أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - اوراق رئيس















المزيد.....



اوراق رئيس


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2503 - 2008 / 12 / 22 - 06:24
المحور: الادب والفن
    


(رواية) الطبعة الأولى ‏2000‏
استهلال

حينما رفعت سماعة التلفون متسائلاً عن المتحدث دهشت أشد الدهشة للجواب الذي تلقيته.
- الأستاذ عادل الأمين؟
- نعم.
- أنا راشد الفرحان مدير ديوان الرئاسة.
- أهلاً وسهلاً أستاذ راشد. كيف حالك؟
- بخير. وأنت كيف حالك يا أستاذ عادل؟
- أنا على خير ما يرام.
- يسرني ذلك.. أستاذ عادل. هل يمكنكم الحضور إلى ديوان الرئاسة في أي يوم وساعة يسمح بها وقتكم؟
ترددت في الجواب ثم قلت: إذا كان ذلك ضرورياً.
- إنه ضروري يا أستاذ عادل.
- إذن فسأحضر صباح غد الساعة العاشرة صباحاً.
- شكراً جزيلاً على تلطفكم.
وضعت السماعة وأنا أضرب أخماساً بأسداس. ماذا وراء هذه الدعوة إلى ديوان الرئاسة؟ إنني أعيش على هامش الحياة السياسية منذ سنين طويلة وليست لي أية صلة أركان الحكم ولا برجال الحزب. فما الذي ذكرّهم بي في ديوان الرئاسة؟
استقبلني راشد الفرحان بحفاوة وظل لدقائق يردد عبارات الترحيب.
- خير يا أستاذ راشد. أرجو ألاّ يكون الأمر متعلقاً بالسياسة أو بأي عمل وظيفي فأنا لا انفع في كلا هذين الحقلين.
ضحك الأستاذ راشد وقال بلطف: أنت قطعت خط الرجعة علينا يا أستاذ عادل وحرمت البلاد من خدمات شخصية عظيمة.
- أشكرك يا أستاذ راشد. أنا أخدم البلاد في حقل اختصاصي وهو القانون . فما المطلوب مني إذن؟!
اكتسى وجه الأستاذ راشد بطابع الجدّ وهو يقلّب بين يديه مظروفا كبيراً. قال وهو يتأملني بنظرات حائرة: وجدنا بين أوراق الرئيس المرحوم هذا المظروف المغلق وعليه اسمك يا أستاذ عادل. ولا أخفي عليك أن اللجنة التي أوكل إليها فحص أوراق الرئيس ترددت في اتخاذ القرار بصدد هذا المظروف. وكان رأيها منقسماً بين تسليمه إليك أو الاحتفاظ به كإرث خاص بالدولة. وأخيراً استقرّ رأيها على احترام رغبة الرئيس.
ثم نهض وأودع المظروف بين يديّ. قلت في دهشة وأنا أقلّب المظروف: ولكن لماذا يوصي الرئيس بتسليم هذا المظروف إليّ؟ فأنا كما تعلمون لم يعد لي صلة به منذ سنوات طويلة.
- نحن جميعاً نعرف ذلك. وهذا ما أثار حيرة أعضاء اللجنة. وكان مما عمقّ الانقسام بينها ما قد يحتويه المظروف من أسرار قد تمسّ أمن الدولة. ثم استقر رأيها على تسليمه إليك احتراماً للصداقة القديمة التي كانت تربطكما. وخمنّ غالبية أعضاء اللجنة أن المظروف قد يشتمل على معلومات شخصية لم يكن الرئيس يرغب في أن يطلّع عليها أحد سواك. واحترمت اللجنة رغبته.
قلت وأنا أقلّب المظروف بين يدي: الحقيقة أنني مثلكم مندهش من توجيه هذا المظروف إليّ وأعجب ما الذي يمكن أن يضّمه. فأنتم تعلمون أنه لم تعد تربطني بالرئيس أية صلة فضلاً عن أنني تركت العمل السياسي منذ سنين بعيدة.
- وهذا أمر مؤسف يا أستاذ عادل. وكثيراً ما تحدثنا في الحزب عن الخسارة العظيمة التي مُنِيَ بها حزبنا بسبب اعتزالك النضال السياسي. لكن الحزب احترم رغبتك ولم يشأ أن يتدخل في حياتك الشخصية.
قلت وأنا ما أزال أقلّب المظروف بين يديّ: هل لي أن أسأل إذن عن موقفي من هذا المظروف بعد أن أطلّع على محتوياته؟
- موقفك هو موقف شخصي يا أستاذ عادل ولم يعد للدولة علاقة بالأمر.
وأنا في طريقي إلى مكتبي والمظروف يرقد في حقيبتي مرت بذهني ذكرياتي مع الرئيس وكأنها شريط سينمائي. فقد تزاملنا منذ الطفولة. وتواصلت زمالتنا أثناء الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية ولم نفترق أبداً، وقد ربطت بيننا صداقة متينة. وكنّا أبناء محلة واحدة. وكان أبوه يمتلك في المحلّة دكاناً صغيراً لبيع مواد العطارة، وكان معروفا بولعه بالخمرة وقسوته على عائلته. وكان أهلي يرسلونني لشراء بعض الحاجيات من الدكان فكنت أراه هناك. وكان يثير عطفي لما كنت أسمع عن قسوة أبيه. وكان أبوه يبدو لي غليظا بوجهه المتجهم وعينه المطموسة.
ولقد انعقدت الصلة بيننا منذ سنتنا الأولى في المدرسة. فقد كنا نسلك درباً واحداً إلى المدرسة. وكثيراً ما التقينا في الدرب فلعبنا معا. وقد بقى طوال مراحله الدراسية متمسكاً بصداقتي . وكان بعض غلاظ التلاميذ يضطهدونه لرثاثة حاله ووضاعة منظره. وكنت أتصدى لهم لكنه كان يتحاشاهم دوما.
كان يبدو دائماً ذليلاً مسكينا. وكان يزيد من مسكنته جسمه الضئيل وملاحمه غير الجذابة. وكان ذلك يزيدني عطفاً عليه. ومما ضاعف عطفي عليه أيضا عجزه الدائم عن مواجهة نفقات المدرسة.
فكنت أمدّ له يد المساعدة قدر استطاعتي. فكان يتقبل مساعدتي بامتنان ويقول لي وهو يرمقني بنظرات شاكرة: أنت أخي الذي لم تلده أمي يا عادل.
وكان يدهشني بصبره العظيم على ظروفه القاسية. فطوال سنين زمالتنا لم يفه بكلمة واحدة عما تعانيه أسرته من عسر. ولم يثبّط هذا العسر من حماسه للدراسة. ولم يتغيب يوماً عن الدروس. ولذلك فوجئتً ونحن في المرحلة الثانوية بتغيبه عن الدروس الأخيرة . وحينما سألته عن السبب حاول التملص من الجواب .ً ثم اعترف لي بأنه يحب فتاة وأن مواعيد لقائهما تتعارض والدروس الأخيرة. فأثار اعترافه استنكاري ولمته لوماً شديدا، فوعدني أن يوفق بين مواعيده الغرامية والدروس. ووفى بوعده فعلاً فلم نتطرق إلى الموضوع ثانية . وبعد أشهر اعترته حالة من الكدر الشديد، وكان يبدو طوال الوقت ساهماً شارداً. فعزوت حالته إلى مشاكل عائلية. ثم انقطع فجأة عن الدراسة. فقصدت الدكان للسؤال عنه، فاستقبلني بوجه كاسف. وما أن سألته عن سبب تغيبه حتى قال بلهجة معادية: لن أعود إلى المدرسة يا عادل فهي لن تنفعني بشيء.
فبهت لجوابه وظللت أتطلع إليه مذهولاً. فأطرق خجلاً وقال من دون أن ينظر إليّ: أنا متأسف لخشونتي يا عادل لكنني اقتنعت بأن أمثالي من البشر لا مستقبل لهم.
فتساءلت مستغرباً: ولكن لماذا؟!
فلبث صامتاً لحظات ثم قال بلهجة منسحقة: حبيبتي غدرت بي يا عادل وتزوجت من رجل غنيّ.
فقلت : إذن فما عليك إلا أن تبرهن لها انك أفضل من الرجل الذي تزوجته. ولن يتمّ لك ذلك ما لم تعد إلى المدرسة.
وعاد إلى المدرسة في اليوم التالي لكن وجهه بدا صارماً متجهماً. وقلّ كلامه ولم يعد يفتح فمه إلا مضطرا. وكنت في بداية مرحلة الدراسة الثانوية قد انتسبت إلى الحزب. ويومها بدا لي أن أجتذبه إليه أيضا. لكنه اعتذر قائلا : "أنا لا ناقة لي ولا جمل في السياسة يا عادل". وحاولت أن أغريه بالعمل السياسي فقلت له: "السياسة ستخلق لك شخصية مهمة وربما صار لك شأن". لكنه ظل محجماً عن الاستجابة لدعوتي، ثم فوجئت به يوماً يفاتحني برغبته في الانتساب للحزب. فرحبت برغبته وعملت على ضمّه. ومنذ البداية أبدى التزاماً قوّياً بحضور الاجتماعات الحزبية حتى أنه لم يكن يتغيب عن أي منها. وكان أثناءها يمضي الوقت صامتاً يستمع إلى ما يدور من نقاش في انتباه شديد. ولم يقتصر التزامه على حضور الاجتماعات ومتابعة النقاشات التثقيفية بل انكب على قراءة الكتب الرصينة. وكان قد تعوّد من قبل على القراءة الخارجية. وكنت أنا الذي شجعته على ذلك بما كنت أُعيره من كتبي. وكانت كتباً أدبية وروايات. لكنه أقبل هذا الحين على قراءة الكتب السياسية والفلسفية. وكنت أرقب هذا التحوّل في شخصيته وأنا ممتلئ سروراً. وكنت أعبرّ له عن سروري وإعجابي بشخصيته الجديدة فيبتسم ابتسامة حزينة ويقول وهو يهز رأسه: "ليس الإنسان إنساناً إذا لم يتعلم من أحداث الحياة يا عادل".
ولم أكن وحدي المعجب بنشاطه الحزبي بل شاركني إعجابي جميع زملائنا في الحزب. وتنامى تقدير وإعجاب زملائنا الحزبيين به على مرّ الأيام. ففضلاً عن التزامه الشديد بواجباته الحزبية أخذت تظهر في النقاشات الحزبية نتائج قراءاته الواسعة. وكلما مضت الأيام اشتد إخلاصاً للحزب وتفانيا في خدمة أهدافه. فكان يتصدر صفوف المظاهرات التي يشارك فيها الحزب ضد السلطة غير مبالٍ بالأخطار. وكان يتولّى تنفيذ أخطر المهمات الحزبية بشجاعة نادرة. ونال بذلك إعجاب قادة الحزب وأعضائه الكبار. بل إنه صار موضع ثقة الحزب في المهمات الصعبة. ولم يكن يتقاعس عن أية مهمة يوكلها له الحزب مهما تكن خطورتها. وبات مضرب المثل في جرأته.
وأخيراً نجح الحزب في الاستيلاء على السلطة. وكانت فرحتي بالطبع غامرة وخيل إليّ أن آمالنا في تمتع الشعب بالحياة الحرة الكريمة باتت على وشك التحقق. وكانت فرحته لا تحدّها حدود. وراح يردد وهو يطلق قهقهات مبتهجة: "أخيراً ستتحقق آمالنا يا عادل".
وكان نجمه في الحزب قد صعد صعوداً صاروخياً وغدا من أبرز شخصياته الشابة. ومنذ تولى الحزب الحكم بدأت تظهر في صفوف القيادة تيارات غير صحية. وشيئاً فشيئاً عمد الحزب إلى نفس أساليب الحكومات البائدة في احتكار السلطة. وأندفع في طريق كبت حريات الشعب وملاحقة كل معارض لتوجهاته. ووقفت أنا ومجموعة من شباب الحزب في وجه هذا التيار لكننا لم نفلح. وكان أشد ما أحزنني تأييده لتوجهات الحزب الاستبدادية. ولقد أثار استغرابي في تحمّسه القوىّ لانفراد الحزب بالسلطة. وفشلت في إقناعه بوجهة نظري بالرغم مما دار بيننا من نقاشات مطولة. وعلى مرّ الزمن وقع تباعد بيننا. فلم نعد نلتقي لقاءات شخصية. وكان من اسباب ذلك أيضاً انغماره في مهامه الحزبية وتقلّص نشاطاتي الحزبية . وكانت اتجاهات الحزب التسلطية قد ملأتني بالخيبة والمرارة بل وزهدتني بالعمل السياسي. وانتهى بي الأمر إلى الانسحاب من الحزب واعتزال السياسة كلياً. وانقطعت بذلك صلتي به نهائيا. وكان نفوذه في الحزب في تعاظم مستمر حتى انتهى به الأمر لأن يصبح نائباً للرئيس ثم رئيساً للحزب. وهيّأت له رئاسة الحزب رئاسة البلاد.
وفي أثناء رئاسته لم يتم أي لقاء بيننا. وكان مما عمقّ هذه القطيعة النهج الدكتاتوري الذي أتخذه في حكمه واعتمد فيه على البطش والإرهاب، ولقد صار دكتاتوراً بحق. وانفرد بالسلطة انفراداً كاملاً. وكثيراً ما قلت لنفسي: "أنت السبب فيما يحدث يا عادل وليتك لم تدله على درب السياسة".
وحينما توفي بالسكتة القلبية لم يداخلني الحزن لوفاته بل داعبني الأمل في أن يغير خليفته نهجه الدكتاتوري. وكانت قطيعتنا قد أوحت لي بأنه نسيني تماماً. لذلك ظللت أسير الدهشة والحيرة وأنا أتأبط المظروف الذي تركه لي. فما الذي ذكرّه بي قبل وفاته؟ وما الذي يمكن أن يشتمل عليه هذا المظروف؟.
حينما بلغت مكتبي بادرت بفضّ المظروف بلهفة وراحت عيناي تلتهم أوراقه في انبهار.



إلى أخي الأعزّ
قد تعجب يا عادل لأمر هذا المظروف الذي أوصيت أن يسلمّ إليك بعد وفاتي. فالصلة بيننا قد انقطعت منذ سنين طويلة.. أو على الأقل هكذا تتصور أنت. أما بالنسبة لي فلم تنقطع أبداً. صحيح أننا لم نعد نلتقي كما كان عهدنا قبل تولي الحزب السلطة، أي بالتحديد منذ بدأت تستنكر إجراءات الحزب. لكنك لم تبرح ذاكرتي أبداً. وكنت حاضراَ معي في كل موقف وقفته وكل قرار اتخذته. وكنت أسائل نفسي دائماً: "ترى ماذا سيقول عادل في ذلك؟!.
وأنت تتذكر بالطبع أننا خضنا نقاشات مطولة منذ تولى الحزب السلطة. وكان ذلك بدءاً للتباين في وجهات نظرنا. وكم كان يحزنني ذلك. ومع أنني كنت أعدّ أفكارك غير واقعية تجاه سياسة الحزب لكنني كنت أحسب لها ألف حساب. وكانت هواجسي نابعة من اعتقادي بأنك لم تتخذ موقفا متحيزاً يوما ، وكنت دائماً متميزاً بمواقفك العادلة، لذلك قررت أن أضع بين يديك هذه الأوراق لتحكم على أفعالي حكماً عادلاً. فكثيراً ما أساء أعدائي تفسيرها وإن كنت واثقا أن التاريخ سينصفني ويحكم عليّ الحكم العادل . وأصارحك يا عادل بأنني لم أكن لأدون هذه الأوراق لو لم أشعر بدنوّ أجلي بعد أن اشتدت عليّ مشاكل القلب. فكان لابد لي أن أقدّم لك كشف حساب بأعمالي، فأنت الوحيد الذي يهمّني رأيه لأنك أجدر من أحببت وأعظم من احترمت. ولست أشك في عدالة حكمك.










حياتي الرفيهة
أحرام عليّ يا عادل أن أتمتع بالحياة الرفيهة؟ فلماذا إذن هذه الضجة التي يثيرها أعدائي حول هذه القضية؟ وهل المفروض ان يعيش رئيس الدولة كأيّ فرد من أفراد الشعب؟ ألا يخوّل له مركزه ومسؤولياته ان يعيش في مستوى أعلى من مستوى أي فرد أخر في البلاد؟ ثم لماذا لا يحاسب الملوك على حياتهم الباذخة بينما يحاسب على ذلك رئيس مثلي لم ينحدر من سلالة الملوك؟ أنا أفهم أن يعُفى الملوك من الحساب حينما كانوا يزعمون في القرون الغابرة أنهم ورثوا سلطانهم بحق إلهي. أما الآن بعد أن أصبح مسلما به أنهم أفراد من الشعب وأن المصادفة وحدها وضعتهم في هذه المراكز فمن الغريب أن يُقرّ لهم بالحياة الفخمة ولا يُقرّ للرؤساء العاديين بمثل هذا الحق. فماذا يختلف الرئيس عن الملك؟ بل على العكس الرئيس هو الأجدر بالحياة الرفيهة لأنه احتل مركزه بنضاله أو برغبة شعبه لا بالوراثة .
ويوجه أعدائي أشد انتقاداتهم إلي ولعي ببناء القصور. وهذه الانتقادات تثير غضبي حقا. فلماذا لا يوجه هذا الانتقاد إلي الملوك الذين يشيدون لأنفسهم أعظم القصور؟ وما الضرر في أن تكون إحدى هواياتي تشييد القصور الفخمة؟
وابتداءً أقول إن أعدائي يبالغون في وصف هذه القصور وما حوته من وسائل البذخ والترف والرفاهية . فيزعمون أنها أفخم من قصور الدول الغربية. وقد وصف مقال مغرض أحد تلك القصور بأنه لا عين شهدت ولا أذن سمعت، وأنه يشتمل على قاعات مرصعة السقوف بالذهب والجواهر، وأن رخام أرضه من أندر الرخام في العالم، وهناك خيالات كثيرة يبثها أعدائي عن هذه القصور فيجعلونها متفوقة على قصور ألف ليلة وليلة. وأنت قد أمضيت يا عادل بعض إجازاتك في أوروبا ولابد أنك زرت القصور الباذخة فيها والتي تحولت إلى متاحف عامة. ولعلك زرت قصر فرساي في باريس وقصر شامبرون في فينا، وقصور إيطاليا وقصور بودابست، ولعلك زرت القصر الشتوي في بطرسبرغ أيضاً. وأريد أن أسألك: ألا تُعد هذه القصور من مفاخر هذه البلدان؟ أفلا يتمتع بجمالها أبناء الشعب بل وحتى أبناء البلدان الأخرى من السوّاح؟ فلماذا لا يحق لنا أن نفعل مثلهم ونجعل شعبنا يفاخر بقصور بلده؟ وأنا أسألك يا عادل: ماذا بقي من مملكة بابل العظيمة سوى مسلّة حمورابي والجنائن المعلقة ؟ ثم أليست الأهرام أعظم بناء تفاخر به مصر اليوم وما هي سوى مقابر للملوك ؟ لقد مات الحكّام الذين عمرّوا هذه القصور لكن آثارهم ظلت باقية على مرّ الدهور. فلماذا أُلام إذا ما حاولت أن أبقي للتاريخ آثاراً تشهد بعظمة هذه الدولة؟ نحن زائلون يا عادل لكن آثارنا هي الباقية، فهل ستحسب هذه القصور من مفاخر حكمي أم من سلبياته؟ للأسف لم أسمع أحداً من المنصفين يقول مثل هذا القول. إن هذه القصور يا عادل ستكون قصوراً يفخر بها الشعب بكل تأكيد. وأنا زائل ولست خالداً. أما هذه القصور فخالدة. وإذا كنت أتمتع بها اليوم فسيتمتع بها الشعب غداً. فهي في الحقيقة قصور الشعب . فلماذا أُلام عليها؟ طبعاً أعدائي يزعمون أنني أبدّد ثروة البلاد على هذه القصور. وهي كلمة حق أريد بها باطل. فأنا أعترف أن بناء هذه القصور يكلف خزينة الدولة أموالاً باهضة. وأعدائي يقولون إن الأولى بي أن أنفق تلك الأموال على مشاريع التنمية لرفع مستوى حياة الشعب. لكن الجميع يعلمون أنني لا أقصرّ في هذا الأمر. فلماذا لا أحقق الهدفين؟.
ثم أريد أن أسألك سؤالاً يا عادل وأنا اعلم أنك لن تجيب إلا بالحق. ألا يحق لشخص مثلي ناضل طويلاً وخاطر كثيراً بحياته من أجل الشعب أن تهيأ له فرص التمتع بالحياة الرغدة؟! وأنت ولا شك تتذكر البيت الذي أمضيت فيه طفولتي وصباي بل وحتى صدر شبابي وتعرف أنه لم يكن يشتمل إلا على غرفة واحدة مهدمة. وكنا ننحشر فيها جميعا أمي وأبي وأنا وأخوتي. وهذه الغرفة كانت بلا نوافذ. وبما أن المرحاض البدائية كانت ملاصقة لها فقد كانت الحشرات والصراصر تسرح فيها طول الوقت. وكثيرا ما قاسمتنا الجرذان أفرشتنا.. إذا كان يمكن أن تُسمّى أفرشة فلم تكن سوى بُسطُاً بالية. فلماذا يستكثر عليّ أعدائي وأنا رئيس البلاد أن أعيش في قصور فخمة؟ ألا يفعل ذلك رؤساء وملوك البلدان الراقية؟ ألا يعيش ملوك الدول الأوروبية في القصور الفاخرة التي خلفها لهم أجدادهم؟ فلماذا يستنكرون علي ذلك؟ ألأنني أنتمي للطبقة الفقيرة البائسة؟.
وأحب بالمناسبة أن أصرّح لك يا عادل بسرّ لم أصرّح به من قبل لأحد غيرك ولا أجد ضيراً في الكشف عنه. وهو أن من جملة دوافعي للاهتمام بتشييد هذه القصور هو اشباع رغبة كامنة في أعماق قلبي. فلقد كان من جملة مآخذ أمي على أبي أنه لم يوفر لها سكناً لائقاً، وأن زواجها منه جعلها تعيش في بيت أدنى من بيت أهلها. وكانت تردد دائماً وهي تندب حظها: "لماذا كتبت عليّ يا ربي أن أعيش وأموت في هذه الخرابة؟".
ومرة قلت لها: "لماذا تتفاولي على نفسك يا أمي أنك ستموتين في هذه الخرابة؟".
فرمتني بنظرة ساخرة وقالت: "ومن الذي سيخرجني من هذه الخرابة".
والآن كلما شيدت قصراً جديدا قلت لها مداعبا: "ما رأيك يا أمي بهذه الخرابة؟".
فترمقني بامتنان وتقول: "أنا الآن أعيش في الجنة".
وأمي الآن يا عادل أول من يدشن كل قصر جديد. وكم يداخلني الأسى لأن أبي المسكين توفي قبل أن يتمتع بترف الحياة الجديدة ولم يذق من الحياة سوى طعمها المرّ. أفليس من حقي يا عادل إذن أن أمتع نفسي بحياة مرفهة؟ وإذا تهيأت لي الفرصة للانتقام من أيامي البائسة فهل ينبغي لي أن أرفضها؟ هل ينبغي لي أن أرفضها لكي أتساوى مع أبناء الشعب البائسين؟ وأنا اعتقد يا عادل أن لي حقوقا كثيرة على الدولة بما خضته من نضال وما تعرضت له من مخاطر. ومع ذلك فأنا أعيش في الحقيقة كأفقر أبناء الشعب من ناحية مشاعري لأنني دائم التفكير بمعاناتهم.
أما الاتهامات الباطلة التي ينشرها أعدائي عن ثروتي في البنوك الأجنبية فهي عارية عن الصحة كلياً. وأنا أسألك يا عادل: لمن يترك شخص مثلي تلك الثروة وأنا لم أتزوج وليس لي أبناء ولست أنوي التخلي عن الحكم والعيش خارج البلاد؟
ولا شك أنك اطلعت على تلك الاتهامات والتي استندت الى فرضية غريبة. فبما أنه ثبت بأن ملوك وزعماء العالم الثالث من ذوي السلطة المطلقة قد ملؤا البنوك الأجنبية بأموالهم المهربة فلابد أنني أفعل مثلهم. ولكن ما علاقتي بأولئك الملوك والزعماء؟ ولماذا ينبغي أن أقرن بهم؟ فأمثال أولئك الحكام هم فسدة بطبعهم وليست سلطتهم المطلقة مسؤولة عن هذا الفساد. وأؤكد لك يا عادل أن تلك الاتهامات التي يطلقها أعدائي بحقي باطلة كليا . فمن مزاعمهم التي يرددونها بأنني جعلت من البلد بكليّته ضيعة لي وأن كل شؤونه مرهونة بي وأنن أعدّ كل ما فيه من ثروة ملكاً شخصياً لي حتى أنني لا اعترف بميزانية للدولة . وما هذا الإدعاء سوى كلام فارغ. فأنا لا يمكن أن أتصرف بأموال الشعب. وإن مثل هذا العمل يتنافى ومبادئي. وكن على ثقة يا عادل أنني لم أتخل أبداً عن مبادئي، ومازلت المدافع الأمين عنها. بل إنني ما ناضلت وبلغت أعلى مركز في البلاد إلا من أجل تحقيق تلك المبادئ ومن أجل الاخذ بيد الفقراء المساكين. وواحد مثلي لا يمكن أن ينساهم. وأنا أضحك حينما أقرأ أو أسمع ببعض الانتقادات الموجهة إليّ بأنني تنكرت لطبقتي المعدمة وصرت أعيش عيشة الملوك بينما ظل الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب يقاسون من فقر بالغ وبؤس شنيع. كيف أكون قد تنكرت لطبقتي وأنا أعمل ليلاً ونهارا لخدمة أبناء الشعب؟
ويستنكر أعدائي أيضا ما توفر لإخوتي وأقربائي من ثراء. ولكن هل سأل أولئك الأعداء أنفسهم إن كان أحد من هؤلاء قد مدّ يده إلي أموال الشعب؟ هذا أخر شيء يمكن أن أسمح به. فهل ينبغي أن يظل هؤلاء الأخوة والأقرباء يعانون من الفقر لمجرد أنهم أقربائي؟ وهل يتوجب عليّ أن أحجب عنهم الفرص التي توفرّ لهم الكسب المشروع؟! سأكون حينئذ قد ظلمتهم. وليس من حقيّ أن أحول بينهم وبين الحياة الرفيهة وأنا اعلم كم قاسوا في مقتبل حياتهم من شظف العيش.
ويتهمهم أعدائي بأنهم استغلوا مركزي وجمعوا الأموال الطائلة. وأنا أريد أن أسأل: هل هناك ضير في أن ينتفعوا من مركزي وفق القوانين المرعية؟! وأؤكد لك يا عادل بأنهم كسبوا أموالهم بعرق جبينهم. فالبعض منهم شارك في شركات ناجحة عرض عليهم أصحابها الإسهام فيها. والبعض الآخر كوّن شركاته الخاصة ونجحت نجاحاً باهراً بفضل ذكائهم ومقدرتهم. ولا تصدق ما يقوله الأعداء يا عادل بأنهم احتكروا بعض حقول التجارة والصناعة التي هيأت لهم الثراء، فتلك الحقول مفتوحة للجميع. أما اتهام الأعداء لهم بأنهم يفرضون على الشركات الناجحة الأجنبية منها والمحلية إتاوات كبيرة، وأن هذه الإتاوات رفعت أرصدتهم في البنوك الأجنبية إلى الملايين فهو اتهام مضحك حقا. وكل شخص يمكنه أن يتهم الآخرين بما يشاء، ولكن عليه أن يقدّم البراهين على اتهاماته. فأية براهين تلك التي قدمها الأعداء على اتهاماتهم؟.
وأنا يا عادل أتمنى أن تتهيأ الفرص لكل أفراد الشعب الفقراء ليصبحوا أغنياء. وإلا فهل نسيت يا عادل أن هذا هو هدف حزبنا المركزي؟ وهل أكون رئيسا مخلصاً للشعب إذا حكمت على أفراد أسرتي وأقربائي بالفقر الأبدي؟ أفلا ترى يا عادل أن في تلك الانتقادات ظلم فادح لي؟ ولماذا لا توجه مثل هذه الانتقادات إلى أبناء الملوك والأمراء الذين يملكون ثروات خيالية؟ أليست هذه الثروات هي في الأصل ثروات الشعب، وإلا فكيف تسنّى لهم جمعها؟ فلماذا لا يحاسب أمثال أولئك الأشخاص بينما يحاسب إخوتي وأقربائي؟ هل ذنب أخوتي وأقربائي أنهم ولدوا في عوائل فقيرة بائسة؟ وإلى متى نظل مستعبدين للأفكار البالية التي تزعم بأن من حق الأغنياء أن يظلوا أغنياء وعلى الفقراء أن يبقوا فقراء؟! أليس من واجبنا أن نقضي على تلك الأفكار وأن نجعل الناس البسطاء أسياد مصائرهم ونوفر لهم الفرص للتمتع بالحياة الرفيهة؟ أليس هذا هو هدف حزبنا المركزي؟ وسأكون سعيداً إذا استطاع أي فرد من أبناء الشعب البسطاء أن يرقى بذكائه وجهده إلى أعلى المستويات. ونحن في الحقيقة، أنا وأخوتي وأقربائي، نحاول ضرب مثل لأبناء الشعب في ذلك لكي يرقوا بحياتهم، فما نحن في الحقيقة سوى أشخاص من الطبقة المسحوقة. ولكنني أصارحك يا عادل أن أبناء شعبنا يخيبون أملي فيهم يوماً بعد يوم. فهم متواكلون وكسالى وأنانيون وسخفاء ولا يحبون العمل الجاد لرفع مستواهم المادي. وهم يستغلون عطفي عليهم فيحاولون الاعتماد عليّ في كل شيء رغم ما أهيئه لهم من فرص للتحرر من الفقر، بل أحياناً يلجئون إلى الخداع لنيل ما يبتغون. وقد أتاحوا الفرص لأعدائي لاتهامي بالكذب على الشعب وبأنني لم أفعل شيئاً حقيقياً له ولم أنفذ أي من الوعود التي ألزمت نفسي بها. في حين تصطدم وعودي بصخرة خمول الشعب وتقاعسهم عن العمل الجدي وبمصاعب كثيرة أخرى. وعلى أية حال لن تضعف فإن هذه الاتهامات الباطلة من جهودي لكسر دائرة الفقر عن الشعب، وسأثبت للحاقدين ذلك، وإن غداً لناظره قريب.


أعداء النظام
سأبتدئ حديثي معك يا عادل في هذا الموضوع المهم بالقول بأنني لا أتهاون مع من يسمى بالمعارضة مطلقا، لا لشيء إلا لاعتقادي الجازم بأنهم أناس غير مخلصين للوطن والشعب، وأنهم ليسوا سوى تجار سياسة بل وأحيانا عملاء للاستعمار . وأنا أدرك بالطبع أن كلامي هذا لن يروق لك، فأنت كنت معارضاً لنهج الحزب في هذه القضية منذ البداية. لكن مشكلتك يا عادل أنك تتصور أن جميع الناس مثلك مخلصون في اعتقاداتهم ولا يبتغون منها سوى الصالح العام. وأنا ما زلت حتى اليوم يا عادل عاجزاً عن فهم موقفك هذا. فأنا أعرف أنك ذكي جداً، ومع ذلك تبلغ بك السذاجة حداً يجعلك تثق بجميع الناس، ولا يمكنني أن أتهمك بأنك قليل الخبرة بالحياة أو بالسياسة. فقد كنت زميلاً لك في السياسة منذ البداية، بل أنا تلميذك. وأنا أعلم جيداً مدى خبرتك ومدى معرفتك بالانتهازيين من زملائنا التلاميذ الذين انضموا إلى الحزب طمعاً في الكسب. ولقد صاروا فيما بعد من كبار أعضاء الحزب بل بلغ بعضهم مراتب القيادة ونبوّأ أعلى المناصب وهم لا يشترون مبادئ الحزب بقلاَّمة ظفر. وهذا أمر طبيعي فنحن نعلم أن الانتهازيين والمنافقين والمتزلفين هم القادرون أكثر من غيرهم على الصعود إلى المناصب الرفيعة . ومن حقيّ أن أقول لك يا عادل أنني صرت أكثر منك خبرة في مثل هذه الامور لأنك سرعان ما انسحبت من العمل السياسي. وقد اتسعت خبرتي بتجار السياسة من خلال نضالي داخل الحزب، ثم بصورة أوسع من خلال تقلدّي للحكم، وقد رأيت الأعاجيب من أمثال هؤلاء الانتهازيين والمنافقين يا عادل. وأنا طبعاً لا أتشدد مع الرفاق الحزبيين ممن يعارضني في بعض توجهاتي كما أتشدد مع المعارضين الذين يكيدون لحزبنا سراً وجهاراً ويحاولون الإطاحة بي بكل طريقة ممكنة. ومنطقي بسيط في هذه القضية.. ما الذي يدعو أمثال أولئك المعارضين إلى التآمر علي؟ هل يعتقدون حقاً أنني دكتاتور متجبر كما يزعمون وهم يعلمون أنني لست أنا الذي يحكم بل الشعب هو الذي يحكم، وبالتالي فالشعب هو الدكتاتور إذا كان يمكن أن يسمى دكتاتوراً؟! ثم هل هناك شك في وطنيتي؟ لا أعتقد أن هناك اثنان يختلفان في صدق وطنيتي فأنا معروف حتى خارج بلادنا بأنني من ابرز أعداء الاستعمار. وقد أصبحت من زعماء العالم الثالث الذين يقفون بصلابة ضد ألاعيب الدول الغربية. فما الغرض إذن من محاولات الإطاحة بزعيم مثلي إن لم يكن إرضاء للدول الاستعمارية؟ وإني لأبصم بالعشرة على أن أمثال هؤلاء المعارضين خونة لبلادهم. فيكف ينبغي أن يعامل الخونة إذن؟ هل تتصور يا عادل أن التسامح ينفع معهم؟ سأكون مغفلاً إن أطلقت لهم العنان يسرحون ويمرحون ويخربون البلد بأساليبهم الشيطانية. ألا يكفيهم جرماً أنهم يشنعون على دولتنا مطلقين عليها اسم "جمهورية القمع والخوف" فيرسمون لها بذلك صورة مشوهة لها أمام أنظار العالم؟ أما يكفيهم جرما مزاعمهم بأننا نمارس انتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان ؟ فالمكان الطبيعي لأمثال هؤلاء المجرمين إذن هو السجن حتى لو بلغ عددهم الآلاف. ستقول لي يا عادل إن منطقك هذا يشبه منطق الحكومات البائدة التي كانت تزج بنا في السجن كي لا نزعجها بنشاطنا الوطني. وأصارحك يا عادل بأنني لم أكن ألوم تلك الحكومات آنذاك. فحينما تساهلت معنا أطحنا بها. ولكن الفرق بينها وبيننا أنها لم تكن حكومات وطنية. وكانت تأتمر بأوامر الاستعمار. وكان أقطابها ينهبون أموال الشعب. وهي المسؤولة عما لحقه من بؤس وفقر ومذلة. أما نحن وأقصد حزبنا وقيادته الوطنية، فقد انبعثنا من صميم الشعب بل نحن الشعب نفسه. ونحن الحريصون على مصالحه. فهل يجوز التساهل مع من يتآمر علينا ويحاول الإطاحة بنا؟ إن المتآمرين على النظام هم واحد من اثنين يا عادل: إما عملاء للاستعمار أو طامعون في الحكم.
فلابد لي إذن من أن أقلم أظافرهم واحتفظ بهم في مكانهم الطبيعي وهو السجن. ولست أنا الذي ظلمتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم. وأنا واثق أن معظمهم يتلقى أوامره من خارج الحدود. ولعل أبسط دليل على ذلك أن الجمعيات الغربية التي تدعي مناصرة حقوق الإنسان هي التي تدافع عنهم. ونحن نعلم أن هذه الجمعيات هي من أدوات الاستعمار. وهي تتهم دولنا في العالم الثالث ظلماً بسجلّها السيء في حقوق الإنسان لأننا لا نسمح للمرتزقة بالعبث بأنظمتنا. أهناك دليل أعظم على عمالة هؤلاء المعارضين من دفاع تلك الجمعيات الاستعمارية عنهم بحجج مزيفة؟ ثم أهناك دليل أكبر على خيانتهم من أن الكثيرين منهم هجروا بلادهم والتجؤا إلى الدول الاستعمارية؟
وأنا طبعاً لا أكترث لأمرهم حتى لو غادروا البلاد بالملايين. فمن الأفضل المحافظة على بلادنا نظيفة من أمثال هؤلاء الخونة. ولو كانوا حريصين على مصلحة بلادهم ما فرّوا إلى الخارج وألقوا بأنفسهم في أحضان الإستعمار . وعلى كل حال لا يهمني ما ينشرون من أكاذيب وافتراءات بحقي في صحف الأعداء، فأكاذيبهم تبلغ من السخف درجة تثير ضحك وسخرية أبسط أبناء الشعب. ولعل أكثر تلك الأكاذيب إثارة للضحك والسخرية قولهم إنني احتفظ بجيش سرّي يتلقى أوامره مني مباشرة مهمته ملاحقة المعارضين واغتيالهم أين ما كانوا. وقد أوكل إليه تصفية كل معارض أو منافس عنيد. ومن أكاذيبهم المضحكة أيضاً أنني لا أجرؤ على المبيت في قصر معيّن من قصوري ليلتين متتاليتين خشية من الاغتيال، وأن عدد حرّاسي الشخصيين يتجاوز المئات. وهم يدللّون على مزاعمهم برتل السيارات المتماثلة الذي يرافق موكبي عادة حين مروري بشوارع العاصمة والذي لا يمكن ا تميّز من بينه سيارتي ، وذلك كما تعلم من مستلزمات أبهة الرئاسة. والجميع يعلمون أنني لا أحتفظ إلا بعدد مناسب من الحراس.
وأخيراً أحب أن أتساءل يا عادل: هل أنا حقاً ضد المعارضة حتى لو كانت نزيهة؟ أبداً.. فمتى ما ثبتت لي نزاهة المعارضين استدعيتهم وناقشتهم في اعتراضاتهم. وأكبر دليل على ذلك تعاوني مع الأحزاب التي أقرّت بزعامتي المطلقة واعترفت بأن حزبنا هو الحزب القائد وأيدّت توجهاته وأفكاره. وكثيراً ما استعنت ببعض أعضائها في الحكومة. كما أنني أكافئهم بسخاء دائما. وأنت ولا شك انك تعرف عددا من السياسيين غير المنتمين إلى حزبنا ممن يتبوّأ مناصب رفيعة في الدولة.
والذي أريد أن أخلص إليه يا عادل هو أنني لا أكره المعارضين، لكنني أكره من يتصور منهم أن بإمكانه أن يحل محليّ. فليس هناك من قوة تعلو فوق الزعيم.


حقوق الشعب
يتهمني أعدائي يا عادل بأنني أغمط حقوق الشعب لأنني أصدر قوانين هي ضد صنف معين من الأغنياء. وهذه القضية بالذات تحيرنيّ. فبأي صورة أغمط حقوق الشعب؟ هل يمكن لواحد مثلي أن يغمط حقوق الشعب وهو الممثل الحقيقي له؟! ثم من يا ترى المقصود بكلمة "الشعب"؟ إذا كان المقصود بكلمة "الشعب" فقراء المواطنين فأنا أتحدّى أيّ من المتقولين أن يثبت بأنني ظلمتهم. أما إذا كان المقصود بها أفراد الطبقة التي امتصت لقرون دماء الفقراء فأنا لا أعدّ هؤلاء من "الشعب". وإن أي قانون أصدرته لتقليم أظافرهم هو قانون عادل. ألا يكفيهم السنوات الطوال التي تمتعوا فيها بطيب الحياة بينما يكابد بقية أفراد الشعب البؤس والحاجة والمذلّة إلى أن دانت لنا السلطة؟! وأعترف لك بأنني أكره أمثال هؤلاء الأغنياء كراهية شديدة .
لا أدري إذا كنت تتذكر يا عادل زميلنا في الإعدادية آياد المنيري الذي كان يحضر إلى المدرسة بسيارة فاخرة. لقد كان الألم يعتصرني وأنا أراه يترجل من السيارة متبختراً. ومع أنني كنت أعدّ الفوارق بين الناس يومذاك من إرادة الخالق لكنني لم أكن أستطيع منع نفسي من التساؤل والألم يدمي قلبي: " لماذا يا ربي خلقتني بهذا البؤس وخلقت شخصاً مثل أياد بهذا النعيم؟!"
فإذن أنا لا أنكر أنني بطبعي ضد الأغنياء .. وأقصد أولئك الذين ورثوا ثرواتهم عن آبائهم وعاشوا في بطر. وربما قلت الآن يا عادل وأنت تقرأ هذا الكلام ما يقوله البعض بأن الفقراء في عهدي ازدادوا فقرا والأغنياء ازدادوا غنى. و في هذا القول افتئات عظيم على الحقيقة. وارجوا ألا تكون من أولئك الذين يصدقون هذا القول. أنا أعترف بأن هناك أشخاصاً كسبوا ثروات كبيرة في عهدي لكن أمثال هؤلاء كسبوها بالحق. كسبوها بشطارتهم. وأنا لست ضد من يكوّن ثروة بهذه الطريقة. ولا تنس يا عادل أن أمثال هؤلاء الأشخاص هم الذين يبنون اقتصاد البلاد. وهم أشخاص أذكياء وقادرون. وأنا مستعد لتوفير ّ الفرص لكل من ينتمي للطبقة الفقيرة لكي يصبح غنيّا.
فهل يعدّ تشجيع أمثال هؤلاء الأغنياء ومعظمهم ذوو أصول فقيرة خطأ؟ وإذا كان الكثيرون من الفقراء كسالى وغير راغبين في العمل الدؤوب ليصبحوا أغنياء فذلك ليس مسئوليتي. وأنا الآن أسائل نفسي يا عادل: هل ظلمت الحياة أبي حقيقة وحكمت عليه بالفقر كما كنت اعتقد أم أنه لم يكن جادا في كسر دائرة الفقر؟ ألم يكن بإمكانه أن يطوّر دكانه الصغير إلى دكّان كبير يدر عليه مكسباً طيباً؟ ولماذا استطاع أبناؤه في هذا العهد أن يصبحوا من الأثرياء البارزين؟!
وهناك قضية أخرى يعدّها المعارضون غمطا لحقوق الشعب وأقصد بها التمييز بين المواطنين في الوظائف المرموقة. واعترف أن هذه حقيقة واقعة فعلاً لكنها يا عادل لا تنطوي على أي غمط لحقوق الشعب. فأنا أعتقد أن حزبنا هو المسؤول عن رفاهية البلاد وازدهارها. ومعنى ذلك أن أعضاءه يبذلون جهداً خاصاً من أجل ذلك. فهل يعقل أن أساويهم بمن لا يبذل مثل هذا الجهد؟ ولماذا لا ينضم بقية المواطنين إلى حزبنا مع أننا نقدم لهم كل الإغراءات والمكاسب؟! ذنبهم على جنبهم! وأنت تفسك كنت حزبياً يا عادل وتعلم ما يقدمه الحزبيون من تضحيات قياساً يغير الحزبيين، عدا الانتهازيين منهم طبعا وهم كثيرون مع الأسف. و الشخص اللاحزبيّ إنسان أناني يرفض خدمة الغير . أما الحزبي المخلص فهو متأهب لكافة التضحيات من اجل الشعب والوطن. ألا تتذكر يا عادل حماسنا في النضال الحزبي يوم كنا تلاميذ وما كان يفرضه ذلك علينا من جهد ومخاطر في حين كان زملاؤنا غير الحزبيين لا يعنون إلاّ بشؤونهم الخاصة؟! ألم نكن نعرّض حياتنا للخطر ونحن نتصدر المظاهرات الوطنية ضد السلطة الباغية؟ فهل يجوز أن تعاملنا الدولة على صعيد واحد مع أمثال أياد المنيري؟
هذه هي وجهة نظري في هذه القضية وهي تنطوي على نظرة عادلة وواقعية ولا أظنك تخالفني فيها يا عادل .


مؤامرة الجابري
هل تصدق يا عادل أن رؤوف الجابري غيور على مصلحة البلاد حقا؟ وهل تصدق أنه يبتغي من وراء مؤامرته قيام نظام يسعد أبناء الشعب الفقراء؟ إذا كنت قد صدقت ادعاءاته في المحاكمة فأنت لا تعرف عائلته على حقيقتها. فإذا نقبّت في تاريخ هذه العائلة يا عادل ستكتشف أن أباه كان تاجر حبوب ً كبير ابن تاجر حبوب كبير. إنه سليل عرق طويل من التجار الأغنياء الذين دأبوا على المتاجرة بأقوات الشعب. أتعلم يا عادل أن جدّه الأكبر جمع ثروته من المتاجرة بالحبوب في الحرب العالمية الأولى؟ كان يغلق مخازنه بأقفال من حديد ولا يسمح بعرض الحبوب في الأسواق. وكان الناس يتساقطون صرعى الجوع وهم يمشون في الطرق والأسواق حتى بلغ سعر الأردب من القمح بسعر مثقال الذهب. هكذا جمع جدّه الأعلى ثروته وهكذا انتقلت الثروة إلى أبيه وهكذا تمتع بها هو أيضاً.
هل خطر لك يا عادل يوما أن تتناول طعامك بملاعق من ذهب؟ طبعاً لا، فهو عمل لا أخلاقي. أما أنا فلم أعرف في بيتنا الملاعق. كنّا نأكل بأيدينا. أما آل الجابري فكانوا يتناولون طعامهم بملاعق من ذهب في المناسبات. هذا هو رؤوف الجابري الذي يدافع عن مصالح الشعب. ومن المؤسف أن الناس ينسون هذه الأمور فينجح شخص مثله في كسب عطف شعبي لقضيته. ومن الطبيعي ألاّ يروق لرؤوف الجابري أن يحكم البلاد شخص مثلي لم يعرف أهله الأكل بالملاعق. وطبعاً من أسهل الأمور عليه أن يلجأ إلى الحجة الجامعة المانعة بأنه يهدف إلى انقاذ الشعب من دكتاتور مثلي والأخذ بالديمقراطية. وهذا المعتوه يتجاهل الحقيقة الساطعة بأنني أستمد دعمي أساساً من الشعب، بل أنا كل الشعب. ولذلك لن تنجح أية مؤامرة ضدي. وما أسهل التشدق بكلمة "الديمقراطية". والديمقراطية في عرفه أن يسمح له ولأمثاله أن يتحكموا بأقوات الشعب وأن يثروا على حسابهم. وبما أنه يعلم جيدا أن الشعب يدرك أهدافه الشريرة فلابد له أن ينشد عون دولة أجنبية. ولم يسانده إلاّ حفنة من الضباط المعتوهين الذين يحلمون بانقلاب عسكري يوفر لهم استلام الحكم. ولابد أن يكون أولئك الضباط معتوهين فعلاً لأن المفروض أنهم يعلمون جيداً أن الجيش معي فأنا أغدق على قادتهم وأتخيرهم بعناية وبالتالي لا يمكن أن تنجح مؤامرتهم الدنيئة.
والحقيقة أن أولئك الضباط لم يكونوا معتوهين فحسب بل جاحدين أيضاً . فلو كانوا شرفاء ما جحدوا المكاسب التي أغدقنها عليهم . وهؤلاء الضباط يا عادل لم يكونوا جاحدين فحسب بل جبناء أيضاً . فما أسرع ما انهاروا حينما واجهتهم بالحقائق وركعوا على حذائي يستغفرون ذنبهم ويعلنون ندمهم. وقد اعترفوا بارتباطهم بدولة أجنبية وقدموا الأدلة والإثباتات على ذلك. ولا أدري كيف عادوا وأنكروا أمام المحكمة اعترافاتهم. وطبعاً من السهل الادعاء بأن الاعترافات انتزعت من المتآمرين عنوة تحت التعذيب. والحقيقة أن البعض منهم اعترف بجريمته قبل أن تمتد إليه يد. وحتى الجابري نفسه اعترف أمامي بارتباطه بدولة أجنبية. وقد أكد لي أن تلك الدولة وعدته بدعم عسكري حالما تتحرك جماعته من الضباط. لكنه أنكر ذلك عند المحاكمة. ولقد روّج أصحاب الأهداف المشبوهة من المزاعم بأن المحكمة كانت مستعجلة وأنها لم تجمع أدلة كافية. لكن المنصفين يدركون أن أقوال هؤلاء الأعداء باطلة. وهل يستحق هؤلاء التافهين وقتاً أطول مما أتاحته لهم المحكمة؟.
أما القول بأن معظم شهود الإثبات كانوا من رجال المخابرات فذلك لا يطعن في صحة شهاداتهم. فما العيب في كون الشهود من رجال المخابرات؟ أفليس رجال المخابرات هم الذين يحمون البلاد من أمثال هؤلاء الخونة؟ أليسوا من أبناء هذا الوطن الغيورين على بلادهم ونظامهم؟ أفلا نرى أن بعض رجال المخابرات في العالم قد وصلوا إلى منصب رئاسة الدولة في دول مرموقة؟ وعلى كل حال فقد يكون ما حدث درساً بليغاً لمن يفكر بالتآمر على النظام. فالمخابرات له بالمرصاد. أما أعداء النظام الذين شككوا في المؤامرة فأنني أسألهم: أهناك دليل أقوى على صحتها من اعترافات الجابري نفسه في التلفزيون؟ ولقد طلب الجابري بنفسه أن يدلي بتلك الاعترافات طواعية بعد أن ثبتت عليه التهمة. ولابد أنك نفسك يا عادل قد تتبعت تلك الاعترافات واستنكرت ما انطوت عليه من خسة ودناءة. ومن المضحك أن يزعم الأعداء بأن تلك الاعترافات وراءها التهديد الذي تلقاه الجابري باغتصاب زوجته أمام عينيه. وإن دل هذا الزعم على شيء فإنما يدلّ على مدى حطّة أساليب الأعداء. وأنت نفسك تعرفني معرفة حقّة يا عادل. فهل يمكن لشخص مثلي أن يوافق على عمل بربري من هذا النوع؟ ولقد أكد لي مسؤولو المخابرات أن تلك المزاعم مختلقة جملة وتفصيلا وأنا أصدقهم. فكثيراً ما امتحنت صدقهم فتبين لي أنهم الصادقون والأعداء هم الكاذبون.
وأخيراً أقول يا عادل إن الجابري وجماعته من المتآمرين القذرين شغلوا من وقت الناس أكثر مما يستحقون. فلم يكونوا سوى أشخاص تافهين أعداء الشعب. وهم لاشك يستحقون حكم الموت العادل الذي أصدرته المحكمة بحقهم. وقد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ. وان تعليق جثثهم لايام في ميدان العاصمة الرئيسي درساً لكل خائن قذر تسوّل له نفسه التآمر على حزبنا وعلى الشعب وعلى زعيم البلاد.


الديمقراطية الحقيقية
ما هي الديمقراطية؟ الديمقراطية هي الحكم لمصلحة الغالبية. وهذا ما يلتزم به حزبنا. وأنا أعلم يا عادل أنك لن توافق على أكثر ما سأسجله هنا. فلقد تناقشنا طويلاً في هذا الموضوع في بداية توليّ حزبنا للسلطة. وكنت ترفض استئثار حزبنا بالسلطة وتدعو إلى مشاركة الأحزاب الأخرى بالحكم.. مع أنك نفسك اعترفت أكثر من مرّة خلال نقاشاتنا أن بعض تلك الأحزاب مشكوك في ولائها للشعب وأنها محكومة بدوافع من مصالحها الذاتية. وكنت مدفوعا للتشبث بهذا الرأي بضرورة الأخذ بالديمقراطية بمفهومها الغربي والذي يعترف بتعدد الأحزاب. ولكنني أسألك يا عادل: لماذا يجب أن يسمح لتلك الأحزاب المشكوك في صدقها أن تخدع الشعب؟ ومادام حزبنا المنبثق من الشعب قد استطاع الوصول إلى الحكم، فلماذا تمنح الفرصة لأعدائه للإطاحة به؟ ومن المؤكد أن حزبنا يهدف إلى الاستجابة لطموحات الشعب، وبالتالي فهو الحزب الذي تتمثل فيه غاية الديمقراطية. وهذا ما كنت أؤكده لك في نقاشاتنا ولكنك كنت ترفض هذا الرأي انطلاقاً من إيمانك بالمفهوم الغربي. وكنت أعجب كيف يمكنك التمسك بالمنطق الغربي وأنت تعلم أن الدول الغربية لا تقصد مصلحة بلداننا. أليست هي التي استعمرت بلداننا وامتصت دماءنا ولم يكن يهمها أن يقوم فيها نظام ديمقراطي، بل على العكس كانت تؤيد الحكّام المستبدين ما داموا يستجيبون لمصالحها؟ واستطيع القول أن منطق الغربيين هو منطق المنافقين. فلو كانوا يؤمنون بالديمقراطية الحقة ما أيدّوا الحكام المستبدين في بلداننا الذين كانوا يوالونهم. وحينما كانوا يحكمون بلداننا حكماً مباشراً لم يأخذوا بالديمقراطية بل حكمونا حكماً استبدادياً.
ثم أريد أن أسألك يا عادل: من هم دعاة الديمقراطية في بلدنا؟ إنهم أتباع الأحزاب التي لم يتح لها تقلدّ الحكم. ولو أتيح لها ذلك هل كانت ستطبق الديمقراطية بهذا المفهوم حقاً؟! أبداً. كانت ستختلق ألف سبب وسبب للمراوغة والالتفاف على التعددية الحزبية والتشبث بالحكم. وكانت ستلجأ إلى ألف حيلة وحيلة للاستئثار بالحكم. بل وربما أجرت انتخابات ودعت مراقبين أجانب للإشراف عليها ثم كسبت في النهاية غالبية أصوات الناخبين بأساليبها الملتوية. وكان سيطبّل لها العالم الغربي ويزمر بأنها أجرت انتخابات ديمقراطية. وحتى لو أجرت انتخابات ديمقراطية حقيقية فهل تصدق يا عادل أن الفائزين سيكونون الممثلون الحقيقيون للشعب الذين يدافعون عن أبناء الطبقة الفقيرة البائسة؟ أبدا. سيفوز بالانتخابات أصحاب النفوذ الأسري والعشائري وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من التجار والصناعيين وملاك الأرض. فبإمكان هؤلاء شراء أصوات الناخبين بنفوذهم المالي والاجتماعي. فأنت تعلم أن جماهير شعبنا لم يبلغوا من الوعي السياسي والنضج الثقافي ما يؤهلهم لإدراك مصالحهم الحقيقية. وعلينا أن نقودهم وعليهم أن يطيعونا لا أن نطيع رغباتهم الفجة وأهواءهم الجامحة . فدعوى الأخذ بالديمقراطية الغربية إذن باطلة من أساسها. وينطبق عليها المثل القائل: "كلمة حق أُريد بها باطل".
ثم ما أساس دعوى الأخذ بالديمقراطية الغربية التي ينادي بها أعداء الحكم؟! أساسها اغتصاب كرسي الحكم مني. هذا كل هدف الديمقراطية في عرفهم. فلماذا أقصى عن الحكم؟ هل ناضل أحد منهم كما ناضلت؟ وما هي السلبيات التي قصرّت فيها بحق الشعب؟ ألا أعمل ليلاً ونهاراً من أجله؟ أفليست مهام الرئيس الأساسية توفير العيش الكريم للشعب وحماية الضعيف من بطش القوي والدفاع عن مصالح البلاد؟ وهذا ما أفعله بكل تأكيد. فلماذا يحاول الأعداء الإطاحة بي؟ ولماذا يستنكرون اختيار الشعب لي رئيساً أبدياً قائلين بأنني قد صرت بذلك أشبه بالملوك؟ وما الضير في ذلك وأنا قد بلغت هذا المركز بالنضال الدؤوب من أجل خير الشعب وسعادته في حين أن الملوك تقلدّوا مراكزهم بالوراثة فحسب وقد لا يكونون جديرين بها أصلاً؟! ثم أنك تعرفني يا عادل حق المعرفة.. فهل أنا من يعمل ضد مصلحة البلاد؟ هل أنا من يعمل ضد مصلحة الطبقة الفقيرة؟ من أكون أنا إذن؟ ألست أنا من صميم الطبقة الفقيرة.. فكيف أعمل ضد مصلحتها؟ كيف أنسى أيام بؤس عائلتي؟ وأنت يا عادل لست غريبا عني وتعرف بؤس عائلتي. وأنت تعلم أيضاً أن من أسباب بؤس عائلتي إدمان أبي على الخمرة. وكل جيراننا كانوا يسمعون الصراخ في منزلنا كلما عاد أبي إلى المنزل ليلاً. لكنهم كانوا يجهلون السبب الحقيقي وراء ذلك. وسأكشف لك هذا السرّ لأول مرة يا عادل. فأبي قد تزوج من أمي وهي ابنة عمّه رغم إرادتها. وكان هو يحبها من كل قلبه. لكنها ظلت ترفضه باستمرار. وبما أنها كانت جميلة فقد طمحت إلى الزواج من رجل مقتدر. وعائلة أمي كانت معدمة كعائلة أبي. وكانت أمي تحلم بكسر دائرة الفقر عنها. لذلك تشبثت برفضها لأبي. لكن ضغوط العائلة كانت أقوى منها. فاستسلمت مرغمة. وبدلاً من أن تخضع للأمر الواقع ظلت تناقر أبي باستمرار. ولسوء حظ أبي لازمه النكد في أي عمل مارسه. فعجز عن كسر دائرة الفقر. ولم ترحمه أمي من مناقرتها. كانت تردد دوماً في تهكم: "هذا حظي من الحياة الدنيا .. أعور وأفقر".
وكان أبي في بدء حياته الزوجية يتغاضى عن مناقرتها مؤملاً قهر الفقر وكسب رضاها. لكنه عجز عن ذلك. وكانت حصته من الكسب دكان العطارة الحقير الذي تعرفه والذي لم يكن يغنينا عن جوع. ثم انساق وراء الخمرة ليداوي خيبته التي لم تكف أمي عن صب الزيت عليها. وزادنا إدمانه فقراً على فقر، وضاعف ذلك من كراهية أمي له. وانتهى به الأمر إلى مواجهة إهاناتها بالضرب الشديد. وبالطبع كنا ننال نحن أبناؤها حصتنا من الضرب.
هكذا كانت حالناً المترعة بالبؤس يا عادل وأنت عالم بها والأساس فيها هو الفقر. فلو كانت الفرصة تهيأت لأبي لكسر دائرة الفقر وتوفير العيش الكريم لعائلته ما قاسينا من ذلك البؤس. وكانت بلادنا تنعم يومذاك بالديمقراطية الغربية التي يتشدق بها المعارضون.. تلك الديمقراطية التي أخفقت في توفير العيش الكريم لنا ولتسعة أعشار المواطنين. فكيف تتوقع مني يا عادل أن أؤمن بهذا النوع من الديمقراطية؟ وهل يجوز لي أن أتيح الفرصة للمتشدقين بها ان يعيدوا حالنا إلى ما كان عليه قبل تولي حزبنا السلطة؟ لو فعلت ذلك لوقعت في خطأ عظيم. فما ألئك المعارضين سوى عناصر مخربة .
إن الديمقراطية الغربية هي الديمقراطية المزيفة. أما الديمقراطية التي ننعم بها فهي الديمقراطية الحقيقية. فالشعب يختار من أعضاء الحزب من يمثله في "مجلس الشعب"، ولا يحق لأية فئة أخرى أن ترشح نفسها . فأعضاء حزبنا هم المدافعون الحقيقيون عن مصالحه. وإني كما تعلم أحرص كل الحرص على أن ينتفع كل مواطن من حقه الطبيعي في انتخاب ممثله في "مجلس الشعب". ولست أتساهل مطلقاً مع الذين يتقاعسون عن الإدلاء بأصواتهم وقت الانتخابات. فأيّ ديمقراطية يمكن أن تكون أفضل من هذه الديمقراطية؟.


حكاية السيدة فايزة
لقد أُثير لغط كبير حول السيدة فايزة وزوجها يا عادل وطبّل أعدائي لحكايتها وزمروا، وصوروني "دون جوان حقيقي". لذلك أحببت أن أطلعك هنا على حقيقة الأمر. ولابد أنك سمعت بالحكايات التي لفقها الأعداء عن حياتي الخاصة وخصوصاً ما يخص امتناعي عن الزواج. وقد ذهبوا في تفسير ذلك مذاهب عجيبة.. فالبعض فسر ذلك بعجزي جنسيا، وآخرون أكدّوا ولعي الشديد بالنساء بحيث لا يمكنني الاكتفاء بواحدة..وأن هناك أشخاص موكلون بهذه المهمة وبيوت سرية مخصصة لذلك00 إلى غير ذلك من التفسيرات. وأؤكد لك يا عادل أن كل الحكايات مخصصة التي حيكت حول حياتي الخاصة عارية عن الصحة. وابتداءً أقول أن من حقي أن أقيم علاقات مع النساء، فأنا رجل أولاً وغير متزوج ثانياً. وأنا لا أسيء إلى أحد في مثل هذه العلاقات، فهي من خصوصيات حياتي. وأمثال هذه العلاقات تتم عادة في سرية تامة. ولم أسمح يوماً بافتضاح المرأة التي تقيم علاقات معي. وأؤكد لك يا عادل أنني لم أكن البادئ في البحث عن هذه العلاقات. لكنني أتعرض بين الحين والحين لإغراء نساء يقحمن أنفسهن على حياتي. وهن يتصلن بي عادة عن طريق "تلفون الجماهير" بحجة رفع ظلامة عنهن. لكنني كنت احتاط للأمر إذا ما اكتشفت لعبتهن فأشترط ألا يكن مرتبطات برجل.
وليس غريباً أن يتهافت النساء المغامرات عليّ فأنا قبل كل شيء أنفرد بأعظم جاذبية يتمتع بها الرجل تجاه المرأة وهي السلطان. فأنا سيد البلاد. وثانياً إنني شخص غير متزوج وقد ينتهي أمر علاقتهن بي في تصورهن إلى الزواج. وأصارحك يا عادل بأن أيّا من تلك العلاقات لم تنجح في اقتلاع الاشمئزاز الراسخ في قلبي تجاه المرأة. ولم تمتلكني أي عاطفة حقيقية نحو أيّ واحدة منهن.
وأصارحك أيضاً بأنه كانت تفترسني دائماً عاطفة شيطانية كلما شعرت أن إحداهن قد أغرمت بي فأعمد إلى إذلالها ثم أطردها شرّ طردة. وقد علمت ان بعضهن قد أقدمن على الانتحار. وأنا أعترف أن سلوكي هذا سلوك لاإنساني. ولكن ماذا أفعل إذا كان إحساسي تجاه المرأة على هذا النحو؟ وأنا لا أحتاج إلى طبيب نفسيّ ليفسرّ لي أسباب هذا الإحساس يا عادل. فأنت تعلم بقصة حبي الأول والأخير وما سبّبه لي من إحباط وما خلفه من جرح عميق في قلبي. ولولاك لضعت كلياّ. ولا يمكنني أن أنسى لك هذا الفضل، وبالمناسبة تصور يا عادل أن تلك المرأة الحقيرة حاولت أن تعيد علاقتها بي. وهي الآن أمّ لثلاثة أبناء. وزعمت لي أنها لم تنس حبنا طوال هذه السنين. ولقد ادعت بأن أهلها هم الذين أرغموها على الزواج. وأنا أعلم أن كل ما قالته أكاذيب خسيسة. فهي بنفسها التي أخبرتني يومذاك أننا لا ننفع لبعضنا بعضا وأنها اكتشفت بأن عاطفتها تجاهي هي عاطفة فتاة مراهقة. وصدق أو لا تصدق يا عادل أنها لمّحت لي بإمكانية استعادة علاقتنا وأنها لا تطمع في شيء إلا أن تكون بقربي. وبعبارة أوضح إنها عرضت علي أن تكون عشيقتي. وطبعاً طردتها شرّ طردة. ولو كنت شخصاً إباحياً كما يشيع عني أعدائي لرحبت باقتراحها. وأصارحك يا عادل أنني فكرت وأنا استمع إليها أن أمرغها في الوحل وأنتقم لحبي الجريح. لكنني ربأت بنفسي عن ذلك وطردتها شرّ طردة.
وأعود إلى حكاية السيدة فايزة التي حيكت حولها الأساطير فأقول لك إنني عرفتها من خلال مقابلاتي الأسبوعية للمواطنين. وقد سعت إلى مقابلتي لرفع الحيف عنها. فقد نقلت من مدرستها إلى بلدة نائية. وحدثتني والدموع تملأ عينيها أن مسؤول الوزارة راودها عن نفسها فأبت عليه فأنتقم منها بنقلها إلى تلك البلدة النائية. وبالرغم من جمالها الصارخ لم تراودني أي فكرة سيئة تجاهها. ولما سمحت لها بالمقابلة الثانية حضرت في زينة رائعة زادتها سحراً على سحر. وبدت هذه المرة معتزة بجمالها وواثقة من نفسها. وبادلتني الكلام بلهجة طبيعية وهي ترميني بنظرات جريئة.
وحسمت تلك المقابلة الأمر بيننا وصارت عشيقتي. واعتقدت أنها امرأة حرة فلم تكن تضع في إصبعها خاتم الزواج. ومما رسخ في ذهني هذا الاعتقاد ادعاؤها بأنها عشقتني من وقت بعيد. وأكدت لي أنها كانت تحتضن التلفزيون كالمأخوذة كلما تحدثت عبره إلى الشعب.
وفجأة حملت إليّ المنشورات الصفراء حكاية تتهمني فيها بانتزاع الزوجات من أحضان أزواجهن والزج بهم في السجون. وذكرت مثالاً على ذلك السيدة فايزة وزوجها. وأثارت الحكاية انزعاجي الشديد. وفي لقائنا التالي سألتها عن صحة الحكاية فمطت شفتيها في لامبالاة وقالت إن حياتها الخاصة شأن يخصها وحدها. ثم حدثتني عن علاقتها المتردية بزوجها قبل أن تعرفني وأنها طلبت الطلاق منه مراراً فأبى عليها ذلك. ثم أضافت إنها صارحته بعلاقتنا ولو كان رجلاً ذا كرامة لطلقها. لكن حججها لم تقنعني وطردتها شرّ طردة.
واستعلمت عن زوجها فأخبرت أنه ملقى في السجن بتهمة الترصد لاغتيالي، فأمرت بإطلاق سراحه وتعيينه في وظيفة مرموقة. ثم فوجئت بعد أيام قليلة بخبر انتحاره. وإذا بأعدائي يطبّلون لموته ويزمرّون مدعين بأنني دبرت موته لينفسح لي المجال للزواج بامرأته .. وكأنني يمكن أن أتزوج من امرأة تخون زوجها!! وطبعاً كان ذلك نهاية علاقتي بالسيدة فايزة التي لم أغفر لها ما ألحقته بسمعتي من أذى. وقد ظلت تمطرني بتلغوناتها اللجوج مستغفرة عن خطئها بل وهددتني بالانتحار. ولا أدري إن كانت نفذت تهديدها أم لا.



مسؤولية السلطة
أنا لا أزال حتى اليوم يا عادل بعد هذه السنوات التي أمضيتها في الحكم أجهل إن كنت مستمتعاً بالسلطة أم أنها حمل ثقيل علي. فكلما اضطررت إلى اتخاذ قرارات حازمة من أجل مصلحة الشعب والوطن وصفها الأعداء بالقرارات الجائرة. واتهمت بأنني شخص عدائي الطبع ومحب لإيذاء الآخرين. وأنت نفسك تعلم أنني لا اتصف بمثل هذا الطبع. فلو كنت كذلك لاتخذت مواقف شرسة من زملائي الذين كانوا يجرحونني ويهينونني. في صباي. ولو كنت ذا طبع عدواني لتوليت الدفاع عن نفسي. لكنني كنت أتبنى موقفا فلسفيا يومذاك يمنعني من ذلك. وهذا الموقف يؤمن بأن الله خلق عباده ووزّع عليهم الحظوظ. فمنهم من كتب له الغنى والسعادة والقوّة، ومنهم من حكم عليه بالبؤس والفقر والمذلة، وأنا من الصنف الثاني. ولم أكن أجد غضاضة في ذلك ما دامت تلك إرادة الله. لذلك أحجمت عن الدفاع عن نفسي واعتبرت تلك الاعتداءات جزءاً من نصيبي في الدنيا. ربما تقول يا عادل أن هذا النوع من التفكير هو تفكير شخص ناضج وليس تفكير صبيّ صغير. ولكن أؤكد لك أن ذلك ما كان يدور في خلدي فعلاً. لذلك لم يكن لديّ استعداد لمواجهة الشرّ بالشر. فكيف يمكن إذن أن اتهم بأنني عدواني الطبع؟
وينبغي لي هنا أن أذكر بأنني مدين لك برفض هذه الفلسفة المتشائمة يا عادل وإلا لكنت استسلمت لليأس بعد نكبتي بحبي. فأنت الذي نفخت في روحي الأمل وبعثت في قلبي اليائس عزماً جديدا. ولقد نقشت كلماتك التي عزيتني بها يومذاك في قلبي بحروف من نار. ولعلك قلتها حينذاك من باب التعزية ولم تكن تتصور أنها ستفعل بي فعل السحر. ولكن هذا ما حدث فعلاً. وهناك نصيحة أخرى من نصائحك فتحت أمامي أفقاً جديداً وهي دعوتي إلى ممارسة السياسة. وكنت زاهداً فيها أصلاً، لكنني اقتنعت بناء على نصيحتك إنها هي التي ستخلق مني شخصية مؤثرة.
وأنت عارف بنضالي داخل الحزب الذي رفعني إلى هذه المكانة. وقد كان ذلك النضال ثمرة تصميمي على أن أكون شخصاً مهما. وهذا لا يعني بالطبع أنني لم أكن مؤمنا بمبادئ الحزب، لكن تلك المبادئ امتزجت في أعماقي بذلك التصميم فخلقت مني شخصية جديدة. وأنت تتذكر يا عادل إنني بعد اتخاذي طريقي الجديد في الحياة، وأعني طريق السياسة، انكببت على القراءة انكبابا عظيما وأخذت التهم الكتب التهاماً. وكان من جملة الكتب التي انكببت عليها كتب الفلسفة التي فتحت عقلي على آفاق واسعة. وأقنعتني هذه القراءات بأن اعتقادي القديم ليس صحيحاً، وأن الإنسان قادر على أن يخلق مصيره بنفسه. ورحت أسائل نفسي: "هل من المعقول أن يظلم الله عباده فيحكم على بعضهم بالفقر ويحكم على البعض الأخر بالسعادة والثروة والجاه؟ بالتأكيد هذا أمر غير منطقي والإنسان هو المسؤول عن مصيره. وهو القادر على صنع مستقبله والانتفاع بمواهبه الكامنة إذا تسلح بالإرادة الحديد وترقب الفرصة المناسبة لتحقيق أمانيه وعمل من أجلها . ولا شك أن كل العظماء والرؤساء والأبطال كانوا في طفولتهم أشخاصاً عاديين شأنهم شأن غيرهم. وهم الذين صنعوا أنفسهم حينما كبروا وعرفوا كيف يستغلون مواهبهم الكامنة . وأنا أيضاً يمكن أن أصنع مستقبلي وأبلغ أعلى مراتب العزة والجاه والنفوذ إذا عرفت كيف أستغل مواهبي الكامنة . وإن زعماء عظاما من أمثال هتلر وموسيلني وستالين لم يبلغوا مراكزهم بطريق الصدفة بل بإرادتهم وتصميمهم. ولابد أنهم أشخاص متفوقون بالطبع لكن المهم أنهم عرفوا كيف يستغلون مواهبهم الكامنة .
هذا ما رحت أفكر فيه وما بلغته بالفعل. وطبعاً ربما تبنيت أساليب لا يقرّها الآخرون لبلوغ هذا الهدف.. لكنني كنت قد اقتنعت بيني وبين نفسي بمبدأ راسخ هو إما أن يصل الإنسان إلى هدفه أو لا يصل، وأنني سأكون غبيّا إذا أعاقتني مُثُل ساذجة عن الوصول. وهكذا ترى يا عادل أنني خططت لنفسي الوصول إلى مركزي الحالي. ومن غير المعقول أن أسمح للآخرين بعد كل هذا الجهد أن يسلبوه مني. وفي الحقيقة لا يحقّ لأيّ أحد من رفاقنا في الحزب أن يفكر باحتلال مركزي ما دمت لم أتنكر للمبادئ الأساسية لحزبنا. وهذا ما يؤمن به كل رفاقنا الكبار الذين يحيطون بي إحاطة السوار بالمعصم والذين لا يخالفون لي رأيا، وإن اتهمهم الحاقدون بأنهم إمّعة ومنتفعون وعديمو الشخصية. وبالرغم من انني بلغت هذا المركز بنضالي الدؤوب وتضحياتي الجمة لكنني مقتنع بأن العناية الإلهية قد اختارتني لهذا المركز. وكثيراً ما سألت نفسي وأنا أرى كبار الشخصيات وحتى قادة الحزب يتملقونني ويتزلفون إليّ: "هل أنا نفس الصبي الذي كان بعض زملائه الشرسين يضطهدونه ويعيرونه بفقره وبؤسه؟ هل أنا نفس الشخص الذي صار متحكماً في مصائر الملايين من الناس، بوسعه أن يسعدهم أو يشقيهم، يرفعهم أو يذلهم، بل وحتى يهبهم الحياة أو ينتزعها منهم؟" بل كثيراً ما ساءلت نفسي يا عادل: "هل أنا في حلم أم في يقظة؟ وهل ما أشهده من سلطة ومجد وجاه هو مجرد حلم يداعبني في منامي ام أنه حقيقة وواقع؟".
ولكنني أسارع فأؤكد لك يا عادل أن هذه التساؤلات لم تكن تثير الغرور أو الاستكبار في نفسي. بل على العكس كانت تزيد من ثقتي بمواهبي الكامنة. وكانت تدفعني إلى التفوق على الحكام الظلمة الذين يطيعون نزواتهم الشريرة ويستعبدهم الغرور والاستكبار بما بلغوه من مكانة وما أوتوا من سلطة. لكنني اعترف لك يا عادل بأنه تداخلني في أحيان نادرة رغبة شيطانية في الانتقام من كل من أساء إليّ.. وخصوصاً أولئك الذين اساؤا إليّ في صغري وأذلوّني. وقد فكرت مرة أن أنتقم من مدير مدرستنا في الابتدائية الذي لم يكن يحسن معاملتي مع أنه كان خليقاً به أن يعطف عليّ. فخطر لي أن أدعوه إلى مقابلتي وأذله كما كان يذلني. وصدق أو لا تصدق يا عادل أن ذلك الشخص الجبار الذي كان يبعث الرهبة في نفوسنا نحن الصغار والذي لم تكن الخيزرانة تفارق يده وقف أمامي يرتجف كسعف النخلة وهو الشيخ الوقور حتى قبل أن أفتح فمي بكلمة واحدة، فرق قلبي له وأمرت له بجائزة. فأنا إذن لست قاسي القلب عديم الرحمة كما يشيع عني أعدائي يا عادل، وأنت أعرف شخص بطيبة قلبي. وما عدا هذه النزوات العابرة كنت ولا أزال طوال رئاستي أحاول أن أكون عادلاً في التعامل مع قضايا المواطنين وألاّ أغلب عواطفي. ومواقفي هي عكس ما يتهمني به أعدائي تماماً بأنني حقود وأسود القلب ودائم البحث عمن أساء إلي لانتقم منه. وهم يتهمونني بمثل هذه التهم لا لشيء إلا لأنني أصبحت زعيم البلاد بلا منافس.


ثقافتي
يستنكر عليّ أعدائي يا عادل أنني لم أنل تعليماً جامعياً وبالتالي لا تؤهلني ثقافتي لأكون رئيساً للبلاد. فهل من المفروض يا عادل أن يكون رؤوساء الدول من العلماء؟ ولماذا يجب أن يكون رئيس بلد مثل بلدنا، وهو من بلدان العالم الثالث، ذا مؤهل جامعي أو من العلماء؟ هل بلغت الثقافة في بلدنا مستوى عالياً بحيث يصبح من المحتم أن يحكم الشعب رئيس ذو مؤهل علمي عالي؟ ثم أين هي البلاد التي يحكمها العلماء حتى لو أخذنا بنظر الاعتبار الدول الغربية المتقدمة؟ فنادراً ما يحمل رئيس أي بلد من تلك البلدان شهادة الدكتوراه مثلاً مع أن مستوى الثقافة بين شعوبها عالياً. ولا أظنني بحاجة إلى أن أضرب لك أمثلة يا عادل من تلك الدول المتقدمة التي تبوأ فيها أعلى المناصب، وأعني رئاسة البلاد، أشخاص لم يكونوا يحملون حتى شهادة الثانوية. وأريد أن أسألك يا عادل: ما الشهادة العلمية التي كان يحملها ماوتسي تونغ مثلاً؟ ومع ذلك حكم أكبر دول العالم مساحة ونفوسا، بل وأنفرد بالسلطة انفراداً تاماً. وهتلر.. ما الشهادة التي كان يحملها؟! ألم يكن يحترف صباغة البيوت ؟ ومع ذلك كاد أن يصبح سيد العالم. وريجان الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية لفترتين رئاسيتين.. ما هي شهادته؟ ألم يكن مجرد ممثل سينمائي من الدرجة الثانية ؟ ولو استعرضنا حكام دول العالم الثالث.. من هم حكّامها؟ كم واحدا منهم يحمل شهادة جامعية؟ أفليس أغلبهم من العسكريين.. فما الشهادات العلمية التي يحملها العسكريون سوى الشهادة المهنية التي تؤهلهم ليكونوا ضباطاً في الجيش فحسب؟ وحتى الملوك والأمراء الذين يحكمون العديد من بلدان العالم الثالث والذين يعاملون بكل تبجيل واحترام لا لشيء إلا لأنهم ورثوا سلطانهم عن أبائهم. ما الشهادات العلمية التي يحملونها؟ فلماذا أعاب على حرماني من الشهادة الجامعية؟ وهل كل الحكام الذين لا يحملون الشهادة الجامعية حكام فاشلون؟ ثم من قال إن العلماء وذوي الشهادات الجامعية يمكن أن يكونوا حكّاما ناجحين؟ إن مكان العلماء هو قاعات الدرس ومؤسسات البحث والمختبرات العلمية. ونحن نعلم أن بلدانا مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وألمانيا وبريطانيا وفرنسا يمتلكون أكبر عدد من العلماء العظام. فهل سمعنا أن أحداً من هؤلاء قد تبوّأ رئاسة البلاد؟ فإذا كان الأمر كذلك في البلدان الراقية فالأولى ألا يحاسب رئيس بلد كبلدنا على حرمانه من الشهادة الجامعية. ثم من قال إن العلماء يفهمون في حقول المعرفة الأخرى خارج اختصاصاتهم؟ ولقد استعنت أحياناً بمن يسمون بـ"العلماء" وقلدتهم مناصب وزارية فكانوا أكثر الوزراء فشلاً. ثم ما ذنبي إن لم تؤازرني ظروفي على نيل الشهادة الجامعية؟ أكان مرجع ذلك إلى نفوري من التعلم؟ وأنت تعرف يا عادل أكثر من غيرك كم كنت أحب التعلم.. وتعلم جيداً كم تحملت وصبرت لأستطيع الاستمرار في الدراسة. وأنت تعرف أيضاً أن الذي حال بيني وبين مواصلة تعليمي الجامعي هو انغماسي بالنضال السياسي. وكان ذلك يقودني من سجن إلى سجن بحيث عجزت عن مواصلة الدراسة الجامعية. فهل من الإنصاف أن يعدّ حرماني من التعليم الجامعين نقيصة مع أن الكلّ يعلم أن ذلك كان الثمن الذي دفعته من أجل تخليص البلاد من الحكم الفاسد ؟ وبماذا أسهم أولئك المنتقدون ذوي الشهادات الجامعية في إنقاذ البلاد من عصر الظلام؟ كانوا ينعمون يوم ذاك بالحياة الجامعية المرحة في الوقت الذي كنا فيه نتعرض لأنواع المعاناة ولم يكن يهمهم أمر البلاد في شيء. ومع ذلك فهم يرون أنفسهم أجدر من شخص مثلي في حكم البلاد ماداموا قد ناولوا شهادات عالية وصاروا من المثقفين .. وكأن الثقافة حكر على خريجي الجامعات في بلادنا. وأنا طبعاً جربت الدراسة في السنة الأولى من الجامعة واطلعت على طبيعتها. ويمكنني القول بكل قناعة أن الجامعة لا يمكنها أن تخلق شخصاً مثقفاً أن لم يكن لديه الاستعداد لذلك. فكم عدد الذين تخرجهم الجامعات في بلادنا من المثقفين الحقيقيين يا ترى؟ لعلك أقدر مني يا عادل على الجواب عن هذا السؤال.
وأنت تعلم يا عادل أننا أقبلنا على الثقافة الحقيقية ونحن ما نزال تلامذة في المدرسة الثانوية. وبما أنني صرت من رواد السجن الدائميين فقد توفر لي من الوقت ما جعلني أنهمك في القراءة انهماكاً عظيما. وهذه منّة لابد لي أن أسجلها لمسؤولي سجون العهد البائد. فلم يكونوا يمنعوننا من القراءة. وكان انكبابي على القراءة يحمل بعض زملائي على السخرية مني أحياناً فيسألونني في تهكم: "هل أقترب موعد امتحانك؟!" وكانت اهتماماتي متنوعة في القراءة. فكان من بينها كتب الاقتصاد والتاريخ والفلسفة والسياسة والاجتماع. فهل كانت ستتوفر لي هذه القراءات الواسعة لو أتيح لي إكمال تعليمي الجامعي يا عادل؟ ولقد امتحنت ثقافتي مع بعض مدّعي الثقافة من حملة الشهادات العالية وناقشتهم في بعض المواضيع فوجدت معلوماتهم فجّة. وكان بعضهم يتصبب عرقاً أمامي لشعوره بتدنيّ معلوماته. فما أعجب أن يتشدق الأعداء بأنني لا أصلح لشغل مركزي لحرماني من الشهادة الجامعية! ثم أنني أريد أن أسألك يا عادل: أفليس تمجيد الصحف ووسائل الأعلام يوميا لأقوالي وحكمي في شؤون الفكر والسياسة والحياة دليلاً على أهمية أفكاري وقيمتها العظمى للشعب؟
وأريد أن أسألك أيضاً يا عادل: من استطاع من أولئك المثقفين المدّعين أن يؤلف مقالات كالمقالات التي ألغتها في الفكر والسياسة ؟ ولقد طورت أفكار الحزب تطويراً رئيسياً كما فعل لنين بأفكار ماركس، ووضعت نظريات سياسية هي الآن مناراً في الدول المتقدمة، وقد تسود العالم في يوم من الأيام. ولذلك فإنني أحظى دائماً ببالغ التقدير والاحترام من رؤساء دول كبيرة حينما أزورهم أو يزوروننا. وقد أشاد بنظرياتي علماء الغرب وألّفوا الكتب في شرحها وفي دراسة حياتي. ولا تصدق يا عادل ما يقوله أعدائي الحاقدين بأنني رشوت أولئك العلماء والكتاب ليؤلفوا الكتب عني، فما تلك الإشاعات سوى أقوال خسيسة. ولقد ترجمت مقلاتي إلى معظم لغات العالم الحيّة وهي منتشرة في كل مكتبات العالم. وإن هذا المجد الفكري الذي كسبته والذي جعل مني أحد الشخصيات العالمية المعدودة ليغيظ أعدائي أشد الغيظ. فراحوا ينشرون عني الإشاعات الكاذبة زاعمين بأنني أنفق أموالاً طائلة على الدعاية لشخصي وتأليف كتب باسمي وبأنني أشتري صحفاً في الخارج لتطبل لي وتزمر، بل وأشتري كتّاباً وسياسيين للدعاية لشخصي. وبالطبع ليست هذه الاتهامات سوى كلام فارغ.
ويزعم هؤلاء الأعداء أيضاً أنني أحتقر المثقفين وحملة الشهادات العالية، وأن مرجع هذا الاحتقار شعوري بالنقص تجاههم. وأعترف لك يا عادل أنني أحتقر من يسمون بالمثقفين فعلاً . . وقد أقنعتني تجاربي بأن مدّعو الثقافة هؤلاء هم من أقل الناس اهتماماً ببلدهم، وهم أشخاص وصوليون لاتهمهم سوى مصالحهم الذاتية الأنانية بالرغم من ادعائهم بأنهم هم المدافعون الحقيقيون عن مصالح الشعب . ويكفيني أن ألوّم لهم بوظيفة عالية حتى يتهافتون عليّ كما يتهافت الذباب على الحلوى، بل ويصبحون كالخاتم في اصبعي. وأرجوك يا عادل ألا تقارن نفسك بهم، فمعدنك من الماس، أما غالبيتهم فمعدنهم من النحاس. وإن تسعة أعشارهم انتهازيون وأنانيون لاتهمهم سوى مصالحهم الذاتية التي يسعون إليها بالتملق والتزلف لذوي السلطان والجاه.
وأخيراً وبعد كل الذي قلته عن قضية الثقافة أحب أن أصارحك يا عادل بأمر قادتني إليه تجاربي في الحكم وأنا على قناعة تامة به. وهو أن قيادة البلاد وحكمها لا يتطلبان شهادة عالية ولا ثقافة واسعة بل موهبة خاصة. وهذا هو سرّ التباين بين حاكم وآخر. فالحاكم الناجح هو الحاكم الموهوب، وموهبته هي التي تعينه على اتخاذ القرارات الصائبة. وما أكثر ما تعرضت خلال فترة حكمي إلى مواقف حرجة كنت عاجزاً فيها عن اتخاذ القرار. وفجأة يومض في ذهني الحل وإذا كل شيء واضح أمامي كالضوء الساطع. فقائد البلاد الناجح شخص ملهم يا عادل وليس شخصا عاديا. وهذا هو السبب الذي يجعلني أكثر اصرارا على التمسك بكرسي الحكم وأكثر صلابة في مواجهة المتآمرين الذين يريدون أن يحرموا الشعب والبلاد من زعيم ملهم.


تطهير الحزب
هل تلومني يا عادل على تطهير الحزب من المدّعين وأنت أدرى بشؤونه؟ لاشك أنك كنت تعرف أن الكثيرين من زملائنا الذين انضموا إلى الحزب منذ البداية، أي منذ كنا تلاميذ في الثانوية، كانت لهم أهداف شخصية لم يكن بينها خدمة البلاد. وكانوا يحدثون من الجعجعة أكثر مما يقومون به من طحن. وانت كنت من بين القلائل الذي عمل لخدمة البلاد والشعب بتنزه كامل من الأغراض الشخصية. وقد انسحبت مع الأسف من الحزب حينما ارتأيت بأن توجهاته لم تعد تتلاءم وقناعاتك. ولقد ظللت تمثل في ذهني أصدق أعضائه وأنقاهم ضميرا بالرغم من تناقض قناعاتنا. وأنا لست في حاجة طبعاً لأن أعدّد لك أسماء أولئك الذين بدؤا معنا وتسلقوا سريعا إلى مراكز قيادية في الحزب وهم لا يعدلون مبادئ الحزب بجناح بعوضة. وكان زيفهم ينكشف كلما امتحنوا بأداء مهمة صعبة قد تعرض حياتهم للأخطار فتملصوا منها. وقد تنصّل الكثيرون منهم بالفعل من الحزب حينما تعرض للأخطار. وكنت أعجب كيف لا ينكشف زيف أولئك الأشخاص لمسؤولي الحزب الكبار. فقد كانوا يرقون في مراتب الحزب بصورة دائمة. وكنت أعتقد أن قادة الحزب رجال عظام لا تهمهم سوى مصالح الحزب والبلاد. ولم أكن لأصدق أن أولئك القادة كانوا يعنون بجمع أكبر عدد من المريدين حتى لو لم يكونوا مؤمنين بمبادئ الحزب. ولم أدرك هذه الحقيقة إلا بعد أن تقدمت في مراتب الحزب واحتككت بالأعضاء المتزلفين والمنافقين . فقد كانوا ينصحونني ألاّ أشتد في معارضة توجهات القادة الكبار لأن ذلك سيكسبني عداءهم وسيبعدني عن المراكز المهمة في الحزب. وبالرغم من أن تلك النصائح أثرت في سيرتي في الحزب نوعما فقد ظللت أيضاً متمسكاً بمبادئي.
فإذن كان الحزب ولا يزال يضم عدداً غير قليل من أمثال أولئك الانتهازيين الذين لا تربطهم بالحزب سوى أهدافهم الأنانية ومصالحهم الذاتية. ورغم قناعتي بخطورة أمثال هؤلاء الانتهازيين فقد بقيت مهادنا لهم حين تبؤأت رئاسة الحزب. وصار البعض منهم من قادة الحزب الكبار مع أنهم يكرهون مبادئه في أعماقهم.
وكان يمكن أن أظل مهادنا لأمثال هؤلاء الأعضاء المنافقين يا عادل لو أنهم ساروا سيرة حسنة وكنت أتوقع منهم أن يتقبلوا رئاستي للبلاد وللحزب ويتناسوا مطامعهم وأحقادهم خصوصاً وأنني لم أتعرض لهم بسوء. بل إنني خصصت أعضاء الحزب الكبار بمكاسب سخية جعلت منهم طبقة مميزة. والحقيقة أنني عممت تلك المكاسب على أعضاء حزبنا جميعاً صغيرهم وكبيرهم وقد ميزتهم عن سائر المواطنين بالرواتب والعطايا والهبات . ولكن أنىّ لأمثال هؤلاء الحقراء نسيان رغباتهم الدنيئة؟ لقد أكل الحقد قلوبهم حينما دانت لي مقاليد الحزب والبلاد وعجزوا عن أن يقروّا بأن هناك زعيماً واحداً للبلاد وعليهم أن يدينوا له بالطاعة الكاملة. ولا أدري إن كان هؤلاء الحقراء مجانين ام عقلاء حتى يفكروا بمنافستي على الرئاسة. وكان عليهم أن يشكروا الله على أن هيأ للحزب زعيماً مثلي .
ولم أعجب حينما بدأ مسؤلو المخابرات يعلمونني بتحركاتهم المشبوهة أولاً بأول. وقد اندسوا بينهم وهم من الحزبيين أصلاً. ولا أفهم كيف تصور هؤلاء المتآمرون بعقولهم الضعيفة أن تحركاتهم يمكن أن تفلت من عيون رجال المخابرات الساهرة. وعلى كل حال فلم يكن ضلوع هؤلاء الحقراء بالمؤامرة ضدي أمر غريب بالنسبة لي. فالبعض منهم كان من زملاء التلمذة وأنا أعرف نفوسهم الخبيثة حق المعرفة. لكن الذي أدهشني أن يتزعمهم شخص هو من أبناء محلتنا وممن تربطني به علاقة طيبة. فتصور يا عادل كم يضمر الإنسان من حطة وخسّة في أعماق نفسه. ولكن هذا ليس بالأمر الغريب. فالتاريخ يحدثنا أن بروتس كان اقرب شخص ليوليوس قيصر بل كان في الحقيقة ربيبه، ومع ذلك وجّه إليه الطعنة القاتلة. ولابد أنك أدركت من أعني بكلامي هذا فأنا أقصد صابر السعد. وأنت تعرفه بالطبع وأتذكر أنك كنت تحترمه .
وكنت تعده من القيادات الشابة الجيدة في الحزب.. كيف أمكن لصابر السعد أن يتزعم المؤامرة ضدي وأنا الذي كنت أثق بإخلاصه ثقة كاملة؟! ولقد أدركت منذ البداية أن الحسد هو دافعه الوحيد للتآمر عليّ وليس رفضه لسياستي في إدارة الحزب والبلاد كما زعم. ولعل من أعجب مزاعمه أنني ألغيت الحزب عمليا وصار اسماً بلا مسمى وانفردت بالسلطة انفراداً تاماً.. مع أن الجميع يعلمون أنني جعلت من أعضاء الحزب الحكام الفعليين للبلاد، وهم يهيمنون على الصغيرة والكبيرة في حياة الناس. وهم في الحقيقة يحكمون نيابة عني. وأصارحك يا عادل أنني لم أحزن لتآمر الانتهازيين من أعضاء الحزب عليّ والذين كنت أعرف خلقهم. لكنني حزنت لتآمر صابر السعد عليّ.
ولم تواجه المحكمة صعوبة في إصدار حكم الموت على المتآمرين. فقد قدّم إليها الإدعاء أشرطة مسجلة لكل ما دار بينهم من حوارات. وكم من عبارات ساخرة ومقذعة قذفوني بها في تلك الحوارات. ولا تصدق يا عادل ما أشيع بأن اعترافات البعض منهم انتزعت بالتعذيب. وقد اخترعت في ذلك حكايات عجيبة. فقيل إن البعض منهم قطعت أيديهم وألسنتهم وآذانهم والبعض الأخر فقئت عيونهم وآخرون ربطوا بأسرة ملتهبة وعذبوا بالكهرباء . فالمحققون لم يكونوا أساساً بحاجة إلى التعذيب لانتزاع الاعترافات منهم. فأشرطة التسجيل قد أدانتهم إدانة كاملة. أما الإشاعات القائلة بأنني قتلت زعيمهم صابر السعد بنفسي فهي صحيحة. وسأروي لك يا عادل كيف حدث ذلك. لقد كان صابر السعد أبعد شخص منهم يمكن أن أفكر بإيذائه. فلم أنس ما كان يربط بيننا من مودة، ولم أنس أنه من أبناء محلتنا. وكنت عازماً على إنقاذه من حبل المشنقة. وقد أحضرته لمقابلتي علّه يعترف بذنبه ويشجب المؤامرة الحقيرة، ثم يسجّل ندمه ويعلن إخلاصه وولاءه لقيادة الحزب. وأؤكد لك يا عادل أنني كنت أحاول بهذه الخطوة إنقاذه من حبل المشنقة. فلما حضر لمقابلتي بدا وكأنني انا المجرم وهو القاضي الذي يحاكمني. وراح يتهجم عليّ زاعماً أنني خنت مبادئ الحزب وأن سياستي التسلطية قد كرّهت الحزب في عيون الشعب وأنها تقود البلاد إلى الخراب. بل وزاد على ذلك بالقول إنه لا يهاب الموت وأنه مستعد للتضحية بحياته في سبيل عقيدته وأنه سيصعد إلى المشنقة وقدمه فوق رأسي.. تصور!! لقد تعمد استفزازي على نحو لا نظير له! ولا أدري ماذا كان قصده من ذلك. لعله كان يريد أن يدفعني دفعاً إلى تنفيذ حكم الموت فيه ليصبح من الشهداء الأبطال! وحينما قلت له إنني أدرك بأن الغيرة قد أعمت بصره وبصيرته فدفعته إلى التآمر عليّ وليس الحرص على مصلحة الحزب أو البلاد قال لي في سخرية جارحة: ومن تكون أنت حتى أغار منك يا ابن كريم الأعور؟ هل صدقت نفسك بأنك قائد وزعيم حقا؟ أفق من غرورك وأعلم أنك لست سوى شخص تافه عادي وتذكر من تكون. وإلا فهل نسيت من تكون؟. إذا كنت أنت نسيت فنحن في الحزب لم ننس أنك ابن ذلك السكير كريم الأعور.
وكان كلامه هذا كماء النار الذي ألقي على وجهي والذي أفقدني عقلي. فلم أشعر إلا وأنا أنتزع مسدسي وأفرغ رصاصه في رأسه. وأؤكد لك يا عادل أن قتله لم يخطر لي على بال بل كان ردّة فعل طبيعية لبذاءته معي . وأعتقد أن أي إنسان في موقفي كان سيفعل ذلك.
وربّ ضارة نافعة كما يقول المثل يا عادل. فلقد فتحت تلك المؤامرة عيني على واقع الحزب فاتخذت تدابير صارمة لتطهيره من الانتهازيين والطامعين والمدّعين والحاقدين. ففصلت منهم من فصلت وسجنت منهم من سجنت. وأبعدت المشكوك بولائهم للقيادة عن المراكز الحسّاسة. وأنا أعلم أن إجراءاتي هذه قد أثارت الانتقادات بين أعضاء الحزب السذّج الذين لا يدركون حقائق الأمور. لكن الجرّاح مضطر لبتر الأعضاء الفاسدة من جسم المريض كي يتعافى. وأنا مسؤول أن أفعل ذلك لكي يتعافى الحزب.

المراكز العليا
أنا أتعرض لانتقادات ظالمة من أعدائي يا عادل في اختياري للوزراء وللموظفين ذوي المراكز العليا ولقادة الجيش. ومن المؤكد انه ليس وراء اختياري دوافع شخصية. فالأصل في اختياري من تتوفر فيه الرغبة في خدمة البلاد. وأعترف أنني قد أضحي أحياناً بالكفاءة مقابل الولاء الكامل للقيادة الوطنية ولمصلحة البلاد. وقد علمتني تجربتي في الحكم أن من الصعب العثور على الشخص الذي يغلّب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. وطبعاً كل الناس يتشدقون بالقول أنهم يقدمون المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. ولكن كم واحدا منهم صادق في ادعائه هذا؟ كم واحدا منهم من هو على شاكلتك يا عادل؟ من المؤكد أن أمثال هؤلاء أندر من الماس. وكم من مرة خدعني أشخاص بتظاهرهم بالحماس للمصلحة العامة ثم ظهر لي فيما بعد انهم أشخاص فاسدون يقدمون مصلحتهم الشخصية على المصلحة العامة. وأنا أعترف ان العثور على إنسان كامل أمر في غاية الصعوبة وهو يشكل تحدياً لمن أوكلت إليه مقاليد البلاد. فالإنسان إنسان ولابد أن تعتوره نقاط ضعف. وهناك الكثير من الضغوط على الإنسان. هناك مثلاً أشخاص يتأثرون بالمال وهم مستعدون للتضحية بكل القيم في سبيل جمعه. وطبعاً هذا النوع من الأشخاص لن يشبع نهمه إلى المال مهما صعدت أرقام أرصدته في البنوك. وبعض هؤلاء قد يكونون في أرفع المناصب، بل قد يكونون رؤساء دول ومع ذلك يتاجرون بالمخدرات أو يخونون دولهم ويتقاضون مبالغ من دول أجنبية.
وهناك من يتأثر بالمرأة. وهؤلاء مشكلتهم معقدة. ولابد أنك تعلم يا عادل أن من جملة أساليب المخابرات الأجنبية للكشف عن أسرار دول معينة تسليط النساء الجميلات على ذوي النفوذ. وهذا الأسلوب ينجح معنا بالذات نحن أبناء العالم الثالث.. ولكن لابد لي أن أكون منصفاً فأقول إن المرأة كانت دائماً مصدر غواية للحكام منذ أزمان بعيدة. وتاريخ الملوك والحكام العظام حافلً بأمثال هذه القصص. بل إن الصحف ووسائل الإعلام حالياً تعج بالفضائح النسائية لوزراء ورؤساء عظام. وهل أكشف لك سرّاً يا عادل إذا أخبرتك بأن رؤساء بعض الدول الكبرى يطلبون منا في زياراتهم الرسمية بأن نهيء لهم حفلات ترفيهية نسوية؟! فالمرأة إذن تشكل خطراً لا يستهان به على ذوي النفوذ.
وهناك صنف ثالث من البشر وهم المولعون بالجاه لدرجة تفقدهم الصواب في أحكامهم وتفقدهم التوازن في سلوكهم. وقد يكون بعضهم مستعدا للتخلي عن كرامته في سبيل الجاه. وأمثال هؤلاء قد يتبوؤن أعلى المناصب ويبدون للناس جبابرة وهم في حقيقتهم ليسوا سوى صعاليك. ومن الأمثلة على هذا الصنف من البشر سعيد المشكوري. ولقد اخترته مرة لرئاسة الوزارة لتصوري انه ظليع في الاقتصاد كما كان يشيع عن نفسه ويشيع عنه المخدوعون به. وكنت أسمع قصصاً عن اعتزازه الشديد بنفسه وبعلمه لدرجة تبلغ حدّ الصلف والاستهانة بالآخرين. وقد نصحني بعض المستشارين بعدم استيزاره تجنبا لما قد يخلقه لي من متاعب. لكنني رفضت نصائحهم وعهدت إليه برئاسة الوزارة من أجل مصلحة البلاد. فقاسى زملاؤه الوزراء الأمرين من عنجهيته. وكان يتعالى عليهم مع أنه يعلم أنه ليس له نفوذ حقيقي عليهم وأنهم مرتبطون بي مباشرة. لكنه كان يظهر لي وجهاً آخر مغايراً لهذا الوجه. كان يبالغ في إظهار احترامه وتقديره لي ويتملقني على نحو يثير اشمئزازي. ولابد أنك تعلم يا عادل أن سعيدا المشكوري هذا كان معروفاً بمعارضته لسياستي الاقتصادية. وكنت أتوقع أن يعارضني في بعض خططي الاقتصادية وإذا به يبدي حماساً عظيماً لها. وحينما كنت أتردد في إصدار بعض القرارات التي تفتقر إلى سند قانوني كان يقول لي: لماذا تهتم بهذه الشكليات يا سيدي الرئيس؟ إن آراءك الصائبة هي بحد ذاتها قوانين.
وحينما كنت أقول له إن هذه القرارات قد تلقى المعارضة من البعض كان يرد عليّ قائلاً: وهل تتصوّر يا سيدي الرئيس أن آراء أمثال أولئك المعارضين لها قيمة حقيقية؟ وهل يوجد بينهم من يتفوق عليك في آرائه؟!.
وكان يحاول بكل ما لديه من علم تبرير تلك القرارات وجعلها أقوى من القوانين. وكان سلوكه هذا يثبر اشمئزازي ويزيدني احتقاراً له. فكانت تتملكني أحياناً نزوة لتوجيه الإهانةة إليه. وبلغت بي الرغبة في اهانته يوما أن قلت له: يا سعيد.. بي رغبة أن أشهد رقصاً شرقيا. فأجابني: ليس أسهل من هذا يا سيدي الرئيس. الآن سنبعث بطلب أجمل راقصات البلد.
فقلت له: لكنني لا أريد أن أشهد رقصا من راقصة محترفة. أريد رقصاً من شخص غير متمرس.
فظل حائراً ولم يفهم قصدي. فقلت له: ما رأيك أن ترقص أنت فلا شك أن ذلك سيسلينني؟
وكنت أتوقع أن يغضب لقولي هذا وأن تثور كرامته. لكنه نهض متحمساً ولف حول خصره فوطة وأخذ يرقص رقصاً خليعاً. وكان ذلك نهاية احتمالي له فصرفته عن رئاسة الوزارة. ومن المضحك أنه أشاع بين الناس أن سبب صرفه عن الوزارة اختلافه معي على قضايا جوهرية تخص اقتصاد البلاد.
أريد أن أخلص إلى القول يا عادل أن الملق والطاعة المطلقة ليستا المسؤولتان عن اختياري للوزراء وذوي المراكز العليا كما يتهمني أعدائي. وليس ذنبي أن يبالغ بعض الوزراء والموظفين الكبار في ملقهم وزلفاهم. فأنا لم أطلب من أحد ذلك. وصحيح أنني احتفظ ببعض الوزراء بصورة دائمة حتى أن الناس يطلقون عليهم لقب "الوزراء المؤبدون" لكنني لا أحتفظ بهم بسبب ملقهم وتزلفهم بل لأنهم ذوي كفاءة ولأنني اعتدت عليهم واعتادوا عليّ. تصور يا عادل أنهم لا يعترضون عليّ حينما أهينهم أو أشتمهم. وأقول لك الصدق يا عادل إنهم أشد إخلاصا لي من خدمي .
فإذن الكفاءة والولاء لزعامة البلاد هما أساس اختياري. والولاء للزعيم هو فوق كل شيء في حسباني. فأنا لا أتسامح مع من يتآمر عليّ مهما تكن كفاءته. وقد تقول يا عادل: ولماذا يتآمر عليك وقد منحته مركزاً مرموقاً؟! ولكن هكذا هم البشر يا عادل. فالبعض منهم قد تآمر عليّ بالفعل بالرغم من إحساني إليه. ولا أفهم لماذا لا يستطيع الإنسان التخلص من حقده وطمعه وحسده. وسأضرب لك مثلاً على ذلك من قائد الجيش السابق سليم الهادي الذي أثار عزلي له لغطا واسعاً باعتباره عسكرياً لامعاً. وقد كنت أقدره وأحترمه وهو من أعضاء حزبنا المخلصين. أتصدق يا عادل أنه أخذ يتآمر عليّ ليحل محلي؟ وقد لقنني سليم الهادي هذا درساً وأدركت أن قادة الجيش مهما أظهروا ولاءهم يحلمون بتبوّأ منصب الرئيس فيتآمرون عليه بالخفاء. ويشجعهم على ذلك أن رؤساء معظم بلدان عالمنا الثالث هم من العسكريين. ولا أدري لماذا يتصور العسكريون أنهم هم الذين ينبغي أن يتولوا الحكم. وهذا ديدنهم منذ أقدم الأزمان مع أن المفروض أنهم لا يفهمون إلا بالحرب. وأصارحك يا عادل أنني لم أعد أثق بأحد. وهذه الشكوك في نوايا الآخرين هي التي تلزمني بوضع ثقتي بأقرب الناس إليّ وهم إخوتي وأقربائي الأقربين وأبناء بلدتي وعشيرتي ثم أصدقائي الحميمين الذين اثبتوا إخلاصهم لي. وطبعاً ذلك يحملني على التساهل بمسألة الكفاءة وخصوصاً وأنني المرجع الأول والأخير في الأمور الحاسمة. وقد تحتج يا عادل على أسلوبي هذا في اختيار الوزراء وموظفي المراكز العليا ولكن لديّ مبرراتي لذلك. فمنذ تولي الحزب الحكم والنظام يتعرض للمؤامرات. فلابد إذن من الحذر في اختيار من يدير شئون البلاد. واعتقد أنني نجحت في الموازنة بين الحفاظ على سلامة النظام والبلاد وبين اختيار الشخص المناسب للمركز المناسب. وكن على ثقة يا عادل أنني لا يمكن أن أتساهل مع أي موظف مهما علا مركزه يعبث بمصالح البلاد. فأنا بعد كل شيء المسؤول الأول والأخير عن أمن المواطنين وثروة البلاد.


موقفي من القانون
يقول أعدائي يا عادل بأنني لا أحترم القانون وأنني من أجل نشر الإرهاب والخوف بين الناس أعرض عن النصوص التي تنطوي على الأحكام المخففة وألجأ إلى أقصى عقوبة. وابتداء أقول إنني فعلاً لا أتساهل مع من يغدر بالشعب بأي شكل من الأشكال.. أكان هذا الشكل محاولة للإطاحة بزعيمه المحبوب أم بتخريب اقتصاد البلاد أم بالسطو على أموال الشعب أم بمخالفة التعليمات الإدارية . فكيف يتوقع مني المغرضون التساهل في قضية الفساد الشهيرة؟ ففي تلك القضية ثبت للمحكمة أن تلك المجموعة من المجرمين الذين يتبوؤن أعلى مراكز الدولة من وزراء ووكلاء وزراء ورؤساء مؤسسات قد استغلوا مراكزهم ونهبوا أموال الشعب. وبالطبع لم أكن مستعدا للرأفة بأمثال هؤلاء المجرمين الذين وثقت بهم وبوّأتهم ارفع المناصب.
ومن واجبي ألاّ أستسلم للرحمة في أمثال هذه المواقف. وبدلاً من أن يهلل لهذه الخطوة من يزعمون الإخلاص للبلاد ومن يتهمون عهدي باستشراء الفساد راحوا يتباكون عليهم ويطلبون الرحمة لهم. وانتهزوا هذه الفرصة لتجريحي قائلين بأن الأولى بي أن أحاسب نفسي وإخوتي وأقربائي قبل أن أحاسبهم. وقد بثوا الإشاعات بأن أعضاء المحكمة لم يجدوا نصاً في القوانين تخوّلهم الحكم عليهم بالإعدام وأنني أنا الذي أمرتهم بذلك. وكل ما في الأمر أنني لم أكن مستعداً لتخفيف الحكم الصادر بحقهم. وهل كان ينبغي لي أن أقف غير هذا الموقف؟ هل كان ينبغي لي أن أتساهل مع أمثال هؤلاء المجرمين الذين خانوا ثقتي بهم؟! فأنا مسؤول أولاً وآخرا عن صيانة أموال الشعب. ولكن الأعداء اعتبروا موقفي لوياً للقانون. وأقول لك يا عادل إنني لا ألوي القانون من أجل مصلحتي الخاصة بل من أجل مصلحة الشعب. ولماذا لا ألوي القانون إذا كان يتعارض ومصلحة الشعب؟ هل القانون نص مقدس كالنصوص الدينية؟ ومن الذي وضع القوانين؟ ألم يضعها بشر مثلنا تحت ظروف معينة ولأغراض معينة؟ ومن قال إن أولئك البشر هم أفضل منا أو أعظم إخلاصاً أو أكثر رعاية للناس؟ فلماذا لا يمكن لويها أو إعادة كتابتها إذا ما تعارضت ومصالح الناس ومع العدالة المطلقة؟! ولعلك خير من يعرف هذه الحقيقة عن روح القانون يا عادل . فكيف ينتقدني الأعداء على ميلي إلى الأخذ بأقصى العقوبة في الجرائم الموجهة ضد مصلحة الشعب والبلاد ؟ وما ذنبي إذا كان الإنسان لا يرتدع عن الباطل ألاّ بالعقوبة الصارمة؟ هذه هي طبيعة الإنسان. وقد اعترفت الأديان السماوية بهذا العيب في البشر فجاءت نصوصها تحض على العقوبة الصارمة من أمثال العين بالعين والسنّ بالسنّ والحياة مقابل الحياة والبادئ أظلم. وإني لأعجب حقاً لتلك الدعوات التي تصدر من بعض الدول الغربية بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام حتى عن المجرمين القتلة. أي منطق هذا؟ كيف يمكن أن يسامح المجرم على جريمته؟ هذا معناه نشر الفوضى. فهل نجحت هذه الدعوات المتسامحة في التقليل من جرائم القتل في أمثال تلك الدول؟ بالعكس، لقد تصاعدت تلك الجرائم لأن المجرم أمن العقاب. ولقد ثبت أن العقاب السريع وبأقصى حكم هو الذي يمنع حدوث الجريمة او على الأقل يقلل من حدوثها. وأكبر فشل على منطق الغربيين هو ما نشهده في الدول الغربية الراقية من ارتفاع معدل الجريمة. فالمجرم هناك قد يأمن العقاب إذا كان لديه محام بارع. وقد تستغرق محاكمته سنين طويلة. لا يا عادل.. أنا لا أؤمن بهذا المنطق الفج. وإذا لم يساعدني القانون في إنزال العقاب الصارم بمن أقتنع أنه مجرم فإنني مستعد للوي ذراع القانون ليستجيب للعدالة الحقة والمصلحة العامة. ثم لماذا يؤاخذني أعدائي على الأخذ بأقصى عقوبة وعلى تأييدي لأحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم بحق المجرمين؟ أليس من واجبي أن ألتزم جانب العدالة التي تتمثل في تنفيذ أحكام القضاة؟ ألم تتفق معظم الدول على منح رئيس الدولة مثل هذا الحق؟ إن هذه الدول قد أقرت بأن رئيس الدولة هو المرجع الأعلى في القضاء لأنه يقدر المسؤولية التي ألقيت على كاهله. ولذلك لا يمكن ان يتم تنفيذ عقوبة الإعدام إلا بتصديقه. فلماذا اتفقت الدول على ذلك إذن إن لم يكن هناك قناعة بعدالة رئيس الدولة وبشعوره العالي بالمسؤولية؟ وصدّق أو لا تصدق يا عادل.. إنها لمسؤولية عظيمة أن يجد الإنسان نفسه في مثل هذا الموقف. هل يتصور أعدائي المعتوهون أنني أستمتع بالتصديق على أحكام الإعدام؟ إذن هم لا يدرون بالكوابيس المرعبة التي تنتابني في الليالي التي تعقب تصديقي على أحكام الإعدام. وكثيراً ما اضطررت إلى تناول الحبوب المنومة لتساعدني على النوم. ولكن الواجب هو الواجب إذا تطلب الأمر حماية الشعب والبلاد من العابثين بأمنه وثروته. وفعلاً يتحول القلب الرقيق بين جوانحي إلى صخرة صلبة. وهذه هي ثمار تحمل المسؤولية. وصدقني يا عادل.. ليس سهلاً على الإنسان أن يجد نفسه في موضع كموضع الخالق.. بوسعه أن يهب الحياة للإنسان أو يسلبها منه. إنه لموقف صعب جداً يعجز عن إدراكه إلاّ من خبره.



اللقاءات الأسبوعية
كثيراً ما أضحك يا عادل حينما أقرأ الانتقادات التي يوجهها إليّ أعدائي في الجرائد المأجورة. فهي تشتمل على سخف عظيم وعلى تحامل يفضح حقيقة كتابها. فكل ما أفعله في نظرهم سيئ وذي أغراض مشبوهة. ولا يمكن أن أهدف بأعمالي إلى خير الشعب. ولعل أشد انتقاداتهم سخفاً هي تلك التي يوجهونها إلى لقاءاتي الأسبوعية بأبناء الشعب. فهم يزعمون أن غرض هذه اللقاءات هو إشباع الزهو في نفسي أنا المنحدر من أسرة حقيرة بائسة. ويزعمون أيضاً أنني أتشبه بالسلاطين القدماء فأتصدق بأموال الدولة على من أشاء. فأنا بالتالي لست سوى شخص زائف. ففي الوقت الذي الجأ فيه إلى القبضة الحديدية وأبطش بالمعارضين بلا رحمة أحاول أن أظهر للبسطاء السذج من أبناء الشعب بأنني عطوف رحيم أستجيب لكل من له حاجة. وأنا أسألك يا عادل: هل من عيوب الحاكم أن يحاول التعرف على احتياجات أبناء الشعب ومشكلاتهم بنفسه وبدون حواجز؟ وأؤكد لك يا عادل أنه لم يخطر على بالي يوماً أن أتخذ مرة هذه اللقاءات وسيلة للتقرب من أبناء الشعب وكسب ودّهم. وكل غرضي هو رفع الظلم عنهم.. الظلم الذي يوقعه بهم الموظفون البيروقراطيون الذين يستخدمون التعليمات الإدارية سيفاً مصلتاً على رقابهم. وأنت تعرف يا عادل أن مشكلتنا الإدارية هي بيروقراطية الموظفين. فمهما وضعنا من تعليمات للحدّ منها التفوّا حول تلك التعليمات ووضعوا أنفسهم في موضع السيد وأبن الشعب في موضع المسود.
وقد انتفعت من لقائي بأبناء الشعب انتفاعاً عظيماً يا عادل. فهم يقصون علي قصصاً مذهله عن تعسف بعض الموظفين في التعامل معهم. فإذا ما رفعوا ظلاماتهم إلى مرجع أعلى لم يحصدوا غير الخيبة. فلا يبقى أمامهم سوى الالتجاء إليّ. فهل ينبغي لي أن أرفض لقاءهم؟! وهل تنطوي هذه اللقاءات على دعاية شخصية لي حقا؟ والذي أريد أن أؤكده هنا يا عادل أن لقاءاتي هذه بأبناء الشعب تنصف الكثيرين منهم، ولولاها لظلوا يعانون من الظلم. فليقل أعدائي إذن ما يقولون، وليفسروها كما يشاءون، لكنني بالتأكيد لن أكف عنها. فهي تكسبني سعادة بالغة وأنا ألاحظ الارتياح العميق على وجوه من أنصفهم. وأعترف لك يا عادل أن مصدر سعادتي ليس حب العدالة فحسب، بل معاقبة الموظفين المتعسفين. فليس بوسعي أن أمحو من ذهني صور المذلة التي يكابدها الناس البسطاء حين مراجعتهم للدوائر الحكومية. وأذكر أنني صحبت أبي مرة لمراجعة مركز للشرطة، فكان أبي يخاطب ضابط الشرطة المسؤول بكلمة "مولاي"، وكان هو يرد عليه في ترفع واحتقار.
أما انتقاد أعدائي لي بأنني أهدر أموال الدولة على المحتاجين من أبناء الشعب فهو من أعجب الانتقادات . ولا أفهم كيف يمكن أن تكون مساعدة المحتاجين إهداراً لأموال الدولة! ما فائدة أموال الدولة إن لم تنفق على المحتاجين من فقراء الشعب؟! فهل تراك من الذين يناصرون هذا الرأي يا عادل؟ بالتأكيد لا. وأنا واثق أنك لو كنت في موضعي لفعلت ما أفعله. وهل يمكن أن أنسى ما كنت تقدمه لي من مساعدات حينما كنت تدرك أنني في حاجة إليها؟ لقد كنت تقتطع من "يوميتك" لتمد لي يد المساعدة.. في حين لم يكن زملاؤنا الآخرون يفعلون ما تفعل. كنت تتميز بنفسية محبة للخير ومستعدة لمساعدة المحتاجين. وأنا مثلك يا عادل. وقد أصبحت الآن قادراً على ذلك. فهل أحجم عن فعل الخير ليقال عني أنني أحافظ على أموال الدولة؟ ولأجل من أحافظ على أموال الدولة؟ أليس أبناء الشعب الفقراء أحق بها؟! والحق مع أولئك المعترضين يا عادل فهم يمتون إلى الطبقة المرفهة. وهم لا يعرفون الحاجة كما عرفها شخص مثلي. فمن الطبيعي ألاّ يتعاطفوا مع أبناء الشعب المحتاجين. ولكن من الطبيعي أيضاً أن يتعاطف معهم شخص مثلي. ولو تعلم يا عادل مدى سروري وأنا أمدّ يد العون لأولئك المحتاجين. إنني أشعر كما لو كنت أنا الذي يتلقى هذا العون. وفي الوقت نفسه ينتابني أسئ شديد لأنني أدرك أن من يتلقون عوني لا يمثلون سوى قطرة من بحر من المحتاجين.. أولئك الذين لم تتح لهم فرصة مقابلتي وطلب العون مني. وكم أتمنى لو تتاح لي ظروف كتلك التي أتيحت للسلاطين القدماء الذين كانوا يتنكرون في الليالي الظلماء ويجوسون أزقة مدنهم ليكشفوا عن أبناء الرعية المحتاجين. فليعلم أولئك المنتقدون أنني لن أكف عن توزيع المنح المالية على المحتاجين حتى لو اضطررت إلى إنفاق كل ما في خزينة الدولة من مال.

الأجهزة الأمنية
أنا لا أنكر يا عادل أنني أعتمد اعتمادا كبيراً على الأجهزة الأمنية. ولا أنكر أيضاً أن رجالها يمارسون أحياناً بعض المخالفات. ولكن كن على ثقة أن ما يتناقله الأعداء عن طبيعة تلك المخالفات ينطوي على المبالغات. وهم يرددون قصصا لا صحة لها عما ترتكبه هذه الأجهزة بحق معارضي الحكم. وكما ذكرت لك من قبل أن لي جهازي الخاص الذي أسمّيه " استخبارات الحق والعدل. " وقد خوّلت هذا الجهاز مراقبة الأجهزة الأمنية الأخرى. وأصارحك يا عادل أن كل شخص مهم في الدولة مراقب بدقة حتى لا يرتكب مخالفات. وقد تبيّن لي من تقارير " استخبارات الحق والعدل" أنه لا صحة لكثير من القصص التي يرويها الأعداء. وهم يروون قصصاً ما أنزل الله بها من سلطان. فهم يزعمون تارة أن الكثيرين من معارضي الحكم يختفون ولا تعرف أخبارهم لأنهم يقتلون وتدفن جثثهم في مقابر مجهولة أو تذاب في أحواض " التيزاب". ويزعمون تارة أخرى بأن المعارضين يدهسون بالسيارات فيقال عنهم أنهم ماتوا في حوادث مؤسفة. تصور يا عادل أنني أصبحت مسؤولاً حتى عن حوادث السير وكأنه لا تحدث حوادث سير مميتة في بلدان العالم. فكل معارض يسوقه حظه التعس إلى هذا المصير أكون أنا مسؤولاً عن موته وتكون الحادثة من تدبير أجهزة الأمن. بل إن وقاحة أعدائي بلغت حدا إلى اتهامي بأنني قتلت المئات من نزلاء السجون من المعارضين بدون محاكمات ودفنتهم في مقابر جماعية مجهولة وأنني سمحت باغتصاب زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم . ولا حاجة بي للدفاع عن نفسي تجاه هذه التهم القذرة فأنت أعرف بأخلاقي .
ولا تزعجني أمثال هذه الأكاذيب يا عادل بقدر ما تزعجني قصص التعذيب التي يتداولها المعارضون. ومن هذه القصص أن للأجهزة الأمنية سجوناً تحت الأرض وزنزانات ضيقة كالأقفاص تمارس فيها عمليات التعذيب بتقنيات لم تعرف في بلدان أخرى وعلى نحو يفوق الخيال.. مع أننا فتحنا سجوننا مراراً وتكراراً للجان التفتيش العالمية فثبت أنها سجون نظيفة. ولم يصرّح أي أحد من السجناء لتلك اللجان بأنه تلقى تعذيباً أو سمع بخرق لقوانين السجون العالمية. والحقيقة يا عادل أن قصص تعذيب المعارضين كانت تنطوي على مبالغات كبيرة حتى في عهد الحكومات البائدة وأنا شاهد على ذلك. وكنّا نحن الذين نسهم في بثّ تلك القصص. وكان الناس يصدقونها فيشتد غضبهم على السلطة. ولابد أنك تتذكر ما كان يروى من قصص عن تعذيب المناضلين الذين تقلع أظافر أيديهم وأقدامهم. لكننا لم نشهد يوماً شخصاً من رفاقنا ممن قلعت أظافره. صحيح أن ظروف السجون والمعتقلات في ذلك العهد كانت سيئة. فالازدحام كان شديداً في الردهات والطعام كان رديئا. وكنا نكاد نهلك من الحرّ أيام الصيف. وصحيح أن البعض منا كان يتلقى عقاباً خاصاً فيمضى أسابيع في زنزانات خاصة. لكن التعذيب كان يقتصر في الواقع على الفلقة و الضرب بالخيزران فحسب. وأحيانا لم تكن سلطات السجن تجراً على ضربنا فتحرّض علينا سجناء شرسين يحتكون بنا ويفتعلون المشاجرات معنا. ثم أخذنا ننظم عصابات لردع أمثال أولئك السجناء فكفّوا أذاهم عنا. فما أبعد القصص التي كانت تبثّ يومذاك حول التعذيب عن الحقيقة. وأؤكد لك يا عادل أن الشيء نفسه يجرى حالياً. ولعلك تقول إن الشواهد كثيرة على تعرض المعتقلين والسجناء السياسيين للتعذيب. وهم يحملون أثارها في أجسادهم، فأبادر إلى القول بأنه توجد بالفعل حوادث نادرة من هذا القبيل. ولكن كن على ثقة يا عادل أنها حوادث فردية ولا تمثل سياسة مرسومة من قبل الدولة. ويؤسفني أن أقول لك إن بعض أفراد أجهزة الأمن ميالون بطبعهم إلى العنف. بل يمكنني القول إنهم ساديّون. ولكن أمثال هؤلاء الساديين يلقون مني الردع الحازم إذا ما علمت بأمرهم . فأنا لا أوافق على ممارسة هذه الأساليب الوحشية مع معارضي الحكم. فلا يمكن أن أنسى أنني كنت يوماً واحداً منهم. وأنت تتذكر بالطبع كم من الأشهر كنت أمضيها في السجون والمعتقلات قبل أن يتولى حزبنا السلطة. وصّدق أو لا تصدق يا عادل أن رفضي لهذا الأسلوب يلقى معارضة قوية من رفاق لنا يتبوؤن أعلى المناصب في الحزب والدولة. وهم يحاججونني قائلين: كيف لنا أن نؤمّن هيبة الحزب والدولة إذا اتبعنا أسلوب اللين مع المعارضين والمتآمرين؟ وكيف يتسنى لنا المحافظة على السلطة إن لم تسندها أجهزة أمن قوية تمنح حرية واسعة لأداء مهامها؟ وأحياناً أبدو عاجزاً عن مقارعة حججهم. فهم يوردون أمثلة من كل دول العالم ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية التي تستعين بأجهزة المخابرات بأساليبها الوحشية للمحافظة على هيبة الدولة ومن اكبر تلك الدول الولايات المتحدة الأميركية التي تملك جهاز سي آي أي "CIA" والاتحاد السوفيتي الذي يملك جهاز "الكاي. جي. بي " KGB"".
وأخيراً أحب أن أسألك يا عادل سؤالاً أريدك أن تجيبني عنه بصراحة: هل تعرضت أجهزة الأمن يوماً للمواطنين الأبرياء الذين لا شأن لهم بالسياسة ؟ أريد مثالاً واحداً فقط على ذلك. أما الذين يعملون في المعارضة ولهم نشاطات سياسية ضد السلطة فيجب أن يتوقعوا كل شيء. وإلا فهل ينبغي أن يترك لهم الحبل على الغارب؟ فالقوّة مع أمثال هؤلاء الأشخاص هي العلاج الوحيد لتمردهم على سلطة الدولة. وأنت تعلم يا عادل أن هذا الأمر ليس بدعا. فمنذ أن خضعت المجتمعات البشرية لسلطة منظمة وعاش الإنسان تحت مظلة الدولة كان الملوك والحكام العظام يلجئون إلى القوّة والبطش ضد من تسّول له نفسه الخروج على سلطة الدولة. وقد أثبت هذا الأسلوب نجاحه عبر تاريخ الإنسان الطويل.
وأريد أن أسألك سؤالاً أخر يا عادل: لماذا يعارض هؤلاء المشاغبون حكماً وطنياً وزعيماً مخلصاً يعمل ليلاً ونهاراً من أجل مصلحة الشعب ؟‍‍‍‍‍‍‍‍ فليتحمل هؤلاء المشاغبون إذن وزر معارضتهم. وأتذكر أنني لم أكن أتذمر يوماً مما كنت ألقاه من متاعب ومشقات أيام نضالي. فالعمل السياسي يمكن أن يعرض صاحبه لأوخم العواقب وعليه أن يرضى بكل التبعات.


حبيب الشعب
لقد أطلق عليّ أعدائي لقب "عدوّ الشعب" لأنني صادرت الحريات العامة، ويقصدون بذلك طبعاً حرياتهم في التآمر علي، واتبعت حكم القمع والإرهاب، تجاههم طبعاً. ولكنني أتساءل يا عادل: كيف يمكن أن يكون حاكم مثلي عدوّاً للشعب؟ وهل هؤلاء الأعداء الطامعين بالحكم يمكن أن يخدموا الشعب خيراً مني؟ وأنت يا عادل أفضل من يعرف أنني الوحيد من بين من تولى السلطة في بلادنا قلبه مع الشعب.. وأقصد بالشعب المواطنين البسطاء الذين يكافحون ليشبعوا بطونهم. وليس هناك شخص خيراً مني يقدّر المصاعب التي يواجهها المواطن البسيط في توفير شروط الحياة اللائقة بالإنسان. فأنا خرجت من صميم الشعب. وأنا وأسرتي جرّبنا الجوع الحقيقي كما تعلم وعشنا ظروفاً تعسة للغاية. فهل يعقل أن أتنكر لمطالب الناس المساكين؟ هل يستطيع أن يزعم هؤلاء الأعداء أنهم خبروا حياة الفقر والحاجة كما خبرتها؟ وأعتقد أنك تعرف أسماء أولئك المعارضين واحداً واحدا وتعرف أن أغلبهم من أهل النعمة الذين ما عانوا يوما وما عرفوا ذلّ السؤال. وأنهم ترعرعوا في أُسر وفرت لهم العيش الكريم. فكيف يمكن لأمثال هؤلاء أن يدركوا آلام الشعب؟
ولا أعتقد أن هناك من ينكر أيضاً أنني عملت كما لم يعمل أي شخص تولى الحكم قبلي على رفع مستوى حياة أبناء الشعب.. الطبقة الفقيرة التي تعاني معاناة حقيقية. وأنا أتحدى أي واحد أن يدلني على أسرة تبيت اليم بلا عشاء. و أحب أن أعرف مثل هذه الأسر أن وجدت لأقوم بواجبي تجاهها. فهل يجوز أن يطلق على مثل هذا الشخص لقب "عدوّ الشعب"؟ من يكون إذن صديق الشعب؟ من يكون إذن منقذ الشعب؟ وأنت تعلم يا عادل أن على رأس أهداف حزبنا هو توفير لقمة العيش لأبناء الشعب. الشعب البائس المسكين. وأنت تعرف كم من الأسر في محلّتنا كانت تبيت ليلها بلا عشاء. ولا أريد أن أذكرك بما كنت تقوم به أنت نفسك في مساعدة أمثال تلك الأسر بحمل أطباق الطعام إليها وأسرتنا من ضمنها. وبما أنني لم أنس تلك الليالي التي كنا نبيتها على الطوى فقد وضعت نصب عيني ألاّ تبيت عائلة ليلها وأطفالها يتضورون جوعا. وأظنني نجحت في تحقيق هدفي هذا. وإلا فهل ترى أنت يا عادل أنني مبالغ في قولي هذا؟ وإذا كنت صادقاً فيما أقول.. فكيف يمكن أن يكون رئيس مثلي عدوّاً للشعب؟ ولا أحسب أن هناك اثنان يختلفان على أن أعظم إنجاز يمكن أن يحققه رئيس لبلده هو القضاء على الجوع. ليكن هذا الرئيس ما يكون وليبطش بأعدائه كما يشاء. وليسدّ عليهم طريق التآمر عليه ما دام بإمكانه أن يقضي على الجوع. طبعاً لا يمكن لأي رئيس في العالم أن يجعل من افراد شعبه جميعاً أغنياء. وليت بمقدوري أن أفعل ذلك. فهل تراني إذن قصّرت في واجبي يا عادل؟
والهدف الثاني الذي عملت على تحقيقه هو نشر التعليم من الابتدائي إلى الجامعي ،وإن لم أكن أحب الجامعة وخريجيها وأساتذتها، وهو أمر في غاية الأهمية. ولقد كنت أعتقد منذ صغري بأن التعليم أساسي للإنسان لأنه يحقق آدميته. وأنت تعلم يا عادل كم عانيت من مصاعب لأواصل تعليمي. ذلك لأنني كنت أعتقد أن التعليم هو الذي يحقق لي آدميتي. وفعلاً لولا التعليم ما حققت شيئاً. وكادت تفلت مني هذه الفرصة حينما غدرت بي المرأة التي أحببتها. لكن نصيحتك العظيمة لي أعادتني إلى الطريق الصحيح. ولقد حّببت أنت أيضاً القراءة العامة إلى نفسي بما كنت تعيرني من كتب أدبية وروايات قادتني فيما بعد إلى الانكباب على قراءة الكتب الرصينة. والحقيقة أن القراءة العامة فتحت آفاق الحياة أمامي وهي التي أعانتني على الصبر على حياتي البائسة. وكانت تحملني على أجنحتها إلى حياة خيالية أنسى فيها بؤسي.
فإذن أنا أعدّ التعليم الإنجاز الثاني الذي حققته للشعب. وأنا أزعم أنه لا يوجد الآن طفل في بلادنا لا يذهب إلى المدرسة. ولا يوجد طفل يعاني من شراء الدفاتر والأقلام. وأنت تتذكر بالطبع كم كنت أعاني أنا من هذه المشكلة. وكم كنت تسارع أنت لإنقاذي. و صدّق أولا تصدق يا عادل إن الدفاتر والأقلام التي كنت تقدّمها لي عن طيب خاطر كانت تعذبني عذاباً أليماً في البداية. وكنت أشعر بجرح عميق في كرامتي. وكم حدثت نفسي بأن عليّ ألا أقبل منك هذه المعونة. لكن الامتناع عن قبولها كان يعني انقطاعي عن المدرسة. فلم يكن بإمكان أبي أن يوفر لي المبالغ التي يتطلبها شراء الأقلام والدفاتر. غير أن حبّي للمدرسة كان يقهر آلامي النفسية. ثم توصلت إلى حل وسط بيني ويبن نفسي وهو أن أعتبرك أخي الذي لم تلده أمي.. وليس هناك ضير في أن يقبل الأخ مساعدة من أخيه. فهل هناك من يماري في إنجازاتي في حقل التعليم إذن يا عادل حتى لو كان من أعدائي ومنافسي على الحكم؟ وهل يمكن أن يطلق على من جعل التعليم كالماء والهواء للشعب لقب "عدّو الشعب"؟
وأما إنجازاتي في حقل الصحة فلا يمكن أن يشكك فيها أيّ منصف. وأريد أن أسألك يا عادل: كم زاد عدد المؤسسات الصحية في عهدي؟ هل أكون مبالغاً إن قلت إنها قد زادت أضعافاً مضاعفة؟ ولا أعتقد أن أي مواطن يعجز اليوم عن التمتع بالخدمات الصحية. والمرض كما نعلم هو ثالث الأثافي في ثالوث التخلف في بلدنا وهو الفقر والجهل والمرض. ولقد شننت حرباً لا هوادة فيها على المرض. وكان المرض قد صار من ألدّ أعدائي منذ صباي. فقد افترس أثنين من إخوتي هما حميد وعباس. ولو عشت مائة عام يا عادل ما نسيت آخر ليلة من ليالي أخي حميد. كان يتلوّى على الأرض كالطير الذبيح ويصرخ صرخات تضّج منها جدران البيت. وكنا نتحلق حوله متباكين. كان ينبغي علينا أن نحمله إلى الطبيب. ولكن من أين لنا أجر الطبيب وثمن الدواء؟ وهكذا مكثنا نحدق فيه مذهولين حتى فاضت روحه. والآن أنا واثق أنه لا يوجد طفل في بلدنا يحدث له ما حدث لأخي حميد فيعجز أهله عن إسعافه. فهل يجوز أن يطلق على شخص يوفّر هذه الإمكانات الصحية لأبناء الشعب لقب" عدوّ الشعب"؟
حتى أهل الدين رعيتهم وطمأنت رغباتهم مع أنني لست شديد التدين كما تعلم فتظاهرت بذلك 0 وأظن أنه لا يستطيع أي واحد من المفترين إنكار عدد الجوامع التي أمرت ببنائها وفخامة تلك الجوامع0
وهكذا حققت للشعب العدالة الاجتماعية بكل أبعادها . وأريد أن أسألك أيضا يا عادل: ماذا سيفعل هؤلاء المعارضون للشعب أكثر مما فعلت؟ وهل سيكونون أكثر عدالة مني في حكم البلاد وأنا الرئيس العادل وقائد لشعب بحقّ؟
ومهما حاول أعدائي أن يموّهوا على حقيقة حب الشعب لي فلن يفلحوا. فمن الطبيعي أن يحبني الشعب الذي وفرت له كل هذه الإنجازات. وهو يعبر عن حبه العظيم بكل طريقة ممكنة. فهو ينشر صوري في مدن البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ولا يكاد ميدان في العاصمة أو في أي مدينة أو بلدة أو قرية يخلو من صوري العملاقة ومن تماثيلي. وإن كل صحيفة من صحف البلاد لابد أن تحلي صفحتها الأولى بصورتي كل يوم. وبالمناسبة يا عادل.. هذه الظاهرة ليست جديدة على أبناء الشعب الذين يحبون رؤساءهم أو ملوكهم. فكتب التاريخ تحدثنا عن أن تماثيل فرعون مصر رمسيس الثاني كانت تملأ مدن مصر من أقصاها إلى أقصاها. ولقد أخبرني مسؤولو "استخبارات الحق والعدل" أن الباعة المتجولين واصحاب الأكشاك يعرضون تماثيلي الصغيرة ضمن بضائعهم وأنها أكثر السلع رواجا. فمن الذي يشتري تلك التماثيل إن لم يكن أفراد الشعب البسطاء؟
وأنا يا عادل أعتزّ بهذه الظاهرة أعظم الاعتزاز. فهي تذكّرني بما كان يفعله الرومانيون مع زعيمهم المحبوب يوليوس قيصر. فقد كان الباعة يطوفون بتماثيله التي كان يتخاطفها الرومانيون كما يتخاطفون أرغفة الخبز الحارة. فهل أنا الذي يأمر الباعة بأن يعتاشوا على تماثيلي؟ وإذا كان الأمر كذلك.. فهل كان يوليوس قيصر أيضاً هو الذي يأمر الباعة المتجولين بالمتاجرة بتماثيله؟
ويزعم المعارضون التافهون أيضاً بأنني أنا الذي يأمر بتعليق صوري العملاقة على واجهات المباني الحكومية ومقرات الشركات والنوادي وأماكن التسلية والميادين العامة. فهل أنا مجنون لأصدر مثل هذه الأوامر؟ وما فائدتها لي؟! كل ما في الأمر أنها أعمال عفوية مبعثها حب الشعب لزعيمهم المخلص.
ويزعم الحاقدون أيضاً أن من يتولى هذه الأعمال أفراد محدودون يتصفون بالنفاق ولا علاقة لهم بالشعب. فكيف يمكن أن يكون أمثال هؤلاء الأشخاص محدودين وقد اخبرني رجال "استخبارات الحق والعدل" أن صوري تزيّن كل مكتب ومتجر وبيت؟ هل كل هؤلاء الناس منافقون؟ وصّدق أو لا تصدق يا عادل أنني أسأم أحياناً من اصطدام عيني بصوري حيثما وليت وجهي. وقد طلبت يوماً من المسؤولين أن يرفعوا صوري من الميادين والشوارع العامة فحذّروني من مثل هذا الإجراء لأنه قد يؤدي إلى ردود فعل عنيفة لدى أفراد الشعب. وقال أحد أولئك المسؤولين: قد تحدث في البلاد مظاهرات شغب خطيرة يا سيدي الرئيس لا تحمد عقباها. ثم من يجرأ على رفع صورة من صورك؟ قد تدوسه الجماهير بأقدامها قبل أن يزحزح الصورة من موضعها.
وطبعاً بدا لي كلامه معقولاً فتركت التفكير في ذلك. وقلت في نفسي: كيف أتنكر لهذا الشعب المخلص الذي يمحضني أعظم الحب فأقدم على مثل هذا العمل اللامسؤول؟
ثم أريد أن أسألك يا عادل: إذا كنت أنا الذي آمر بتعليق صوري وإقامة تماثيلي فهل أنا الذي يجبر الجماهير على اختلاف مللهم ونحلهم من موظفين صغار وكبار إلى طلبة وأساتذة الجامعات إلى الكسبة إلى العمال إلى ربات البيوت الخ.. على الخروج في مظاهرات حاشدة في المناسبات الوطنية معلنين عن تأييدهم لي وتمسكهم بي زعيماً اوحداً وقائداً أبدياً؟ هل هناك يا ترى من يستطيع سوق تلك الجماهير الحاشدة سوق الأنعام؟ وأي سلطة غير طبيعية يمتلك هذا الرئيس لكي يسوق الشعب سوق الأنعام؟ ثم هل تجرد أبناء شعبنا إلى هذه الدرجة من الشجاعة والكرامة وصاروا جميعا من الجبناء المنافقين الأذلاء؟ هل يمكن أن يقبل أي إنسان عاقل مثل هذا الزعم؟! إن أعدائي يحاولون بكل مالديهم من خبث أن يشككوا بحبّ الشعب لي ويفلسفوا مزاعمهم ما شاءت لهم الفلسفة. فهم يقولون انني قد خلقت في البلاد ظاهرة عبادة الفرد وسخّرت من اجل ذلك وسائل الإعلام بكل أبعادها لغسل أدمغة أبناء الشعب البسطاء. ويزعمون كذلك أنني أغريت أهل الفن والأدب للتغني بمحامدي لقاء جوائز سخية. فانبرى الشعراء يدبجون القصائد العصماء في مدحي. وراح المغنّون يتغنون بمحامدي فتذاع أغانيهم من منابر الأعلام ليلاً ونهاراً. فهل تراك تقبل مثل هذا المنطق يا عادل؟ هل يقدر فرد واحد على إجبار شعب كامل على التغني بمحامده ليلاً ونهاراً وهم يكرهونه في أعماقهم؟ أهذا منطق عقلاء؟ أن هؤلاء الأعداء التافهين قد أعماهم حقدهم عن حقائق التاريخ. فأنكروا مثل هذه الظاهرة المتكررة في التاريخ.. ظاهرة حب الشعوب لزعمائها العظام. افلم يقرؤوا عما كان يحدث في ألمانيا في عهد زعيمها العظيم أدولف هلتر؟ ألم يشاهدوا في الأفلام الوثائقية تلك الحشود العظيمة التي تضم عشرات الألوف بل مئات الألوف التي كانت تخرج لتحية زعيمها المحبوب؟ ألم يشاهدوا كيف كانت جموع الشعب الألماني تصاب بالهستريا وهي تستمع إلى خطب هذا الزعيم العظيم حتى أن بعض الناس كانوا يبكون من شدة التأثر؟ فهل كان هتلر هو الذي يأمرهم بمثل هذه المظاهرات؟ وهل كان بإمكانه أن يسوق شعباً يعدّ من أثقف شعوب أوربا سوق الأنعام؟ فإذا كانت ردة فعل شعب مثقف كالشعب الألماني تجاه زعيمه على هذا النحو، فلماذا يشكك بردة فعل شعبنا تجاه زعيمه المحبوب؟
أنا إذن لست "عدو الشعب" يا عادل كما يزعم الحاقدون بل أنا "حبيب الشعب رغم أنوفهم ". ومهما حاول أولئك الحاقدون أن يشككوا بحب الشعب لي فلن يفلحوا لأن شعاع الحقيقة لابد أن يبدّد ظلام الكذب والتلفيق.

خبرتي بالبشر
أنا أدري بما يقوله عني بعض رفاقنا الحزبيين يا عادل من أن أخلاقي قد تغيرت وصرت جباراً عتيّا ومتكبراً متعجرفاً لا أحترم أحدا. بل إن البعض منهم يزعم بأنني أفرض على الآخرين أن يعاملوني بنفس التبجيل الذي يعامل به الملوك. وأتساءل أولاً: من قال إن الملوك أفضل مني؟ وثانياً أؤكد لك يا عادل إنني مظلوم بهذه التهمة. وكل ما في الأمر أنني بحكم مسؤوليتي خبرت البشر على حقيقتهم فوجدت أن القليلين منهم من يستحق الاحترام. فالغالبية منهم ضعاف النفوس وحقراء تجاه ما يبتغونه من مكاسب. وأصارحك يا عادل أنني كنت طوال هذه السنوات أخشى أن أكتشف أنك لست أفضل ممن كنت مغشوشاً بهم، وانك قد لا تستحق ما أضمره لك من حب واجلال وتقدير. وكان يفزعني أن تطرق بابي يوما لتسألني مكسباً من المكاسب. طبعاً كان يسعدني غاية السعادة أن أستجيب لأي مطلب لك مهما عظم. لكنني كنت أتمنى ألاّ تفعل ذلك. وما أعظم سعادتي إذ أثبتّ لي طوال سنوات حكمي أنك جدير فعلاً بالصورة التي أحتفظ بها لك في ذهني. فامتنعت عن لقائي حتى ولو لمجرد السلام عليّ في المناسبات لتذكرني بصداقتنا القديمة. وأصارحك أيضاً أنني هممت مرات ومرات باستدعائك وتكليفك بمنصب خطير. فأنت بلا شك أقرب شخص لي يمكن أن أعتمد عليه وأثق به ثقة مطلقة. ومع ذلك لم أقدم على مثل هذه الخطوة كما ترى، بل حتى لم أتصل بك لمجرد التحية والسلام. ولاشك أن هذا التصرف قد أدهشك وأثار استغرابك. ولعلك فسّرت موقفي هذا بالغرور والكبرياء ومحاولة مني لمحو أثار ماضيي البغيض البائس . لعل كل هذه الخواطر قد طافت برأسك. لكنني أؤكد لك يا عادل بأنني لم أنسك أبدا منذ افترقنا. وكم ارتفعت مكانتك في نفسي وأنا أقارنك بأولئك الذين حاولوا استغلال معرفتهم القديمة بي لينالوا مكسباً من المكاسب. ولو أخبرتك بعدد أمثال هؤلاء الأشخاص لملكك العجب. وكان من بينهم من أساء إليّ في طفولتي وصباي. وكان أشد ما يثير عجبي أولئك الزملاء القدماء في المدرسة الابتدائية الذين كانوا يضايقونني ويجرحون شعوري لا لشيئ إلا لبؤس حالي ورثاثة منظري. وكان البعض منهم لا ينادونني كما تعلم إلا بعبارة "ابن كريم الأعور". والمضحك أنهم يزعمون لي الآن أنهم كانوا يتنبؤون لي بهذا المستقبل الباهر، وأن مخايل العبقرية والنبوغ كانت واضحة على وجهي. تصور يا عادل.. ما أحقر ما يمكن أن يبلغه الإنسان من نفاق. وما أكثر المتزلفين والمتذللين والمنافقين لذوي الجاه والسلطان من اجل تحقيق مآربهم ! ولا أدري كيف تصوروا أنني يمكن أن أنسى ما كنت ألقاه على أيديهم من مذلة وإهانة. وأنت تتذكر بالتأكيد تلك المواقف المهينة التي كنت أتعرض لها. وكم من مرة خضت أنت معهم في معارك بسببي. لقد كانت إهاناتهم تقع على قلبي كشواظ من نار وهم يسخرون من ملابسي الرثة وكأنني أذنبت بحقهم لأن عائلتي معدمة.. مع أن المفروض أن يكون الفقراء أشرف من الأغنياء لأنهم لم يحتالوا على أحد. لجمع أموالهم ولم يستغلوا أحدا والآن ينتقدني أعدائي على ما أرتديه من ملابس فخمة. فما أعجب البشر! إن أمثال أولئك الزملاء القدماء يا عادل يقفون اليوم أمامي بذلة وخضوع كما يقف العبد أمام سيده. كل ذلك لكي ينالوا مغنماً تافها. وكنت أقول في نفسي وأنا أتأملهم "حان الوقت لك لتنتقم من هؤلاء الأجلاف". لكنني لم افعل ذلك أبدا يا عادل لأنني أكبر من أولئك الحقراء. لقد علمتني تجربتي في الحكم يا عادل أن غالبية الناس تافهين وحقراء وعبيد لمطامعهم وعلمتني أيضاً أن الكثيرين ممن يدّعون الإيمان بالآراء النبيلة ليسوا سوى كذبة ومخادعين ومنافقين ولا يهدفون من وراء آرائهم سوى تحقيق المغانم الشخصية بأسلوب آخر. فالكثيرون من أعضاء حزبنا الكبار مثلا والذين كنا ننظر إليهم في شبابنا على أنهم أمثلة رائعة في النضال والإخلاص للشعب والبلاد ليسوا كذلك في حقيقتهم وما هم سوى منافقين ولا يبتغون سوى المغانم الشخصية.
أنا أعلم أن كوادر الحزب ينتقدونني على عدم احترام رجال الحزب القدماء الذين يتمتعون بتاريخ نضالي طويل، بل إن البعض يقول إنني أحلتهم إلى "طراطير". فهم لا همّ لهم سوى تمجيدي في كل مناسبة ممكنة لكنني أؤكد لك يا عادل أنني لم أطلب يوماً من أحد صغيراً كان أم كبيراً من أعضاء الحزب أم من خارجه أن يبالغ في تمجيدي0 فهم الذين يتبرعون بذلك طمعاً في المغانم. ولا تقتصر تفاهة رجال الحزب الكبار على تملقي بل تمتد إلى الكيد لبعضهم بعضا لدىّ. وأنا أعاني الكثير من هذه الظاهرة يا عادل. ولم أكن أتصور يوما أن أمثال أولئك الحزبيين الكبار الذين كنا نبالغ في تبجليهم يسفون في النيل من بعضهم بعضا على هذا النحو. كل ذلك لكي يستأثروا لأنفسهم بالمغانم والمناصب دون الآخرين من زملائهم. فهل أُلام بعد ذلك يا عادل على عدم احترامهم؟.

أحلامي العظيمة
لعل أشد ما يثير سخريتي من المعارضين يا عادل هو حملتهم على سياستي الخارجية. وتلك الحملات إن دلت على شئ فإنما تدل على عمالتهم الواضحة للدول الاستعمارية. فهم يأخذون عليّ عدائي الشديد لتلك الدول زاعمين أن سياستي هذه تكلف البلاد خسائر فادحة. وأنا لا أفهم منطق هؤلاء المعارضين. فهل يصدقون حقاً في دواخلهم أن أمثال هذه الدول تريد الخير لنا؟ ألا يدركون أن هذه الدول هي المسؤولة عن تخلفنا الاقتصادي وعما نعانيه من مستوى متدن للحياة؟ الم تكن بلدان العالم الثالث في قبضة تلك الدول لقرون طويلة.. فماذا فعلوا لها؟ هل بذلوا جهودا حقيقية في تعليم أبنائها؟ وهل حاولوا أن يطوروا اقتصادها تطويراً حقيقياً ويرفعوا مستوى حياتها؟ فكيف نتوقع منها أن تهدف حقيقة إلى الأخذ بيدنا وانتشالنا من دائرة الفقر وهي التي زجّتنا فيها؟! إن شعوب تلك الدول تنعم ببحبوحة من العيش ويعمّها الرخاء الذي استند أصلاً إلى نهب ثرواتنا، في حين تقاسي شعوبنا الفقر والحرمان والتخلف. فهل فعلت تلك الدول شيئاً لانتشالنا من هذا الفقر والتخلف؟ بل هل يحترموننا حقاً في دواخلهم ويعدوننا مساوين لهم؟
على كل حال أنا شخصياً على يقين بأن أولئك المعارضين التافهين يعرفون كل هذه الحقائق ولكنهم يغالطون ليثيروا الشعب ضدي. وهم يحاولون إقناع أبناء الشعب البسطاء بأنهم سيبقون فقراء ما دمت في الحكم لأنهم سيظلون محرومين من عون أمثال تلك الدول. وبعبارة أوضح فإنهم يطعنوني في أهم صفة أعتزّ بها وهي الوطنية. بل هناك من المعارضين الوقحين من يزعم أنني لا أقف ضد الدول الاستعمارية من أجل مبدأ وطني بل التماساً للشهرة في تلك البلدان. فلولا معاداتي لها ما تحدثت عني في صحفها وإذاعتها بصورة دائمة.. مع أنهم يعلمون جيداً أن الدول الاستعمارية تكرهني كرهاً شديداً لأنني أؤيد كل حركات التحرر في العالم وأمدّها بالأموال الكثيرة. فهل سمعت بسخف أشد من هذا السخف يا عادل؟ إن أعدائي يفسّرون كل أعمالي وإنجازاتي تفسيراً سلبياً ينبثق من شعورهم المعادي لي. فأنا مثلاً رئيس سيئ لأنني أهتم اهتماماً خاصاً بالجيش وأسلّحه أفضل تسليح ليكون مستعداً لدرء المخاطر عن البلاد. ونحن نعلم أن المخاطر قائمة ابدأ وقد تأتيك من أقرب جيرانك. ثم أننا في حالة حرب دائمة مع الدول الإمبريالية الطامعة بثروات بلادنا. وفي هذا العالم الذي أصبحت القوة فيه هي الكل في الكل لابد أن تتأهب البلاد لمثل هذه الأخطار. فبماذا نحارب إذا لم نمتلك الأسلحة الحديثة الفتاكة ؟ وهذه الأسلحة تتطلب مالا بالطبع , فهل ألام إذا أنفقت معظم ميزانية الدولة على صنعها وشرائها ؟ إنهم يزعمون أن سياستي هذه مسؤولة عن إفراغ خزينة الدولة وإفقار الشعب. وأنني بدلاً من أن أقويّ الدولة بهذه الاستعدادات العسكرية أضعفها بإهمال احتياجات الشعب وهو أساس التنمية. وهم يدعمون بدعاواهم هذه أهداف الدول الاستعمارية بصورة غير مباشرة. فما تتمناه هذه الدول لنا هو أن نكون ضعفاء وغير قادرين على مواجهتها إذا حان الحين. لكنني لن أنجزّ إلى مثل هذا الشرك. وستظل على رأس أولوياتي تهيئة جيش قوي بقدرته أن يقف في وجه أي قوة على الأرض بما يمتلكه من الأسلحة الفتَّاكة حتى لو أنفقت كل موارد الدولة على ذلك . فليس هناك من مهمة أمامي يا عادل أخطر من مهمة بناء دولة مهابة الجانب وإن تمّ ذلك على حساب رفاهية الشعب . وإذا كان بعض السذج من أبناء الشعب يصدقون في الوقت الحاضر دعاوي أمثال أولئك المعارضين العملاء فان التاريخ هو الذي سينصفني ويكتب اسمي بحروف من ذهب إذ أكون قد أعدت لبلدنا أمجاده التاريخية العظمى . وإنني قد وضعت نصب عيني أن أجعل دولتنا دولة عظمى وإن لم تكن مساحتها واسعة وعدد نفوسها كبيرا. فليست المساحة والنفوس هما الكل في الكل في قوة الدولة بل المهم عزيمة قادتها. والتاريخ يضرب لنا أمثلة ساطعة على ذلك. فكم كانت مساحة اليونان ونفوسها حينما فتح الاسكندر المقدوني كل بلدان العالم القديم؟ وكم كان عدد الرومان حينما سيطروا على العالم كله وأنشؤا أعظم إمبراطورية في التاريخ؟ بل كم كان عدد العرب حينما كوّنوا إمبراطوريتهم الإسلامية العظمي التي شملت معظم أقطار الأرض؟ وكم كانت مساحة ألمانيا ونفوسها حينما فكر هتلر في السيطرة على العالم كله؟ وبالمناسبة يا عادل فان آمالي العظيمة لن تشمل بلادنا فحسب. فربما نجحت في المستقبل في إقناع بلدان أخرى للانضمام إلى بلادنا كي نصبح إحدى دول العالم العظمى. وحينئذ لن تقف أمامها أي قوة على الأرض. وبذلك أحقق حلمي الأكبر في أن أكون زعيما لأعظم دولة في العالم.
إن دعاوى أعدائي التي يبتغون منها الحطّ من سياستي لن تؤثر في خططي لرفع شأن دولتنا بين دول العالم يا عادل. ومازال لديّ خطط كثيرة لإنجاز هذا الهدف سأفاجئ بها العالم.
سأتوقف عن الكتابة الآن يا عادل لأنني أشعر بألم في صدري لا قبل لي باحتماله...



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - اوراق رئيس