أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - البهلوان ومسرحيات اخرى















المزيد.....



البهلوان ومسرحيات اخرى


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2511 - 2008 / 12 / 30 - 07:29
المحور: الادب والفن
    




البهلوان

الطبعة الأولى1997

(الستارة مفتوحة.
يطفأ النور في الصالة ثم تظهر على المسرح إما فرقة غنائية راقصة أو فرقة أوكراباتيك أو فرقة بانتونايم "تمثيل إيمائي " 0حينما تنتهي الفرقة من أدائها تنسحب ويخلو المسرح لبضعة دقائق .
ينار الضوء في الصالة ويطفأ في المسرح .
يظهر البهلوان من أعماق المسرح بملابسه المزركشة ووجهه المصبوغ ويُسلط عليه ضوء ساطع. يخطو نحو مقدمة المسرح يتبعه شعاع النور وما حواليه شبه مظلم. يتوقف أخيرا وينحني للجمهور انحناءة قوية ).

البهلوان : مساء الخير ، أنا كما تعلمون لا أؤدي نمرتي إلا بين فقرات البرنامج ريثما تستعد الفرقة لنمرتها المقبلة . والمفروض أن أمارس بعض الحركات
البهلوانية التي تضحككم وأن أقول كلاماً يسليكم .
(يؤدي البهلوان بعض الحركات التي تثير الضحك بين جمهور الصالة) .
أنا مسرور أن حركاتي البهلوانية قد أضحكتكم فهذا يعني أنني سأنتفع منها وأكسب رضا مدير الفرقة .
(يصمت برهة وهو يحّد النظر إلى الجمهور )
وأصارحكم أيها المحترمون أنني لا أمارس الحركات البهلوانية على المسرح فحسب بل في حياتي اليومية أيضا . وأجدها نافعة جداً لي. وسأعطيكم مثلاً على ذلك . (يلتفت حواليه ثم يخطو على أطراف أصابعه نحو الركن الأيسر من المسرح ويمد رأسه متطلعاً . ثم يخطو نحو الركن الأيمن ويفعل نفس
. الشيء ثم يعود إلى موضعه وهو يهزّ رأسه في ارتياح ) . الدار أمان . يبدو أن مدير الفرقة قد ذهب في إحدى مشاغله .. أنتم لا تعلمون طبعاً أيها المحترمون أن مدير فرقتنا جلف .. لا يهمه سوى جمع المال . ونحن نهلك أنفسنا بالعمل وهو يجني الأرباح ويثري على حسابنا . وزملائي أعضاء الفرقة يعانون الأمرين حينما يحاولون الحصول على علاوة0 وأنتم تعلمون أنه بات من الصعب مواجهة تكاليف الحياة في وجه هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار . وأنا الوحيد من بين رفاقي الذي ينجح دائما في الحصول على علاوة في غير صعوبة . وهذا أمر يحيّرهم . ولكن كل ما في الأمر أنني أمارس الحركات البهلوانية في تعاملي معه فأفلح في مسعاي . (وهو يهز رأسه) لاشك أن ممارسة الحركات البهلوانية ينفع كثيراً في الحياة اليومية . (وهو يتطلع في وجوه المشاهدين بنظرات متأملة ) واسمحوا لي أن أقول انكم لابد قد جرّبتم ذلك بأنفسكم. وأنا لا أشك في أن كل واحد منكم يمارس الحركات البهلوانية في حياته اليومية بشكل أو بآخر، وإن حاول ان يكتم ذلك . فالحركات البهلوانية نافعة لنا في عملنا أكنّا حرفيين ام موظفين أم تجاراً أم محامين أم مهندسين . ( همهمات احتجاج في الصالة وصيحة : " لا تغلط في القول أيها البهلوان " ) .
البهلوان : صبركم .. صبركم عليّ أيها المحترمون . ( تدور عيناه مستطلعاً في
وجوه المشاهدين ثم تستقر على أحدهم . يشير إليه بيده ) أنت أيها المحترم.
المشاهدرقم1 : من ؟! أنا ؟!
البهلوان : نعم أنت أيها المحترم ... هل تسمح لي أن أسألك ماذا تعمل ؟
المشاهدرقم1 : (في شيء من الخشونة) وما شأنك بعملي ؟
البهلوان : مجرد سؤال .. مجرد سؤال لا أكثر أيها المحترم.
المشاهدرقم1 : (بلهجته الخشنة) أنا محامي .
البهلوان : فهل تسمح لي أيها المحترم إذن أن أسألك : ألا تمارس الحركات
البهلوانية في مهنتك ؟
المشاهدرقم1 : (في غضب ) اضبط لسانك وأعرف كيف تتكلم أيها البهلوان .
البهلوان : عفواً أيها المحترم ... أنا لا أقصد سواءً ... كل قصدي هو أن أسليكم .
المشاهد رقم1 : ( في غضب) قلت لك التزم حدود الأدب أيها البهلوان .
البهلوان : عفواً أيها المحترم .. لا تغضب من كلامي ... صدقني أنا لا أقصد سوءا .
المشاهد رقم1 : أفلا تعلم أيها البهلوان إذن أن مهنة المحاماة هي أشرف مهنة وأنها تأخذ
على عاتقها الدفاع عن المظلومين واستحصال حقوقهم ؟ فما حاجتنا الى الحركات البهلوانية ؟ ! نحن حماة العدالة ..
البهلوان : اسمح لي بتصحيح أيها المحترم ... المفروض أنكم حماة العدالة .
المشاهد رقم1 : بل نحن حماة العادلة قولاً وفعلاً .
البهلوان : فاسمح لي أن سألك إذن أيها المحترم ، كم مرة لعبت على القانون
ومّوهت على العدالة ؟
المشاهد رقم1 : ( في غضب شديد) قلت لك أضبط لسانك واعرف كيف تتكلم أيها البهلوان
المهرّج .
البهلوان : عدنا إلى الغضب أيها المحترم .. مع أنني قلت لك إنني لا أقصد سوءا ..
كل ما هنالك أنني أحاول أن أوضح بأن الحركات البهلوانية نافعة لنا في حياتنا اليومية وفي كل مهنة من مهننا .. وهل من المعقول أنك أيها المحترم ترفض التوكل في القضايا غير العادلة ولا تقبل إلا القضايا التي تبرئ فيها مظلوماً أو تعيد فيها لشخص حقه المغتصب ؟ ! وكم هي يا ترى المرات التي دافعت فيها عن متهم أنت نفسك موقن بأنه مذنب وبرأته بشطارتك ؟! وكم من مرة أوحيت لزبائنك بأن قضاياهم على غاية من الصعوبة لكي يدفعوا لك أتعاباً أكثر مما تستحق ؟ ! وبطبيعة الحال كل ذلك بفضل الحركات البهلوانية .
المشاهد رقم1 : ( يقف ويهتف غاضباً) أنت قليل الأدب أيها البهلوان المهرج .
( يغادر المشاهدة رقم 1 الصالة غاضباً)
البهلوان : ( صائحاً وراءه ) لا تغضب منيّ أيها المحترم .. أنا لا أقصد سوءا .. أنا
أمزح.
المشاهد رقم1 : ( يصيح وهو ماض في طريقه) أنت بلا أدب أيها البهلوان المهرج .
البهلوان : ( يتحرك في بطء في أنحاء المسرح وقد بدا عليه الانخذال ثم يعود إلى
موضعه ) أنا متأسف .. ما قصدته من أقوالي هو تسليتكم ليس إلا .. أنا لا أقصد سواء .. و ما أنا سوى بهلوان .
المشاهد رقم2 : لا تهتم أيها البهلوان .. حتى لو لم تقصد تسليتنا فأنت لم تقل سوى الحق
.. اسألني أنا .. كم لوّعني المحامون ...
صيحات : ( في الصالة ) استمر أيها البهلوان .
البهلوان : ألستم مستائين مني إذن ؟
صيحات : ( في الصالة ) استمر ... استمر أيها البهلوان .
البهلوان : ( موجهاً الخطاب إلى المشاهد رقم 2) أمتأكد أنت أيها المحترم أنكم لن
تغضبوا مني ؟
المشاهد رقم2 : ولماذا نغضب منك ؟ حتى لو لم تقصد تسليتنا فأنت لم تقل سوى الصدق .
البهلوان : ولكنك تعلم أيها المحترم أن الناس لا يحبون الصدق .. إنهم يفضلون من
يكذب عليهم ويتملق غرورهم .
المشاهد رقم2 : ليس كل الناس كذلك أيها البهلوان .. ولا يهمك .. استمر .
البهلوان : ( وهو يحدّ النظر إلى المشاهد رقم2) أتعني أنك لن تغضب مني إذا قلت
عنك الصدق أيها المحترم ؟
المشاهد رقم2 : ولماذا أغضب منك ؟ الصدق لا يزعّل .
البهلوان : فهل تسمح لي أن أسألك أيها المحترم .. ألا تمارس الحركات البهلوانية
أنت أيضاً في عملك ؟
المشاهد رقم2 : وما علاقة عملي بالحركات البهلوانية ؟
البهلوان : هل تسمح لي أيها المحترم إذن أن أسالك ماذا تعمل ؟
المشاهد رقم2 : أنا تاجر .
البهلوان : فكيف إذن لا تمارس الحركات البهلوانية أيها المحترم ؟
المشاهد رقم2 : وما علاقة الحركات البهلوانية بعملي ؟
البهلوان : وهل هناك أكثر حاجة من التاجر إلى الحركات البهلوانية ؟
المشاهد رقم 2 : ( في شيء من الغضب) نحن أكثر من يقدمّ خدمة للناس أيها البهلوان
ونحن أشرف الناس ولسنا في حاجة إلى الحركات البهلوانية .
البهلوان : ها أنت ذا تغضب مني أيها المحترم مع أنني لم أقل سوى الصدق . فالكلّ يعلم أن شطارة التاجر في كسب أكبر ربح من زبائنه تعتمد على حركاته البهلوانية .
والتأجر : أكثر الناس حاجة للحركات البهلوانية لأن رغبته في كسب المال لا تحدّها حدود كما يعلم الجميع .
المشاهد رقم 2 : (في غضب) اخسأ .. نحن التجار أشرف الناس وما أنت سوى بهلوان مفتري .
البهلوان : (يروح ويجئ على المسرح وهو منكّس الرأس ) ما أنا سوى بهلوان مفتري ( يرفع رأسه وهو يقف في مقدمة المسرح ويحد النظر إلــى المشاهدين ) سأحكي لكم أيها المحترمون حكاية صغيرة عن منافع الحركات البهلوانية للتجار.. حكاية عن تاجر كبير في بلدتنا اشتهر بحبّه للأمانة .. كان يتاجر في المواد الغذائية .. وكان يمتلك أكبر متجر للمواد الغذائية في السوق .. وكان الكثيرون من الريفيين يفضلون التعامل معه فهو في نظرهم
مثال النزاهة والأمانة .. كان اسمه يلمع كالليرة العثمانية .. لم يكن يسمح لنفسه أن يخطئ معهم بفلس واحد .. وكثيراً ما شاهده أهل السوق وهو يجري لاهثاً ليلحق بأحد عملائه لأنه أخطأ معه في الحساب بدرهم واحد حتى لو أدركه في أطراف البلدة .. مع أنه كان يشتري منهم البضائع بأبخس الأثمان . وتلك عّينة من الحركات البهلوانية التي ينتفع منها التجار في عملهم . وأنتم لاشك تعرفون عّينات كثيرة أخرى منها أيها المحترمون .
(ضحكات في الصالة وصيحات : " صدقت أيها البهلوان " .. "لم تقل غير الصدق أيها البهلوان " 00
المشاهد رقم2 : ( في غضب شديد وهو يغادر الصالة ) أنت شخص معتوه أيها البهلوان
المفتري .
البهلوان : (يصيح وراءه ) لا تغضب أيها المحترم .. أرجوك لا تغضب .. أنا لا أقصد
سوءا .. أنا أمزح ( وهو يطرق محزونا ) ها أنا ذا أغضب مشاهداً آخر مع أنني لا أقصد سوءا .. كل غرضي هو أن أسلّيكم .
(يظهر مدير الفرقة على المسرح )
المدير : ( مخاطباً البهلوان) أظنك جاوزت حدودك أيها البهلوان .. أنت تعرف أن أقوالك ومزاحك يجب أن يظلاّ ضمن حدود معينة وألاّ يؤذيا مشاعر المشاهدين.
البهلوان : أنا أسف أيها المدير المحترم .. وأنت تعلم أنني لا أقصد سوءا .. كل ما هنالك ان الحقيقة تجرح الناس. ( وهو ينحني انحناءة قوية لجمهور الصالة) وأنا أعتذر أيها المحترمون عما سببّته من زعل .
المدير : (وهو يبتسم ) أنت زوّدتها حبّة كما يبدو أيها البهلوان .. وعلى كل حال انتهت نمرتك فأفسح المجال للنمرة التالية .
(ينحني البهلوان انحناءة قوية للمشاهدين وينسحب من المسرح) .
المدير :( وهو يبتسم ) على كل حال اسمحوا لي أن اعتذر نيابة عن البهلوان (وهو يضحك ) . أنا متأكد أنه لم يقصد إغضاب أحد .. ولكن هذه عادته .. يزوّدها حّبة أحيانا في أقواله ومزاحه .. حتى معي . تصوروا أنه يقول لي أنني استغل أفراد الفرقة وأنني أثريت على حسابهم 00وأنني لا أدفع لهم الأجور التي يستحقونها00وكأنه لا يعلم أنه لا يوجد صاحب عمل في الدنيا يدفع لموظفيه أتعابهم الحقيقية. وبالمناسبة فإنه يتصور أن كل الناس يمارسون الحركات البهلوانية بشكل أو بآخر . وهو يتهمني بأنني أفعل ذلك مع أفراد الفرقة . (وهو يضحك ) ولا عجب فهو بعد كل شئ بهلوان يعتمد في رزقه على الحركات البهلوانية . ولذلك فهو يتخيّل أن كل الناس مثله .. ( وهو يضحك) وأعترف لكم أنه ينجح معي دائماً بحركاته البهلوانية ويحصل على ما يريد . وعلى كل حال فهو لا يقصد سوءا بأقواله ومن يعرفه حق المعرفة مثلي يدرك انه طيب القلب . فأرجوكم ألاّ تغضبوا منه . وعلى كل حال أنا مستعد أن أعيد ثمن التذكرة لكل من شعر بأنه أهين وأعدكم ألاّ يضايقكم بمزاحه وأقواله مرة أخرى. والآن أسمحوا لي أن أنسحب لتواصل الفرقة نمرها.
(ينحني المدير انحناءه خفيفة وينسحب من المسرح0 يطفأ الضوء في الصالة ويُنار في المسرح .
تظهر الفرقة لتؤدي دورها الغنائي أو الراقص أو الأكروباتي أو الإيمائي .
تفرغ الفرقة من نمرتها وتنسحب .
يخلو المسرح لدقائق ويخفت النور فيه بينما يضاء في الصالة.
تنطلق صيحات من الصالة.. " نريد البهلوان" .. " نريد البهلوان" .
يظهر البهلوان من أعماق المسرح وقد سلّط عليه ضوء ساطع وحوله شبه مظلم . تنبعث في الصالة عاصفة من التصفيق) .
البهلوان : (ينحني للمشاهدين انحناءة قوية) شكراً لكم أيها المحترمون .. أنا ممنون منكم .. وأنا أعتذر إذا كانت أقوالي أغضبت البعض منكم .
صيحات : ( في الصالة ) لا تبالي أيها البهلوان .. استمر أيها البهلوان .. استمر أيها البهلوان .
البهلوان : أنا لا أستطيع أن أغضب أيّ واحد منكم فقد يكلّفني ذلك خسران عملي .. وهذا أمر مرعب أيها المحترمون .. أن تُلقى على الرصيف بلا عمل ووراءك عائلة تنتظر منك أن تطعمها .. صدقوني .. إنه لأمر رهيب . وقد خبرت ذلك وأنا صبيّ .. يقولون إن الدنيا مليئة بمحبيّ الخير .. أهل الرحم..(وهو يضحك بسخرية) .. لا تصدقوا هذه الخرافة أيها المحترمون.. على العكس .. إنها مليئة باللؤماء الذين لا يعنيهم أن يجوع جارهم وأن يتخموا هم .. حتى لو كان أقرب الناس إليهم . ولست أدري كيف ورثنا أمثال هذا النوع من الأقوال المضللة واتخذناه حقائق ثابتة . فمتى كان الناس رحماء؟! فحكايات التاريخ تحدثنا أنه في أوقات الأزمات والحروب كان الفقراء والضعفاء يموتون جوعاً بينما الأغنياء والأقوياء يزدادون شبعاً . هكذا كان البشر منذ وُجدوا على هذه الأرض .. لا ينشدون سوى مصلحتهم الذاتية إلا الشواذ منهم . ومن هنا جاء المثل القائل : " الإنسان أنانيّ بطبعه" .. نعم هكذا كان الإنسان منذ خلق وهكذا سيكون إلى أن يرث الله الأرض وما عليها . وإلاّ فمن أين جاءت حكاية هابيل وقابيل ؟! ألم يقتل قابيل أخاه هابيل من أجل طمع الدنيا؟ وطمع تافه مضحك .. نعم .. هكذا بدأ الإنسان حياته على هذه الأرض وهكذا سينهيها .
المشاهد رقم3 : أنت تتحدث أيها البهلوان وكأنك فيلسوف خبر الحياة0 فهل تريد أن تعمل من نفسك فيلسوفاً في رؤوسنا ؟!
البهلوان : أؤكد لك أيها المحترم أنني خبرت الحياة فعلاً .. وخبرتها منذ كنت صبياً .. خبرتها لأن أبي كان من الشواذ الذين يحبون الخير فقاد عائلته إلى كارثة.. والحقيقة أنني صرت بهلوانا انتفاعاً من تجربة أبي السلبية0 فهو كان يرفض ممارسة الحركات البهلوانية فأسلمنا سلوكه إلى الخراب . فقررت أن انتفع من الحركات البهلوانية واتخذها مهنة لي. وإذا كان الكثير منكم يمارسها سرّاً فأنا أمارسها جهازاً ولا أخجل من ذلك .
(همهمات احتجاج في الصالة وصيحة : " لا تعمّم أحكامك أيها البهلوان" )
البهلوان : عفواً .. عفواً أيها المحترمون .. أنا لا أقصد إغضابكم .. وكل ما هنالك أنني أحب أن أشرككم في خبرتي .. تلك الخبرة التي اكتسبتها من تجربة أبي .. فهل تسمحون لي أن أحكي لكم حكاية أبي؟ فلعلكم تجدونها حكاية مسلية.
صيحات : (في الصالة ) احكها لنا أيها البهلوان .. احكها لنا .
البهلوان : كان أبي رحمه الله من أولئك المهووسين بحب الخير . وكان ميسور الحال فقد كان من الملاكين الكبار وكنا نعيش عيشة رغدة من الأملاك التي ورثها عن أبيه .. أعني جدّي رحمه الله 0 ويبدو أن جدّي كان على خلافه يمارس الحركات البهلوانية وإلاّ ما استطاع أن يجمع كل تلك الثروة والأملاك . وكان أبي لا يخذل سائلاً ولا يتردد في إغاثة محتاج مهما كلّفه الأمر . واضطره ذلك إلى أن يرهن بين الحين والحين جزءا من أملاكه على أن يستردها فيما بعد . وعند من كان يرهنها ؟! عند أعزّ صديق له . وكان هذا الصديق على نقيضه ينتفع أقصى انتفاع من الحركات البهلوانية . وقد صار من كبار الأثرياء . وقد خربت حركاته البهلوانية بيوت الكثيرين ومن جملتهم بيت أبي . وفي يوم من الأيام وجد أبي نفسه على الحديدة. وإذا بأملاكه كلّها قد انتقلت إلى هذا الصديق العزيز .. وإذا بنا نجد أنفسنا نحن أفراد أسرته على حافة الجوع .. ( وهو يرفع كفيه بالدعاء إلى السماء) الله يرحمك يا أبي .. ما ضرّك لو تشبهت ببقّية الناس ومارست الحركات البهلوانية ؟ لو فعلت ذلك لكنت أنا الآن من كبار الأثرياء .
المشاهد رقم3 : يظهر أن أباك المرحوم كان عبيطاً أيها البهلوان0
( ضحك في الصالة)
البهلوان : هذا أمر لا شك فيه أيها المحترم .. لو لم يكن كذلك ما وقفت أمامكم الآن ألعب دور البهلوان .. ولكن هل تسمحون لي أن أواصل حكاية أبي ؟
صيحات : (في الصالة ) استمر .. استمر أيها البهلوان .
البهلوان : (ينحني انحناءه قوية) شكراً لكم أيها المحترمون .. أنا ممنون منكم .. طبعاً كان لدينا أقرباء أغنياء .. فهل تحسبون أيها المحترمون أن أياً منهم مدّ إلينا يد العون وأنقذنا من محنتنا ؟ أبداً .. على العكس .. كان بينهم الغاضب من سلوك أبي .. وكان منهم الساخر منه .. وكان منهم الشامت به. ولم يفكرّ أي واحد منهم أن يساعده بمبلغ يسدد به بعض دينه ليستعيد جزءاً من أملاكه . ( يصمت دقائق ويبدو على وجهه التفكير) هناك اعتقاد لدى الناس أيها المحترمون وهو من جملة الاعتقادات الخاطئة الكثيرة أن الأغنياء يتمتعون بالسخاء والكرم ويجودون على المحتاجين بشيء مما رزقهم الله . ولكن صدّقوني إن هذا الاعتقاد خاطئ جداً. والفقراء بالتأكيد أكثر كرماً وسخاء من الأغنياء لأنهم لا يخشون أن ينقص مالهم المكنوز .. فليس لديهم مال مكنوز أصلاً .
المشاهد رقم3 : مالك وهذه الأحكام السخيفة أيها البهلوان ؟ يبدو أنك صدّقت أنك صرت فيلسوفاً لمجرد أن أباك كان عبيطاً ونسيت أنك لست سوى بهلوان .
البهلوان : (يحني قامته ) شكراً لك أيها المحترم أنك ذكرتني بحقيقتي .. ( يروح ويجئ على خشبة المسرح وهو منكس الرأس) حقاً ما أنا سوى بهلوان .. وما كان ينبغي لي أن أحكي لكم حكاية أبي . فهي حكاية حزينة وليست مسلية.
المشاهد رقم 4 : لا تبالي بما سمعت أيها البهلوان .. وأبوك لم يكن عبيطاً بل كان رجلاً شريفاً يحب الخير .
المشاهد رقم 3 : (بتهكم ) وهل ينبغي لمن يحب الخير أن يبّذر أمواله بهذه الطريقة ويلقي عائلته في أحضان الفقر ؟!
البهلوان : (موجهاً الكلام إلى المشاهد رقم 3) معك حق أيها المحترم . لو مارس أبي المرحوم الحركات البهلوانية لظلت عائلته تعيش عيشة رغدة ولما ألقي بنا على الرصيف . وماذا كان سيضيره ذلك ؟! كل الناس المرفهين يمارسون الحركات البهلوانية.
المشاهد رقم4 : لا تقل ذلك أيها البهلوان . أبوك كان شريفاً . ويا ليت يكثر الشرفاء الصادقون لا البهلوانين الكذبة .
المشاهد رقم3 : مالنا وهذا الكلام الفارغ ؟ هل حضرنا إلى هنا لنستمتع بوقتنا أم لنسمع كلاماً سفسطائياً ؟! أهذا كلام مسلٍّ أم كلام يجلب الغم ؟
المشاهد رقم4 : إنه ليس كلاماً سفسطائيا بل هو كلام في الصميم .. وما قاله البهلوان عين الصدق .
المشاهد رقم3 : وهل المفروض أن يسلينا أم يغمنا ويتفلسف في رؤوسنا ؟
المشاهد رقم5 : علينا أن نقرّ بالحقيقة يا إخوان ونعترف بعيوبنا لكي نصلحها .. (متوجهاً إلى البهلوان) أحسنت كلاما أيها البهلوان وإن كانت أقوالك تغمّ فعلاً.
البهلوان : (وهو ينحني انحناءة قوية) شكراً لك أيها المحترم .. أنت نطقت بالحكمة.. هل تسمح لي أن أسألك ماذا تعمل أيها المحترم ؟
المشاهد رقم5 : ألا تعرفني أيها البهلوان ؟
البهلوان : (يظلّل عينيه بكفيه ويحدّ إليه النظر ) العتب على النظر أيها المحترم .. لم يحدث لي شرف معرفتكم .
المشاهد رقم5 : أنا نائب منطقتكم .. أنا الناطق باسمكم .
البهلوان : (في حركة استنكارية) لا .. لا أيها المحترم .. أنت لست ناطقاً باسمي .
المشاهد رقم5 : (في عجب ) ولماذا ؟! ألست المدافع عن حقوقكم في البرلمان ؟! ألم تستمع إلى خطبي دفاعاً عن حقوق الشعب ؟
البهلوان : استمعت إليها .. استمعت إليها طبعاً .
المشاهد رقم5 : فكيف تقول إذن إنني لست ناطقاً باسمك ؟! ألست واحداً من أبناء الشعب؟
البهلوان : (يتحرك على خشبة المسرح رواحاً وجينة وهو منكّس الرأس) هل أنا من أبناء الشعب حقاً ؟! ولكن ما أنا سوى بهلوان . ( يقف فجأة في مقدمة المسرح ويخاطب المشاهد رقم 5) هل تسمح لي أيها المحترم ان أسألك : ماذا تعمل ؟
المشاهد رقم 5 : ماذا تعني ؟
البهلوان : أعني ما هي صنعتك ؟
المشاهد رقم 5 : يمكنك أن تقول أن صنعتي هي السياسة .
البهلوان : (في حرارة) مرحباً بالزميل العزيز .
(ضحك في الصالة )
المشاهد رقم5 : (في حدّة) ماذا تقول ؟
البهلوان : لا تغضب مني أيها المحترم .. أنا لا أقصد سوءا .. ولكن لا شك أنك تتفق معي على أن السياسي في حقيقته ليس سوى بهلوان يكسب رزقه من الخطب السياسية0 وكل ما هنالك من فرق بيني وبينه أنني ألعب دوري على خشبة المسرح وهو يلعب دوره على مسرح السياسة .
المشاهد رقم5 : (في غضب ) لا تستغل رحابة صدري وتقلّ أدبك أيها البهلوان . فالسياسيون هم الذين يدافعون عن حقوق أبناء الشعب أمثالك .
البهلوان : عفواً .. لا تغضب مني أيها المحترم فأنا لا أقصد سوى المزاح .. أنا لا أقصد سوءا .
المشاهد رقم4 : (في تهكم ) وكيف يمكن أن يدافع عضو في الحزب الحاكم عن حقوق الشعب؟
المشاهد رقم5 : ولماذا لا يمكن ؟
المشاهد رقم 4 : وكيف يتأتى له ذلك وهو يدعم حكومة تصادر حقوق الشعب؟!
(صيحات في الصالة : " فليعش السياسيون البهلوانيون " )
المشاهد رقم 5 : (في غضب ) هذه مؤامرة على الحزب والسلطة الوطنية والمجتمع وأنت رأسها أيها البهلوان .
البهلوان : ما لي والمؤامرات أيها المحترم ؟ ما أنا سوى بهلوان .. وكل غرضي هو أن أسليكم .
المشاهد رقم5 : (متوعداً ) بل أنت شخص حقير ومخرب خطير وينبغي أن تلقي جزاؤك.
البهلوان : (باحتجاج ) أنا مخرب خطير ؟! أنا ؟! ما أنا سوى بهلوان .
(صيحات في الصالة : " دعوا البهلوان يعبر عن أفكاره " .. " دعوا البهلوان يعبر عن أفكارنا " .. جدل وضجيج في الصالة .
يظهر مدير الفرقة على المسرح وهو بادي الاضطراب ) .
المدير : (مخاطباً البهلوان في جزع ) ماذا فعلت أيها البهلوان الأحمق بأقوالك المجنونة ؟ أنت ستدمر مسرحي وتقطع عيشي وعيش زملائك .
البهلوان : وماذا قلت حتى أقطع عيش زملائي ؟ كل ما قلته معروف للناس جميعاً . الكل يعرف أن المحامين كلاوجيه وأن التجار لصوص وأن السياسيين مهرجين وأن مجتمعنا بكليّته قائم على التظاهر والزيف والنفاق واستغلال القويّ للضعيف . هذه حقائق يعرفها الجميع أيها المدير المحترم وأنا لم آت بشئ من عندي .. وما أنا سوى بهلوان لا يقصد بأقواله سوءا .
المدير : (وهو يلطم وجهه) أسكت أيها الأحمق .. أسكت . ليس كل ما يعرف يقال. أنت خربت بيتي وخربت بيوت زملائك .
المشاهد رقم5 : (يخاطب المدير في شدة ) لا تتظاهر بالبراءة أيها المتآمر فأنت شريكه في هذه المؤامرة وسيكون حسابك عسيراً .
المدير : (وهو يلطم وجهه) خربت بيتي أيها الأحمق .. خربت بيوت زملائك .
البهلوان : صدقوني أنا لا أقصد سوءا .. ما أنا سوى بهلوان وكل غرضي هو أن أسلّيكم.
المشاهد رقم 5 : (في غضب شديد ) وتصر على أن تسخر منا أيها الحقير ؟ أين التسلية فيما قلت من أقوال مسمومة ؟ ما أنت سوى مخرّب وأنت في حاجة إلى درس في الأدب.(مخاطباً الأشخاص حواليه) قوموا معي لنلقنه درساً لا ينساه.
(يقفز المشاهد رقم 5 إلى خشبة المسرح وبرفقته عدد من أصحابه وينهالون على البهلوان ضرباً وركلاً وهم يشتمونه )
البهلوان : (صارخاً ) لماذا تضربونني ؟! أنا لم أقل سوى الحقيقة .. وأنا لا أقصد سوءا .. كل غرضي هو أن أسليكم .. وما أنا سوى بهلوان .
المدير : (يلطم وجهه ويصرخ مولولاً ) قطعت رزقي أيها الأحمق .. قطعت رزق زملائك .
( ترتفع أصوات الاستنكار والاحتجاج من الصالة ‘ ثم يقفز بعض الأفراد إلى المسرح ويشتبكون مع المعتدين في عراك بالأيدي والشتائم 0
يسود الصالة هرج ومرج 0
يغادر المشاهدون على عجل في حين تهبط الستارة ببطء) .

- ستار الختام -




المخذولون
1992





















غرفة استقبال تطفح طاولاتها بالطعام والشراب . الرجال يتناثرون في ركن والسيدات في الركن المقابل " .
جميل : نحن يا علاء نسجل لك هذا السبق إذ جمعتنا في دارك هذه الليلة .
فتحية : ليس أبو سلام هو الذي جمعكم .. نحن جمعناكم . لولانا ما اجتمعتم هنا يا جميل.
علاء :صدقت يا أم سهير ، فسهيلة هي صاحبة الاقتراح .
هناء : هل من المعقول أن تعملوا في مديرية واحدة منذ مدة وزوجاتكم صديقات ولا
تفكّروا في أن تلتقوا خارج الدوام ؟!
عماد : ولماذا يجب ان نفكر بذلك ؟! أما يكفينا أننا نلتقي طوال النهار ؟!
فتحية : نحن أيضا نقتضي النهار معاً في المدرسة يا أبا عماد لكن لدينا ما نقوله لبعضنا بعد الدوام .
عماد : أنتن يا أم سهير لديكن ما تقولونه دائماً .. أما نحن فلدينا ما يشغلنا غير
الكلام.
هناء : لا تتحدث عن غيرك يا عماد فالناس جميعاً يحبون الكلام إلا أنت .
علاء : (بلهجة ساخرة ) صدقت يا أم عماد فليس لدينا من بضاعة سوى الكلام .. وهل نملك سوى الكلام ؟!
جميل : (وهو يطلق ضحكة صاخبة ) صحّ يا علاء .. وهل هناك شيء أحلى من الكلام ؟!
فتحية : (ملتفتة إلى هناء ) ألا يحب أبو عماد الكلام يا هناء ؟! جميل لا يكفّ عن
الكلام طوال وجوده في البيت .
علاء : هذا غريب ، فهو أقلّنا كلاماً في الدائرة يا أم سهير !
عماد : ولذلك فهو أكثرنا كلاماً في البيت !
جميل : (بلهجة حماسية ) أنا ألتزم أثناء الدوام بالحكمة الذهبية "لسانك حصانك
إن صنته صانك "0
سهيلة : ( وهي ترمق علاء بنظرات خاصة ) وهذا أحسن ما يفعله الموظف يا أبا
سهير 0 فالستّ دلال معلمة التاريخ في مدرستنا ما زالت تبحث عن زوجها
منذ ستة أشهر 0 ويقال إنه تحدث بسوء عن أحد رجال الحزب الكبار .
فتحية :مسكينة الست دلال . صارت إبرة وخيط من شدة الهم .
سهيلة : ( ترمق علاء وهي تمصمص شفتيها ) يا عيني عليها !
علاء : لا تنظري إلي هكذا يا سهيلة فأنا التزم أثناء الدوام بنفس الحكمة الذهبية
.. وجميل يشهد على ذلك .
جميل : صح يا أم سلام .
عماد : (بلهجة رصينة ) ظني أن جميع الموظفين يلتزمون بهذه الحكمة في
مكاتبهم .
هناء : (وهي تبتسم ) أما عماد فيلتزم بها في المكتب وفي البيت .
فتحية : ولماذا يلتزم بها في البيت يا هناء ؟! هل تخشون من جيرانكم ؟!
سهيلة : عيني أحسن .. للحيطان آذان كما يقولون .
هناء : ليس هذا هو السبب يا فتحية ولكن لأن عماد يؤمن بالمثل القائل " إذا كان
"الكلام من فضة فالسكوت من ذهب " .
فتحية : ولكن ما الذي يلهيه عن الكلام في البيت يا هناء ؟! هل يحضر معه شغل
الوظيفة إلى البيت ؟!
عماد : وهل هناك شغل يكفي وقت العمل يا أم سهير حتى يُكمل في البيت ؟ !
علاء : صدقت يا عماد ، فبعض زملائنا يستمتعون بأحلى ساعات نومهم فوق
مكاتبهم !
جميل : ( بلهجته الصاخبة ) خلّونا نستمتع .. الله ينصر الدين والدولة !
فتحية : فما الذي يُلهي أبو عماد عن الكلام يا هناء ؟ !
هناء : إنها الكتب يا فتحية .. الكتب التي تتناثر في كل مكان وزاوية في البيت .
فتحية : الحمد لله الذي جعل جميل لا يحب القراءة .
جميل : (وهو يطلق ضحكة صاخبة) اللهم اكفنا شر القراءة .. ماذا نفعت القراءة
أصحابها سوى أنها قادتهم إلى القيل والقال وخلقت لهم المشاكل ؟! أنا طلّقت القراءة ولله الحمد .
علاء : صدقت يا جميل .. خير للمرء أن يأخذ بالمقولة " ثور الله في زرع الله "0
عماد : وهكذا نكون أخلصنا لأهم سمات بلدان العالم الثالث وهو الانصراف عن
القراءة .
فتحية : وكيف ينقضي وقتنا بدون كلام إذن ؟
عماد : وهذه سمة أخرى من سمات عالمنا الثالث التي نخلص لها إضافة إلى كراهية
القراءة وهي حب الثرثرة والكلام .. ( متجهاّ إلى فتحية) ألا يمكن أن نقضي وقتنا في قراءة كتاب مثمر أو مجلة مفيدة يا أم سهير ؟ !
فتحية : ألا تكفينا كتب المدرسة يا أبا عماد حتى نبحث عن كتب أخرى ؟! حرام
عليك ! ( ملتفتة إلى هناء) صحيح يا هناء ، كيف ينقضي وقتك في البيت ؟!
هناء : ( بلهجة تمثيلية) ينقضي بالصمت العميق .. وأنت تعلمين يا فتحية أنني
أهوى الخياطة وإلاّ لانفجرت من الملل ( وهي تضيف بعد لحظة ) وإضافة إلى الصمت ملازمة البيت . فعماد يخشى مغادرة البيت لئلا تصاب كتبه بأذىّ أثناء غيابنا0
( ضحك)
عماد : لا تعزفي اسطوانتك المشروخة ي هناء واقتصدي في مبالغاتك .
هناء : أنا أبالغ ؟! وحياتي عندك00 ألم أقل الحقيقة ؟! فاسمح لي أن أسألك إذن،
متى ذهبنا أخرى مرة إلى السينما ؟
فتحية : نحن نذهب كل خميس .
سهيلة : ونحن نذهب كل أسبوعين فعلاء يحب السينما .
علاء : وهل هناك خيار ؟! هل ظل شيء أخر يمكن أن يستمتع به المرء في حياته؟
فتحية : لماذا يا أبو سلام ؟! الونسات كثيرة لمن يريد ، والحمد لله أن جميل لا يقصرّ في الونسات .
جميل : الحياة دروس وعبر ، وتجاربنا علّمتنا أن العاقل من اتعظ بقول عمر الخيام: و يلتا إن ضاع يومي من يدي
عاطلاً من زينة اللهو وما
صقلت أطرافه شمس المدام
فتحية : (بعد لحظة) بالمناسبة يا هناء ، هل ستذهبون لمشاهدة عروض السيرك
العالمي التي ستفتح مساء السبت القادم ؟! نحن حجزنا تذاكرنا .
هناء : وهل من المعقول أن يحجز لنا عماد تذاكر لمشاهدة السيرك ويترك كتبه ؟
عماد : فعلاً ليس من المعقول ذلك ، فمسألة تضييع الوقت في التفرج على الحيوان ا غير واردة في حسابي . فما الجديد في الحيوانات حتى نتفرج عليها ؟! الحيوانات هي الحيوانات منذ خلقت الأرض وما عليها .
علاء : أما أنا فأحب التفرج على الحيوانات وسأحجز لنا تذاكر غداً .
سهيلة : صحيح يا علاء ؟!
علاء : طبعاً صحيح0 فأنا أحب التفرج على القرود وهذه مناسبة لا تُضيّع .
فتحية : كل حيوانات السيرك مسلية يا أبا سلام وليست القرود وحدها .
علاء : ( بلهجته الساخرة) أنا أحب التفرج على القرود بالذات يا أم سهير لأنها
أبناء عمومتنا 0 وحينما تقدم عروضها على مسرح السيرك تبّين لنا كيف نقدم نحن عروضنا على مسرح الحياة .
سهيلة : كيف تكون القرود أبناء عمومتنا يا علاء ؟! ألم يقل الله أنه خلق الإنسان في
أحسن تقويم ؟
علاء : ليس المقصود بهذا الكلام نحن يا سهيلة !!
فتحية : والله عال ! جعلتم منا قروداً إذن !
علاء : ولماذا زعلت يا أم سهير ؟! من قال إن القرود ترضى بقرابتنا ؟! القرود لا
يعتدي بعضها على بعض ولا تطيع رئيساً يفتك بها 0 إنها أكثر ديمقراطية منّا نحن البشر .
جميل : مالنا والقرود والحيوانات ؟! هل عروض السيرك مقتصرة على الحيوانات
؟! أنا شخصياً لا تهمني عروض الحيوانات وأكثر ما يسليني عروض المهرجين وألعاب الأكروباتيك . و السيرك العالمي مشهور بأداء مهرّجيه وهم أساتذة فن الإضحاك .
عماد : فن التهريج قديم والرومان برعوا فيه منذ أكثر من ألفي عام .. ربما أكثر
من أي شعب آخر .
علاء : أنا لا أتفق معك في ذلك يا عماد . هناك من هو أبرع منهم في زمننا الحاضر
جميل : صحّ يا علاء ، فمهرجي السيرك العالمي أحسن منهم بلا شك .( ملتفتاً إلى
زوجته ) هل تتذكرين يا فتحية آخر عرض حضرناه قبل عامين للسيرك العالمي ؟ كانت إحدى نمر المهرج أن يظهر في نفس اللحظة بأربعة وجوه مختلفة وكل وجه يبدو كأنه وجهه الحقيقي .
علاء : وأية غرابة في ذلك ؟! لدينا من المهرجين من يستطيع أن يظهر بعشرة وجوه في نفس الوقت ويُقنع الناس أن كل واحد من تلك الوجوه هو وجهه الحقيقي ، وعددهم لا يحصى من فضل الله .
عماد : ليس لدينا مهرجين بارعين فشعبنا لا يحب الضحك .. شعبنا شعب جديّ
هناء : هذا ما تتخيله أنت يا عماد لأنك لا تعرف غير الكتب .
جميل : صحّ يا أم عمار .
علاء : خلّونا في موضوع السيرك .. أعتقد أن في إمكاننا أن نكوّن فرقة سيرك عالمية
خصوصاً وأن لدينا عدداً عظيماً من لا عبي الأكروباتيك بالإضافة إلى المهرجين0
سهيلة : ولكن عيني علاء . كيف يمكننا أن نكون فرقة سيرك وليس عندنا سوى
أنواع قليلة من الحيوانات ؟ ليس عندنا أسود ولا نمور ولا فيلة .
علاء : صدقت يا سهيلة ، ليس عندنا أسود ، وحتى ما كان لدينا من أسود في
الماضي تحوّل إلى ضباع ! .. ولكن لدينا قرود وثعالب وحمير .
هناء : ( وهي تضحك ) ومن سيذهب لمشاهدة مثل هذه الفرقة ؟! من سيذهب
لمشاهدة الحمير ؟!
علاء : كيف تقولين هذا يا أم عمار ؟! لعلمك أن الحمير أحبّ الحيوانات للناس
في حدائق الحيوان في أوروبا .
جميل : صحّ .. رأيت بنفسي كيف يتجمع الناس حول أقفاصها حينما زرنا حدائق
الحيوان في أوروبا .. ( ملتفتاً إلى زوجته) أليس كذلك يا فتحية ؟!
فتحية : صحيح ، ولكنها كثيرة عندنا ولا أحد يهتم بها .
علاء : أنا أختلف معك في ذلك يا أم سهير ، فنحن في الحقيقة نبالغ بتكريمها0
عماد : ( بلهجته الرصينة) هذا يعني أننا ندرك قيمتها أكثر مما يدركها الآخرون
، فمن المعلوم أن الحمار هو الفيلسوف بين الحيوانات 0
علاء : الآن فهمت لماذا يكثر الفلاسفة عندنا يا عماد !
هناء : ما عندنا من حيوانات لا يكفي لتكوين فرقة سيرك يا أبو سلام .
علاء : عندنا إضافة إلى هذه الحيوانات طيور متفردة يا أم عمار .. عندنا
عدد كبير من طيور الوقواق .. وعندنا طواويس متميزة .. عندنا أعظم طاووس في العالم .
جميل : ( يطلق ضحكته الصاخبة وهو ينظر إلى السيدات) صح يا علاء .. عندنا
طواويس متميزة .
فتحية : أتقصد أننا طواويس متميزة يا جميل ؟
جميل ( بلهجته الحماسية) طبعاً .. أنتن طواويس إعدادية الحرية للبنات !
سهيلة : لا عيني أبو سهير .. الست وجيهة مديرة المدرسة هي الطاووس الوحيدة
في مدرستنا .. من يجرؤ على أن يقول لها على عينك حاجب ؟!
عماد : إلى هذا الحد تخشونها ؟!
علاء : وما الغرابة في ذلك يا عماد ؟! هل بوسعك أنت أن تعارض رئيس الفراشين
بهلول ؟!
عماد : أنا لا علاقة لي ببهلول .. لا أعارضه ولا يعارضني .
علاء : فأنت لا تعرف إذن أهمية بهلول .. جرّب أن تعارضه وستجد أنه لا أنت
ولا المدير العام نفسه يستطيع ذلك .
جميل : بهلول شخص مؤدب يا علاء وهو لا يصطدم بالموظفين بلا سبب .
علاء : من حقك أن تدافع عنه يا جميل فهناك حالة استلطاف بينكما .
عماد : ظني أن معظم الموظفين يستلطفون بهلول يا علاء وليس جميل وحده0
علاء : الحق معك يا عماد فكلهم يخافون على خبزتهم أو يطمحون إلى مكسب .. ولكن جميل يكاد يكون الوحيد بينهم الذي فاز بصداقته !
جميل : الأمر ليس أكثر من احترام متبادل بيننا يا جماعة .. والحقيقة أنني أراه
شخصاً دمثاً لا كما يتحدث عنه الآخرون .
علاء : فإذن ليس من المستبعد أن يتطور هذا الاحترام إلى صداقة متينة !
فتحية : ( بتأثر) كيف تقول ذلك يا أبا سلام ؟! جميل يصادق رئيس فراشي الدائرة
عماد : مالنا وبهلول هذا ؟! أنتم تتحدثون عنه وكأنه رئيسنا.. وكأنه المدير العام
نفسه !
علاء : كأنك لا تعيش بيننا يا عماد . ( ملتفتاً إلى جميل) أفهمه يا جميل قيمة
بهلول .
جميل : صحّ .. مركزه خطير جداً في الحزب.
عماد : ولكن ليس إلى هذه الدرجة !
علاء : قل له يا جميل من الذي يرشح مدراء الأقسام .
فتحية : ( فرحة ) صحيح يا أبا سلام ؟!
علاء :اسألي أبا سهير .
فتحية : وهو صديقك يا جميل ؟! لكنك لم تذكر لي ذلك أبداً !
جميل : علاء يبالغ يا فتحية .. والحقيقة ليس يبني وبين بهلول سوى احترام
متبادل ولا يبلغ حدّ الصداقة .
علاء : إذن سيبلغ في المستقبل القريب .
فتحية : ولماذا لا يبلغ حدّ الصداقة يا جميل ؟! لماذا نتعالى على الناس الفقراء ؟! ما
عيبه حتى نرفض صداقته ؟!
علاء : اطمئني يا أم سهير .. جميل لن يرفض صداقته وستحقق في الوقت المناسب.
جميل : ( بلهجة نصف جدّية) أنت ترصد حركات الجميع في العمل كما يظهر يا
علاء ويجب أن تعّين مختار الدائرة .
علاء : إذن بمناسبة ترشيحي مختاراً للدائرة فإني أسألكما ، هل سمعتما بفضيحة
المدير العام الأخيرة ؟! وهل عرفتما كم تقاضى من الشركة الألمانية عن صفقة الحديد ؟!
( يخفت النور على مجموعة الرجال وينصرفون إلى التحاور الصامت ، ويركز
النور على مجموعة النساء اللواتي يتحاورن بصوت مرتفع)
هناء : أبو سهير موظف محترم ذو شهادة عالية يا فتحية ، ومن غير المعقول أن
يصادق الفرّاش .
فتحية : أولاً إنه ليس فراشاً بل رئيس الفراشين . ثم ما نفع الشهادة هذه الأيام
يا هناء ؟! لم تعد الشهادة هي مقياس صلاحية الشخص عندنا للوظائف العالية0 فالكثيرون ممن يحتلون أعلى المناصب هم بلا شهادة . ولو كانت الشهادة هي المقياس ما صارت الست وجيهة مديرة لمدرستنا ونحن نعرف ما هي شهادتها !.
هناء : الحق معك . لولا اعتماد الست دلال على مركزها الحزبي ما شمخت بأنفها
علينا .. الكلبة الحقيرة !
فتحية : لكنك مخطئة يا هناء .. ليس الأمر كما تتصورين .
سهيلة : وبماذا تتجبّر علينا إذن ؟
فتحية : ( وهي تبتسم بغموض ) أنتما لا تعرفان الحقيقة .
هناء : وهل هناك حقيقة أخرى إذن ؟! ( تتقارب رؤوسهن ويتحادثن بصوت
خفيض نوعاً ما ) .
فتحية : أنا كنت مخطئة0 وأنا كما تعلمان لم أصبح من صديقاتها المقرّبات إلا مؤخراً
هناء : خصوصاً وأن المزاحمة على صداقتها شديدة بين المدّرسات .
فتحية : ( وهي تبتسم ) إذا كانت حاجتك عند الكلب فسمه حاج كليب 0 وأنتما
تعرفان شطارتي . وإني نجحت في الحصول منها على وعد بترشيحي معاونة بدلاّ من الست بدرية التي ستنقل قريباً إلى ثانوية العُلى للبنات .
سهيلة : عفاك يا فتحية !
هناء : أما أنا فتكرهني لله بالله ! الكلبة الحقيرة ! لم تتركني أتهنى يوماً بأيّ
فستان ألبسه ! ( ملتفتة إلى فتحية بعد لحظة ) ولكنك تعلمين يا فتحية أنك لا يمكن أن تصبحي معاونة فلست حزبية .
فتحية : هناك ألف طريقة وطريقة للتغلب على هذه المشكلة يا هناء .. وهل
الحزبيات حزبيات حقيقة ؟! وهل يعرفن شيئاً عن الحزب ؟! ( وهي تهز رأسها بأسف ) لكن أملي ضعف بالمعاونية بعد أن عرفت الحقيقة وتبين لي أنها ليست حزبية قوية وذراعها ليست طويلة كما تخيلت .
هناء : فمن أين تستمد نفوذها إذن يا فتحية ؟
فتحية : ( وهي تبتسم بغموض) من حزبي كبير في الدولة .
سهيلة : قريب لها ؟!
فتحية : ( وهي تضحك ساخرة) بالطبع ، ولعله أبوها أو عمها أو خالها !
سهيلة : لكننا لم نسمع أن لها قريباً كبيراً في الدولة يا فتحية .
فتحية : (وهي تضحك ) كرامة عليك يا سهيلة !
هناء : الكلبة الحقيرة ! من يراها تتبختر في مماشي المدرسة وتعامل المدرسات
بعجرفة يحسبها أشرف الشريفات ! وحياتي سترون كيف سأبهدلها يوماً !
سهيلة : عيني فتحية .. إن بعض الظن إثم0 هل أنت متأكدة من معلوماتك ؟
فتحية : وهل حدثتكما بمثل هذه المعلومات عنها من قبل ؟!
هناء : الكلبة الحقيرة !00 ( بعد لحظة) ولكن من أين حصلت على هذه المعلومات يا فتحية منها شخصيا ؟!
فتحية : الأمر ليس كما فهمتيه يا سهيلة .. هي في الحقيقة لم تحدثني صراحة ،
لكن أختك تفهمها وهي طايرة !
سهيلة : يعني هي لم تقل ذلك ؟!
فتحية : لا .. لم تقل لي ذلك .
سهيلة : عيني فتحية .. إن بعض الظن إثم .
هناء : ( تلتفت إلى سهيلة بضيق) خلينا نسمع القصة يا سهيلة .( ملتفتة إلى فتحية ) وكيف اكتشفت الحقيقة إذن يا فتحية ؟!
فتحية : منذ أسابيع وهي تلمّح لي عن خلافات ومشاحنات مع زوجها . وقبل ثلاث
أيام قالت لي بصراحة أن الوفاق مع زوجها صار مستحيلاً وأنه هددها بالطلاق إن لم تكفّ عن نشاطاتها الحزبية وعلاقاتها . ثم علّقت على ذلك وهي تبتسم :" سيكون هو الخاسر فالزوج الجديد جاهز وهو خير منه بألف مرة"0 فماذا تفهمان من هذا القول ؟!
سهيلة : عيني فتحية .. إن بعض الظن إثم 0
هناء : الكلبة الحقيرة .. ونحن نتصور أنها تتقوى علينا بمركزها الحزبي !
سهيلة : عيني هناء .. إن بعض الظن إثم .
هناء : إذا كانت هذه حقيقتها فما بالها تحاسبني يومياً على ملابسي وتحرجني
أمام التلميذات ؟
فتحية : وهل يحتاج هذا إلى سؤال يا هناء ؟! أنت أأنق مدرّسة في المدرسة وهي تغار
منك .
هناء : ولماذا لا تغار من صديقتها الست سعاد التي تلبس كل يوم فستاناً جديداً
مستورداً تتباهى به علينا ؟
فتحية : أنت تعلمين يا هناء أن الست سعاد لا يمكن أن تنافسك مهما ارتدت من
فساتين أكانت مستوردة أم غير مستوردة .
سهيلة : ( وهي تضحك ساخرة) هاتي الزيت للزيتون هاتي العبدة للخاتون! كيف
يمكن للست سعاد أن تنافس هناء وهي تمتلك ذلك الجسم المطهمج ؟!
هناء : فهل يتوجب علىّ إذن أن ألبس ملابس مخربطة حتى ترضى عني ؟! ألا يكفيها أن محبوباتها من المدرسات يتغزلن بها صباحاً ومساءّ ؟!
سهيلة : لا تنسي يا هناء أن جسمها لا يساعدها على الأناقة ، لذلك فهي تكره
الرشيقات أيضاً 0 فهي تكرهني مع أنني لم أقصرّ بواجبي يوماً ولم أسيء لها بشيء .
فتحية : إنها لا تكرهك يا سهيلة لأنك رشيقة وجسمك جميل بل لأن التلميذات
يحببنك كثيراً .
هناء : طبعاً ! حلوة ورشيقة ومعلمة رياضة !
سهيلة : وهل ذنبي أن التلميذات يحببن معلمات الرياضة ؟! ( وهي تهز رأسها
بخوف) أنا متأكدة أنها ستسلمني يوماً كتاب نقلي إلى مدرسة بعيدة ! وكثيراً ما أفزّ من نومي مرعوبة وأنا أحلم بذلك .
فتحية : لا تخشي من ذلك يا سهيلة .. فما دامت ليست حزبية قوية فلن يكون
بإمكانها نقلك .
سهيلة : ( وهي تتنفس بارتياح) طمأنتني يا فتحية الله يطمئنك .. وإن شاء الله
تصيرين معاونة رغم أنوف الحاسدات .
هناء : ( ضاحكة ) وكيف تصير معاونة مادامت صاحبتها ليست حزبية قوية كما
كنا نتصور ؟!
فتحية : ( في خيبة ) وهذا ما قلته لنفسي بعد أن عرفت الحقيقة .(لحظة وقد تهلل
وجهها ) لكنني قد لا أكون في حاجة إلى وساطة الست وجيهة يا هناء . فما دام جميل صديقاً لرئيس الفراشين بهلال .. بهليل .. ( ترفع صوتها موجهة الخطاب لزوجها) ما اسم رئيس الفراشين يا جميل ؟!
(يُسلط النور على الجميع )
جميل : بهلول .
فتحية : (مواصلة كلامها في حماس ) فما دام رئيس الفراشين بهلول صديقاً لجميل
فربما يكون أكثر نفعاً لي منها. فلا شك انه ذو مركز حزبي قويّ جداً .
هناء : ولكن هل هذا اسم معقول ؟ ألم يكن بإمكان أهله أن يختاروا له اسماً غير
هذا ؟! هل الأسماء بفلوس ؟
علاء : كل أسماء المسؤولين الكبار من هذا النوع يا أم عمار فلا تستغربي .
جميل : صحّ .. فاسم مديرنا العام لعيبي .
فتحية : الحمد لله أن اهلك يا جميل اختاروا لك اسماً محترماً . فلن يُقال عنك إذا ما
صرت رئيس قسم أن اسمك غير لائق .
علاء : إحم .. إحم .. يدك في الدهن يا جميل !
جميل : اتركي هذه الأحلام يا فتحية .. مالنا وهذه المراكز ؟! إنها ليست أكْلنا .
علاء : صدقت يا جميل .. المراكز ليست أكلنا . إنها حكر على طبقة المميزين الذين
اجتباهم الله ليكونوا شعبه المختار والذين حصلوا على أرفع المؤهلات بالنضال الحزبي ! ثم أن تلك المراكز السلطوية قد سجلت بأسمائهم في الطابور ولا مجال لأن ينافسهم عليها أحد . فهم لم يكتشفوا بعد فكرة تداول السلطة .
فتحية : ولماذا ليست أكلنا ؟ هل أصحاب المراكز أحسن منا ؟!
جميل : طبعاً أحسن مناّ . إنهم من أعضاء الحزب ولسنا كذلك .
علاء : صدقت يا جميل 00 أعضاء الحزب العتيد أحسن منا ، فهم مواطنون من
الدرجة الأولى ، أما نحن فمواطنون من الدرجة الثالثة .
عماد : هذا طبيعي ، فالله واحد والحزب واحد !
فتحية : ونحن أيضاً يمكن أن نكون من أعضاء الحزب .
جميل : ونورّط أنفسنا ؟!
فتحية : ولماذا نورّط أنفسنا ؟! ما هي سوى ورقة نوّقعها. هل الذين وقعوا على
الورقة يؤمنون بمبادئ الحزب أو يعرفونها ؟!
علاء : الحق معك يا أم سهير .. فحوالي خمسة وتسعون بالمائة منهم من
الانتهازيين الذين لا يؤمنون بالحزب وفلسفته00 إن كان له فلسفة .
عماد : هذا طبيعي فتلك هي طبيعة الأنظمة ذات الحزب الواحد .
جميل : ( وهو يهز رأسه ساخراً ) الذي يدري .. يدري ، والذي لا يدري قبضة
عدس!
علاء : أنت يا جميل تفضل الأكلة السهلة الهضم وهو خير ما تفعل !!
عماد : الأكلة السمينة لذيذة لكنها قد تصيب المرء بسوء الهضم ومن الأفضل
تجنبها0
علاء : على كل حال ما على المرء إلا أن يسعى يا جميل 0 وما دام بهلول صديقاً لك
فستكون يدك في الدهن عاجلاً أم آجلاً .
عماد : ولكن ألا تلاحظون سخافة هذا المثل ؟! تصوروا شخصاً يده ملطخة بالدهن
دلالة على كونه موفقاً !
علاء : وما الغرابة في ذلك يا عماد ؟! معظم الذين وفقهم الله في هذه الأيام قد
لُخطت أيديهم بشيء ما حتى بالدماء أحيانا .
سهيلة : (بفزع ) عيني علاء .. بلا سياسة .. الله يخليك .
علاء : ( يلتفت إلى زوجته منزعجاً ) هل تريدينني أن أكمّم فمي يا سهيلة ؟! ألا أ أ يمكن أن أنطق بشئ إلا ويصيبك الذعر ؟!
سهيلة : عيني علاء .. أنت تعلم أن بعض الناس تفوّهوا بأقل من هذا الكلام ففصلوا
من وظائفهم أو نقلوا إلى أماكن بعيدة ، أو حتى ألقوا في السجن .
جميل : صحّ يا علاء .. ما لنا وهذا الكلام ! فلنستمتع بوقتنا .. سأروي لكم نكتة ..
فتحية : صحيح يا جميل .. أرو لنا نكتة لنضحك ..
جميل : اسمعوا يا جماعة .. سأروي لكم نكتة حبة القمح .
فتحية : أنني سمعتها مراراً يا جميل .. أرو لنا نكتة أخرى .
هناء : لكننا لم نسمعها يا فتحية .
جميل : اسمعوها إذن . إنها نكتة عن مجنون ، وجوهر جنونه انه يتصور نفسه
حبة قمح وبالتالي فلو رآه الديك سيبتلعه . فكان يفزع فزعاً شديداً من رؤية
الديك 0 فأدخله أهله المصحة وعولج حتى شُفي وفارقه ذلك الهوس . واصطحبه أهله إلى منزله 0 وعند باب المنزل شاهد ديكاً من بعيد وإذا به يستعد للهرب ، فذكّره أهله انه شفي وعليه ألا يخشى من الديك فهو إنسان ليس وليس حبة قمح0 فهتف وهو يحاول التملص من أيديهم : " صحيح أنني إنسان ، وأنا أعرف ذلك ، ولكن من يقنع الديك بأنني لست حبة قمح ؟! "( يضحك الجميع عدا علاء ) .
هناء : (وهي تضحك ) صحيح الجنون فنون !
علاء : أرى أن هذا الشخص ليس بمجنون .
فتحية : كيف يكون المجنون إذن يا أبا سلام ؟! أهناك جنون أشدّ من أن يتصور
الإنسان نفسه حبة قمح ؟!
علاء : كلّنا حبة قمح في نظر ديكنا وفي إمكانه أن يبتلعنا في أي وقت يشاء يا أم
سهير.
عماد : ظني أن علاء محق في قوله .
هناء : ألا تريح نفسك من الجدّ لحظة يا عماد ؟!
فتحية : (ضاحكة ) المفروض يا أبو عمار أن الشراب يعطي العقل إجازة ، فهل انتم
مختلفون عن غيركم ؟ فمنذ أكثر من ساعة وأنتم تشربون .. ثم إذا بكم
تريدون أن تقلبوا الهزل إلى جدّ !
عماد : أنت تقصدين يا أم سهير أننا يجب أن نكون الآن سكارى 0 لكن هذا التصور غير صحيح0 فحينما يفعل الشراب مفعوله وينقله إلى الحالة الجديدة يبلغ المرء ما يمكن أن يسمى حالة الصفاء فتبدو له الأمور حينئذ واضحة ومتميزة ومجردة من الرياء الاجتماعي .
علاء : صدقت يا عماد .. كأنك في قلبي !
جميل : (متجهاً إلى علاء وعماد ) إذا كنتما لا تريدان أن تعترفا بحالة السكر
وتريدان أن تفلسفاها وتجعلاها حالة صفاء فأنا لست من حزبكما0 فالنشوة
بدأت تصعد إلى رأسي ، و سهير تبدو لي الآن ملكة غير متوّجة . فاللهم
اشهد أنني الآن سكران .
علاء : أما أنا فاللهم أشهد أنني بلغت حالة الصفاء .
سهيلة : (بلهجة مرتعبة ) عيني علاء .. كفاية شرب .
جميل : ولماذا يا أم سلام ؟! نحن ما زلنا في بداية حالة الصفاء .
فتحية : (ضاحكة ) أنت ستضيعين عليّ تاج الملوكية يا سهيلة .. انتظري قليلاً فلعل
جميل يرى التاج فوق رأسي . ولعلك تصبحين أنت أيضاً ملكة!
علاء : (وهو يكرع كأسه ويصب له كأسا آخر ) ولماذا تريدين حرماني من حالة
الصفاء يا سهيلة ؟! أفلا تدرين أنها الساعات الوحيدة التي أستعيد فيها
إنسانيتي فلا أشعر أنني ثور الله في زرع الله ؟!
سهيلة : أدري عيني علاء .. ولكن لدينا ضيوف هذه الليلة .. نحن لسنا وحدنا.
جميل : (وهو يطلق ضحكته الصاخبة ) كلنا ثيران الله في زرع الله يا أم سلام فلا
تبالي .
فتحية : ما بالك مرتعبة يا سهيلة ؟! خلّي أبو سلام مستمتعاً بحالة الصفاء .. ولنر نحن إلى أين سنصل مع أزواجنا وهم في حالة الصفاء كما يقول أبو عمار . قبل قليل كنا قروداً والآن صرنا بقرات وصاروا هم ثيراناً بالطبع !
جميل : صحّ يا فتحية ، وبقرتي بيضاء ناصعة تسرّ الناظرين !
فتحية : أرأيتم ؟! قبل قليل كنت ملكة والآن صرت بقرة !
جميل : أنا الآن في حالة الصفاء يا فتحية فلا تزعلي من أي كلمة أقولها .. الحياة لا تستحق منا الزعل .. اضحك تضحك لك الدنيا .
علاء : (وهو يكرع كأسه ويلقيه بقوة على الطاولة) صدقت يا جميل .. الحياة لا
تستحق منا الزعل .. وهكذا نتخلص من مسؤولياتنا .. هكذا ندفن رؤوسنا في الرمل فلا نرى معاناة الناس المسحوقين من حولنا .
فتحية : مالهم الناس المسحوقين يا أبو سلام ؟ ما شاء الله على الناس المسحوقين
كانوا يتحسرون من قبل على لقمة الخبز وصاروا الآن يسبحون في النعيم لأنهم عرفوا كيف يستفيدون من الفرص 00 ( وهي تخزر زوجها ) وأصبحنا نحن المسحوقين .
جميل : ( محاولاً أن يكون مرحاً ) ولماذا مسحوقين يا فتحية ؟! هل ينقصنا شيء؟!
فتحية : بالطبع ، تنقصنا أشياء .. ينقصنا أن نكون من الكبراء .. ينقصك أن تكون
رئيس قسم .. وينقصني أن أكون معاونة مديرة .. ولن نكون من الكبراء إن لم نصبح حزبيين وأنت تقف حجر عثرة في سبيل ذلك .
علاء : ( وكأنه يحدث نفسه ) الحق معك يا أم سهيل فقد صار الناس طبقات
وفئات حسب انتماءاتهم الحزبية والقرابية والعشائرية والمدينية يفضل بعضهم على بعض في الرزق والمكانة . وصار الغالبية العظمى من الناس منبوذين لأنهم لا ينتمون إلى الطائفة المعينة او المدينة المعينة او العشيرة المعينة أو الحزب المعين .( بعد لحظة ) ولكنك تعرفين الدرب يا أم سهيل ، فلماذا لم تسلكيه ؟
فتحية : (وهي تخزر زوجها ) اسأل جميل .
جميل : ( في مرارة ) ألا تتعبين من هذا الموضوع يا فتحية ؟ ( يهز رأسه وكأنه
يخاطب نفسه ) الذي يدري .. يدري ، والذي لا يدري قبضة عدس !
علاء : على كل حال كل شيء بأوانه يا أم سهير ، وسيصبح أبو سهير من الكبراء
يوماً .. كل من سار على الدرب وصل .
فتحية : مُت يا حمار حتى يجيئك الربيع !
عماد : ظني أنك مبالغة في تشاؤمك يا أم سهير ، فالمناصب ليست كل شيء في
الحياة0 ولن تختلف حياتكم كثيراً لو صرتم من الكبراء أم لم تصيروا !
فتحية : لماذا تضلل أم سهير بمثل هذا الكلام يا عماد ؟! لماذا تريد أن تحرمها من
المكاسب المادية والمعنوية الهائلة !( ملتفتاً إلى جميل ) قل له يا جميل كم ستختلف حياتكم لو صرتم من الكبراء .. قل له كم ستكسبون من مزايا المخصصات الإيفادات وهدايا المناسبات والأولوية في الحصول على الحاجيات والمواد الغذائية من مخازن الحكومة .. قل له كيف أصبح الكبراء لا يعرفون ماذا يفعلون بفلوسهم التي تزخ عليهم كالمطر !
فتحية : لا عاب فمك يا أبو سلام . ( ملتفتة إلى عماد ) أنت يا أبو عمار لم تزر بيتاً
كبيت الست وجيهة وترى ثلاجتها ومجمدتها وهي طافح بالمواد الغذائية من
بضن وفراخ وأجبان وزبدة ولحوم وأسماك مجمدة .
هناء : وكيف يمكن لعماد يا فتحية أن يفهم هذه الحقيقة وثلاجتنا ومجمداتنا
فارغتين كقلب أم موسى كما يقول المثل ؟!
عماد : ها .. ها !! الاسطوانة المشروخة إياها !
هناء : تلك هي الحقيقة يا عماد فلماذا تنكرها ! هل تذكر تاريخ حصولنا على
آخر" طبقة" بيض ؟!
جميل : ( ضاحكاً) هذا حال الناس جميعاً يا أم عمار والكل في الهوا سوا .
فتحية : هذا ليس حال الناس جميعاً بل حال الخائبين أمثالنا
جميل :الذي يحيّرني أن الحكومة مقتدرة ومع ذلك يعاني الناس الأمرين ويقفون
ساعات في طوابير طويلة ليحصلوا على البيض والدجاج والأجبان .. لو كنت مكان المسؤولين لملأت الأسواق بهذه البضائع وتخلصت من هذا الصداع .
علاء : ( ساخراً) هذه هي السياسة المثلى .. جوّع الناس وألههم ببطونهم تأمن
شرهم ، ثم وزّع عليهم " المكرمات" لتستعبدهم .
هناء : ( وكأنها تحدث نفسها) أطفالنا نسوا طعم البيض والجبن .
عماد : ( ينظر إلى هناء عابساً) وماذا تريدينني أن أفعل ؟! أضيّع وقتي وأقف
الساعات الطوال في الطابور وأتزاحم مع الناس لأحضر لكم طبقة بيض أو دجاجة مجمدة ؟
هناء : وهل من المعقول أن تضيّع وقتك على مثل هذه الأشياء التافهة وفي انتظارك
كل تلك الكتب لتقراها ؟
علاء : لا تشتمي الكتب يا أم عمار فهي حصن عماد الحصين التي يحتمي بها من
مآسي الحياة من حوله !
عماد : على كل حال لا يمكنني أن ألومك يا هناء على معاداتك الكتب فأنت
تعبرين بذلك عن أبرز سمات عالمنا الثالث .
فتحية : بعض الناس يا هناء لا يحتاجون إلى الوقوف ساعات في الطوابير ليحصلوا
على هذه الأشياء فهي تأتيهم إلى بيوتهم .. الخائبون أمثالنا هم الذين يتحسرون عليها .
هناء : نحن يا فتحية ما حصّلنا هؤلاء ولا أولئك .. نحن حصلنا الكتب .
عماد : ( بلهجة مترفعة ) إن كتاباً واحداً من هذه الكتب التي تكرهينها يا هناء وكأنها ضرّتك هي عندي خير من كل الثلاجات والمجمدات الطافحة بأشيائك هذه .. وإني أقول كما قال علي بن أبي طالب لمناوئيه : " إن دنياكم هذه لا تعدل عندي عفطة عنز " .
علاء : ( وهو يكرع كأسه ويخبطه بقوة على الطاولة ) وماذا عن دنيا الناس
المستضعفين ومعاناتهم يا عماد ؟! أهي أيضاً لا تعدل عندك عفطة عنز ؟!
عماد : ( بتعال) لست أنا المسؤول عن أولئك المستضعفين .
علاء : ومن لأولئك المسحوقين يا عماد ؟! من لهم ؟!
عماد : وقتي أثمن من أن أضيّعه بالصغائر .
سهيلة : عيني علاء .. الله يخليك .. كفاية شرب .
علاء : ( يكرع كأسه ويلقيه بقوة على الطاولة . يتحدث بلهجة معذبة وكأنه
يخاطب نفسه ) من لأولئك الذين يموتون متعفنين في السجون والمعتقلات ؟!
( تنهض سهيلة عجلة إلى النوافذ فتغلقها) 0
فتحية : الهواء لطيف يا سهيلة فلماذا تغلقين الشبابيك ؟!
سهيلة : ( تعود إلى مقعدها في ارتباك وتخاطب فتحية في صوت خفيض) أعذريني
عيني فتحية فالحذر يدفع القدر ، وللحيطان آذان كما يقولون وعلاء بلغ حالة الصفاء وسيتذكر كل مصائب الدنيا ... هذا حاله كل ليلة .
علاء : ( يكرع كأسه ويواصل كلامه بلهجته المعذبة ) من لأولئك الذين يقضون
زهرات عمرهم في السجون والمعتقلات ولا ذنب لهم سوى أنهم يحبون بلدهم وشعبهم ويريدون له الخير ؟!
جميل : لهم رب يحميهم يا علاء فلا تقلق عليهم .. ثم من قال لهم أن يرموا
أنفسهم في التهلكة ؟!
عماد : هكذا نفهم السياسة في بلدان العالم الثالث .. أن نزجّ بأنفسنا في مغامرات
حمقاء ! هكذا نفهم تحقيق الإصلاح !
علاء : وكيف يتحقق الإصلاح إذن يا عماد ؟!
عماد : يتحقق بخلق طبقة ذات وعي ثقافي عال تصبح مؤهلة لاستلام السلطة حينما يحين الحين وانتزاعها من المغامرين الجهلاء أصحاب الشعارات الذين هم أساس نكبة وتخلف بلدان العالم الثالث .
علاء : وماذا عن دورنا نحن المثقفين يا عماد ؟! ماذا عن مسؤوليتنا عما يجري
حولنا من مآسي الحكم ؟!
عماد : دورنا أن نثقّف أنفسنا ثقافة حقيقية وليس أن ندخل السجون والمعتقلات
أسوة بالمغامرين متصيدي السلطة .
علاء : وهكذا ندفن رؤوسنا في الرمل .. هكذا نقنع أنفسنا بأن ما يجري حولنا
ليس من اختصاصنا . هكذا نعفي أنفسنا من كل المسوؤليات .
جميل : أنت محق في قولك يا عماد0 ليس من الحكمة أن نرمي أنفسنا في التهلكة
مساقين بالحماس الصبياني . كنا نفعل ذلك ونحن شبان صغار . وكنا نخرج في المظاهرات ضد الحكومة ونعرّض أنفسنا للرصاص دون أن نهاب الموت . (وهو يضحك هازئاً) لكن الأيام علمتنا أن شاعرنا المعّري كان صادقاً حينما قال : إنما هذه المذاهب أسباب .
لجذب الدنيا إلى الرؤساء
فما علينا إلا أن نرعى مصالحنا الذاتية إن كنا واعين .
علاء : ( وهو يكرع كأسه ويلقيه بقوة على الطاولة ) صدقت يا جميل ، وهذا أمر ليس بالغريب علينا نحن الذين نسمى بالمثقفين . فنحن الجبناء والانتهازيون الحقيقيون المستعدون دوماً لإلغاء ضمائرنا في سبيل مصالحنا الذاتية حينما يحين الحين .. تلك هي الحقيقة التي ينبغي لنا الاعتراف بها .
عماد : ظني أنك يا علاء غير مخوّل للتحدث بلسان المثقفين . وإذا كنت تشعر أنك
تتحلى بهذه الصفات فليس من حقك أن تتهم الآخرين بها !!
سهيلة : عيني علاء .. الله يخليك .. كفاية شرب .. الله يخليك .
علاء : فماذا تسمّي تحصنّك وراء كتبك يا عماد وإغماض عينيك عما يحدث حولك
من ظلم واستبداد وتسلط وانتفاء لأبسط مفاهيم الكرامة البشرية والعدالة الاجتماعية ؟ قل لي يا عماد من منّا لا يرتجف رعباً حينما تدق بابه بعد منتصف الليل ؟
عماد :اسمع يا علاء 00أعتقد أنه ليس من حقك أن تعطيني درسا في كيفية التصرف بحياتي وماذا يجب عليّ أن أفعل وكيف يتوجب عليّ أن أفكر 0
جميل : ( وهو يضحك متكلفاّ المرح) يظهر أن حالة الصفاء بلغت عندك ذروتها يا
علاء 0 وإن أم سلام محقة في إلحاحها عليك بأن تكتفي بما شربت فكلامك صار شيش بيش !
علاء : ( بسخرية بالغة) وهل ترى أنت أيضاً يا جميل أنني قلت غير الحقيقة ؟!
قل لي إذن ، كيف تفسر صداقتك لبهلول مع أنك تعلم أنه أداة من أدوات النظام للتجسس على الموظفين ؟
جميل : ( ينتفض غضباً) لا 00 لا0 إلى هنا ويكفي خربطة يا علاء ، وأنا لا أسمح لك بالتستر بالسكر وأخذ حريتك بإهانتنا0 فمنذ بداية السهرة وأنت منساق بالغمز واللمز ونحن نحمل أقوالك على محمل الهزل ، ولكن يبدو أنك تقصد كل كلمة قلتها هذه مؤامرة . أنت دعوتنا إلى بيتك مبيّتاً في نفسك إهانتنا . ( ينهض فجأة ويخاطب زوجته غاضباً) قومي يا فتحية .. يكفينا إهانات !
عماد : ( وهو يتهيأ للنهوض ) فعلاً ، ظني أننا شبعنا إهانات ! ( ملتفتاً إلى
علاء) ولكن لا أظن يا علاء أن هذه الهلوسة التي تصيبك في حالة الصفاء كافية لإراحة ضميرك من المسؤوليات التي تدعيها (و هو يقف ملتفتاً إلى زوجته ) يالله يا هناء .. انتهت المهزلة !
فتحية : ( وهي تنهض) هل جمعناكم لتتبادلوا الكلام الحادّ أم لتستمتعوا بسهرة
لطيفة ؟! لماذا لا يمكنكم أن تكونوا مثلنا ؟! نحن لا نزعل بعضنا من بعض مهما اختلفنا .
هناء : ( وهي تنهض) هكذا هم الرجال .. لا يعرفون سوى الجدّ.. ليتنا لم
نجمعكم .
سهيلة : عيني فتحية .. عيني هناء .. أنا خجلانة منكم .. كيف تخرجون هكذا
وأنتم زعلانون ؟!
فتحية : ومن قال لك إننا زعلانون يا سهيلة ! أنا شخصياً فرحانة لأنهم قالوا ما في
قلوبهم وهم سكارى .. المهم ألا يتحدثوا هكذا وهم صاحون00 ( تلتفت إلى علاء) تصبح على خير يا أبا سلام .
هناء : وأنا أشكرك كثيراً يا أبا سلام .. أنت شفيت غليلي من الكتب .. تصبح على
خير .
سهيلة : ( وهي تصحب الضيوف إلى الخارج) أنا متأسفة كثيراً يا أبا سهير ويا أبا
عمار .. وأرجو كما ألاّ تزعلا من علاء .. إنه لا يقصد ما يقول ، وهذا كلام يردده كل ليلة حينما يبلغ حالة الصفاء .. وهو لا يقصد به أحداً .
( يختفي الجميع ويظل علاء لوحده .. يملأ قدحه ويكرع منه جرعة كبيرة ،
تعود سهيلة إلى الظهور )
سهيلة : عيني علاء .. لماذا زعّلتهم ؟! كيف سأواجه فتحية وهناء غداً ؟!
علاء : زعلتهم ؟! فليضربوا رؤوسهم بالحائط إذن .. يزعلون من الحقيقة ؟! ما
نحن إن لم نكن مجموعة من الجبناء الانتهازين الحقراء ؟! ( وصوته يزداد حدة) الناس المسحوقين يعانون أشدّ المعاناة ونحن ندفن رؤوسنا في الرمل . (يأخذ جرعة كبيرة من كأسه ) .
سهيلة : عيني علاء .. يكفي شرب .. الله يخليك .
علاء : ( بلهجة متطامنة والدموع في عينيه ) سهيلة .. خلني أنسى همومي ..
خلني أنسى أنني ثور الله في زرع الله .
سهيلة : عيني علاء .. الله يخليك .. كفاية شرب .
علاء : ( مستمراً بلهجة تشي بالنحيب) الناس المسحوقون يعانون الويلات من
حكم الطاغية وأمثالنا يغمضون عيونهم وكأن الأمر لا يعنيهم .. كل همنا المحافظة على حياتنا وإشباع بطوننا .
سهيلة : عيني علاء .. الله يخليك .. الله يخليك .. كفاية شرب .
علاء : (مستمراً في الكلام وهو ينتحب) أتعلمين ماذا جرى لصديقي محمود يا
سهيلة ؟ إنه مات تحت التعذيب .. مات .. مات 00وزميل الدراسة عباس .. أتدرين ماذا حصل له ؟! حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً وصارت أسرته بلا معيل .. و رؤوف ؟! أين هو ؟! أين هو يا سهيلة ؟! لا أحد يدري بمكانه منذ انتزعوه من فراشه بعد منتصف الليل قبل ستة أشهر وأخذوه إلى مكان مجهول ! ونحن نغدو ونروح ونقف الساعات الطويلة في طوابير المواد الغذائية وكأن هذه المآسي لا تعنينا ! نحن جبناء انتهازيون حقراء لا نستحق الحياة .. نحن لا نستحق الحياة يا سهيلة وأولى بنا أن ندفن أنفسنا في البالوعات ..
( تبدأ الستارة بالهبوط خلال المقاطع الأخيرة من كلام علاء وقد بدأ نحيبه
يتعالى ) .


- ستار الختام -




الغائب
1994

" غرفة واسعة للمعيشة تتصل بالمطبخ . في ركن منها منضدة للطعام .هدى منهمكة في ترتيب صحون الطعام على المنضدة وقد بدا على وجهها الانشغال . يدخل هاشم "
هاشم : هل الغداء جاهز يا هدى ؟
هدى : (ترفع إلى هاشم نظرات ساهمة ) الغداء جاهز يا هاشم .. و الله الساتر !
هاشم : لا تقلقي يا هدى .
هدى : ( بلهجة مترددة) أنا نادمة يا هاشم .. ليتني لم أسايرك في خطتك .
هاشم : لا موجب لقلقك يا هدى ، صحيح أنها ستثور لكنها ستهدأ في النهاية .
هدى : كأنك لا تعرف عمتي ! ( وهي تهز رأسها مفكرة )مسكينة عمتي !
هاشم : قد يتحول حالها هذا إلى حالة مستعصية يا هدى إذا لم نفعل شيئاً فنندم
بعد فوات الأوان .
هدى : لا .. لا يا هاشم 00لا تقل ذلك . كل ما في الأمر أن قلبها طافح بالحزن .
هاشم : ( وقد بدا على وجهه الأسى ) ومن منا لم يطفح قلبه حزناً لغياب جلال ؟
(وهو يهز رأسه متأملاً ) صوته الحار المتدفق لا يفارق أذني يا هدى .(بعد لحظة وكأنه يحدث نفسه ) وكم أفتقد محادثاتنا الممتعة الممتلئة بالأفكار والآمال .
هدى : ( وهي تبتسم بحزن) كنت أعجب دائماً كيف كنتما تجدان مادة لكل تلك
المحادثات التي لا تنتهي !
هاشم : ( بحزن وكأنه يخاطب نفسه) كم أحن إلى تلك الحوارات وأفتقدها ! ( وهو
يرنو إلى هدى ) ولكن الحياة يجب أن تستمر يا هدى وإن استقر الحزن في القلب . ينبغي ألاّ نستسلم للحزن وندمر حياتنا0 وجلال وأن غاب عنا حيّ في ذاكرتنا .
هدى : ( وقد اكتسى وجهها بحزن عميق) أتدري يا هاشم ؟ أنا أيضاً لا أصدق أن
جلال لن يعود مهما حاولت أن أقنع نفسي بذلك 0( بلهجة مترددة وهي تتجنبه بعينيها ) وفي أغلب الليالي يعاودني حلم واحد لا يتغير .. جلال يضغط جرس الباب ثلاث مرات كما كان يفعل عند عودته من " الجبهة " ويدخل بوجهه المتهلل وهو يصيح صيحته المرحة " أنا جئت يا أهل البيت"0 وأهب من نومي والفرح يهز جسدي فيفجعني الفراش الخاوي 00( تهمس ودموع صامتة تنحدر على وجنتيها ) ما أشد شوقي إليه ! ما أشد شوقي إلى وجهه الضاحك وكلماته الدافئة .
هاشم : ( وهو يرمق هدى بإعجاب ) لكنك مع ذلك صابرة يا هدى .
هدى : ( تمسح دموعها براحة يدها وترفع رأسها وقد استعادت السيطرة على
عواطفها ) لا بد لي أن أتماسك يا هاشم إن لم يكن من أجلي فمن أجل عمتي .
هاشم : ( بإعجاب) أنت شجاعة يا هدى ، أنت شجاعة حقاً مع أنك أكثرنا تأثراً
بهذه المأساة0 فلا أنت للحياة ولا أنت للموت كما يقول المثل . ما ذنبك لتفقدي زوجك ولم تمض سنة على زواجك ؟
هدى : ( وهي تهز رأسها بحزن) هذا قدري .
هاشم : ( بعد لحظة) كان من الخطأ أن يتزوج المجنّدون في مثل تلك الظروف00 كان من الخطأ أن يتزوج جلال وأمثاله .. تركوا وراءهم زوجات أرامل في عز شبابهن وأطفال في عمر الزهور .
هدى : ولماذا لا يتزوجون يا هاشم وقد طالت الحرب كل هذه السنين ؟! أليس من
حقهم أن يستمتعوا بحياتهم ؟ ما ذنبهم ؟! .
هاشم : ( وهو يهز رأسه مفكراً) معك حق يا هدى .. ناس يشعلون الحرب وناس
يدفعون الثمن ! والذين أشعلوا الحرب يعيشون في راحة بال لأنهم يعتقدون أن ما يدفعونه لأهالي الشهداء من مال وسيارات تعوضهم عن أبنائهم 0
هدى : وأي شيء يمكن أن يعوض عن هؤلاء الأحبة ؟ وأنا لا ألوم جلال على زواجه يا هاشم لكنني أبكي حظه العاثر .. أبكي شبابه الضائع .
هاشم : ( في أسى) تبددت حياة الشباب مابين حروب وبطالة وضياع00 ( وهو يرمق هدى بإعجاب) لكنك شجاعة حقاً يا هدى .. ليت أمي تملك مثل شجاعتك .
هدى : ولكنها أم يا هاشم وأنا مهما كنت زوجة00 ( وهي تهز رأسها) مسكينة
عمتي .. هدّ الانتظار صبرها .
هاشم : ولذلك يجب أن نضع حداً لحالها يا هدى ، يجب أن نفعل شيئاً ولا نظل
مكتوفي الأيدي .
هدى : ( وهي مطرقة تعبث بالصحون) أنت قد يمكنك أن تفعل شيئاً فأنت ابنها
ومهما فعلت فلن تكرهك 0 أما أنا فغريبة بالنسبة لها وموقفها مني لن يكون مثل موقفها منك .
هاشم : كيف تقولين هذا يا هدى ؟ ألست زوجة جلال وأم ابنه ؟
هدى : ( بلهجة مترددة وهي مطرقة ) إنها صارت حساسة جداً تجاهي يا هاشم
وإن حساسيتها تجاهي تزداد يوماً بعد يوم .
هاشم : أنت تعلمين يا هدى أنها صارت حساسة تجاهنا جميعاً .. (بعد لحظة)
وعلى كل حال سأتحمل أنا كافة التبعات 0 لن أدعك مسؤولة عن شيء .
هدى : (وهي مطرقة تعبث بالصحون) لا أدري يا هاشم .. لا أدري .لعلنا أخطانا0
هاشم : ( يتأمل الصحون على المائدة لحظة ثم يندفع نحوها فجأة ويرفع أحدها )
ما دمنا أخطانا في رأيك فلنخطيء مرة واحدة .. لتكن ثورتها شاملة .
هدى : ( تتشبث بالصحن فزعة وتحاول أعادته للمائدة) لا .. لا يا هاشم أرجوك
ليس اليوم .. افعل ذلك في يوم أخر ولكن ليس اليوم .
هاشم : ( وهو ينتزع الصحن من يدها ) بل اليوم يا هدى .. ما دمنا بدأنا فلتكن
البداية مجزية ( يحمل هاشم الصحن ويختفي في المطبخ ) .
هدى : ( وهي تهز رأسها في قلق وخوف ) الله الساتر !
( يدخل الأب )
الأب : مرحباً هدى 0
هدى : أهلا عمي .
الأب : ( يتأملها مستفهماً) مالك يا هدى ؟
هدى : (وهي ترسم على وجهها ابتسامة مغتصبة )لا شيء يا عمي .
الأب : ( متلفتاً حواليه) أين بهاء ؟
هدى : بهاء نائم يا عمي .
الأب : ما هذا يا هدى ؟ هل يقضي وقته كلّه نائماً ؟ حينما خرجت صباحاً كان
نائماً .. والآن تقولين أنه نائم .
هدى : ما حيلتي معه يا عمي إذا كان يحب النوم ؟
( يدخل هاشم وقد سمع قول هدى )
هاشم : من شابه عمه فما ظلم يا أبي .
الأب : في هذا صدقت يا هاشم .
هدى : (للأب) كان جائعاً يا عمي فلما أرضعته شبع ونام .
هاشم : هنيئاً له ، أما نحن الجائعين فلنا الله .
هدى : الغداء جاهز .
هاشم :( بلهجة شبه مازحة)ولكن من يعلم متى تنتهي أمي من عملها في الحديقة؟
الأب : أما زالت أمك تعمل في الحديقة .
هاشم : سيأتي يوم تقضي أمي يومها كله في الحديقة .
الأب : ( وهو يهز رأسه) ولعها بالحديقة يخفف عنها 00( كالمخاطب لنفسه) هي
على الأقل لديها ما يخفف من لوعتها .
هاشم : ( بعد لحظة ) وكيف كانت حفلة المهر يا أبي ؟
الأب : ( وهو يخفض صوته) لا ترفع صوتك يا هاشم لئلا تسمعك أمك .
هشام : وإلى متى يا أبي نظل على هذه المخادعة ؟
الأب : ما دام في سلوكنا هذا تخفيفاً من لوعتها فهو ليس مخادعة .
هاشم : ولكن إلى متى يدوم هذا الحال يا أبي .
الأب : ( بمرارة وحزن) إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا 00( مفكرا) من يدري ؟
لعل الله يرفق بها ويعيد إليها جلال سالماً . لعل الله يرفق بنا جميعا ويعيد جلال سالماً .
هاشم : أنت يا أبي تقول ذلك ؟! ألم نستلم رسالة من المسؤولين يخبروننا فيها أن
كل من لم يعد من المفقودين يعتبر شهيدا ؟ لقد مضى على انتهاء الحرب ستة أشهر ، فهل من المنطق أن يكون هناك جندي مفقود لم يرجع إلى أهله بعد ؟
الأب : ( وهو يهز رأسه بحزن) العيش على مثل هذا الأمل يخفف من لوعة القلب
يا هاشم .. ( ملتفتاً بعد لحظة إلى هدى ) سأغيّر ملابسي وأعود لنتغدى0 (يخرج) .
هدى : ( وهي تتطلع إلى هاشم في شبه لوم) أرأيت يا هاشم ؟ عمي لن يوافق على ما فعلناه .
هاشم : ما عليك .. أنا سأتحمل المسؤولية كاملة .
هدى : ( وهي كدرة الوجه) لا أدري يا هاشم .. لا أدري .
( تدخل الأم وهي ترتدي رداء بيتيا بسيطا وتحمل مقصا للأزهار)
هاشم : نحن مستعدون للغداء يا أمي وأبي حضر .
الأم : أنا لم أنته من عملي في الحديقة لكنني سأكمل العمل بعد الغداء ( ملتفتة
إلى هدى) هل نام بهاء ؟
هدى : منذ ساعة يا عمتي .
الأم : هل أرضعته قبل أن ينام ؟
هدى : أرضعته يا عمتي .. إنه لا ينام ما لم يشبع .
الأم : أحياناً ينام الطفل المسكين من شدة جوعه .
هاشم : ( باسما) كيف يمكن أن ينام يا أمي وهو جوعان ؟
الأم : يبكي إلى أن يغفو .. وكثيراً ما أسمعه يبكي ، فلماذا يبكي إذا لم يكن
جائعاً ؟
هاشم : الطفل يبكي لأسباب كثيرة يا أمي وأنت تعرفين ذلك ( بدعابة ) وأنت
تقولين عني أنني كنت كثير البكاء وأنا طفل . فهل كنت تتركينني جائعاً ؟
الأم : أنت يطبعك كنت تحب البكاء ولم تكن كجلال الذي لم يكن يبكي إلاّ لسبب
وفي أيامنا لم نكن نترك أطفالنا جوعى 0 كنا نرضعهم باستمرار . أما بنات اليوم فهن يتهربن من رضاعة أطفالهن .
هدى : اطمئني يا عمتي .. رضعته حتى شبع وهو دائما ينام حينما يشبع .
هاشم : هنيئا له . إنه شبع أما نحن فما زلنا جوعانين .
الأم : نادي على أبيك لنتغدى .
هاشم : ( يدنو من باب الغرفة وينادي) أبي . الغداء حاضر .
الأم : ( تتلفت حواليها فيقع بصرها على مائدة الطعام تتفرس في المائدة بإنزعاج
وقد امتقع وجهها ثم تهتف بغضب ) أين صحن جلال ؟
( تخالس هدى هاشم النظر بارتباك )
الأم : ( لهدى بغضب متزايد) لماذا لم تضعي صحن جلال في موضعه ؟
هاشم : كان في موضعه وأنا رفعته يا أمي .
الأم : ( في هياج ) ولماذا يرفع صحن جلال عن موضعه ؟
(يدخل الأب مسرعاً إثر صراخ الأم)
الأب : خيراً يا أم جلال .. خيراً ؟
الأم : إنهما رفعا صحن جلال عن المائدة .
هاشم : قلت لك إنني أنا الذي رفعت الصحن يا أمي .
الأم : ولماذا رفعته ؟
هاشم : وما فائدته يا أمي ؟
الأم : أنت لا شأن لك بفائدته أو عدم فائدته .. صحن جلال لن يرفع عن مائدة
الجمعة .
الأب : وهو كذلك يا أم جلال .. (ملتفتاً إلى هدى) هات الصحن يا هدى0 (تسرع
هدى إلى المطبخ وتعود بالصحن) .
الأب : ( للأم بلهجة شبة مازحة) ها قد عاد الصحن الى موضعه يا أم جلال (
ملتفتنا إلى هدى ) هيا يا هدى .. أنجدينا بالطعام فالجوع كافر .
(يتخذ الحاضرون مواضعهم حول مائدة الطعام في حين تمضي هدى إلى المطبخ بخطوات متلكئة) .
الأب : ( ملتفتاً إلى الأم) كيف حال الحديقة اليوم يا أم جلال ؟
الأم : (وهي لا تزال أسيرة غضبها) كانت زاهية بوجود جلال .
الأب : أنت في الحقيقة تتعبين نفسك أكثر من اللازم في رعايتها .
هاشم : أنت في حاجة الى جنائني ليعاونك يا أمي فلا يمكنك أ، تقومي بالعمل كله
وحدك .
الأم : ( في جفاء ) لا شأن لأحد بذلك .( وهي تائهة النظر) المهم أن يجد جلال
الحديقة زاهية حينما يعود .
هاشم : على كل حال الحديقة في حالة جيدة ولا تحتاج منك إلى كل هذا الجهد يا
أمي .
الأم : ( في شيء من الحدة) وماذا تعرف أنت عن الحديقة ؟! أنت لم تهتم بها
يوماً .. أنت لا تدري ما فيها من شتلات وأوراد .. جلال كان يعرف كل شتلة من شتلاتها وكل زهرة من أزهارها .
هاشم : ( وهو يبتسم ) الحديقة ليست من هواياتي يا أمي
الأب : على كل حال أنت يا أم جلال حافظت على الحديقة زاهية فعلا .
الأم : جلال وحده الذي يجعل الحديقة زاهية .
الأب : إذا أردت سألت لك عن جنائني يمكنك الاعتماد عليه ليعاونك .
الأم : لا.. لا. لا أريد أي جنائني00 ( وعيناها سارحتان في الفضاء ) سيجد جلال
الحديقة زاهية حينما يعود .
الأب : كما تحبين00 ( بعد لحظة ملتفتاً جهة المطبخ) الجوع كافر يا هدى .
هدى : ( من المطبخ) حاضر يا عمي .
(تقبل هدى من المطبخ حاملة طبقاً كبيراً من الدولمة تضعه على المائدة ثم تجلس في موضعها )
الأب : ( وهو يتشمم الدولمة في اشتهاء) الله دولة00 بارك الله فيك يا هدى .
(يقبل الأب وهاشم على طبق الدولمة بشغف في حين تخزر الأم الطبق في
اشمئزاز وقد اربد وجهها) .
الأب : ( ملتفتاً إلى الأم ) كلي يا أم جلال .. كلي .. رائحتها الشهية تملأ الأنف
.. من زمان لم نأكل دولمة .
الأم :(وهي ترشق هدى بنظرات ملتهبة) وأين الدجاج ؟
الأب : ومن يحتاج إليه مع الدولمة ؟
الأم : وهي تضغط على الحروف ضغطاً شديداً) وأين الدجاج ؟
الأب : وكيف يمكن لهدى أن تعمل الأكلتين في وقت واحد يا أم جلال ؟
الأم : ( بلهجة قاسية وعيناها مثبتتان في وجه هدى) لكنها تعلم أن أكلة يوم
الجمعة التي نجتمع فيها كلنا هي الدجاج .
الأب : لا بأس من التغيير يا أم جلال .
الأم : ( لهدى بلهجتها القاسية) وهل هذا التغيير من عندك يا هدى ؟
هدى : (تظل صامتة وهي تتجنب النظر إلى الأم وقد بدا الارتباك على وجهها)
هاشم : لا يا أمي . أنا الذي طلبت منها أن تطبخ لنا دولمة اليوم .
الأب : خير ما فعلت .. كنا في حاجة إلى تغيير أكلة الجمعة المعتادة .
الأم : ( بلهجتها القاسية ) ولماذا ؟
الأب : لا بأس من التغيير يا أم جلال .
الأم : لكنكم تعملون أن الدجاج هي أكلة جلال المفضلة يوم الجمعة .
الأب : أي والله صحيح .. نسيت ذلك .. ولكن لا بأس من التغيير يا أم جلال ( وهو
يبتسم ) وأنا متأكد أنه لو كان جلال موجوداً بيننا لرحّب بهذا التغيير .
الأم : لكنه غير موجود بيننا .
هاشم : وهل نظل نتناول نفس الأكلة يوم الجمعة يا أمي ما دام جلال غير موجود؟
الأم ( وهي تركز عينيها الغاضبتين على وجه هدى) وأنت كيف وافقت هاشم على
طلبه ؟
هاشم : أنا الذي أجبرتها على ذلك يا أمي .
الأب : ( برفق) لا . .. لا يا أم جلال .. بدلاً من أن تشكريها على تعبها تلومينها؟
الأم : ( تتصفح الوجوه غاضبة وتصرخ) ما معنى هذا ؟ صحن جلال يرفع عن
المائدة 00 أكلة جلال المفضلة تغير 00 الحديقة التي يحبها جلال تريدون إهمالها 00 ما قصدكم من ذلك ؟ محو آثار جلال ؟( ملتفتة إلى هدى في هياج) ارفعي الدولمة عن وجهي00 ارفعيها .
الأب : هدئي من نفسك يا أم جلال .. لا تنفعلي و اعتبري الموضوع منتهيامن الآن
فصاعداً لن تغير أكلة الجمعة( ملتفتا إلى هدى) ارفعي صحن الدولة يا هدى وهات لنا أي شيء نأكله .
(ترفع هدى طبق الدولة مسرعة وتنسل إلى المطبخ)
هشام : (بعد لحظة) لا يمكن أن تثير هذه القضية غضبك إلى هذا الحد يا أمي.
الأم : ( وقد هدأ غضبها ) تريدون أن تمحوا آثار جلال وتنسونه وأنا ساكتة0
الأب : ( بحزن عميق وكأنه يخاطب نفسه) ومن يستطيع أن ينسى جلال يا أم
جلال ؟ من يستطيع أن ينسى شخصا مثله كان يفرض محبته على القريب والبعيد ؟
هاشم : ولكن ليس من المنطق أن نظل نتصرف في حياتنا اليومية هكذا يا أمي .
الأم : ( لهاشم بلهجة متهكمة) طبعاً أنت تريد أن تعود حياتك كما كانت قبل
غياب جلال( وهي تخزره بنظرات قاسية) كيف يهون عليك ذلك؟ كيف يهون عليك أن تنسى أخاك جلال ؟ ألم ترضع من ثدي واحد معه ؟
هاشم : من منّا يقدر أن ينسى جلال يا أمي ؟ نحن جميعاً حزينون جداً لغيابه .
كل ما هنالك أننا يجب أن نعيش حياتنا الطبيعية .
الأم : ( بتهكم مرير) وأراك لا تقصر في ذلك (وهي تنظر إليه بتحد) ولكن لا تدعي الحزن على جلال .
هاشم : ( بلهجة مجروحة) وهل كلامك هذا منطقي يا أمي ؟ أليس هو أخي ؟
الأم : ( متهكمة ) نعم هو أخوك لكنك تريد أن تعيش حياتك الطبيعية كما تقول
وتنساه بأسرع وقت .
هاشم : (بلهجته المجروحة) شكرا على حسن ظنك يا أمي .
(تعود هدى حاملة طبقاً فيه جبن وبيض وخضروات تضعه على المائدة
يشرعون بتناول الطعام بجمود )
الأب : ( بعد لحظة) لا تجعلي الظنون تسيطر عليك يا أم جلال .
الأم : ( ملتفتة إلى الأب بحدّة) ولماذا ظنون؟ أليس ما أقول هو الحقيقة ؟
هاشم : ( بلهجته المجروحة) لماذا تقولين ذلك يا أمي ؟
الأم : ( بلهجتها المتحدية) ولماذا لا أقول ذلك ؟ لم يمض شهر على غياب جلال
حتى أردت تغيير الصور التي علقها في غرفة الضيوف .
هاشم : كل ما في الأمر أنني أردت أن أعلقّ بعض الصور التي تعجبني يا أمي .
الأم : بل أردت التخلص من تلك الصور حتى لا تذكّرك بجلال .
الأب : ولكنك تعلمين كم يحب هاشم أخاه يا أم جلال وكم هو حزين لغيابه .
الأم : (بهزأ) طبعاً .. كم هو حزين لغيابه ولذلك فما أن مرت أشهر قليلة على
غيابه حتى راح يعيش حياته الطبيعية كما يسميها .. عاد الى سهراته مع أصدقائه وإلى أحاديثه الطويلة في التلفون والتي يصاحبها القهقهات العالية .
هاشم : ( بلهجته المجروحة) وهل يعني ذلك أنني لست حزينا على أخي جلال
يا أمي !! كيف يمكنني ألاّ أحزن لغيابه وهو لم يكن أخي فحسب بكل كان صديقي العزيز أيضاً ؟
الأم : لو كان الأمر كذلك ما عرفت السرور وهو غائب .
هدى : ( في صوت شبه هامس) كان جلال يقول إن هاشم أحب أصدقائه إليه .
الأم : ( ملتفتة إلى هدى بشراسة) اسكتي فلست أنت التي تحكم على ما يحب
جلال وما لا يحب .
الأب : ( برفق ) ولماذا يا أم جلال ؟ ألست هي زوجته ؟
الأم : ( متهكمة) طبعاً زوجته ! لكنها لم ترع حقه يوماً لا في حضوره ولا في
غيابه .
الأب : لا تظلمي البنت يا أم جلال .
الأم : ( للأب بخشونة) هذه هي الحقيقة فلماذا تنكرها ؟! متى كانت ملتاعة
عليه ؟ متى كان قلبها محروقاً بالقلق عليه ؟
الأب : الله هو الذي يعلم ما في القلوب يا أم جلال . نحن البشر لا نعلم ما في
القلوب .
الأم : البشر أيضاً يمكنهم أن يقرؤا ما في القلوب .. هل رأيتها قلقة عليه يوما
أثناء المعارك ؟! كانت كل معركة تحدث تهدّ حيلنا .. كنت أنت تقضي الليل ساهراً تصلي وكنت أنا أدور في الغرفة كالمجنونة طوال الليل لا أدري ماذا أفعل . أما هي فكانت تتفرج على التلفزيون ثم تنام ملء جفونها .
الأب : وما أدراك أنها كانت تنام ملء جفونها يا أم جلال ؟! كل ما هنالك أن كل
شخص يتصرف بطريقته الخاصة للتنفيس عن قلقه .
هاشم : أنت تعلمين يا أمي أنها أكثر شخص فينا تدمرت حياته لغياب جلال .
الأم : ( بتهكم) ولماذا تدمرت حياتها ؟ متى كانت مهتمة به اهتماما حقيقيا
لتتدمر حياتها ؟ حتى حينما كان يعود من " الجبهة" في إجازاته كانت تخرج وتتركه في البيت لتزور أهلها .
هاشم : وهل حرام عليها أن تزور أهلها يا أمي ؟
هدى : ( تهمس وقد ترقرقت الدموع في عينيها ) جلال هو الذي كان يحضنّي على
زيارة أهلي .
الأب : ( برقة لهدى) أعذريها يا ابنتي فهي مكلومة القلب .
هدى : ( بصوت خافت) الحق معها يا عمي 00 أنا أقدّر ذلك فقلبي مكلوم مثل قلبها0
الأم : ( لهدى بتحد) لا .. قلبك ليس مكلوماً مثل قلبي . لو كنت كذلك لأصابك
ما أصابني .. لأصبت بالسكري مثلي .
الأب : ليس كل من كانوا قلقين على أبنائهم وأزواجهم أصيبوا بالسكر يا أم جلال.
الأم : بل كل من أعرفهن من أمهات وزوجات أصبن بالسكري أو بالضغط ( ملتفتة
إلى هدى بشراسة ) أما أنت فتريدين أن تمحي كل آثار جلال .
هدى : ( بصوت خافت دون أن ترفع رأسها ) وماذا فعلت حتى تتهميني بذلك يا
عمتي ؟
الأم : أنت تعرفين ماذا فعلت .. أنسيت ماذا كنت تريدين أن تفعلي بملابسه ؟
هدى : كان قصدي أن أغسل ملابسه الوسخة .
الأم : لو كنت زوجة محبة ما هان عليك أن تزيلي آخر روائحه .. والحمد لله
أنني لحقتها قبل أن تغسليها .
الأب : أنت تبالغين يا أم جلال .
الأم : ( مقاطعة بحدة) أنا لا أبالغ .. أنا لا أبالغ .. أنا أقول الحقيقة0 الحقيقة
التي يتعامى عنها غيري .
هاشم : ولكن هذا ظلم يا أمي .
الأب : ( برفق ) لا00 لا يا أم جلال . أنت تتوهمين أشياء وتبنين عليها أحكامك.
الأم : ( بضراوة) أنا لا أتوهم شيئاً .. كلكم تريدون أن تنسوا جلال .. ليس فيكم
أحد حزين لغيابه .. لو كنتم حزنانين حقيقة ما حاولتم أن تعيشوا حياتكم كما كانت قبل غيابه .
الأب : لا تستلمي لأوهامك يا أم جلال .
الأم : ( بلهجتها القاسية) إنها ليست أوهام بل هي الحقيقة .. ( تحدث نفسها
في رقة وحزن) جلال يا ولدي .. يا فلذة كبدي .. هل خلق الله أبناً مثلك ؟ هل خلق الله شخصاً في رقتك ولطفك وحنانك ؟ أنت وحدك الذي كنت تملأ البيت بهجة وأنسا وسعادة .. بضحكاتك المرحة .. بملاطفاتك ومداعباتك الحلوة .. برعايتك للصغير والكبير .. وهم يريدون أن ينسوك يا جلال ( تنحدر الدموع من عينيها بصمت) .
الأب : ( وهو يزفر) لا حول ولا قوة إلا بالله ( للأم برقة) هل كلامك هذا معقول يا
أم جلال ؟
الأم : ( تلتفت إلى الأب بشراسة) طبعا معقول .. أنتم كلكم تريدون أن تنسوه ..
( متفرسة في وجه الأب بنظرات عدائية) حتى أنت .
الأب : ( باستنكار) حتى أنا ؟! أعوذ بالله أليس هو00 ابني كما هو ابنك ؟
الأم : ولكنك لم تحمله في بطنك تسعة أشهر كما حملته أنا .
الأب : ( بنبرة حزينة وكأنه يخاطب نفسه) لكني رعيته بقلبي يوماً بعد يوم
وشهراً بعد شهر منذ فتح عينيه على الدنيا .. أنسيت أنه ابني البكر يا أم جلال ؟ أنسيت كم كانت لهفتي عليه يوم كان يمرض وهو طفل حتى أنك كنت تضحكين مني ؟! جلال قرة عيني فكيف لا أحزن لغيابه ؟ إن صورته لم تفارق خيالي منذ غاب عنا00 ( ناظراً إلى الأم بعتاب وألم) فهل كلامك هذا معقول يا أم جلال ؟
الأم : طبعاً معقول .. ألست أنت أيضاًَ تريد أن تعيش حياتك الطبيعية مثل هاشم.
الأب : وماذا في حياتي سوى الذهاب إلى عملي والعودة منه الى البيت ؟ وأنت ترين
أنني لا أخرج إلاّ نادراً .
الأم : ألست تقوم بالواجبات الاجتماعية كما تسميها ؟
الأب : وهل يصح إذن أن أقاطع الناس ؟
الأم : ( متحدية) أتظن أنني لا أعلم ماذا تفعل ؟ أنا أعرف كل شيء ( تهز رأسها
هزات قوية) .
الأب : تعرفين كل شيء .. وماذا تعرفين ؟
الأم : ( وهي تثبت نظراتها الحادة على وجه الأب) هل بإمكانك أن تقول لي أين
كنت صباح اليوم ؟
الأب : ( متلجلجاً) كنت .. كنت في حفلة "مهر" ابن عباس المهدي .
الأم : أرأيت ؟! كنت في حفلة " مهر"0 فكيف تكون حزيناً على جلال وتحضر
حفلة " مهر" ؟
الأب : ( بلهجة مجروحة وهو يهز رأسه ) الحزن في القلب يا أم جلال .. الحزن
في القلب .
هاشم : ( بلطف) هناك الألوف من الناس غيرنا حزنانون على أبنائهم الذين
أكتلهم الحرب يا أمي0 والشوارع والأحياء تغص بلافتات العزاء السوداء لكن الناس يمارسون حياتهم الطبيعية وحزنهم مستقر في قلبوهم .
الأب : ( يهز رأسه بحزن) هذه سنّة الحياة الدينا يا أم جلال . واليوم حينما
حضرت حفلة " مهر" ابن عباس المهدي وجدت المكان غاصاً بالمدعوين والكثيرين منهم اكتووا بنار الحرب وفقدوا أبناءهم .
هاشم : ( بلطف ) نحن قلقون جداً عليك يا أمي فأرفقي بنفسك00 لا تجعلي حزنك
يدمرك .
الأم : ( صائحة) لا شأن لأحد بحزني .
الأب : كيف لا شأن لأحد بحزنك يا أم جلال وأنا أصحو كل ليلة من نومي على
بكائك المكبوت الذي يقطع نياط القلب ؟
الأم : أنا أكتم بكائي لئلا أصحّيك .
الأب : كيف لا شأن لي بحزنك يا أم جلال وأنا أراقبك ليالي كثيرة تظلين ساهرة
فيها أمام النافذة حتى الفجر ؟
الأم : ولماذا يضايقك سهري وأنا أتحرك على أطراف أصابعي ؟! ( وهي تحدث
نفسها كالحالمة) في ليلة من هذه الليالي سيعود جلال .. فالغائبون من الجنود يعودون إلى بيوتهم بعد نصف الليل وسأكون أول من يراه .. أم فاضل عاد إليها ابنها الغائب بعد نصف الليل .
الأب : حتى الفراش هجرتيه يا أم جلال وصرت ترقدين على الأرض .
الأم : لن أرقد في فراشي حتى يعود جلال .
الأب : ( بلهجته الطافحة بالمرارة والحزن) علينا أن نصبر يا أم جلال فالله مع
الصابرين .
هاشم : ( بلهجته الرقيقة) ليس هناك عائلة لم تنكب بهذه الحرب يا أمي 0ولو
زرت أي " مصلحة" أو " دائرة" حكومية لرأيت جميع النساء العاملات فيها يرتدين السواد . لكنهن يمارسن عملهن وكأنهن لا يضمرن الحزن ( بلهجة متوسلة) أرجوك يا أمي .. أرجوك .. لا تستسلمي لأحزانك وتدمري حياتك وحياتنا معك .
الأم : ( صارخة بصوت ملتاع ) أنا لأشان لي بغيري .. كل الذي أعرفه أن ابني
جلال غائب وأن الحياة لن تهنأ لي حتى يعود .
الأب : سيعود يا أم جلال بعون الله فيهنأ قلبك به ، ، ولكنك مؤمنة وعليك أن تتصبري .
الأم : ( بصوت باك ملتاع وقد بدا عليها الانهيار) ما ذنب جلال لتتلف حياته هكذا ؟! لماذا كتب عليه أن يعيش سنين في الخنادق والحفر يصطلي حر الصيف ويقاسي زمهرير الشتاء ؟ ولأي سبب؟ وها هو يغيب عنا ولا ندري متى يعود .. فلماذا يا ربي ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا؟

( تنهار الأم معولة وتنفجر هدى بالبكاء بينما تهبط الستارة ببطء )


- ستار الختام -





الجدار



1994


اللوحة الأولى

( يسطع النور فيظهر على المسرح المرفوع الستارة منزلان متجاوران يفصل بينهما جدار منخفض . يشتمل كل منزل على غرفة واسعة للمعيشة ملحق بها مطبخ ويتفرع منها ممر يؤدي إلى الداخل وفي مقدمة المنزلين سياج منخفض يفصل بين حديقتين .
أثاث كل من الغرفتين بسيط جداً0
0تصدح موسيقى طوال المسحية تتلوّن حسب أجواء اللوحات0
شخوص المسرحية هما ( س) و (ص) ويجري الحوار بينهما دائماً في الحديقتين الأماميتين .
يقبل س من يمين المسرح وص من يسار المسرح ويلتقيان أمام منزليهما )
س : مساء الخير يا أخي ص .
ص : مساء الخير يا أخي س . أين كنت ؟
س : كنت في جولة على المشاتل .. وقد حاولت أن أعثر على نبتتك النادرة
لكنني عدت صغر اليدين .
ص : لا داعي لأن تتعب نفسك هكذا يا أخي س . لقد قلت لك إنها أنبتت فرعين
وسأهديك أحدهما .
س : شكراً جزيلاً . وأنا بدوري سأهديك شتلتين من شتلات الروز الأسود .
ص : هذا خبر مبهج فأنا أيضاً لم أستطع العثور عليه في المشاتل لكن شتلة واحدة
تكفيني يا أخي س .
س : لقد طرحت الشتلة الأصلية أربعة فروع لك اثنان منها ولي اثنان .
ص : أشكرك .. الحقيقة أنك كنت محظوظاً إذ عثرت عليه0 ظللت شهوراً أبحث
عن الروز الأسود بلا جدوى .
س : من النادر أن تظهر شتلاته في المشاتل وحينما تعرض تتخاطفها الأيدي ز
ص : أنت أثريت حديقتك بالشتلات النادرة يا أخي س . حديقتك صارت متميزة
فعلاً .
س : وهل حديقتك أقل تميزاً ؟! كلما تجولت فيها امتلأت نفسي نشوة .
ص : لكنها ليست كحديقتك على أية حال .
س : لا تغمط حتى حديقتك يا أخي ص فهي لا تقلّ عنها روعة إن لم تفقها
(بعد لحظة) وبالمناسبة .. أعددت لك اليوم باقة من أزهاري النادرة . اسمح لي أن آتيك بها ( يسارع إلى غرفة المعيشة ويعود حاملاً باقة إلى ص)
ص : أشكرك يا أخي س . إنها في غاية الجمال . أنا أيضا هيأت لك باقة من
أزهاري النادرة . لحظة لو سمحت . ( يختفي في غرفة المعيشة ثم يعود بباقة يقدمها إلى س) .
س : ما أجملها من باقة ! ستزهو بها غرفتي . ( بعد لحظة) حقاً إن حديقتينا
تكافئاننا على ما نبذل من جهد في العناية بهما .
ص : فعلاً فالوقت الذي نبذله في رعايتهما لا يذهب هدرا . والشيء بالشيء
يذكر . فإنني أكرر لك شكري على ما بذلته من وقت في معاونتي في أعمال الحديقة في الأسبوع الماضي .
س : لا شكر على الواجب يا أخي ص .. وهل نسيت ماذا فعلت أنت لحديقتي
قبل أسبوعين ؟
ص : لم أفعل سوى الواجب .
س : ( بعد لحظة وهو ينظر في ساعته في اهتمام) سيحين موعد النشرة
الإخبارية بعد عشرة دقائق .
ص : ( وهو يعاين ساعته ) فعلاً ، وعلينا أن نستعد لذلك .
س : أتوقع أن تذكر النشرة آخر أنبا الثورة في عمارستان .
ص : فعلا . فأنباء . ثورة عمارستان تتصدر الأخبار عادة .
س : لقد سمعت نشرة الساعة الرابعة والغموض مازال يكتنف الموقف .
ص : قلبي مع شعب عمارستان الذي عانى طويلاً من الاضطهاد .
س : قلوبنا جميعاً معه .
ص : أتعتقد يا أخي س أنه سينتصر في النهاية ؟
س : ليس لنا إلا أن ندعو له بالنصر . كان الله في عونه فليس الأمر سهلأ عليه .
ص : فعلا فهو يواجه قوة جبارة طاغية .
س : قوة طاغية لا ترعى لحقوق الإنسان ذمّة .
ص : إن أمثال حكّام تلك الأنظمة المستبدة لا يهمهم سوى مصالحهم الأنانية
وبالتالي فهم مستعدون لممارسة أعتى أساليب البطش للحفاظ على سلطتهم .
س : كان الله في عون هذه الشعوب البائسة التي تناضل لتحقيق إنسانيتها .
ص : لكنها ستفوز حتماً على القوى الباغية فلن يصح في النهاية إلا الصحيح.
س : بلا شك ( وهو ينظر في ساعته) حانت نشرة أخبار الساعة السادسة.
ص : ( وهو ينظر في ساعته) لعلنا نسمع أخباراً طيبة عن ثورة عمارستان .
س : أرجو ذلك .
( يسرع س وص إلى داخل مسكنيهما وينكّبان على مذياعين صغيرين . يعلو
صوت المذياعين بأخبار العالم . س وص ينصتان إلى الأخبار باهتمام شديد . يخبو النور تدريجيا حتى يسود الظلام ) .

اللوحة الثانية
( يسطع النور فيظهر المنزلان على حالهما في اللوحة الأولى . يقبل س من
الجهة اليمنى و ص من الجهة اليسرى ويلتقيان عند مدخلي المنزلين )
س : مساء الخير يا صديقي ص .. عساك أمضيت يوماً سعيداً .
ص : شكراً يا صديقي س . كان يوماً في غاية الجمال .. بعد أن فرغت من عملي
قصدت الغابة و أمضيت فيها بقية يومي .
س : أنا أيضاً فعلت الشيء نفسه0 أتعلم يا صديقي ص ؟! في كل مرة أكتشف
شيئاً جديداً في هذه الغابة .
ص : وهذا ما يحدث لي أنا أيضاً ، وقفت اليوم وقتاً طويلاً أتأمل الشجرة
العملاقة ، خيّل إلىّ أن أغصانها تحضن بعضها بعضاً في محبة بالغة .
س : وهل لاحظت كيف تبدو قمة الشجرة وكأنها رأس أم رؤوم تنحني على
أطفالها في حنو فياض ؟
ص : لاحظت ذلك فعلاً .. إنها أوحت لي بنفس الخاطرة .. إنها شجرة جميلة
للغاية .
س : وماذا عن الأشجار الأخرى ؟! يجب ألاّ نغمطها حقّها من الجمال .
ص : هذا صحيح ، خصوصاً أشجار السيسلبينيا 0 إن أوراقها الشديدة الخضرة
وأزهارها الفاقعة الصفرة تجعلها ذات جمال لا يبارى .
س : وماذا عن أشجار الكاسيا نيدوزا ؟! ماذا عن هذه الأشجار الساحرة المثقلة
بالزهور الحمراء ؟! أظنك لا تنكر بأنها منافسة خطيرة لأشجار السيسلبينيا في سحرها وفتنتها .
ص : الحقيقة أن الغابة بكليتّها تفيض بالسحر والجمال وإنها لقطعة بالغة
السحر من طبيعتنا الجميلة .
س : من الغريب أن يفوت على بعض الناس الاستمتاع بجمال الطبيعة والاندماج
فيها . فالطبيعة هي أصل متعتنا وهي هديتنا الثمينة من الخالق .
ص : هؤلاء مساكين وهم جديرون بالرثاء !
س : ( بعد لحظة ) وهل لاحظت يا صديقي ص أن طائر البوبولئك قد عاد الى
الظهور ؟!
ص : فعلاً إنه الربيع ، وهو دائماً يظهر في الغابة وقت الربيع .
س : أصبحت الغابة في هذه الأيام تصدح بأغاريد الطيور ...!
ص : صارت الطيور تؤلف أوركسترا كاملة !
س : ( وهو يشير إلى كتب يتأبطها ص) وماذا تحمل في يمينك ؟! هل هي كتب
جديدة ؟!
ص : أنت ذكّرتني .. كدت أنسى . إنها نسخ من الديوان الأخير لشاعرنا المفضل0
رأيته في المكتبة فاشتريت نسخة لي وأخرى لك . ( يناوله الكتاب) .
س : ( وهو يتصفحه بسرور) شكراً جزيلا يا صديقي ص . كنت أنتظر بلهفة
هذا الديوان منذ أن قرأت في الصحف إعلاناً عن قرب صدوره .
ص : لذلك بادرت بشراء هذه النسخة لك .
س : شكراً جزيلاً . ( وهو يقلّبه ) سأمضي بصحبته ليلة ممتعة .
ص : وأنا كذلك .
س : ( في سرور) حقاً ؟!
ص : بالتأكيد .. وأنا أدين لك بهذه المتعة الروحية ، فلولاك ما عرفت هذا
الشاعر على حقيقته صرت من أشد المعجبين به .
س : هذا أمر يسرني . كنت واثقاً أنك ستشاركني الإعجاب به إذا ما تمعنت في
شعرة .
ص : فعلاً ، كلما تأمل المرء في شعره تكشفت له معان جديدة .
س : إنه يتمتع بحس إنساني رفيع حقاً ، وإن شعره ليزخر بالعواطف
الإنسانية الراقية وبالدفاع عن قيم الحق والخير والجمال .
ص : فعلا .. وإن أمثال شاعرنا هذا ليضفون على الحياة جمالاً إضافياً ويرتفعون
بها إلى معان سامية تنأى بها عن ماديات الحياة اليومية .
س : شكراً على هذه الهدية القيمة يا أخي ص .
ص : لم أفعل سوى الواجب .. ليلتك سعيدة .
س : ليلتك هانئة .
( يدخل س وص إلى منزليهما0 و بعد أن يختفيا في الداخل يظهران ثانية وقد
أرتديا ثياب البيت . يختار كل منهما مقعداً مريحا وينصف إلى القراءة في ديوان الشعر بصوت مرتفع . يعيدان قراءة بعض المقاطع الشعرية وهما يهزان رأسيهما إعجاباً وتأملاً . يخبو النور تدريجياً حتى يسود الظلام )
اللوحة الثالثة
ا ( يسطع النور فيكون الجدار بين المنزلين قد أرتفع قليلاً وأضيفت قطع جديدة إلى أثاث الغرفتين . يبدو شيء من الإهمال على الحديقتين الأماميتين . يقبل س من الجهة اليمنى وص من الجهة اليسرى وكل منهما يحمل كيسا ينوء بثقله )
س : ( بلهجة متعبة نوعا ما ) مساء الخير يا عزيزي ص .
ص : ( بلهجة مرهقة) مساء النور يا عزيزي س .
س : كيف حالك ؟! منذ مدة لم أرك .
ص : وهذا ما كنت أقوله نفسي .. وأنت كيف حالك ؟
س : ( وهو يبتسم يتعب) أعترف لك بأنني مرهق .. ساعات عملي ازدادت ولا
أكاد أنتهي من العمل إلاّ أواخر النهار .
ص : ( بلهجة متعبة) وهذا حالي نفسه .. وقد حرمت من نزهات الغابة
اليومية . لم يعد وقتي يتسّع لها .
س : وأين الوقت الفائض الذي يمكن أن ينفقه المرء في الغابة ؟ ( بعد لحظة)
ولكن أفلا ترى يا عزيزي ص أن تمضية الساعات الطويلة في الغابة مضيعة للوقت ؟! أعني أن الوقت أثمن من أن يهدر في التبطل والكسل .
ص : ( وهو يضحك ضحكة قصيرة) وهذا ما أقوله لنفسي . فمنذ أن تغير برنامج
عملي وزادت ساعاته تضاعف دخلي تقريباً .
س : ( وهو يضحك ) لا شك أن من السخف أن ينفق المرء وقته متجولاً في الغابة
بدلاً من أن يستثمره استثماراً نافعاً لا لشيء إلا لكي يتأمل الطبيعة ويستمع إلى تغريد الطيور .
ص : فعلاً ، الوقت من ذهب ولا يمكن أن نحيله إلى تراب .
س : ( وهو ينظر إلى الكيس الذي يحمله ص) وماذا تحمل في هذا الكيس ؟!
ص : كل ما تشتهيه النفس .. لحوم متنوعة وما لذ وطاب من خضار وفواكه .
س : وهل لا حظت أن سمك الحفش قد ظهر لأول مرة في السوق ؟!
ص : طبعاً ، لم يفتني ذلك . ( يفتش في كيسه ويخرج لفافة يريها لـ " س " )
وقد اشتريت لي سمكة محترمة منه00 ( وهو يبتسم ابتسامة عريضة ) الله يرحم أيام زمان ، لقد سألت البائع عنه مرة فنظر إليّ في استخفاف وقال : هذا ليس أكلك أيها السيد !
س : ( وهو يضحك ) حقاً !! كناّ نستمتع برؤيته في واجهات الحوانيت فحسب .
ص : أصارحك يا عزيزي س أنني كنت أنوي مفاجأتك بطبق من الحفش المشوي .
س : شكراً يا عزيزي ص .. ما زال طعم طبقك المتميز في فمي رغم انقضاء أسبوعين . (هو يفتش عن كيسه ويخرجه لفاقة صغيرة ) على كل حال انا أيضا ابتعت سمكة منه .
ص : ( وهو ينظر إليها باستصغار ) لا بأس بحجمها على كل حال فثمنها غال جداً .
س : (يتأثر) لا تظن أنني بخلت بشراء سمكة أكبر . كل ما في هناك أنها كانت آخر سمكة في البقالة . أنا لا يهمني الثمن .
ص : طبعاً يجب ألا يكون الثمن هو المهم . ليكن الثمن ما يكون . لماذا وجُدت النقود إذن ؟! المهم أن نملأ بطوننا بأطيب الطعام . فما قيمة الحياة إن لم تمتليء البطن بما لذّ وطاب ؟
س : صدقت يا عزيزي ص ، فما الإنسان سوى حيوان مفكر آكل .
ص : ( وهو يشير إلى كتاب يتأبطه س ) وما هذا الكتاب الذي تتأبطه ؟
س : إنه كتاب " قوانين المجتمع " .
ص : ( وهو يتناول منه الكتاب ويتصفحه ) لقد كنت أبحث عن هذا الكتاب من وقت طويل فطبعته الأولى نفذت من زمن بعيد .
س : هذا صحيح وهذه طبعة جديدة له وجدتها في المكتبة .
ص : (وهو يعيد إليه الكتاب ) سأمر غداً على المكتبة لأشتري نسختي قبل أن يختفي من السوق.
س : حسناً تفعل0 فالأفضل أن تبادر إلى شراء نسختك منه فكتب هذا العالم سرعان ما تختفي من السوق.
ص : لا عجب فهو من اشد المتحمسين إلى تطبيق قوانين العدالة الاجتماعية وتوفير فرص الرفاه للجميع . وأراهن انك ستقضي مع الكتاب ليلة ممتعة .
س : أنا متشوق لذلك ... تصبح على خير .
ص : وأنت من أهل الخير .
( يختفي من س و ص داخل منزليهما ثم يظهران ثانية وقد غيّرا ملابسهما . ينكبّ كل منهما على كتاب ويستغرقان في القراءة . يخبو النور تدريجاً حتى يسود الظلام )
اللوحة الرابعة
( يسطع النور ويكون الجدار قد ارتفع ذراعا . هناك تغيير واضح في أثاث المنزلين الذي تبدو عليه الفخامة.
يظهر س من الجهة اليمنى وص من الجهة اليسرى وكلّ منهما يدفع عربة محملّة ، يتبادلان تحبه عابرة )
س : ما هذا الذي أحضرته أيها السيد ص ؟
ص : إنها ثلاجة كهربائية أيها السيد س. ( باعتزاز ) الآن أستطيع أن أرتفع بمستوى حياتي. وأنت ماذا أحضرت معك ؟
س : إنه طباخ غازي .. ( في فخار) الوداع لرائحة النفط فهي رائحة مقرفة .. أنت ولا شك ما زلت تعاني منها .
ص : الحقيقة أن رائحة النفط ليست بالسوء الذي تذكره أيها السيد س .
س : (وهو يهز رأسه بتهكم ) على كل حال أنا سعيد أن أرى مستوى حياتك يتحسن أيها السيد ص.
ص : (وهو يبتسم في سخرية ) وأنا كذلك أيها السيد س .
س : معذرة سأتركك فورائي عمل كثير .
ص : وأنا كذلك .
( يدخل كل من س و ص إلى منزليهما وينشغلان في إعداد مكان مناسب لحاجيتهما)
س : (وهو منهمك في عمله ) إذن فقد اشترى السيد ص ثلاجة كهربائية . كيف سبقني إلى هذه الفكرة ؟! كيف لم أفكر بتغيير صندوق الثلج البالي هذا ؟! أعترف انه كان أذكى مني في ذلك . الآن يستطيع ان يحصل على الثلج متى شاء وبدون ان يكلف نفسه عناء شرائه من السوق .. ثم أنها ستحافظ على الخضار والفواكه واللحوم طازجة لأسابيع . ( يفتح صندوق الثلج ثم يغلقه باشمئزاز ) كيف لم أفكر قبل السيد ص بشراء ثلاجة كهربائية ؟ ( وهو يهز رأسه مفكراً ) يجب أن أعترف بأنه لم يكن في إمكاني أن أشتري الثلاجة الكهربائية والطباخ الغازي في آن واحد . لم تكن ميزانيتي لتسعفني على ذلك . وعلى كل حال فقد سبقت السيد ص في فكرة إبدال الطباخ النفطي بطباخ غازي 00 (وهو يضحك مسروراً ) نعم سبقته ..ومن قال إن الثلاجة الكهربائية سترفع من مستوى حياته حقاً ؟! أما الطباخ الغازي فسيطوّر حياتي فعلاً0 فهو أسرع في إنضاج الطعام من الطباخ النفطي وسيخلصني من رائحة النفط المقرفة.. (وهو يهز رأسه ) سنرى ماذا فعلت له الثلاجة الكهربائية .
(يحمل س كرسياً إلى جوار الجدار ويرتقيه ويطل من أعلى الجدار) .
ص : ( وهو يتحرك في الغرفة مشغولا بإعادة ترتيب بعض قطع الأثاث ) ما أجمل هذه الثلاجة ! هكذا يرتفع الإنسان بمستوى حياته .. فما أعظم الفرق بين الثلاجة الكهربائية وصندوق الثلج الخشبي ‍! (وهو يفتح صندوق الثلج ويلقي عليه نظرة احتقار ) كيف صبرت طيلة هذه المدة على هذا الصندوق الحقير ؟ لابد لي أن أطرحه خارجاً بأسرع وقت .. لقد برهنت على أن تفكيري متقدم عن تفكير السيد س. فلم تخطر له فكرة شراء ثلاجة كهربائية. ( وهو يهز رأسه استخفافاً ) ، طباخ غازي ‍!! كيف يتوقع أن يرفع الطباخ الغازي من مستوى حياته كما تفعل الثلاجة الكهربائية ؟‍! يا له من مغفل ‍! ( بعد لحظة ) سنرى كيف ينتفع بطباخه الغازي هذا !! ( يدني ص كرسياً من الجدار ويرتقيه ويطل من أعلى الجدار ) .
س : ( وهو يتجول في المطبخ ) سنبدأ تجربة طباخنا الجديد في عمل القهوة .. ( يعّد القهوة ويضعها على النار ) .. هذه هي أول فوائد الطباخ الغازي .. ما أسرع ما تنضج القهوة فوقه .. وما أطول الوقت الذي كان يستغرقه إعداد القهوة فوق الطباخ النفطي .. ( وهو يتشمم القهوة ) حتى رائحتها أفضل من رائحة قهوة الطباخ النفطي .. كانت فكرة صائبة أن أفكر بشراء الطباخ الغازي .. لابد أن السيد ص يتصور أن تفكيره متقدم على تفكيري لأنه اشترى ثلاجة كهربائية ! حسناً أيها السيد ص ! سترى بعد حين من مناّ يمتلك تفكيراً متقدماً أكثر من الآخر .. ما هي سوى شهور وستدهش من التقنيات التي ستحل في هذا المنزل ! ( يحمل قهوته إلى مقعد وثير ويبدأ في ارتشافها بسرور ) يا لها من قهوة رائعة حقاً !
ص : ( يهبط عن الكرسي ويبحث عن عدّة القهوة في خزانة المطبخ ويبدأ بصنعها) يا لسخف ما يقوله السيد س ! كيف يمكن أن تكون قهوة الطباخ الغازي أفضل من قهوة الطباخ النفطي ؟! إنها فرية سخيفة ولاشك في ذلك .. فقهوة الطباخ النفطي أطيب مذاقاً لأنها تنضج على نار هادئة .. ولكن هذا هو شأن السيد س دائما .
إنه شخص مفتر لا ريب في ذلك .. ( وهو يضحك هازئاً ) إنه يتصور أنه سيسبقني في ملأ منزله بالتقنيات الحديثة00يا له من ساذج! انتظر قليلا أيها السيد س وسترى أية مفاجآت أعدها لك0 سيمتليء هذا المنزل بتقنيات لم تسمع بها .. ولا يمكن أن تتخيلها عقليتك الساذجة .. ( وهو يتشمم القهوة بارتياح ) إنها قهوة طيبة الرائحة ولا ريب أنها طيبة المذاق أيضاً .
(يحمل قهوته إلى مقعد وثير ويرتشف منها بتلذذ ) هذه هي القهوة حسب أصولها!
(يدير كل من س و ص جهاز الموسيقى ويصغيان في نشوة وهما يرتشفان قهوتهما في استمتاع . يخبو النور تدريجياً حتى يسود الظلام ) .
اللوحة الخامسة
( يسطع النور فيبدو المنزلان أعظم فخامة في مظهريهما وأثاثهما والجدار أكثر ارتفاعا .
يقبل س و ص من جهتين متقابلتين وبصحبة كل منهما كلب ضخم )
س : مساء الخير يا سيد ص .
ص : مساء النور يا سيد س .
( يهمّان بالدخول إلى منزلهما فيدنو الكلبان من بعضهما ويتشمم أحدهما الآخر) .
ص : ( وهو يبتسم ابتسامة متكلفة ) يبدو أنهما يحاولان التعرف على بعضهما .
س : هذا أفضل ما داما سيكونان جارين .
ص : فعلاً . فلا بد لهما أن يتعاونا على حراسة المنزلين .


س : بلا شك فهناك الكثير ليحرساه . أنا لم يعد بوسعي أن أترك منزلي بلا حراسة. فما يحتويه من أثاث نفيس يغري بالسرقة .
ص : أما أثاث منزلي فقد كلفني الآلاف . وكلب الحراسة هو خير من يعهد إليه بمهمة الحفاظ عليه .. كم كان يقلقني ترك منزلي بدون حراسة .. أما الآن فسيطمئن بالي بعد أن عثرت على هذا الكلب النادر .
س : أنا شخصياً سأطمئن على أثاث منزلي منذ اليوم0 فكلبي هذا من سلالة نادرة
تشتهر ببراعتها في الحراسة .( يستخرج من جيبه كتاباً يناوله لـ "ص" ) وهاك وثيقة تثبت ذلك .
ص : يعكف على قراءة الكتاب ثم يعيده إلى س وهو يضحك ) اسمح لي أن أقول لك يا سيد س أنك وقعت ضحية لخداع هذه الشركة . ومن الواضح أن جميع البيانات المذكورة في هذه الوثيقة ملفقة وكاذبة.
س : ( في تهكم شديد ) وبأي صفة تصدر مثل هذا الحكم يا سيد ص ؟
ص : ( في اعتزاز ) أنني درست علم الكلاب يا سيد س لمدة ثلاثة أشهر قبل شراء كلبي هذا0 فحراسة منزل كمنزلي يحتاج إلى التدقيق والحذر .
س : (بلهجة متعالية ) إذا كان تفكيرك في كلب الحراسة قد اقتضاك دراسة علم الكلاب لثلاثة أشهر فقد اقتضاني هذا الأمر ستة أشهر . ولقد قرأت كل ما ورد في " انسكلوبيدية باريت للكلاب " قبل اختيار كلبي . فإذا كنت ترغب في معرفة قيمة كلبي فعليك بالإطلاع على ما ورد في هذه الأنسكلوبيدية من معلومات .
ص : (بلهجة هازئة ) يبدو أنك لا تعرف شيئاً عن " انسكلوبيدية هاريت للكلاب " يا سيد س وإلاّ ما قلت هذا القول . فمن المتفق عليه لدى العارفين ان هذه " الانسكلوبيديا " هي أعظم ما صدر عن الكلاب حتى اليوم . فاقرأ هذه " الأنسكلوبيديا " يا سيد س قبل أن تتجادل في علم الكلاب .. ( هو يلقي على كلب س نظرة احتقار ) هياّ يا هاريت .
س : ( وهو ينظر إلى كلب ص بازدراء ) هيا يا باريت .
( يدخل س و ص منزليهما بصحبة كلبيهما )
س : ( وهو يتجول في الغرفة منشغلاً في إعداد مكان لكلبه ) مسكين السيد ص ‍! يبدو أنه يعتقد حقيقة ان كلبه أفضل من كلبي ‍! لا شك انه يجهل كم أنفقت من الوقت وأنا أبحث عن مثل هذا الكلب .. أصبح الأمر بالنسبة لي قضية لا يمكن التساهل فيها فلا بد من المحافظة على منزلي بعد أن امتلأ بالأثاث النفيس . ومن واجبي أن أدقق في كلب الحراسة . أما هو فما الذي يدعوه إلى هذا الاهتمام بكلب الحراسة ؟ لا أعتقد أن منزله يضم أثاثا نفيساً يستحق هذا الاهتمام .
ص : ( وهو يتجول في الغرفة منشغلا بتهيئة مكان لكلبه ) مسكين السيد س. يا لسذاجته! لقد خُدع بهذا الكلب ! أنا واثق أنه ينتمي إلى أسوأ أنواع كلاب الحراسة .. وستثبت الأيام صدق ظنّي .. ولكن ما حاجته إلى كلب للحراسة ؟! (وهو يضحك هازئاً ) ليس في منزله من أثاث يغري بالسرقة ! لو أنه اطلع على ما يضمه منزلي من أثاث لما خطرت على باله مثل هذه الفكرة .. يا لك من ساذج أيها السيد س !
( يفرغ س و ص من إعداد مكان لكلبيهما فيختفيان في الداخل ، ثم يظهران بعد حين وقد ارتديا لباس البيت. يستلقي كل منهما في مقعد مريح ثم ينصرفان إلى مطالعة الصحيفة اليومية . يخبو النور تدريجاً حتى يسود الظلام )


اللوحة السادسة
(يسطع النور فإذا بالجدار قد ازداد ارتفاعاً وازدحمت الغرفتان بالأثاث .
يتقافز الكلبان في الحديقة الأمامية ويدنوان من بعضهما بين حين وآخر في مودة واضحة .
يقبل س من الجانب الأيمن وص من الجانب الأيسر وحينما يلتقيان عند مدخلي المنزلين يتبادلان تحية رسمية . يحمل كل منهما كيساً في يده . يستقبلهما الكلبان بنباح ينم عن السرور )
س : ( وهو ينحني على كلبه مداعباً ) كيف حالك يا عزيزي هاريت ؟ أنا أعلم أنك جائع ولكنك سترى ماذا أحضرت لك من مفاجآت . ( وهو يستخرج علباً من الكيس ويريها الكلب مخالساً النظر لـ "ص") اشتريت لك أنفس ما في السوق من طعام يا هاريت .
ص : ( وهو يداعب كلبه ويربّت عليه) مرحباً بك يا عزيزي باريت .. كنت تنتظر حضوري بفارغ الصبر ولا ريب فأنت تدري أنني سأحضر لك أطيب الأطعمة ( وهو يستخرج معلبات من الكيس يريها للكلب مختلساً النظر من ص ) أنظر ماذا أحضرت لك يا بايت .. علباً غالية الثمن لا يشتريها من هبّ ودبّ .
( يدخل س و ص منزليهما بصحبة الكلبين )
ص : انتظر يا هاريت . سأغيّر ملابسي وأعود لأعدّ لك طعامك . ( يختفي في الداخل)
س : ( وهو مشغول بإعداد طعام الكلب ) هل قمت بواجب الحراسة على خير ما يرام يا باريت ؟! ( يتقافز الكلب حوله ) لا تكن متعجلاً يا باريت .. صحيح أنك جائع ومتعب ولكن كن صبوراً فأنت لست متعباً مثلي .. أنا أشد منك تعباً . لقد قضيت يوماً شيطانيا .. عمل طويل متعب ومملّ ، وأنا الآن مرهق جداً ! يجب ان تعلم أنني أكدح طوال اليوم كحيوان الحقل . وأنا في حاجة إلى الراحة . أنا متعب كثور الحقل 00 هكذا أنا0 فهذه الساعات التي أضيفت إلى برنامج عملي قد استهلكت كل جهدي . ( يشتد نباح الكلب ) لعلك تستغرب من تهالكي على هذا العمل يا باريت فأعترف لك بأنني مضطر لذلك . وإلا فكيف أدفع أقساط كل هذه الأشياء التي تراها حولك ؟! أنظر حولك وقل لي كيف يمكن توفير كل هذه الأشياء لولا العمل المرهق ؟! كل ما تراه حولك يا باريت معناه عمل .. وعمل مرهق وإلاّ ما أمكن توفيرها . والآن كل طعامك يا باريت وأمهلني حتى أغيّر ملابسي ( يختفي داخل المنزل ) .
ص : ( يظهر ثانية بعد أن غيرّ ملابسه وينشغل بتهيئة طعام كلبه ) أرجو ان تكون عند ثقتي فيك يا صديقي هاريت . فعليك مسئولية كبيرة في حراسة هذا المنزل ولا بدلك أن تعي ذلك جيداً . أنت مؤتمن على ثروة كبيرة في هذا المنزل .. أنظر إلى هذه الثلاجة الضخمة .. وهذا التلفزيون .. وهذا الفيديو .. وهذه الأجهزة الكهربائية .. وهذا .. وهذا .. وهذا0 احرز كم كلفّت من مال ؟! أفتحسب أنني حصلت عليها بالسهل ؟! كلا يا صديقي 00 كلا00 إنها عصارة ساعات طويلة من العمل الشاّق . وعليك أن تصون هذه العصارة .. هذا الجهد المتواصل .. عليك أن تعلم يا صديقي أنني وفرت هذه الأجهزة على حساب راحتي . لكنها أجهزة عظيمة يا صديقي هاريت . أترى ذلك الجهاز الكهربائي ! إنه يصنع طعامي في دقائق قليلة . ( مفكرا) صحيح أن الطباخ الغازي جيد ولكن أوووه ! لا مقارنة بينه وبين هذا الجهاز0 قد تسألني : وهل أنت سعيد بما عندك ؟ ( وهو يهز رأسه ) لا أدري يا صديقي هاريت .. ( متأملاً ) لابد أن أكون سعيداً ما دمت أمتلك كل هذه الأشياء التي ارتفعت بمستوى حياتي . لم يكن بوسعي الامتناع عن شرائها . نعم لابد لي من شرائها يا هاريت فهكذا نرتفع بمستوى حياتنا . فأنت ترى يا هاريت انك مؤتمن على ثروة عظيمة فأحذر ان تتقاعس في حراستها ، والآن ، ما رأيك في أن نتفرج على التلفزيون ؟ ( يفتح ص التلفزيون ) .
س : ( وهو يعود إلى الظهور ) تعال يا باريت لنشاهد التلفزيون . ( ينصرف كل من س و ص إلى مراقبة التلفزيون وهما غارقان في مقعديهما الوثيرين0 وبين حين وآخر يغيران المحطة بواسطة " الرموت كنترول " وتكون البرامج جديّة عموماً . يخبو النور تدريجاً حتى يسود الظلام ) .
اللوحة السابعة
( يسطع النور وقد اشتدت كثافة الأثاث في الغرفتين بحيث تتعذر الحركة فيهما ، وارتفع الجدار عاليا .
الكلبان هاريت وباريت يتقافزان في الحديقتين الأماميتين وهما ينبحان على بعضهما في عداء واضح.
يقبل س من أقصى اليمين في سيارة متوسطة الحجم ، ويظهر ص من أقصى اليسار في سيارة فارهة. يتوقفان عند مدخلي المنزلين ويترجلان من سيارتيهما0 يتبادلان التحية بإيماءة من رأسيهما ، ويختلس كل منهما النظر إلى سيارة الآخر. يستقبل هاريت وباريت صاحبيهما بنباح ترحيبي ويرافقانهما إلى داخل المنزلين )
ص :(مخاطباً كلبه بمحبة ) اسمح لي يا صديقي هاريت أن أغيّر ملابسي وأعود إليك لنتحدث بما مرّ بنا من حوادث اليوم ( يختفي في الداخل ) .
س : ( وهو يستلقى على أحد المقاعد الوثيرة متعباً ) تعال إلى جواري يا صديقي العزيز باريت؟ ( يقبل عليه كلبه ويقعي عند قدميه ) خبّرني ، كيف قضيت يومك ؟! أكان يوماً مريحاً ؟! أما يومي فأعترف لك انه كان مقرفاً مرهقاً مزعجاً . ! وزاد من انزعاجي الآن رؤيتي لسيارة السيد ص .. وبالمناسبة أريد أن أسألك يا باريت ان كنت تعتقد إن سيارة السيد ص فخمة حقيقة !! ( وهو يهز رأسه ) أعترف لك يا باريت أنه أذكى مني حين اشتري هذه السيارة . كان يجب علىّ أن أشتري مثلها فهي تكسب الشخص مكانة ( مفكراً ) لكنني في الواقع يا باريت لم أكن قادراً على شراء سيارة أغلى .. أنت تعلم أن مواردي باتت عاجزة عن سد نفقاتي . إنني أعمل بجدّ كما يعمل ثور الحقل ومع ذلك فمواردي بالكاد تكفيني . وكلما زادت مواردي زادت نفقاتي . وهناك كثير من الأقساط التي يجب عليّ تسديدها يا باريت . والواقع أنني لم أكن بحاجة إلى سيارة أصلاً . أعترف لك يا باريت أن السيارة قد أضرتني .. نعم أضرتني . فهي أفقدتني لياقتي البدنية . كنت أسير من قبل ساعات طويلة دون أن أحس بالتعب . أما الآن فلم أعد قادراً على السير إلا لمسافات قصيرة . وهذا أمر طبيعي ، فأنت تعلم يا باريت أنني لم أعد أقضي حوائجي بدون السيارة حتى لو اقتضاني ذلك السير لخطوات محدودة . والأدهى من ذلك أنها حرمتني من جولاتي في الغابة يا باريت . فمنذ اقتنيتها لم أزر الغابة كما تعلم . كدت أنسى ألوان أشجارها الزهرية الجميلة وشدو طيورها البديع . ولعلك تتصور يا باريت أنها تقتصد لي في الوقت عند ذهابي إلى العمل وعودتي منه . أبداً يا باريت أبداً . إنها تزحف في بعض أجزاء الطريق زحفاً . فلم يعد أحد يمشي إلى مركز عمله . الكل يستخدم السيارات ، لم تعد الشوارع على رحابتها تتسع لها . لقد أصبحت مشقة الذهاب إلى العمل والعودة منه اشد من مشقة العمل نفسه ! كم أحن إلى حياتي الماضية يا باريت .. ولكن هيهات .. هيهات0 والآن اسمح لي أن أغير ملابسي وأعود إليك لنشاهد التلفزيون معاً ( يختفي في الداخل).
ص : ( يعاود الظهور وقد غيّر ملابسه ويرتمي على مقعد وثير ) تعال هنا يا صديقي هاريت .. ( يقبل عليه الكلب ويقعي عند قدميه فيربت عليه في ودّ ) هل اشتقت إليّ يا هاريت ؟ أنا أيضا اشتقت إليك. لقد تملكني الضيق طوال النهار من عملي الممل الشاق .. وأصارحك يا هاريت إن ضيقي قد اشتد قبل قليل وأنا ألحظ نظرات السيد س الحسودة إلى سيارتي .. والحقيقة أنه لم يكف أبداً عن النظر بحسد إلى سيارتي منذ اليوم الأول .. ( وهو يضحك ضحكة قصيرة ) ولكن الحق معه يا هاريت فسيارته تبدو بجانب سيارتي عربة أطفال ! كم كنت مصيباً في شراء هذه السيارة الفخمة يا هاريت . لقد ارتفعت بمستواي في نظر جميع زملائي في العمل ، بل وحتى في نظر الناس الذين لا أعرفهم . صارت السيارة مؤشراً خطيراً على مكانة المرء يا هاريت وهي تستحق ما يبذل في سبيلها من مال .. ولكنك لست غريباً عما يجري حولك يا هاريت وتدري ان نفقاتي زادت زيادة عظيمة ، وأصارحك يا هاريت أن الأقساط باتت تلتهم موردي بأجمعه . وما أكاد أنتهي من إقساط حاجة حتى أكون قد اشتريت حاجة أخرى . وهذه السيارة الفخمة يا هاريت .. إنها تبتلع حصة كبيرة من موردي " والحقيقة يا هاريت ان مساوئها أكثر من مزاياها . يكفيها أنها حرمتني من نزهاتي في الغابة . أنت تتذكر ولا ريب كم كنا نمضي ساعات لطيفة ونحن نتنزه في الغابة . كنت أنا أتملّى جمال الأشجار وأطرب لتغريد الطيور ، وكنت أنت تطارد الفراشات لاصطيادها . لقد حُرم كلانا من تلك النزهات الممتعة يا هاريت . ولو خطر لي زيارة الغاية لفكرت بالسيارة أولاً . قد يأتي اليوم الذي نستغني فيه عن أقدامنا يا هاريت ، وأصارحك أنني أنظر بحسد إلى أولئك الذين مازالوا يستخدمون أقدامهم في مشاويرهم ونزهاتهم 0 أتدري يا هاريت ؟! لقد أمضيت اليوم أربع ساعات في السيارة عند ذهابي إلى العمل وعودتي منه .. قد تعجب لما أقول ولكنها الحقيقة يا هاريت .. الحقيقة التي لا مهرب منها 0 والآن دعنا من هذا الحديث المحزن ولنسّري عن أنفسنا بمراقبة التلفزيون . ( يفتح التلفزيون على برنامج كوميدي ويراقبه بشغف مطلقاً القهقهات بين الحين والحين )
س : ( يعاود الظهور ويحتل مقعداً قبالة التلفزيون ) تعال لنتسلى وننسى تعب النهار يا باريت . ( يقبل عليه كلبه ويقعي عند قدميه فربت عليه بمودة . يفتح التلفزيون على برنامج فكاهي وتتعالى قهقهاته هو الآخر ) .
( يخبو النور تدريجاً حتى يسود الظلام )
اللوحة الثامنة
(يسطع النور فيرى الكلبان وهما يتحركان بكسل في الحديقتين الأماميتين متجاهلين بعضهما.
يقبل س من أقصى اليمين وص من أقصى اليسار في سيارتيهما ، وحينما يلتقيان عند مدخلي المنزلين يدير كل منهما ظهره للآخر ويدخلان بصمت .
يُسرع إليهما كلباهما وهما يهراّن ويتقافزان حواليهما فيلقيان عليهما نظرة إهمال ويتبعهما الكلبان إلى الداخل ويقبعان في زاويتيهما المعهودتين .
يختفي ص في الداخل في حين ينصرف س إلى إعداد طعامه )
ص : ( يتحرك ببطء وهو يهيء طعامه ) يالها من مهمة شاقة ! ألا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا طعام ؟ أمن الضروري أن تتكرر هذه العملية المقرفة كل يوم ؟( يحاول أن يوقد الطباخ الغازي فلا يشتعل ) يبدو أن الطباخ الغازي قد تعطل وعلي أن أصلّحه للمرة الثالثة خلال شهر .. ! سأكتفي بأي طعام.(يخرج من الثلاجة قطعة جبن وشئ من السلطة ويصب لنفسه قدحاً من العصير لكنه يتجرعه باشمئزاز ) يا لغرابة مذاق هذا العصير ! يبدو ان الثلاجة في حاجة إلى إصلاح أيضا ! سأتصل بالشركة غداً .. قرف .. قرف .. قرف .. ( يحمل طعامه إلى المائدة ويتناول عشاءه بصمت )
ص : (يعود وقد غيّر ملابسه . يقبل على جهاز تسخين الطعام ويحاول تشغيله عبثاً ) لا فائدة .. لا فائدة أبداً . إنه معطل . ولكن هل هذا معقول ؟! قبل أسبوع فقط أحضرته من ورشة التصليح .. لم يعد لي من عمل سوى تصليح هذه الأجهزة اللعينة، مرة الطباخ الغازي ومرة الغسالة الأوتوماتيكية ومرة الثلاجة الكهربائية ومرة السخان الكهربائي .. إلى آخره .. إلى آخره ( ينصرف عن الجهاز يائسا) لا خيار لي سوى تناول طعام بارد . ( يستخرج من الثلاجة شرائح اللحم البارد ) ما أسخفها من عملية مملة .. ملل .. ملل ( يحمل طعامه إلى المائدة وينصرف إلى تناول طعامه بصمت ) .
( ينتهي س من طعامه فيختفي في الداخل لبعض الوقت ثم يظهر ثانية وقد غير ملابسه0
يفرغ ص من طعامه .
يستلقى كل من س و ص في مقعديهما الوثيرين أمام التلفزيون ويراقبان في فتور برنامجاً فكاهياً . يخبو النور حتى يسود الظلام ) .
اللوحة التاسعة
(يسطع النور فيرُى الجدار وقد ارتفع كلياً. يبدو الكلبان هاريت وباريت قابعين في مقدمة الحديقتين الأماميتين في خمول وكأنهما نائمين .
يظهر كل من س و ص في سيارتيهما في أقصى الركنين الأيمن والأيسر . يترجلان من السيارتين بعيداً عن منزليهما0 وما أن يلمح أحدهما الآخر حتى يتواريا وراء السيارتين . يسترق س الخطى نحو منزله ويدخل متعجلاً . كذلك يفعل ص في إثره.
يرفع الكلبان رأسيهما في تكاسل ويراقبان صاحبيهما في لا مبالاة دون ان يغادرا موضعيهما .
يتحرك كل من س و ص في الداخل وكأنهما إنسانان آليان . يستخرجان من خزانة في المطبخ كمية من الحبوب يبتلعانها ، يرتميان على المقعدين الوثيرين أمام التلفزيون من دون أن يغيّرا ملابسهما ويراقبان في جمود برنامجاً عشوائيا في التلفزيون . يعلو بعد حين غطيطهما .
يخبو النور ببطء مرافقاً لهبوط الستارة التدريجي . وقبل أن تنزل الستارة نهائياً يتحرك جرذيان كبيران داخل المنزلين حتى يخرجا . وحينما يلتقيان خارج المنزلين يتوقفان لحظة ويتأمل أحدهما الآخر ثم يصرخان صرخة حادة ويجريان في اتجاهين متعاكسين )
- ستار الختام -







اللص

1996




















( الستارة مفتوحة على قاعة فخمة مزينة بباقات الزهور وبصورة كبيرة للرئيس .
تمضي فترة من الوقت تصدح فيها موسيقى حماسية 0
يدخل الرئيس محاطاً بثلة من الحرس ويتجه إلى مكتب فخم في زاوية المسرح قد ركب فوقه عدد من المكروفونات . يجلس وراء المكتب بينما يتوزع الحراّس في زوايا المسرح.
في أثناء خطاب الرئيس تعرض على شاشة في عمق المسرح رقوق سينمائية كما تجري لوحات إيمائية "بانتومايم" مستمدة من فحوى الخطاب . ويترك اختيارها وتصميمها للمخرج وهي جزء لا يتجزأ من المسرحية . تصدح موسيقى عسكرية خفيفة طوال الوقت ) 0
الرئيس : يا أبناء الشعب العظيم
ونحن نستقبل يوم الانتخاب الذي ستجددون فيه ثقتكم برئيسكم قررت إيمانا مني بالديمقراطية أن ألقي عليكم هذا الخطاب التاريخي وأن افتح أمامكم بصراحة كاملة كتاب حياتي لتقرؤوه بحيادية وموضوعية 0 وسترون كيف ان المشاغبين حاولوا بتفسيراتهم الخبيثة ان يشوهوا أحداثاً معينة فيها . وأنا في الحقيقة لا تضيرني اتهاماتهم الباطلة فما هي سوى فقاعات صابون . وإني لأسألكم : أيّ حق يخولّ لهم ملاحقة أحداث حياتي منذ طفولتي .. منذ كنت تلميذاً في الابتدائية ؟! هل لتلك الأحداث علاقة بالمنصب الذي أتبوأه اليوم؟! ولكن هذا هو منطقهم الفجّ . إنهم ليذكرون أحداثاً من حياتي الغابرة بتفصيلات لا أكاد أتذكرها أنا نفسي . فهم يزعمون مثلاً أنني كنت وأنا تلميذ في الابتدائي استولي بالإكراه على ممتلكات زميل من زملائي وهذا محض افتراء . وكل الحكاية أن ذلك الزميل كان يشاركني في مقعد الدراسة . وكنا نضع أشياءنا في درج واحد . وأنا كما تعلمون نشأت فقيراً وأنا أفتخر بذلك . وكان زميلي هذا ميسور الحال . فكنت أستحل لنفسي أخذ بعض حاجاته الضرورية لي . كنت بالكاد أدبّر أمري وكان بوسعه الحصول على غيرها . وهو نفسه لم يشكوني يوماً . تلك هي الحكاية .في ذلك ضير ؟! فلماذا يطّبل لها المشاغبون ويزمرون في منشوراتهم الصفراء ؟
وحكاية أخرى من عهد صباي أطنب المشاغبون في الحديث عنها وهي تخص عهد التلمذة أيضاً. ولقد كنت من التلامذة المتفوقين في جميع مراحل الدراسة . وأعترف أنني أدين بهذا التفوق إلى موهبة أنعم الله بها عليّ وهي القدرة على التلخيص المركز. فكنت أعمد إلى تلخيص الكتب المدرسية في وريقات معدودات لأ تنفع بها في الامتحانات . ولم تخب تلك الوريقات في أداء مهمتها يوماً . كنت أستثمر موهبتي لا أكثر . فأين البأس في ذلك ؟! ولماذا يقول عني أصحاب الأوراق الصفراء أنني كنت أسرق نجاحي ؟!
ويسرني أن يعمد أولئك المشاغبون إلى نشر أمثال هذه الحكايات السخفية عن حياتي لكي ينكشف لكم زيفهم وتدركوا أنهم ليسوا خصوماً شرفاء بل مجرد طامعين في مركزي .و إلاّ فلماذا ينبشون في أخص خصوصيات حياتي ويعرضونها عليكم بأسلوب مشوهّ ؟! وما دخل حياة التلمذة بالسياسة ؟! وما دخل كل ذلك بكفاءتي في إدارة شؤون الدولة؟!
ولا بد أنكم قد اطلعتم أيضاً على الحكاية التي أوردوها في أوراقهم الصفراء عن حياتي العاطفية في عهد الشباب .. يوم كنت طالباً في الجامعة .. وكأنها تسئ إلى الأخلاق العامة مع أنها ليست سوى جزء من الحياة العاطفية لأي شاب . وقد أضفوا عليها من خيالهم المريض ما جعلها تبدو كذلك . وكل الحكاية أنني كنت قد تعاهدت مع زميلة لي في الجامعة على الزواج . وكانت هي من أسرة لامعة وأنا من أسرة خاملة . وتعاهدنا أيضا على الموت إذا رفضت أسرتها الموافقة على زواجنا . ونفذّت هي الاتفاق لكنني صحوت في اللحظة الأخيرة ولم أفرّط بحياتي . وطبعا كان ذلك تعقلا منّي0 وهم يتهموني لذلك بأنني سرقت حياتها . ولكن لماذا يوجّهون إليّ اللوم بدلاً من أن يوجّهوه إلى أسرتها المتجبرة التي ضحت بابنتها تشبثاً بعنجهيتها ؟! ولقد أوحى إليهم خيالهم المريض أيضاً بأنني كنت مزيفاً في عواطفي نحوها وأنني كنت أهدف إلى الانتفاع من نفوذ أسرتها . ودليلهم على ذلك أنني تزوجت قبل أن ينقضي عام على موتها . فهل يمكن أن يتخذ مثل هذا الأمر دليلاً على زيف العواطف ؟! فأنتم تعلمون أن الكثيرين من الأزواج الذين أحبو زوجاتهم أعظم الحب تزوجوا بعد اقل من عام من وفاتهن . فهل يعني ذلك أن عواطفهم كانت مزيفة ؟
ولقد اتخذوا من قصة زواجي أيضاً هدفاً للطعن في نزاهتي لا لشيء إلاّ لأن زوجتي من أسرة مرموقة . وكأنه حرام على أبناء المسحوقين أن يحبوا بنات الأسر المتنفذة وأن يرغبوا في الزواج منهن . وإذا ما فعلوا كان ذلك مدعاة للشك في صدق عواطفهم . وقد عاب هؤلاء المشاغبون عليّ أن تؤازرني زوجتي في حياتي العملية وكأنهم لا يعلمون أن الزواج ليس سوى شركة وأن من واجب الزوجة أن تساند زوجها في حياته العملية وأن تساعده على النجاح . وهم يزعمون أنه ما كان يتهيأ لي أن أتسلق السلم الوظيفي بسرعة صاروخية لولا دعم أسرتها لي ، ويتهموني بأنني سرقت بذلك حقوق زملائي . فهل يمكن أن ينجح موظف في تسلّق السلم الوظيفي بصورة استثنائية ما لم يكن مسلحاً بقدرات استثنائية ؟ لقد كنت دائماً موظفاً كفؤاً كما أنا اليوم رئيس دولة كفؤ .. وأظن أن هذا الأمر واضح للجميع . غير أن أصحاب المنشورات الصفراء يريدون أن يجعلوا من كفاءتي نقيصة من النقائص 0 وإنهم ليشككون حتى بجدارتي بمنصب مدير مكتب الرئيس يوم تقلدته . والكلام حول هذه القضية بالذات في منشوراتهم الصفراء كثير . وكلكم يعرف الرئيس المرحوم معرفة جيدة . فهل يعقل أن يختارني لهذا المنصب الهام بعد فترة وجيزة من انضمامي للحزب لو لم أكن كفؤا ؟! وحتى مسألة انضمامي لحزبي الجديد أحاطوها بأكاذيب شنيعة . وكلكم يعلم أنني كنت منتمياً إلى الحزب المعارض . ثم تبين لي أن نشاطات ذلك الحزب وأفكاره لا تخدم مصلحة البلاد . فهجرته وانضممت إلى الحزب الحاكم فهل في ذلك بأس ؟! أليس من الأفضل للمرء أن يغيّر آراءه إذا أدرك خطأها ؟ ولكنهم يتهموني بأنني ما تركت حزبي القديم وانضممت إلى حزبي الجديد إلاّ طمعاً في المكاسب بل أنهم انساقوا مع خيالهم المريض فقالوا إن احتضان الرئيس المرحوم لي يعود إلى أنني كنت أخدمه شخصياً وأنني صرت جاسوساً على منافسيه في الحزب .. فأي خيال مريض هذا0 فهل كنت سأتولى أمانة الحزب في فترة قياسية لو لم أكن متميزاًَ بكفاءة فذّة ؟! وهل كان يمكن أن يلقى ترشيح الرئيس لي لمثل هذا المنصب قبولاً من كوادر الحزب لو لم أكن أهلاً له ؟!
أنا لست مطالباً بالطبع أن أرد على كل تهمة دنيئة توجه إليّ في المنشورات الصفراء ، لكنني وعدتكم أن أفتح أمامكم كتاب حياتي لتقرؤوه بكل وضوح .
لقد قال المشاغبون عني بأنني ما كنت سوى ظلّ تافه للرئيس المرحوم ، وأنني كنت أتصرف في بداية صلتي به كخادم شخصي00 بل وزعموا أنني كنت أحمل له معطفه في الحفلات الرسمية 0 وأي عيب في ذلك مادمت أكنّ له احتراما عظيماً ؟! وهم يزعمون بأنه لم يخترني نائبا له إلاّ لكوني بلا شخصية ولا رأي ولثقته بأني لا يمكن أن أكون منافساً له على منصب الرئاسة في يوم من الأيام . وهم يضطرونني بذلك إلى أن أكشف لكم سرّاً لم أذعه من قبل. لقد كان الرئيس المرحوم ظلاّ لي ولم أكن أنا ظلاً له . أتدرون لماذا اختارني نائباً له ؟! لأنني في أحيان كثيرة كنت مسؤولاً عن القرارات الهامة التي يتخذها . فبعد أن اختبر مواهبي صار يعتمد عليّ اعتماداً كلياً0 ولم يكن يتخذ قراراً خطيراً من دون استشارتي0 وأنا لا أحب بالطبع أن أسيء إلى ذكراه فنحن جميعاً نجلّه على خدماته للبلاد ولا أريد أن تهتز صورته في عيونكم . لكن أولئك المشاغبين يدفعونني دفعاً إلى الكشف عن بعض جوانب شخصيته المجهولة لكم . وأنا نفسي دهشت حينما عرفته عن كثب . فقد وجدته شخصية مترددة عاجزة عن اتخاذ القرارات الحاسمة . وأنتم تتذكرون ذلك القرار الخطير الذي اتخذه قبل وفاته بأسبوع والذي هلّلت له البلاد وكّبرت . وأنا أسمح لنفسي للمرة الأولى أن أعلن لكم أنني أنا الذي اتخذ ذلك القرار في الحقيقة0 ففي مساء ذلك اليوم استدعاني إلى مكتبه وكان في حالة نفسية سيئة . وقال لي : أنت تعلم أنني لا بد أن أواجه الشعب بعد قليل وأعلن عليهم قراري . لكن هذا القرار يبدو لي مغامرة غير مأمونة العواقب . فما رأيك أنت ؟! وأؤكد لكم أنني ظللت أكثر من ساعة وأنا أجادله في سلامة القرار وألحّ عليه بضرورة اتخاذه حتى اقتنع أخيراً . ولولاي ما اتخذ ذلك القرار التاريخي . ومع ذلك يقول عني أولئك المشاغبون أنني بلا شخصية ولا رأي . بل إن خيالهم المريض ليسمح لهم بالقول أنني كنت المستفيد الأول من موته المفاجيء ولولا ذلك ما تهيا لي أن أكون رئيساً للبلاد . تصوروا ذلك ! وفي عرفهم أنني سرقت بذلك أرفع منصب في البلاد !
ولا يخفى عليكم بالطبع أن هدف هذه التقولات الرخيصة في المنشورات الصفراء زعزعة ثقتكم بي وإحداث البلبلة والاضطراب في البلاد ونحن مقبلون على الانتخابات الرئاسية . لكنني على يقين بأن أصواتكم ستكون معي بنسبة تسع وتسعين في المائة . وبما أنهم يتوقعون مثل هذه النتيجة لعلمهم بمحبتكم لي فإنهم يشككون في نزاهة الانتخابات منذ الآن0 وهم يقولون إن واحداً مثلي لا يمكن أن يتخلى عن هذا المركز أبدا بعد أن ألقت به إليه المقادير .. وكأن من الأمور المعيبة أن أرغب في الاحتفاظ بكرسي الحكم لكي أستطيع خدمتكم .. وكأنه أمر غير مألوف أن يرغب الحاكم في الاحتفاظ بمنصبه ! وأنتم تعلمون أن كل القادة العظام في العالم احتفظوا طوال حياتهم بمقعد الرئاسة . لقد احتفظ سالازار وهتلر وموسوليني وفرانكو بمناصبهم إلى أن فارقوا الحياة وهم رؤساء دول عظيمة الشأن0 وهذا شأن معظم رؤساء دول أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والدول الشيوعية ودول منطقتنا . فهل في ذلك عيب ؟! وهل كل هؤلاء القادة على خطأ ؟
لقد أدركتم الآن ولاشك كيف حاول أولئك المشاغبون تشويه أحداث حياتي الغابرة مع انه لا علاقة لها بالسياسة فما بالكم بالأحداث ذات الصلة بالسياسة ؟! فهم يحمّلونني كل الأخطاء والتجاوزات التي تحدث للمواطنين وكأنني أنا وحدي الذي يتولى تسيير شؤون البلاد. وهم يزعمون بأنني صادرت حرية الرأي وملأت السجون بالمعارضين . وهذا افتراء شنيع . فحرية الرأي متاحة للجميع كما تعلمون بدليل الصحف العديدة التي تملأ واجهات المكتبات. أما سجوننا فلا تضم إلاّ من يحاول إثارة البلبلة والشغب بين صفوف المواطنين وأنتم تتفقون معي ولا شك بأن أمثال هؤلاء يستحقون أقسى العقوبات بل ويستحقون تحطيم رؤوسهم القذرة0 أما المواطنون الأبرياء فإنني أحرص كل الحرص على سلامتهم وإنني أبذل قصارى جهدي لملاحقة أي تجاوز على حقوقهم من قبل أي مسؤول مهما علا مركزه0 وأنتم تعلمون جميعاً أنني يسرت لكل مواطن منكم الاتصال بي تلفونياً وإبلاغي بما يلحقه من أذى بل وأن يقابلني شخصياً وينقل إليّ شكواه فأبواب مكتبي مفتوحة لكم جميعاً . هذا فضلاً عن أن المحاكم ما وجدت إلا لاستقبال شكوى المواطنين0 فكيف يجرأ أصحاب الأوراق الصفراء على الزعم بأننا نمارس في بلادنا انتهاكات لحقوق الإنسان ؟! غير أنني أبادر إلى القول أنه قد تحدث فعلاً بعض الانتهاكات لحقوق الإنسان دون علم مّنا0 ولكن دعوني أسألكم : أين هي البلاد التي لا يحدث فيها انتهاكات لحقوق الإنسان ؟ كلكم يسمع ويقرأ عما يحدث من انتهاكات لحقوق الإنسان في أرقى بلدان العالم وبأشكال متنوعة وكثيرة . هناك في بعض البلدان مصادرة لحقوق الفقراء من قبل الأغنياء . وهناك في بلدان أخرى استغلال بشع من قبل أصحاب الشركات الكبرى لجهود العاملين فيها . وهناك بلدان راقية يهيمن عليها أصحاب الثروات الطائلة ويسيّرون الحكم لمصالحهم الخاصة . بل هناك بلدان راقية لا يجد فيها بعض المواطنين مأوى يظللهم فيبيتون لياليهم على أرصفة الشوارع . ومع ذلك لا يقال عنها إنها تمارس انتهاكات لحقوق الإنسان بل إنها لتزعم أنها تدافع عن حقوق الإنسان . ولا يقال عن حكّامها ما يقال عني في الأوراق الصفراء . فلماذا أستهدف أنا لكل هذه التخرصات ؟! ولماذا ينبشون في حياتي ليبتكروا لي أخطاء وعيوب أنا براء منها ؟! وإنني لأتحدى أصحاب الأوراق الصفراء بأن يأتوني باسم حاكم من حكام العالم ليس فيه معايب وليس له أخطاء ولا تنطوي حياته على مثالب 0 ففي كل يوم تطالعنا المجلات وتذيع علينا الإذاعات أخباراً مخزية عن حكام العالم تنطوي على فضائح خلقية ورشاوي وسرقات شنيعة . بل إن عدداً من أولئك الحكام يحكمون بلدانهم بأسلوب استبدادي لا يختلف عن أساليب القرون الوسطى ونحن في نهاية القرن العشرين . وهناك آخرون ينهبون ثروات بلدانهم ويحوّلونها إلى حساباتهم في البنوك الأجنبية . ومع ذلك لا يتحدث عنهم خصومهم بالشكل الذي يتحدث به عني المشاغبون في أوراقهم الصفراء0 غير أنني على يقين أن تلك الأحاديث لن تؤثر فيكم . فليقل خصومي عني ما يقولون .. وليشوهوا صورتي أمامكم بالطريقة التي تحلو لهم وهم لا شك بارعون في ذلك 00 فليست وريقاتهم الصفراء سوى فقاعات صابون سرعان ما تنفجر في الهواء0 وستنتخبون رئيسكم المحبوب بكل تأكيد00 بل ولن تقل نسبة التصويت عن مئة في المئة0 وستظل قلوبكم معه إلى الأبد .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
( تعلو الموسيقى العسكرية الحماسية بينما تهبط الستارة ببطء) *


- ستار الختام -























#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - البهلوان ومسرحيات اخرى