وصاح الحارس بصوته الجهوري: رشاد الهادي.. تحقيق.
نهضت وقد تملكتني رهبة مفاجئة . كان قد انقضى عليّ وقت طويل دون أن أستدعى للتحقيق. تبعت الحارس واجتزنا أروقة متعددة، ثم هبطنا إلى سلّم آخر قادنا إلى الصالة المعهودة. قرع الحارس باب غرفة التحقيق فترامى إلى سمعي صوت ممدوح القوى: "أدخل".
دخلت وأغلق الباب. لاح ممدوح وراء المكتب في موضعه المعتاد و"الدوسيهات" تكاد تحجب وجهه. قال وهو يشير إلى مقعد بجوار المكتب: اجلس يا سيد رشاد.
اتخذت مجلسي وأنا أتلفت حواليّ باحثا عن خليل. رشقني ممدوح بنظرة طويلة ثم قال: أتدري يا سيد رشاد؟! أنت حيّرتنا.
فقلت: لماذا؟
فنهض وراح يقطع الغرفة رواحا وغدوا وقد بدا على وجهه الانشغال. ثم وقف أمامي أخيرا وقال: مهما أحاول أن أقنع نفسي بأنك لست عضوا في "العصبة" فلن أفلح.
وسكت لحظة ثم قال: لماذا لا تعترف يا سيد رشاد؟! لماذا لا تنزل عن بغلتك وتريح نفسك وتريحنا؟! كن واثقا أن الاعتراف لن يستخدم ضدك ولن يترتب عليه ضرر بالنسبة لك. وسنعمل على الحفاظ على كرامتك فلا تخشّ من هذه الناحية.
فقلت: ليس لديّ ما اعترف به.
أطرق ممدوح برهة ثم قال وكأنه يحدث نفسه: ما يحيرنا أن اسمك لم يرد في أي خط من الخطوط أو أية لجنة من اللجان. ولدينا اعترافات كاملة تقريبا في خط المثقفين بمختلف لجانه فقد أثبتم أنكم أجبن الأعضاء، لكنني عاجز عن الاقتناع بأن كاتبا مثلك ليس عضوا في "العصبة". فأنت تتحدث بنفس لهجتهم.
فقلت: هذه هي الحقيقة التي تأبون تصديقها.
فقال: على كل حال أوشكنا أن نقضي على "العصبة" بما حصلنا عليه من اعترافات.
فقلت: ولكن أية أساليب بربرية تلك التي تتبعونها لانتزاع الاعترافات من المعتقلين؟! إنها ستدمغكم أمام التاريخ بالوحشية وستذكرون في الكتب كما يذُكر اليوم هولاكو..
فقال باستنكار: وكيف نحمي نظامنا من أعدائه إذن؟!
وصمت لحظة ثم قال باستخفاف: وعلى أية حال لا يهمنا التاريخ في كثير أو قليل. وليس بك حاجة إلى أن تغلو في القول يا سيد رشاد. فهل نحن أول من اتبع هذا الأسلوب للقضاء على خصومه؟ أبك حاجة لأن أعدّد لك عشرات الأمثلة من الماضي البعيد أو القريب، ومن الوقت الحاضر، على استخدام أمثال هذه الأساليب للقضاء على الخصوم السياسيين! ولو تسلم السلطة غرماؤنا لفعلوا معنا نفس الشيء . لا بد لنا أن نحمي نظامنا بأي ثمن يا سيد رشاد، وهذا الهدف يبرر لنا إتباع أي أسلوب مهما تبلغ قسوته. وقد نجحنا حتى الآن في هذا الأسلوب .
فقلت: وأي نجاح هذا ؟ أفلا ترى أن معتقلاتكم غاصة بأشخاص يرفضون الاعتراف وآخرون ماتوا دون ان يفوهوا بحرف ؟ فأي مستقبل إمامكم لو مضيتم في هذا النهج ؟ إنها حلقة مفرغة لن تنتهي بكم إلى نتيجة . وستسأمون هذا الدور يوما بل ربما انقلب عليكم وتعرضتم لنفس هذا الموقف .
قال ممدوح بسخرية : اطمئن يا سيد رشاد فن نسأم هذا الدور يوما ولن ينقلب علينا ما دامت بيدنا القوة . فقلت : ولكن أليس من الأفضل لكم أن تتعاونوا مع الأطراف الوطنية الأخرى في سبيل خير البلاد بدلا من هذا البطش والتنكيل؟
أجاب بصرامة: إسمع يا سيد رشاد. يجب أن تفهم أننا لن نسمح لأي أحد مهما كان أن يشاركنا في الحكم. أصبح الحكم من مسؤوليتنا. وما على الآخرين إلا أن يسيروا على خطانا ولن نسمح بالمعارضة . يجب أن يخضع الجميع لنظامنا وأفكارنا. ونحن لا نعترف بما يسمى حرية التفكير وتعدد الاجتهادات . وحينئذ لن نمسهم بسوء .
وسكت لحظة ثم أضاف: ولا بد أنك تلاحظ أننا نبرهن على حسن نوايانا فنطلق بين حين وآخر سراح المعترفين. وسنطلق سراحك حالما يثبت لنا أنك لست عضوا في "العصبة".
وسكت ثانية ثم أضاف: وكدليل على حسن نوايانا سننقلك من مكانك الحالي إلى مكان آخر مريح وذلك ريثما تتوفر لنا القناعة الكاملة بأنك لست عضوا.
ثم ضغط على الجرس فدخل الحارس فقال دون أن يلتفت إليه: خذ السيد رشاد إلى الغرفة رقم (14).

وفي الغرفة رقم14عرفت منذ دخلت المعتقل الراحة المادية يا ندى . فقد بدأت أستمتع بالنوم على فراش . وكنت طوال الأشهر الماضية أنام على الأرض العارية أو على بطانية خفيفة. وكانت الأفرشة قد صفت حول الجدران في غير ازدحام، ولم يزد عدد الموجودين على العشرين رغم اتساع المكان وفساحة الغرفة .
ولأول مرة منذ دخلت المعتقل أيضا يا ندى عشت في جو لا يخيم عليه الرعب. فالموجودون في الغرفة قد اجتازوا دورات التعذيب وسجلوا اعترافاتهم. ولم يعد أمامهم من عقاب سوى بعض الركلات واللكمات والصفعات ينالونها من الزوار. وقد وعُد أكثرهم بإطلاق سراحهم. غير أن ظروف الحياة النفسية في الغرفة كانت سيئة للغاية يا ندى. وكثيرا ما ضقت ذرعا بالحياة فيها وتمنيت العودة إلى أية غرفة أخرى. فالتوتر يسود الموجودين دائما. وثمة روح من العداء تثير الخصومات بينهم لأتفه الأسباب. كانت الخصومات تثور كلما أُحضر الطعام فاستأثر البعض بالشيء الأفضل، أو كلما حان موعد الخروج إلى دورة المياه فاختلف البعض عمّن يكون الأول. وكانت الإهانات التي نتلقاها من الزوار والحراس جزءا لا ينفصم من حياتنا اليومية. وكان أعظمنا نصيبا منها الزعيم حسن . وقد عيّن الزعيم حسن ، الذي كان يحمل رتبة زعيم في الجيش، مسؤولا عن الغرفة. فهو يتولى توزيع الطعام والإشراف على نظافة الغرفة وتنظيم الخروج إلى دورة المياه. وكان يلف حول ذراعه قماشه خضراء كتب عليها "انضباط". وكان يتحتم عليه إن يرتدي ملابسه العسكرية الكاملة منذ الصباح المبكر ولا يخلعها إلاّ عتد النوم . وكان حراسنا لا يملون من إهانته والهزء به وكأنه رمز لإذلالنا جميعا.
ذات يوم حضر عدد من الحراس وقد بان الغضب في وجوههم. وسأل أحدهم الزعيم حسن : أين صابونة المغاسل يا طاهر؟
أجاب: هي في مكانها.
فسأله الحارس: أواثق أنت مما تقول؟
فقال: رأيتها قبل قليل في موضعها.
فقال له: إذن اذهب وأحضرها.
مضى الزعيم حسن إلى الحمام ثم رجع مكفهر الوجه. قال في ارتباك: لم أجدها في موضعها.
تساءل أحد الحراس مغضبا: لماذا تكذب علينا إذن يا حيوان؟
أجاب الزعيم حسن : معاذ الله أن أكذب عليكم، لكنها كانت هناك قبل قليل.
قال حارس آخر: لماذا لا تعترف بأنك سرقتها؟
ابتسم الزعيم حسن ابتسامة ذليلة وقال: وماذا اصنع بها؟
قال الحارس الأول: لعله أكلها. هذا الحيوان قادر على التهام أي شيء. فكيف تضخّم جسمه السمين الشبيه بجسم الثور؟
والتفت إليه قائلاً: افتح فمك يا حيوان لأرى إن كنت ابتلعت الصابونة.
أجال الزعيم حسن عينيه في وجوه الحراس حائرا فطالعته نظراتهم الصارمة. وما أن فتح فمه حتى سحب الحارس لسانه وراح يفتش باهتمام داخل فمه بينما غصّ زملاؤه بالضحك. وقال الحارس أخيرا: إنها ليست في فمه، ولكن لعله يخبئها في جيوبه.
وأقبل على جيوب الزعيم حسن يفتشها بدقة ثم أخرج صابونة صغيرة ولوّح بها أمام عينيه. وتساءل مغضبا: ما هذه يا لص؟
أطرق الزعيم حسن ولم يجب. فصفعه حارس آخر وهتف: أتدري ما جزاء السرقة يا حيوان؟ إنه قطع اليد.
ردّ الحارس الأول: لكننا لن نقطع يده رأفة به بل سنعاقبه عقابا بسيطا.
ثم التفت إلى الزعيم حسن قائلا: اسمع يا لص. ستقطع هذا الممر ركضا عشر مرات جزاء لك على هذه السرقة. هل فهمت؟
أجاب الزعيم حسن خافض الرأس: تأمر.
وانقسم الحراس إلى فريقين، ووقف كل فريق على رأس الرواق، ثم صاح أحدهم: "إبدأ". فانطلق الزعيم حسن يجري لاهثا من طرف إلى آخر، وكلما بلغ أحد الأطراف عاجله الحراس بركلة توقعه على الأرض فينهض مسرعا. وضج الرواق بالقهقهات.
حينما انصرف الحراس تهاوى الزعيم حسن على مقعده ووجهه ينضح بالعرق وصدره يعلو ويهبط. ثم أخرج منديله ودفن وجهه فيه وأجهش ببكاء مكتوم. ولم أشعر بالإذلال منذ دخلت المعتقل يا ندى كما شعرت به تلك اللحظة. واجتاحني حزن لاذع وأنا أراقبه. وعجبت لتشبثنا بهذه الحياة.. ألا تعساً لهذه الحياة يا ندى. أيمكن أن يصبر الإنسان على الإهانات إلى هذا الحد تمّسكا بالحياة؟‍‍! أية قيمة للحياة إذا فقد المرء كرامته؟ ومع ذلك فنحن جميعا نتمسك بالحياة بالرغم من أننا فقدنا كرامتنا. إن كلاّ منّا يدرك أنه غدا بلا كرامة ومع ذلك فهو يتعلل بالأسباب ليتشبث بالحياة. وقليل منا من وجد الجرأة للتخلص منها. كلنا يتعلق بالحياة مختلقين لأنفسنا الأعذار الواهية، فلماذا؟ لماذا لا نمتلك الجرأة على العيش بكرامة أو الموت بشجاعة؟‍ولكن الحياة عزيزة يا ندى. وكلما أحسّ الإنسان بخطر يهدد بفقدها اشتد تمسكه بها. إنه يكتشف فيها صوراً من المتعة لم تكن قد استرعت انتباهه من قبل.. صورا كانت تحيا معه وتطالع عينيه صباحا ومساء دون أن تلفت انتباهه!
ولم يكن الزعيم حسن وحده هدفا للإهانات يا ندى. كانت الإهانات توزع بعدالة على الجميع. كانوا يذكروننا بذّلنا وهواننا دوما. وذات مرة حضر ثلاثة من الزوّار إلى غرفتنا يصحبهم عدد من الحراس وراحوا يستعرضون أسماءنا في تلذذ ويشفعون استعراضهم بالركلات واللكمات. ولما انتهوا قال أحدهم مخاطبا رفاقه: انظروا إليهم.. إنهم يلوذون بعضهم ببعض كالجرذان الخائفة.
فقال الثاني في احتقار: لأنهم جبناء ولسوا شجعان مثلنا .
فقال الثالث: ثبت أنهم جبناء لا يحسنون سوى الكلام.
وقال أحد الحراس: إنهم يتسابقون على اعترافاتهم كما يتسابق الدود على قطعة الحلوى كلما هززنا السوط في وجوههم.
قال الزائر الأول: ذلك لأنهم "مخانيث" جبناء.
ثم التفت إلى الزعيم حسن وقال باحتقار: انظروا إلى "انضباطهم".. إنه يقف كالعبد الذليل. من يصدق أنه كان تحت إمرته فرقة كاملة من الجيش تمكنه من السيطرة على البلد بأكمله ؟
تحولت أنظار الحراس والزوار إلى الزعيم حسن وبصق أحد الزوّار في وجهه وقال بازدراء: لو كنت مكانه لأفرغت رصاص مسدسي في رأسي، لكنه جبان.
قال زائر آخر وهو يجيل أنظاره في وجوهنا باحتقار: إنهم جبناء جميعا ولا يحسنون سوى الكلام . فإذا حانت ساعة العمل فروا من الميدان كالخفافيش .. إنهم مجموعة من "المخانيث". تلك هي حقيقتهم.
انصرف الزوار فجثم على غرفتنا صمت خانق. ولم يجسر أي منا على النظر في وجه صاحبه. وأخيرا غمغم فريد وكأنه يحدث نفسه: نحن مجموعة من الجبناء فعلا. تلك هي الحقيقة.
كان فريد أشد الموجودين صمتا وانطواء. لم يكن يخالط أحدا إلا بقدر ما تفرضه ظروف الحياة في الغرفة. وكان يبدو على الدوام شاردا غير راغب في الحديث. فرد عليه إبراهيم الذي كان أكثر الموجودين لهفة على مغادرة المعتقل: أرجوك. ليس من حقك أن تتحدث عن غيرك. لسنا جبناء .
قلت في رفق: لا تجلدوا أنفسكم إلى هذا الحد يا إخوان . ولا تنسوا نضالكم وتضحياتكم في سبيل خير البلاد والعدالة الاجتماعية .
فقال فريد في تهكم مرّ : ولكنها الحقيقة مع الأسف يا اسناذ رشاد . فلماذا نتهرب منها ؟ وكيف لا نكون جبناء؟! ألم يكن الأجدر بنا أن نتصدى لهم ونحاربهم إلى آخر رمق؟ الم يكن المفروض بنا أن نستعد لمجابهتهم ؟ ولكننا بدلا من ذلك شغلنا بالنقاشات الفارغة .
قال إبراهيم في صلف: لكننا لسنا جبناء، وإذا حلا لك أنت أن تؤمن بذلك فتحدث عن نفسك ولا تتحدث عن غيرك. لقد تمسكنا بالصمود قدر طاقتنا.
قال هشام: نحن المعترفين نستحق جميعا الدفن تحت التراب جزاء لاعترافنا. أما أعذارنا فلا تبرر فعلتنا، فمازال المئات من رفاقنا صامدين وقد مات منهم الكثيرون دون أن يعترفوا.
تساءل هاني: وكيف يتساوى المعترفون جميعاً؟ ألا يوجد فرق بين الشخص الذي يعترف بالقدر الذي يمسه شخصيا ويكتم بقية الأسرار والشخص الذي يعترف بكل شيء حتى قبل أن تمتد إليه يد ؟
قال هاشم ساخرا: وما رأيكم إذن في من يتبرع بالإدلاء بمعلومات جديدة يزعم أنه تذكرها ليثبت أنه تائب توبة نصوحاً. وهو لا يخجل من القول فلنبريء ذمتنا !
قال إبراهيم مغضبا: أرجوك.. لا داعي للغمز واللمز.
التفت إليه هاشم وقال ساخراً: وما شأنك بهذا الكلام؟ إنني لم أذكر اسما معينا فلماذا تفسره ضدك؟
أجاب إبراهيم بحدّة: لأنني أعلم من تعني بهذا الكلام، وليست هذه هي المرة الأولى التي تكرر فيها الغمز واللمز. وستضطرني إلى اتخاذ موقف رادع ضدك.
تساءل هاشم هازئا: وبماذا تخوّقني أيها البطل؟ هل ستنسب لي أقوالا وتبلغها للهيئة التحقيقية؟ إذن فأعلم أن المبلل لا يخشى المطر.
صاح إبراهيم: من أنت حتى توزع الإهانات على الآخرين يمينا وشمالا؟ إذا كنا نتحاشى المشاكل فلا يعني ذلك أننا لا نملك الوسائل لتأديبك.
صرخ هاشم: إخسأ أيها الجاسوس الحقير. أأنت تؤدبني؟
فرد إبراهيم صارخا: نعم أنا أؤدبك وأؤدب من هو أكبر منك.
وانقض هاشم فجأة على إبراهيم وتشابكا بالأيدي وتطايرت شتائمهما. وتعالى الصراخ، وحدث في الغرفة هرج ومرج. فدخل الحارس مسرعا وهو يتنكب رشاشته وصاح غاضبا: ماذا جرى؟ هل عدتم إلى الشجار أيها الجبناء؟ أنتم تعضون بعضكم بعضا كالكلاب.
افترق المتخاصمان في الحال وانسحب كل منهما إلى موضعه وهو يلهث. ووقف الزعيم حسن في وسط الغرفة وقفة عسكرية وهو خافض الطرف. التفت إليه الحارس وتساءل ساخرا: لماذا لم تعمل على فض الخصام أيها الحيوان؟
فقال الزعيم حسن في ارتباك: الحقيقة أنه كان خلافا بسيطا، وقد تطور فجأة إلى التشابك بالأيدي.
قال الحارس في احتقار: افتعجز إذن عن حل خلاف بسيط؟‍‍‍‍! كيف بلغت هذه المرتبة في عصبتكم؟
ورمى الحارس هاشم وإبراهيم بنظرات شزرة، ثم تساءل: من منكما البادئ؟
قال إبراهيم في خنوع: لست أنا البادئ فأنا لا أحب المشاكسات ولا أريد أن أخلق المشاكل لكم. إنني أقدر ظروفكم وأعلم أن أعمالكم الكثيرة لا تسمح لكم بالانشغال في هذه الأمور. ولكنه يحاول استفزاز الجميع بكل طريقة ويستدرجهم إلى الدخول في معارك معه.
التفت الحارس إلى الزعيم حسن وسأله: ما رأيك أيها "الانضباط" الهمام؟ من كان البادئ فيهما؟
قال الزعيم حسن متلجلجا: الحقيقة.. الحقيقة أن هاشم كان هو البادئ في الضرب.
وكان هاشم قد بقي صامتا وهو مقطب الوجه. فالتفت إليه الحارس وقال مهدد: إذا لم تكف عن هذا السلوك يا حيوان فسأبلغ "الهيئة" لتجد لك حلا. والآن سر أمامي لنمضي يومك في المرحاض.
نهض هاشم متثاقلا واتجه نحو الباب، فدفعه الحارس أمامه دفعة قوية وأغلق الباب. وما أن غابا حتى خطا الزعيم حسن نحو مقعده وتهاوى عليه. ثم زفر زفرة حارة وغمغم: غفرانك اللهم. ألا تكفينا إهاناتهم حتى يهين بعضنا بعضا؟
وران على الغرفة صمت حزين.
ولم نكن نلتقي بنزلاء الغرف المجاورة يا ندى إلا لقاءات خاطفة حينما نخرج إلى دورة المياه. وكانت غرفتنا تقع في الدور الأول في نهاية الرواق.وهنالك ثلاث غرف أخرى تطل بأبوابها على الرواق نفسه وهي تشترك بدورة مياه واحدة. ومع أن نزلاء هذه الغرف جميعا من المعترفين أو أشباههم، لكن لقاءاتنا لم تكن تنجو من مراقبة الحراس. ولم تكن اللقاءات مجدية إلا فيما نتبادله من أخبار عن المعتقل والمعتقلين. وكانت تلك الأخبار تنتقل من شخص إلى آخر وتلف في المعتقل كله، ثم تعود إلينا مع بعض الإضافات أو التحوير. وكانت الأخبار تدور حول المعتقلين الجدد والذين ماتوا في التعذيب والذين أطلق سراحهم. أما أخبار الخارج فكانت غامضة ونزرة. وكانت تتحدث عن الرعب المخيم على البلاد والإرهاب الذي يجثم فوق صدور الناس.
ولم يكن نزلاء غرفتنا على مقدرة واحدة في التقاط الأخبار. كان بعضنا يخشى أن يضبطه الحراس وهو يتبادل الكلام مع زملاء الغرف الأخرى فيتعرض لعقوبة الحبس في المرحاض. وكان بعضنا الآخر يرتاب من وجود الجواسيس بيننا فيعزف عن الكلام والاختلاط. وكان صبري أعظم نزلاء غرفتنا مقدرة على التقاط الأخبار فأطلقنا عليه لقب "مذياع الغرفة رقم 14".وكلما خرج إلى دورة المياه رجع إلينا وفي جعبته أخبار جديدة. لذلك كنا تنتظر عودته باهتمام.
ذات يوم عاد صبري وهو بادي الانفعال. وما كاد يستقر في موضعه حتى قال : عندي لكم خبر سار
فقال إبراهيم في تهكم : وهل يمكن أن نسمع خبرا سارا في مثل هذا المكان ؟
فقال صبري : ممكن فعلا . فقد التقيت بشخص من معارفي القدماء ممن اعتقل حديثا وبشرني بثورة قريبة . تساءل ابراهيم في تهكم : ومن الذي سيقوم بالثورة؟
أجاب صبري: الشعب طبعا.
قال إبراهيم متهكما: أي شعب؟! نحن نعلل أنفسنا بالأماني ولا نريد أن نعترف بأن شعبنا قد مات. ماذا صنع لنا الشعب ونحن نرسف في هذا المعتقل ونقاسى ألوان العذاب؟ لم يعد أحد في الخارج يهتم بمصيرنا. إنهم مهتمون بالمحافظة على أنفسهم فحسب وكأننا لم نصل إلى هذا الحال بسبب دفاعنا عنهم.
فقلت في رفق : لا تقل هذا الكلام يا إبراهيم. صحيح أن الطغيان قد أسكت الشعب إلى حين لكنه لن يصبر طويلا وسترى كيف سيهب في الوقت المناسب.
قال إبراهيم بلهجة ساخرة: هذا كلام نعزي به أنفسنا با أستاذ رشاد . فالشعب لا يكترث بتضحياتنا. لقد اعتدى عليّ أحد الجنود عند اعتقالي اعتداء وحشيا، وكان أشد المتحمسين لقتلي. أفلم يكن يدرك أنني انتهيت إلى هذا المصير دفاعا عن أمثاله من أبناء الشعب المسحوقين ! كيف تطوع لضربي بدلا من أن يدافع عني؟! ألا يشعر أمثال هؤلاء الناس بفداحة تضحياتنا؟ نحن الخاسرون ولا أحد غيرنا . لقد لقتني ما جرى لنا درسا بليغا. إن العمل في سبيل الشعب خدعة نضحك بها على أنفسنا. وما كان أغنانا عن زجّ أنفسنا بهذه المشاكل .
قال فريد بلهجته الهادئة: إن طريق النضال من أجل الشعب شاق وطويل، وعلى من يأنس من نفسه الخور ألاّ يزج بنفسه في هذا الطريق. وهناك مئات الأبطال قضوا زهرات عمرهم في السجون الرهيبة والمعتقلات المهلكة وتحملوا صنوف التعذيب والاضطهاد والإذلال دون أن يكفروا بالشعب. وإن صمود أمثال هؤلاء الأشخاص هو الذي يطيح بالأنظمة المستبدة في النهاية. وإن أصحاب العقائد ملزمون بالتضحية في سبيل عقائدهم وليس الأمر منّة أو فضلا على أحد.
هزّ إبراهيم رأسه في استهانة وقال: سيندم أمثال هؤلاء على هذه البطولة الفارغة. وقد ضاع عمرهم هباء. فقلت برفق : لا يا إبراهيم .. لا تقل ذلك . لابد أن يكون لكل إنسان واع موقف من الحياة ومما يجري حواليه وأن يسهم في صنع الخير للآخرين وإلاّ ما اختلف عن المخلوقات الأخرى التي تمارس حياتها الفسيولوجية مثله . فقال فريد : هذا هو القول الفصل . وأنت يا أستاذ رشاد اكبر شاهد عليه . فمع أنك لست عضوا في العصبة إلاّ انك لم تتذمر يوما مما لقيته من معاناة هنا . ولم تفارق الابتسامة وجهك لأنك مؤمن بالشعب وبالخير العام .
فقلت : هذا واجبي كمواطن واع وككاتب يا أخ فريد . فأنا أعتقد أن الكتّاب ملزمون بالدفاع عن أبناء شعبهم .
تناهت إلى أسماعنا أصوات أقدام كثيرة في الرواق فهبّ الزعيم حسن واقفا ونظر من ثقب الباب. قال باهتمام وهو يقف استعدادا: كفى نقاشا. إنهم قادمون.
توقفت الخطوات عند الباب ثم فتح ودخل ممدوح يحيط به ثلة من الحراس. ألقى علينا التحية وأجال أنظاره في وجوهنا ثم تساءل في قحة : كيف أحوالكم؟! هل أنتم مرتاحون؟
ردّ إبراهيم بحماس: نحن مرتاحون جدا.. شكراً جزيلاً. كل شئ موفر لنا.
قال ممدوح وهو يهز رأسه الكبير: حسن.. حسن.
ثم أضاف وهو يخرج من جيبه ورقة وينظر فيها: عندي لكم بشرى. كتبنا إلى المراجع المختصة لإطلاق سراح الأشخاص التالية أسماؤهم: إبراهيم محمود ونعيم سلمان ورشاد الهادي.
هتف إبراهيم فرحا: تحيا العدالة.
طوى ممدوح الورقة وأعادها إلى جيبه ثم وقال: أما الآخرون فلا ييأسوا. فنحن نعد قائمة أخرى وسنبعثها قريبا إلى المراجع المختصة.
وعاد إبراهيم يهتف بحماسة: تحيا العدالة.
سرّح ممدوح أنظاره في وجوهنا في زهو ثم قال مبتسما: حظ طيب للجميع.
واستدار يتبعه الحراس وغادر الغرفة. وخلفت زيارته أثرا سيئا فينا وخيم علينا جو من الكآبة والخيبة. وشمل الوجوم الجميع عدا إبراهيم الذي بدا عليه سرور جارف. قال صبري بمرارة: إنهم وعدونا بإطلاق سراحنا حالما تتم اعترافاتنا. وها نحن أؤلاء منذ أسابيع نقاسى في هذه الغرفة من صنوف الإهانة والذل وكأننا في قفص للقرود.
تساءل هاشم: أما كان الموت أجدر بنا؟!
فقال هاني: كان حالنا أفضل قبل أن نسجل اعترافنا. كنا نحترم أنفسنا على الأقل.
قال إبراهيم ووجهه يفيض بشرا: لماذا تيأسون؟ سترسل أسماؤكم قريبا إن شاء الله.
قال هشام ساخرا: نعم سترسل أسماؤنا بعد أن نكرع كأس الذل حتى الثمالة. أية حياة نقضيها بين جدران هذه الغرفة؟! الكل يهيننا. الحراس والزوار وكل من هبّ ودبّ، حتى المشخصون.
قال هاني: نحن في قفص للقرود فعلا، وسيحتفظون بنا في هذا القفص أطول مدة ممكنة ليتسلوا بنا.
انقضت أسابيع على البشرى التي زفها إلينا ممدوح يا ندى ولم يرد الجواب. وكان أملنا نحن الثلاثة، إبراهيم ونعيم وأنا، يغيض يوما بعد يوم . وكان إبراهيم أشدنا لهفة لورود الجواب. وأصيب بما يشبه الهوس. صارت قائمة إطلاق السراح شغله الشاغل. وراح يحاول استقاء أخبارها من نزلاء الغرف الأخرى. وكثيرا ما عرّضه ذلك إلى الحبس في المرحاض. وكان إلحاحه يثير غضب الآخرين، لكنهم كانوا يحاولون جهدهم تجنب الاحتكاك به. ولم يستطع هاني الصبر يوما فقال له بينما كان يروي آخر أخبار القائمة: مالك تتشبث بهذه الأوهام يا إبراهيم؟ ألم تدرك بعد أن الأمر ليس سوى خدعة لئيمة؟
أجاب إبراهيم مستاء: ماذا تعني؟ أتعني أنهم لم يرسلوا أسماءنا إلى المراجع المختصة؟ أتريد أن تشكك في هذه الحقيقة لأن أسمك لم يرد في القائمة؟
فقال هاني: أنا لا يهمني إن بقيت أو خرجت فلست مسؤولا عن عائلة مثلك. ولكن أفتحسب أنهم لا يستطيعون التعجيل بإطلاق سراحك لو شاءوا؟
أجاب إبراهيم: هناك إجراءات لا بد من استكمالها. لكن التشكيك في القائمة أمر لا يخدم أحدا. إنه ليس في مصلحتكم. فسيحل اليوم الذي تُرسل فيه أسماؤكم أيضا.
قال هشام في سخرية مرة : لا أحد منّا مستعجل في الخروج خصوصا وأننا بارعون في تنظيم شؤوننا في السجون .
قال هاشم: على كل حال لسنا متلهفين جميعا على الخروج، فسواء أطلق سراحنا أم لم يطلق فسنظل نعيش في سجن ما دام هؤلاء الطغاة في الحكم. هل نستطيع أن نتصرف كالأحرار لو خرجنا من هذا المعتقل؟ هل نستطيع أن نمارس حياتنا الاعتيادية؟ ستحصى علينا حركاتنا وسكناتنا. بل أنفاسنا، وسيضايقوننا في أرزاقنا ويغلقون أبواب العمل في وجوهنا. ألم يفصلوا الآلاف منا من وظائفهم وأعمالهم ويتركوا أسرهم صرعى الفاقة والحرمان؟
قال صبري: لو كان في استطاعتهم لأبادونا كما فعل هتلر باليهود. فما هم سوى برابرة .
فقلت وأنا أهز رأسي : صدقت يا صبري .
وصمت الجميع مقهورين. وتأملت الوجوه التي باتت رمزا لليأس والعذاب يا ندى وقلبي يطفح بالألم. وخيّل إليّ أن سعادة الوجود كلها عاجزة عن محو صور الحزن من ذهني.. كثيرا ما حلمت يا ندى باليوم الذي يُطلق فيه سراحي منذ أُخبرنا بنبأ "القائمة". وكثيرا ما تخيلت السعادة التي ستغمرني باجتماع شملنا. وكنت أسائل نفسي : أحقا أنني سأفيق من نومي صباحا فأجدك بجواري؟ أحقا أنني سأرى أطفالي وهم يتراكضون بمرح وضحكاتهم الطفولية تملأ أرجاء البيت؟! أحقا أنني سأنام على فراش وثير وأغتسل متى أريد وأذهب إلى دورة المياه متى أشاء؟ أحقا أنني لن أغفو على صرخات المعذبين وتنهدات المتألمين وأنين المجروحين؟ أحقا أنني لن أصحو على صرخات الحراس وشتائمهم واهاناتهم؟ أحقا أنني لن أرى الجدران الملوثة بالدماء حيثما التفتّ، ولن تصطدم عيناي بالجرحى والمشوهين حيثما اتجهت؟ أحقا أن كل ذلك سيحدث لي؟ أية سعادة إذن تلك التي تترقبني يوم إطلاق سراحي! ولكن ما أن تمر صور المعتقل في ذهني يا ندى حتى أنتبه من أحلامي مذعورا وتتبدد صور السعادة المأمولة من ذهني كما يتبدد الدخان في الهواء! وكنت أناجيك قائلا : إن سعادتنا ولّت يا ندى ولن تعود إلينا ما دامت الحياة تضج بالشقاء من حولنا. كيف سأنسى عويل المعذبين وصراخهم؟ كيف سأنسى أنين الجرحى وتأوهاتهم؟ كيف سأنسى العذارى اللواتي دنّس عفافهن والزوجات اللواتي يرمضهن الشوق إلى أزواجهن؟ وإذا تهيّأ لي أن أغادر هذا المعتقل يوما يا ندى فكيف سأنسى أنني خلفت فيه ورائي آلاف الأشخاص الذين ينتظرون مصيرهم في يأس وعذاب والذين تمتهن فيه كرامتهم الإنسانية بأبشع الصور ؟ وكيف لي أن أتعايش مع مثل هذا النظام ؟
وحلّ اليوم الموعود أخيرا يا ندى. أقبل الحارس على غرفتنا قبل أن ينتصف الليل ونادى: رشاد الهادي.. تعال معي.
تبعت الحارس والأفكار تضطرب في رأسي. أهو تحقيق جديد؟ لكن التحقيق انتهى معي منذ وقت بعيد. أهو إطلاق سراحي؟! لكنني لست الوحيد الموعود بإطلاق السراح، وهناك زميلان آخران في الغرفة معي.
استأذن الحارس في دخولي فسمعت ممدوح يقول: "ادخل". وعندما دخلت طالعني رأسه الضخم خلف المكتب. أشار إلى مقعد قبالته وقال: أجلس يا سيد رشاد.
جلست وأنا أتطلع إليه بقلق. رفع عينيه إلى وجهي وتفرس فيه لحظات مفكرا ثم قال: أنا أعلم أنك حاقد علينا يا سيد رشاد، لكنني أحب أن أؤكد لك بأننا كنا نود أن نجنبك هذه التجارب، لا حبا فيك، وأصارحك القول، ولكن لئلا نفسح لك فرصة لمعرفتها. وعلى أية حال فلم يكن في الإمكان تجنب ذلك لأننا كنا نعتقد أنك عضو في "العصبة" بل أحد أقطابها. وكان لابد لنا أن نحاول انتزاع الاعتراف منك بكل طريقة ممكنة. لكننا لا نقوم بهذا الإجراء حبا في الانتقام بل تحقيقا لواجب جوهري، وما دام قد ثبت لنا أنك لست عضوا في "العصبة" فلم يعد هناك ضرورة لبقائك في المعتقل. وقد ورد كتاب إطلاق سراحك اليوم، واعتبر نفسك حرا منذ الساعة.
فقلت: شكراً.
استمر ممدوح يطالعني بنظراته القوية ثم قال بنبرة حادة: ولكن لابد لي أن أحذرك يا سيد رشاد بضرورة الامتناع عن قول كل ما من شأنه أن يؤذي سمعتنا. فالناس يجهلون ما يجري في هذه الأماكن ولا نريد أن نفسد عليهم راحتهم. وقد سبق لي أن قلت لك إننا لا نتساهل مع أي شخص يحاول إبعادنا عن الحكم، وقد اطلعت على أساليبنا. فإذا كنت تتمتع بشيء من الحكمة فلا ريب أنك ستعمل بالمقولة: "السكوت من ذهب".
فتمسكت بصمتي وأنا خافض النظر. فأضاف ً: إنني أردت أن أذكرّك لا أكثر فأنا مطمئن إلى أنك ستكون حكيما. والآن أكرر لك التهنئة باستعادة حريتك.
وقرع الجرس فظهر أحد الحراس فقال له: اصحب السيد رشاد إلى منزله فهو مطلق السراح.
خرجت بصحبة الحارس، وما أن هبطنا إلى الباحة حتى وجدت سيارة صغيرة في انتظاري . تقدم مني الحارس وقال وهو يعصب عيني: هذا الإجراء ضروري لمقتضيات الأمن يا أستاذ.
جلست بجوار الحارس، وانطلقت بنا السيارة في ضوضاء وصخب. وبعد برهة رفع الحرس العصابة عن عيني. مددت بصري إلى الشارع فإذا به خاو ساكن تخيم عليه الوحشة والصمت. وبدت لي أعمدة الكهرباء برؤوسها المشعة كعمالقة تنظر إلينا بسخرية. واجتاحتني كآبة حادة. وامتلأت مخيلتي بصور المعتقل الرهيبة. وألحّ على ذهني سؤال كوخز السكين يا ندى : هل صحيح أن غرماءنا يدافعون عن عقيدة معينة وأن اختلافنا معهم مسؤول عن هذا الحقد الأسود وهذا البطش وهذه القسوة ؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فهل يعني ذلك ان أبناء الوطن الواحد لا يستطيعون العيش في تصالح وسلام إذا اختلفت عقائدهم ؟

- تمّت -










#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - السؤال؟!!