أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - عالم مليكة















المزيد.....



عالم مليكة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2513 - 2009 / 1 / 1 - 04:09
المحور: الادب والفن
    


خرجت مليكة من غرفتها وهي تنادي على القطط.
- أين انتم يا أحبابي؟ وقت فطوركم.
كان القط خليل أوّل قط وقعت عليه عيناها. كان ينتظرها كعادته على بعد أمتار من غرفتها. وكانت عيناه المتوقدتان تكشفان عن لهفته لرؤيتها. ابتسمت مليكة وهي تتفحصه بحنان.
- هكذا أنت دائماً يا خليل. تنتظرني بلهفة كما كنت تفعل على رأس زقاقنا.
داعبت مليكة رأس القط خليل برفق.
- والآن تعال معي إلى الفطور يا خليل.
تبعها القط خليل وهو يكشّر عن أسنانه مغتبطا. دفعت مليكة باب الصالة فطالعها القطّ بابا متكوّراً في مقعده المختار.
- أصح يا أبي.. وقت الفطور.
تمطى القط بابا ومدّ قوائمه ثم نفض جسده والتحق بها. والتقت مليكة في الرواق بالقط ناظم والقطة نظيمة. كانا ينتصبان في مواجهة بعضهما بعضا وهما يموآن بحدّة.
- مالكما تتماحكان منذ بدء الصباح؟‍ أنتما كبرتما على ذلك.
تعالى هرير القط ناظم والقطة نظيمة وهما يلمحان مليكة. وأشرع كل منهما مخالبه في وجه الآخر.
- تعاليا معي إلى غرفة الفطور.
كفّ القط ناظم والقطة نظيمة عن هريرهما ومشيا وراءها. وعرجت مليكة على زاوية السلّم وإذا بالقطة ماما غاطّة في نومها.
- اصحي يا أمي.. وقت الفطور.
بقيت القطة ماما مستغرقة في النوم. فهزت مليكة جسدها برفق.
- ما أشدّ ما تحبين النوم يا أمي. اصحي.. وقت الفطور.
تثاءبت القطة ماما ونمطّت ثم نهضت متكاسلة والتحقت بالركب. وكان القط مالك والقطة عزيزة في الانتظار. رنت مليكة إليهما في حنوّ.
- صباح الخير يا مالك. هل حضرت مبكراً كعادتك؟‍ هكذا أنت دائما تلتزم بالأصول.
ماء القط مالك مواء هادئا وبادلها نظرات محبّة. التفتت مليكة إلى القطة عزيزة وهي تبتسم.
- وأنت أيضاً يا عزيزة .. كنت طول عمرك تلتزمين بالأصول.
تفحصت مليكة القطط وقد أشرق وجهها.
- عزيز لم يحضر بعد يا أحبائي.
التقت عينا مليكة بعيني القطة عزيزة فماءت بلطف ونهضت خارجة. ثم عادت بعد حين يصحبها القط عزيز.
- أنت التي كنت تعرفين مكان اختباء عزيز دائما يا عزيزة. رفعت مليكة القط عزيز بين ذراعيها وقبلته بشغف فستنام إليها.
- كنت دائما ترتاح إلى ذراعي يا عزيز وأنت طفل.
ملأت مليكة الأوعية باللبن واحداً بعد الآخر. ماءت القطط وهي تتابع حركة يدها.
- الآن يمكنكم أن تفطروا يا أحبابي.
عكفت القطط على أوعيتها تتسابق في لعق اللبن. راقبتها مليكة وهي ساهمة الوجه.
- تمتعوا بفطوركم يا أحبابي فهذه آخر مرة تفطرون فيها معا.
تسمرت عينا القط خليل على وجه مليكة.
- أين أنت الآن يا خليل؟‍ أحيّ أنت أم ميّت؟‍ اسم الله عليك.. إن شاء الله عمرك طويل.
أتراه ما يزال يعيش في الكويت؟‍ وهل تراه تزوّج؟ لم تسمع أخباره منذ هاجر إلى الكويت. وكم لوّع ذلك قلبها‍. ولكن ألم تكن هي المسؤولة عن هجرته؟ أما كان بوسعها أن تستبقيه لو شاءت؟‍ قبل هجرته بشهر استوقفها في الطريق وكلّمها بعد أن يئس من موافقة الأب على خطبته. كانت تلك المرّة الأولى التي يكلّمها مع أنه كان يترقبها كل يوم على رأس الزقاق وهو يروح ويجيء في قلق ووجهه يتدفق حبا. وكانت تتظاهر بتجاهله. فلابد لفتاة محتشمة مثلها أن تفعل ذك. وكان قلبها يخفق دائما لمرآه. قال لها في اضطراب : "أنت تعلمين أنني أحبّك يا آنسة مليكة وأن أمنيتي في الحياة أن أتزوجك. ولا أفهم لماذا يعارض أبوك في خطبتي. ألأنك أنت نفسك ترفضينني؟‍ قولي لا وسأظلّ ألحّ عليه حتى يلين".
فقالت له باستنكار: " أرجوك.. بأيّ حق تكلمني؟‍ ليس لك كلام معي. وإذا كان عندك كلام فقله لأبي". وأسرعت في سيرها. ولم تنصرم أسابيع على هذه الحادثة حتى هاجر إلى الكويت. قال الأب في ارتياح: " الحمد لله الذي خلّصنا من إلحاح هذا السمج. هاجر إلى الكويت ليدرّس هناك". وغاص قلبها لكلامه ودق دقّاً عنيفا. وأدركت كم كانت تحبّه.وأيقنت أنها خسرت أجمل شاب في محلة السنك .
رفعت مليكة القط خليل بين ذراعيها وقبلته في رأسه. فانطلق يلعق خدّها في ابتهاج.
- سامحني يا خليل فلم أكن أنا المسؤولة عن تحطيم قلبك. كنت أبادلك الحب لكنني لم أجسر على مصارحتك. فذلك لا يليق بالفتاة المحتشمة.
ولو سألها الأب رأيها في خطبته ما ترددت لحظة في الجواب. لكنه لم يسألها أبدا.
رمت مليكة القط بابا بنظرات عتاب فحنى رأسه.
- أنت حطمت قلبه وقلبي يا أبي.
وكم من مرة سألت نفسها لماذا رفض خليل فلم تهتد إلى جواب. ثم أدركت أنه غير راغب في تزويجها. فقد رفض جميع خطّابها بحجة أو بأخرى. وكان يقول إثر كل خطبة: " لن أزوّج مليكة إلاّ للرجل الذي يستأهلها". وبعد أن أضاعت خليل لم يعد يهمها الأمر.
ثم لم تعد تفكر في الزواج أصلا بعد أن صارت الكلّ في الكلّ في حياة الأب.
حوّلت مليكة عينيها العاتبتين إلى القطة ماما.
- لماذا لم تعدّلي من طباعك يا أمي لكي لا أكون لازمة لأبي؟
فمنذ وعت عليها وهي تهمل مسؤولياتها البيتية وتولع بالنوم وبالنزهات خارج الدار. وكثيرا ما رجعت من نزهتها قبل عودة الأب بقليل فلم يجد طعام الغداء جاهزا. فكان ذلك يلهب الشجار بينهما. وكانت الأم ترد على لومه قائلة: " يجب عليك ان تستأجر طباخة فأنا لم اعتد الطبخ في بيتنا".
وكم كانت تحزن لمرآه وهو منهمك في تقطيع اللحم وتقشير الخضر لإعداد الطعام. وكان ينتابها حزن أعظم حينما تراه مكبّاً على تنظيف البيت. فلم يكن يرضى عن أداء الأمّ في ذلك. وهي في الحقيقة لا تحب النظافة ولا الترتيب . لذلك كانت تسميه ساخرة " جاووش البلدية".وكان ذلك مصدر شجار دائم بينهما أيضا. فكلما لامها ردّت عليه باستعلاء: " أنا لم أتعود في بيت أهلي على الكنس والتنظيف. فطول عمرنا عندنا خادمة. وأنت تعلم أنني كنت مدللة في بيتنا . وأبي رئيسك أخبرك بذلك قبل زواجنا , ويجب أن تستأجر لنا خادمة ولكنك شخص بخيل .

وكانت هي تحاول معاونته في الأعمال المنزلية. لكنه كان يرنو إليها بامتنان ويردّ عليها بلطف: " أنت مازلت صغيرة على مثل هذه الأعمال يا مليكة". فكانت تدعو الله أن تكبر بسرعة لتكون قادرة على الأعمال المنزلية. وما أن اشتد عودها حتى تولت القيام دونه بكل تلك المهمات. وكانت تستعجل انجازها حال عودتها من المدرسة. فكان يدير عينيه في أنحاء المنزل في ارتياح ويقول: "ما أعظم شطارتك يا مليكة‍".
رمقت مليكة القط بابا بنظرات عاتبة فحنى رأسه.
- ما كنت في حاجة إلى حرماني من المدرسة يا أبي. كان بإمكاني أن أقوم بكل متطلبات المنزل وأن أواصل دراستي أيضا. وأنت تدري أنني كنت أحب الدراسة والقراءة كثيرا.
فما أن أنهت المدرسة الابتدائية حتى قال لها : " أنا متأسف يا ابنتي مليكة فلن يكون بإمكانك مواصلة الدراسة. فأنت ستكونين المسؤولة عن البيت. فأمُك كما تعلمين لا نفع فيها. وأنا لم يعد في طاقتي أن أحرق أعصابي كل يوم". وقد حزنت في أيامها الأولى وكانت تبكي في فراشها ليلا. لكنها سرعان ما نسيت المدرسة حينما باتت سيدة الدار. وانحسر الشجار بين الأم والأب لكنهما باتا أشبه بالغريبين.
استقرت عينا مليكة الحزينتين على القطة ماما.
- أنت لم تحاولي أن تفهمي أبي يا أمي.. لم تحاولي أن تفهميه أبدا ولا أن تغيري من طباعك لتتعايشي معه . ومع ذلك فقد حزن عليك .
وهي نفسها لم تكن تتصور ذلك. وقد دهشت لما بدا عليه من حزن لفقدها. ولعله لم يكن يتوقع وفاتها على ذلك النحو المأساوي. فلم يمهلها مرض السرطان أكثر من شهر. وحينما كانت هي وأخواتها وإخوانها يبكون حزنا كان هو يحبس نفسه في غرفته ، لكن شهقاته المفجعة كانت تترامى إليهم من وراء الباب9
ربتّت مليكة على القط بابا بحب.
- ما كان أطيب قلبك يا أبي وإن كنت تبدو صارما . كل ما في الأمر أنك كنت تحب النظافة و النظام وتكره الإهمال والتقصير.
تجولت عينا مليكة في وجه القط ناظم وهي ساهمة.
- وليتك فهمته أنت أيضاً يا ناظم فاستجبت لتوجيهاته.
لكنه ظل طول عمره متمرداً عليه. وكثيراً ما سألت نفسها: "هل خلق ناظم متمرداً بطبعه؟" فقد كان يتعمد رفض تعليماته . فكان شديد الإهمال لنظافته وكثير العبث بغرفته. ولم يكن يحب الدراسة. وكان مولعاً باللعب في الطريق حيث كان رفاقه يضجون من شقاوته . وكان أشد ما يثير سخط الأب عليه هو لا مبالاته بالمدرسة. وكم قسا عليه من أجل ذلك. وانتهى به الأمر إلى الانقطاع عن الدراسة والبحث عن مهنة حرّة.
التفتت مليكة إلى القطة ماما بامتعاض.
- أنت أيضاً يا أمي كنت مسؤولة عن تمردّه.
فلم تلمه يوما على إهماله للدراسة وتمرده على الأب. وكانت تراودها الشكوك بأنها كانت سعيدة بتمرده. فقد كان وجهها يشرق وهي تراقبه يجادل أبيه ويرفض الخضوع لتوجيهاته. وكثيراً ما امتدحته أمام إخوته وأخواته وعبرت عن إعجابها به.
هزت مليكة رأسها وهي تحدّق في القط ناظم بأسىً.
- ما أكثر ما أحزنتني بشقاوتك يا ناظم.
فقد كانت الوحيدة التي يروّعها غضب الأب عليه . وحينما كان يعاقبه بالعصا كان يستبد بها الجزع. وكانت الدموع تنهمر من عينيها وهي تسمعه يئن ويتوجع. وكانت تغدق عليه الحلوى ليتلهى بها عن آلامه. فكان يلتهمها ويرفع صوته بالتوجّع. وكانت تتصور أحياناً أن توجّعه مبالغ فيه من أجل التهام أكبر كمية من الحلوى.
رفعت مليكة القط ناظم وقبلته بحنان. فقفز بقوّة من حجرها وانتصب بجوار القطة نظيمة. واستقرت عينا مليكة على القطة نظيمة.
- أنت أيضاً لم تحاولي أن تفهمي أباك يا نظيمة، وكنت تعتقدين أنه لم يكن يفخر بتفوقك في دراستك.
وكانت مخطئة بالتأكيد في اعتقادها هذا. فحينما كانت تحمل "نتيجتها" إلى الأب فيقرأ في أسفلها " الأولى على الصف" كان وجهه يشرق بابتسامة عريضة. لكنه كان يقول لها وهو يهز رأسه: "عليك أن تدرّيبها على أشغال البيت أيضاً يا مليكة. فلابد لها أن تكون ربّة بيت ناجحة مثلك".
تأملت مليكة القطة نظيمة وغمامة من الكدر تظلّل وجهها.
- أنا أيضاً كنت أتمنى أن تكوني ربّة بيت ناجحة يا نظيمة. فلماذا رفضت محاولاتي بعناد؟
فحينما كانت تقول لها: "أي زوج سيرضى عنك يا نظيمة وأنت لا تحسنين شيئاً من أشغال البيت؟" كانت تردّ عليها بكبرياء: "ومن قال لك أنني أرضى برجل يريدني خادمة للبيت؟ على الرجل الذي يرغب في الزواج مني أن يهيأ لي الخادمة قبل أن يشتري أثاث المنزل". وعندما انتقلت إلى المدرسة الثانوية انكبت على الدراسة انكباباً عظيماً. فلم يعد هناك مجال لحثّها على المشاركة في مهمات المنزل. بل إن انكبابها على الدراسة كان يثير إعجابها وفخرها. فكانت تكرّس في أيام امتحاناتها كل وقت فراغها لخدمتها. وكانت تقعد على مقربة منها وتراقبها بشغف منتظرة أيّ إشارة منها.
عكست عينا مليكة حزناً عميقاً وهي تحدّق في القطة نظيمة.
- لكن الأيام أثبتت أنني وأبوك كنا مصيبين يا نظيمة. وكان من الخير لك لو عوّدت نفسك على المهمات المنزلية.
فمع أنها طبيبة ناجحة لكن زوجها الدكتور عصام غير راض عن اعتمادها الكلي على الخادمة. وكان ذلك مصدر خلاف دائم بينهما. وكاد يوماً أن يقودهما إلى الطلاق. وحينما كانت توبخها على تعنتها كانت تردّ عليها بكبرياء: "ولماذا لا يشارك هو أيضاً في أعمال البيت؟ ألست طبيبة مثله ووقتي مشغول مثله؟" وكانت هي تعاني من قلق دائم من هذا الأمر. وكثيراً ما جفاها النوم حينما تثور بينهما خصومات حادة.
تأملت مليكة القطة نظيمة بنظرات مغمومة.
- كم كنت أتمنى لو كنت أقلّ غرورا ً وكبرياء يا نظيمة ولم تحكّمي رأيك في كل شيء.
لو كانت كذلك لتمتعت مع زوجها الدكتور عصام بحياة رضيّة. فهي جميلة وطبيبة ناجحة. وهو شخص طيب وعاقل ورزين , وهو يحبها دون شك. لكنها تأبى الاعتراف بأن المرأة امرأة والرجل رجل.
ضحكت مليكة ضحكة سعيدة وهي تستذكر طفولة نظيمة. فقد كان سلوكها أشبه بسلوك الأولاد. ولم تكن ترغب في اللعب بالدمى. وكانت تفضل المصارعة مع ناظم على أي لعبة أخرى. وكانت المماحكة بينهما متصلة وكأنها جزء من حياتهما اليومية. وكانت هي تتولى فضّ الاشتباك بينهما فتقدم لهما الحلوى من أجل ذلك. فكانا يلتهمانها ثم يتضاحكان وكأنهما لم يكونا يتشاجران.
هزّت مليكة رأسها في عجب وهي تنقّل أنظارها بين القطة نظيمة والقطة عزيزة.
- ما أبعد الفرق بين خلقيكما يا أحبابي. فأنت يا عزيزة كنت دائماً مثال الطاعة.
ولقد كانت كذلك منذ صغرها. فيوم كانت طفلة كانت تظل منزوية في المكان الذي تضعها فيه من دون أن يبدر منها أي صوت. وكان يحدث لها أن تنغمر في مشاغلها البيتية فتنساها. ثم تنتبه فتجري نحوها فزعة وتسألها بلهفة: " هل أنت عطشانة يا عزيزة؟" فتسمّر عينيها السوداوين الواسعتين على وجهها وتهز رأسها بالإيجاب. وحينما تقدّم بها السنّ قليلاً أخذت تساعدها في أشغال البيت البسيطة. وكانت تضحك منها وهي تراها تعالج عملاً يتعذر عليها. وحينما كبرت صارت مساعدتها في كل أشغال البيت خصوصا وأنها لم تكن تحب الدراسة. وكان الأب يسّر لذلك.
راقبت مليكة القطة عزيزة وقد افترش الأسى وجهها.
- حرام أن يكون من نصيبك زوج مثل حسين يا عزيزة.
فبقدر ما تميزّت بالرقة والحنان ودماثة الطبع فأن حسين فظ غليظ الطبع عصبي المزاج. وهو شديد البخل مقتر على نفسه وعلى أسرته. وكثيراً ما سألت نفسها: " كيف يمكن لعزيزة الرقيقة الحنون التي تنهمر دموعها لأبسط أذى يلحق بأفراد عائلتها أن تألف زوجاً مثل حسين؟‍" وهي تعلم كم بذلت من جهد لتتخلق بأخلاقه كي تتعايش معه ففشلت. ومع ذلك لم تخرج عن طاعته يوما. وتجنبت كل ما يمكن أن يثير مشكلة بينهما. وسألتها يوما: " كيف يمكنك أن تتحملي الحياة مع زوج مثل حسين يا عزيزة؟" فقالت وهي تغالب دموعها: " هذا ما قسمه لي الله يا أختي مليكة. ألم يقل سبحانه وتعالى أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم؟" وفي تلك الليلة لم يغمض لها جفن وهي تستذكر وجهها الذي سحقته التعاسة.
سقطت دمعتان من عيني مليكة وهي تتفرس في وجه القطة عزيزة.
- لا أدري لماذا كان من نصيبك أنت ومالك أن تكونا تعيسين في حياتكما الزوجية. أنتما لا تستأهلان ذلك.
تحولت مليكة إلى القط مالك وعيناها دامعتان.
- لكنك كنت يا مالك مرتاحا ً معنا. وكنت تفهم أباك وتطيعه في كل توجيهاته.
وكان الأب شديد الإعجاب به ويضرب المثل بعقله. فلم يحدث له مرة أن خرج عن طاعته. ولعل طاعته المطلقة له هي التي جعلته مسالماً لدرجة التفريط بحقوقه ورغباته. وكثيراً ما استغل ناظم ذلك فاستولى على حاجاته الأثيرة. بل وسخّره لأداء مهامه البيتية. وكان يحاول دائما أن يبدو في منتهى النظافة. وكان يحرص حرصاً عظيماً على دروسه وعلى ترتيب غرفته. ولم يكن يعرف اللعب في الطريق.
تأملت مليكة القط مالك وعيناها مثقلتان بالحزن.
- ما أتعس حظك يا مالك إذ تزوجت من حسنية.
فهي على نقيضه كلياً. فهي شرسة ومناكفة وحسودة وذهنها مشغول على الدوام بكيفية الحصول على المال. ولم يكن بقدرته أن يوفرّ لها المال الذي تحلم به. فهو موظف بسيط في وزارة المعارف ودخله محدود. فنغّصت عليه عيشه من أجل ذلك. واضطرته إلى البحث عن أعمال إضافية باستمرار. وهي تنفق المال بإسراف على نفسها وعلى أهلها الفقراء. ومع ذلك لم ينج من لسانها الحادّ ومن شكواها الدائمة. وكانت هي تبكي أحياناً في فراشها وهي تفكر بحياته الشقيّة.
قبّلت مليكة القط مالك بحنان فهز شواربه برضى.
- لكل إنسان ما كتبه له الله من نصيب في الحياة يا أخي مالك فلا تحزن.
- ندّ من القط عزيز مواء عالٍ فانحنت مليكة عليه ورفعته إلى حجرها. فراح يلعق خدّها في حبور.
- أنت كنت محبوب أبيك يا عزيز فأنت آخر العنقود.
- ولكن من الذي لم يكن يحب عزيز؟‍ كان يحبّب نفسه للجميع. كان يجري طول النهار من غرفة إلى أخرى ليلبّي طلباتهم. لم يكن يتعب من ذلك أبدا فكأن خدمة الآخرين هوايته المفضلة. وكانت تعدّه هي طفلها المدلّل وتحبّه حبّا جمّا.وكانت تحمله دائما على صدرها حتى وهي تعمل0
تعكر وجه مليكة وهي ترنو إلى القط عزيز.
- كم أقلقتني في طفولتك يا عزيز.
فلقد روّعها حينما لاحظت أنه يلتهم التراب ويلعق الجدران. وكان عليها أن تراقبه باستمرار لتحول بينه وبين ذلك. واحتارت كيف تعالج حالته. ثم عرضته على الطبيب فنصحها بأن تكثر له الملح في الطعام. ونفذت نصيحة الطبيب فكفّ عن التهام التراب ولعق الجدران. لكنه بقي زاهداً في الطعام. وكانت تحتال عليه لتغريه بتناول وجباته. وكان يتفنن في الاختباء وقت الغداء. وحينما كبر لازمته عادة الزهد في الطعام.
لاطفت مليكة جسد القط عزيز فاستسلم لملاطفتها.
- كنت طفلاً حنوناً مولعاً بالمساعدة يا عزيز. ولازمتك هذه الطبيعة حينما كبرت.
فقد بقي عزيز نفس الشخص الحنون الذي يبادر إلى المساعدة من دون أن يُسأل. وحينما خلا البيت من الأخوة والأخوات كان هو أكثرهم تردداً عليه رغم انشغاله بأعماله الهندسية الناجحة. ولما مرض الأب تولى هو القيام بكل مهامه. وكان يمضي معهما ساعات عديدة كل يوم.
انهمرت الدموع فجأة من عيني مليكة فضج القط عزيز بالمواء.
- لماذا استرددته منّا يا ربي وهو في أوج شبابه؟‍‍
ويا لفداحة مصابها بفقده. ففي ذلك الصباح زارهما شأنه كل يوم. وعند العصر حضر مالك والدموع تفيض من عينيه وأبلغهما أن سيارة صدمته فمات. ولقد خيّل إليها أن القيامة على وشك أن تقوم. ولازمها الذهول لأسابيع. أما الأب فلم ينقطع نواحه عليه حتى غادر الدنيا. وكان نواحه يقطع نياط قلبها.
تكاثف الحزن في وجه مليكة وهي تتفحص القطط واحداً فواحداً.
- طول عمري وأنا أحبكم أكثر من نفسي وأخدمكم بعيوني. فكيف فعلتم بي ذلك؟‍
هرّت القطط وأخذ يخمش بعضها بعضا.
- كيف هان عليكم أن تفعلوا بي ذلك يا أحبابي؟‍
فلم يخطر لها على بال أن يكون ردّ فعلهم على وصية الأب على ذلك النحو .
رمت مليكة القط ناظم بنظرات استنكار فأدار رأسه ً.
- أنت كنت وراء كل ما حدث يا ناظم.
فحينما قرأ المحامي عليهم وصية الأب شحبت وجوه الجميع لكنهم لاذوا بالصمت. أما هو فقال غاضبا: هذه وصية باطلة وأنا لا أعترف بها.
فسأله المحامي: ولماذا لا تعترف بها؟
فقال: لأن أايانا فقد عقله منذ أقعده المرض.
فقال المحامي: أنا شخصياً لم ألاحظ ذلك. وأرى أن المرحوم عبدالجبار الحمادي كان سليم العقل في أيامه الأخيرة . فما رأيكم في قول أخيكم؟
فقال مالك: أبونا المرحوم احتفظ بقواه العقلية حتى اللحظة الأخيرة من حياته. ونطق الشهادة قبل أن تفيض روحه بخمس دقائق.
وما أن غادر المحامي حتى انفجر غضب ناظم وانطلق يصب اللعنات على الأب. فجرت إلى غرفتها وأغلقت عليها الباب. وافترستها نوبة بكاء حادة. ولبثت تبكي ساعات طويلة.
في اليوم التالي فوجئت به يطرق عليها الباب. قال في رفق: جئت لأعتذر لك يا أختي مليكة عما بدر مني أمس.
قالت له بشدة: ما كان يليق بك يا ناظم أن تشتم أباك وإن لم تكن تحبه. وأنا زعلانة عليك.
فقام وقبّل رأسها وقال: لذلك حضرت اليوم فأنا لا أصبر على زعلك.
قالت له: وأنا أيضاً لا أصبر على زعلكم ولكن لكل شيء حدّه.
فقال: لا تلوميني يا أختي مليكة فلم أكن أتخيل أن يحرمنا أبونا من حقّنا.
قالت له: وأنا أيضاً كنت أتمنى لو أنه لم يفعل. لكنك تعرف دوافعه.
فقال: إن شاء الله يحصل خير.
تفرست مليكة في القط ناظم في امتعاض فهز شواربه في استخفاف.
- حسبت أنك أدركت خطأك يا ناظم لكنك خيبت أملي.
فبعد أسبوع زارها مرة أخرى وفاتحها في الموضوع. قال: أنت تعرفين يا أختي مليكة وضعنا المادي. فمالك لا يكاد يسدّ مطالب زوجته الكثيرة.وعزيزة وزوجها موظفان بسيطان. ووضعي في الدكان لا يسرّ.
قالت له: هذا ما كتبه الله لنا يا ناظم ولا رادّ لإرادته.
فقال: طبعا.. طبعا. لكننا جميعا بحاجة إلى المال يا أختي مليكة. فدكاني مثلاً في حاجة إلى الكثير من قطع غيارالسيارات المطلوبة.
قالت له: كنت أتصور أن وضعك جيد يا ناظم.
فقال: أبدأ يا أختي مليكة. فدكاني يخلو من الكثير من قطع الغيار المطلوبة لحاجتي إلى المال.
فقالت له: ليت بإمكاني مساعدتك يا ناظم.
فقال: بإمكانك مساعدتي يا أختي مليكة إذا وافقت على التنازل عن الوصية. فأنت تعرفين أن أبانا كتبها تحت ظرف خاص.
قالت له: ياليت في قدرتي ذلك يا ناظم.
فقال في انزعاج: ولماذا ليس في قدرتك؟‍
قالت له: لأن أبي أخذ عليّ عهداً وهو على فراش الموت ووثقه بقسمي على كتاب الله ألاّ أغيّر وصيته مهما تكن الأسباب، ولو فعلت ذلك فسأعذبه وهو في قبره عذابا شديدا.
فاربد وجهه وقال في اهتياج: لم يكتف أبونا باضطهادنا وهو حيّ ففعل ذلك وهو ميّت أيضا.
وسكت قليلاً ثم قال: على كل حال يمكنك أن تحلّي نفسك من هذا العهد والقسم يا أختي مليكة لأنك ارتبطت بهما تحت ظرف خاص.
قالت له مفزوعة: أتريد أن ترميني في نار جهنم يا ناظم وتعذب أبانا في تربته؟‍
فقال بامتعاض وهو ينهض: على كل حال فكرّي في القضية جيداً يا أختي مليكة.
ولقد شغلها التفكير في القضية فعلاً لأيام عديدة. فكان النوم يجفوها في الليل. فهي تعلم أن ناظم محب لذاته أكثر من اللزوم وتعرف طرقه جيدا لتحقيق مآربه. وحينما زارها بعد أسبوعين قال لها: هل فكرت في القضية يا أختي مليكة؟
فقالت له: فكرت يا ناظم. ولكن ليس بيدي حيلة.
فقال بغلظة: طبعاً بيدك حيلة إذا أردت مساعدتنا.
قالت له: لكنني أخبرتك بالعهد والقسم الذي قيّدني به أبي. وأنا لست طامعة بالبيت.
قال بسخرية: لست طامعة بالبيت؟‍ أفتظنين أن بإمكانك أن تخدعينا بمثل هذا القول ؟ أنت غير طامعة ببيت يقدّر ثمنه بعشرات الألوف من الدنانير؟‍
قالت له: أنت تدري أنني لم أكن طامعة يوماً بمال أو أي شيء يا ناظم. لكنني لا أقدر أن أحنت بعهدي وبقسمي على كتاب الله.
فهب وافقا وقال بحدّة: الآن توضح كل شيء. المسألة كلّها أنك راغبة في الاحتفاظ بالبيت يا مليكة. وما تقولينه ليس سوى حجّة. واعلمي أن هذا هو رأينا جميعا .
تطلعت مليكة إلى القط ناظم وقد غشي وجهها الأسى.
- كيف فعلت بي ذلك يا ناظم؟ كيف طاوعك قلبك على أن تفعل بي ذلك؟‍‍‍‍!
ويا للحزن الذي دهمها ذلك اليوم! أمن المعقول أن يظن بها إخوتها وأخواتها الظنون؟! ولم يغمض لها جفن حتى الصباح. وحاولت أن تهوّن على نفسها باتهامه بالكذب. لكن زيارة نظيمة لها بعد أيام بدّدت شكوكها.
رمقت مليكة القطة نظيمة في اشمئزاز فشردت عيناها.
- كيف ارتضيت بذلك يا نظيمة؟
كانت تعتقد أنها آخر شخص يمكن أن يوافق على إيذائها. فهي تعلم كم تحبها! قالت لها: جئت لأحادثك بشأن الوصية يا أختي مليكة.
قالت لها في مرارة: وهل أنت بحاجة إلى ثمن البيت أيضا يا نظيمة؟
فقالت: ليست المسألة مسألة حاجتي إلى ثمن البيت يا أختي مليكة. لكنني لا أريدك أن تندمي على موقفك هذا.
فقالت لها: ولماذا أندم؟ هل أنا الذي اضطررت أبي الى كتابة الوصية؟ أنتم تعرفون زهدي في كل شيء.
فقالت: ولأننا نعرفك يا أختي مليكة لا نريدك أن تخطئي بحق نفسك كما أخطأ أبونا في حقنا فتندمي فيما بعد على موقفك غير العقلاني.
قالت لها: فهل كسر العهد الذي ارتبطت به تجاه أبي هو الموقف العقلاني يا نظيمة؟ وهل الحنث بالقسم على كتاب الله هو الموقف العقلاني؟
فقالت: ولكن هناك أمور أهمّ من هذه يا أختي مليكة. فإخوانك بحاجة إلى المال. وثمن البيت اليوم يقدّر بالآلاف المؤلفة بعد أن تغيّر وضع شارعنا وصار من الشوارع التجارية المهمة. فلابد لك أن تساعديهم.
فقالت لها: ليتني أقدر على ذلك يا نظيمة. لكنني أخاف عقاب الله في الآخرة. ولا أريد أن يتعذب أبي في تربته.
فقالت: للضرورة أحكام يا أختي مليكة. ولاشك أن الشرع يسمح لك في مثل هذه الحالة بالحنث باليمين. وأبونا المرحوم لن يتعذب في تربته لأنه سيفهم دوافعك للتنازل عن الوصية.
فقالت لها: إذن سأستشير الشرع وأعمل بحكمه يا نظمية.
قلّبت مليكة عينيها الكدرتين في وجوه القطط ووجهها ينضح بالمرارة فراحت تهز ذيولها بعنف.
- ونفذت وعدي واستشرت الشرع فأكد لي اعتقادي. فماذا كنتم تريدونني أن أفعل بعد؟! هل يتوجب علي أن أحنت بقسمي على كتاب الله لأُرضيكم؟!
رنت مليكة إلى القطة عزيزة ووجهها يطفح بالألم.
- حتى زوجك حسين وهو الغريب بيننا لم يرحمني من ضغوطه يا عزيزة.
فلقد زارها وقال لها باستخذاء: جئت لأوضح لك موقفنا من الوصية يا أخت مليكة وأنا متأكد أنك ستفهميننا وتعذريننا.
فقالت له: أنا أفهم موقفكم يا أبا علي وأعذركم عليه.
فقال: هذا هو المتوقع منك يا أخت مليكة. فكل من يعرفك يضرب المثل برجاحة عقلك. فمن الذي يمكنه أن يقدّر ظروفنا أكثر منك؟ فنحن المعلمين تحلّ علينا الصدقة.
قالت له: لكل نصيبه في الحياة يا أبا علي .
فقال: نحن محرومون حتى من الأحلام البسيطة يا أخت مليكة. ومن أحلامنا شراء بيت يظلّلنا سقفه. وكان أملنا أن يتحقق هذا الحلم بما تناله عزيزة من إرث أبيها. وإذا بنا نفاجأ بأنه أوصى بالبيت لك وحدك وحرم أبناءه وبناته. وبالطبع هذا لا يرضيك.
قالت له: أنا معك في كل ما قلته يا أبا علي . وأنا لا يهون عليّ ذلك. لكنني أفهمتهم بالعهد الذي ربطني به أبي وبقسمي على كتاب الله.
فقال: لكنك تعرفين يا أخت مليكة أن الظروف غير الاعتيادية تحل الشخص من قسمه. وهذا ما يؤكده الشرع.
فقالت له: لكنني استشرت الشرع فأكد لي خلاف ما تقول يا أبا علي .
فقال: ومن استشرت يا أخت مليكة؟
فقالت له: استشرت إمام مسجدنا الشيخ عباس .
فقال: الناس مغشوشون بالشيخ عباس يا أخت مليكة فهو لا يفهم شيئاً في الشرع. وأنا مستعد أن أصحبك إلى الشيخ جمعة إمام مسجد الشهداء ليؤكد لك بطلان كلامه.
فقالت له: لا داعي لأن تتعب نفسك معي يا أبا علي. فلست راغبة في استشارة إمام آخر.
فتفجر غضبه فجأة وهتف وهو ينهض: اظهري على حقيقتك أيتها المنافقة. فأنت تريدين امتلاك البيت وحرمان أخواتك وإخوانك من حقّهم. وهم الذين يتصورون أنك تحبينهم . كنت تخدعينهم طوال هذه السنين وتمثلين عليهم.
سال خيطان من الدمع على وجنتي مليكة وهي تتطلع إلى القطة عزيزة فهاجت وراحت تتقلب على الأرض بعنف وتهرّ هريرا عاليا.
- أنت لا ذنب لك يا عزيزة فيما فعله بي حسين. وأنا أدرى كم آذاك موقفه مني.
ولقد فوجئت بها تقتحم عليها الدار وهي شاحبة الوجه زائغة العينين. وألقت بنفسها على كتفها وهي تطلق العنان لدموعها وتشهق شهيقا عالياً. فارتاعت لذلك وسألتها جزعة: ماذا بك يا عزيزة اسم الله عليك؟ هل حدث لأحدكم مكروه؟!
قفالت من بين زفراتها: لن أشارك بعد اليوم في الضغط عليك يا أختي مليكة وليطلقني حسين إذا أراد.
فسألتها جزعة: ولماذا يطلقك ؟! وماذا فعلت؟
فقالت: إنه رمى عليّ يمين الطلاق إن قمت بزيارتك.
قالت لها بارتياع: فكيف حضرت إذن لزيارتي يا عزيزة؟
قالت في هياج: ليفعل ما يشاء فأنا لم أعد أصبر على ما نفعله فيك يا أختي مليكة. إنه ظلم. نحن ظلمناك ظلماً عظيما يا أختي مليكة. كل ذلك من أجل الطمع. وسيحاسبنا الله على ذلك حساباً عسيرا.
قالت لها في ارتياع: وأنا يا عزيزة؟! ألم تفكري بما سيصيبني من حزن لو طلقك بسببي؟! ألا تعلمين أنك تحكمين عليّ بالعذاب لو حصل لك ذلك؟!يجب ألا تفكري بزيارتي مرة أخرى يا عزيزة إن كنت تحبينني. أبدا.. أبدا.
قبّلت مليكة القطة عزيزة وقد طافت على ثغرها بسمة حزينة.
- ما أطيب قلبك يا عزيزة. وما أشبه أخلاقك بأخلاق مالك.
تحولت مليكة إلى القط مالك وحدّقت فيه بشغف فحنى رأسه بحزن.
- لا تحزن يا مالك. لا تحزن يا أخي العزيز. أنا أقدّر ظروفك وأدري أن حسنية هي الملومة.
فلقد ضاعت عليها فرصة عظيمة لكسب المال. وكم حلمت بتلك الفرصة. وما كان أمرّ خيبتها وهي تصغي إلى المحامي يتلو الوصية. وقد عجزت عن كتم خيبتها فقالت محتجة: "لكن هذا ظلم. كيف يحرم الأب أبناءه من نصيبهم في التركة؟".
ولقد توقعت أن تبذل كل ما في وسعها لإبطال الوصية. وزارتها بعد أيام وقالت: جئت أتأسف لك يا مليكة عما قلته أمام المحامي. وأنا متأكدة أنك غير موافقة على الوصية. فأنت تخافين الله. والوصية فيها إجحاف وظلم.
فقالت لها: أنت تعرفين بالظروف التي جعلت أبي يوصي لي بالبيت ياحسنية. فهو أراد أن يضمن لي مستقبلي.
فقالت: لكنه ضمن لك مستقبلك يا مليكة. إنه أورثك تقاعده فلا أحد يشاركك فيه. فمالك موظف وناظم صاحب محلّ ونظيمة طبيبة وعزيزة معلمة. ولا حق لهم جميعا بالتقاعد.
فقالت لها: ولكنه قيّدني بالقسم على كتاب الله يا حسنية.
فقالت: على كل حال نحن نأمل خيرا على يديك يا مليكة .
وعاودت زيارتها بعد أسبوع. قالت لها: أكيد أنك نويت التنازل عن الوصية يا مليكة.
فقالت لها: إنني فكرت بذلك فعلاً يا حسنية لكنني لا أقدر على الإساءة إلى أبي في تربته وهو الذي أحبني طول عمره.
فانفجرت تصيح في تهكم: وهل تصدقين أن أباك أحبّك لشخصك؟ إنه لم يكن يحب غير نفسه. وكان يعدكم جميعا عبيدا له . واتخذك أنت خادمة خصوصية حين لم يقدر أن يفعل ذلك مع أمك. وهو كتب البيت باسمك ليكافئك على خدمتك له لا أكثر. وسيحاسبه الله يوم القيامة حسابا عسيرا على ظلمه لأبنائه.
فصاحت بها: أخرجي أيتها الحسودة. أنت التي سيحاسبها الله حساباً عسيراً جزاء ما فعلته بأخي مالك.
رنت مليكة إلى القط مالك وابتسامة حزينة تفترش وجهها.
- أنا عذرتك من كل قلبي على احتجابك عني يا أخي مالك فلا تحزن.
وكانت تدرك أنه يتعذب بسبب ذلك عذابا أليما. وقد فوجئت به يوما يهل عليها ووجهه ينضح بالحزن. قال ورأسه منكّس إلى الأرض: فليسامحنا الله على ما نفعله فيك يا أختي مليكة. الله يلعن الطمع وهو أصل بلاء البشر .
قالت له: أنا أعرف ظروفكم يا مالك وأعذركم.
فقال: لكنني لا أعذر نفسي يا أختي مليكة. وضميري يعذبني ليل نهار على ما نمارس من ضغوط عليك.
قالت له: أنا سامحتكم يا مالك فأنتم أحبابي.
فقال: إذا كنت أنت سامحتنا يا أختي مليكة فهل سيسامحنا الله؟ أهكذا نجازي أُمّنا؟ أهكذا نجازي الأخت التي رعت كل واحد منّا منذ كان طفلا حتى صار شاباً؟!
وما راعها إلاّ ودمعتان تنحدران على خدّيه. هتفت وهي تدق على صدرها: اسم الله عليك يا مالك. أنا التي يجب أن تدعو الله أن يسامحها على ما سببته لكم من أذى. هل من المعقول أن يأتي عليّ يوم أراك فيه تبكي بسببي يا مالك؟!
قال وهو يهز رأسه: الأطفال هم الذين يكسرون ظهري يا أختي مليكة. فحسنية هددتني بهجر البيت والأطفال إذا لم أشارك في الضغوط عليك. لكنني لم أعد قادرا على الصبر على ما نفعله فيك . سأقف إلى جانبك ولتفعل حسنية ما تشاء.
فهتفت في جزع: وتخرب بيتك يا مالك؟! ومن سيرعى أطفالك؟! هل ستترك وظيفتك لتجلس في البيت وترعاهم؟!
فقال: ليكن. كفاني تخاذلا أمام حسنية.
فقالت له متوسلة: وأنا يا مالك؟ كيف سأحتمل خراب بيت أخي؟!
فصمت طويلاً وهو مطرق ثم هز رأسه وقال: الله يرحمك يا أبي. أنت ضيعت فرص الزواج علي مليكة وبددت حياتها. ولولاك لكان لها بيتها الخاص ولما حدثت لها هذه المشكلة. أنت سيّرت حياتنا على هواك يا أبي .
تطلعت مليكة إلى القط بابا وقد تعكر وجهها.
- أنظر ماذا فعلت بي يا أبي. ألم أقل لك إن وصيتك ستؤذيني كثيرا؟!
كانت تدرك ذلك منذ البداية. ومكثت أسابيع تقاوم رغبته حتى اضطرت أخيراً إلى الإذعان. وكان منذ لازم فراش المرض يطلق تأوهات موجعة كلما وقعت عيناه عليها. ولم تكن تقهم مغزى تأوهاته. وكانت تعزوها إلى آلام مرضه. وسألته مرة: لماذا تتأوه هكذا يا أبي؟! هل تثقل عليك أوجاع المرض إلى هذه الدرجة؟!
فنظر إليها طويلاً ثم انفجر باكياً. فافترسها جزع عظيم. وعكفت على يديه تغسلهما بدموعها. وهدأ بكاؤه أخيراً فقال وهو ينشج: ليس ما أقاسي منه أوجاع المرض يا مليكة.. إنها أوجاع ضميري.
قالت له بعجب: لماذا أوجاع ضميرك يا أبي؟ كنت طول عمرك تسير بما يرضي الله.
فقال: أنا لا أخاف غضب الله عليّ بسبب عملي يا مليكة. إنني عشت طول عمري موظفاً نزيهاً وعادلاً ولم أعاقب يوماً أحد موظفيي إلا بالحق. لكنني أخشى عقاب الله على ما ألحقته بك من أذى يا مليكة.
قالت له في عجب: وأي أذى ألحقته بي يا أبي؟! كنت طول عمرك تحبني من كل قلبك.
فعادت الدموع تنهل من عينيه ثم قال: لكنني جنيت عليك بحبي يا مليكة. إنني حجبت عنك الحياة الزوجية وفوّت عليك فرص تكوين عائلتك وبيتك الخاص بك.
قبلت جبينه وقالت له: ومن قال لك يا أبي إنني كنت سأسعد في بيتي الخاص كما سعدت في بيتنا معك ومع إخوتي وأخواتي؟
فتأوه وأطلق الحسرات وعاد يقول بصوته المكلوم: إنني ظلمتك يا مليكة. ومهما تقولين من كلام فلن يهّون من شعوري بالذنب. كان يجب عليّ ألاّ أقف عائقاً في طريق زواجك. وفوق ذلك حرمتك من إكمال تعليمك. ولو أكملت تعليمك لصرت موظفة شأنك شأن أخواتك.
قالت له: أقسم بالله العظيم يا أبي إنني لم أحلم يوما بسعادة تفوق ما نعمت به من سعادة في بيتنا. فكن مطمئن الضمير.
فقال متوجعا: ولكن ماذا سيكون حالك من بعدي يا مليكة؟ من الذي سيرعاك حينما يتقدم بك العمر؟!
فقالت له: وهل نسيت إخوتي وأخواتي يا أبي؟!
فقال بحزن: سينشغلون عنك يا مليكة.
قالت له: لا يا أبي.. لا. لا تقل ذلك عن إخوتي. وإذا كنت تحبني فلا تعاود التفكير في ذلك.
رنت مليكة إلى القط بابا بعتاب.
- أنت وعدتني ألاّ تفكر في هذا الأمر مرة أخرى يا أبي. لكنك لم تف بوعدك. فأنت ظللت تفكر فيه على الدوام.
وفوجئت به يوما يقول لها: يا ابنتي العزيزة. ألا تحبين أن ارقد قرير العين في قبري؟!
قالت له: اسم الله عليك يا أبي. إن شاء الله عمرك طويل.
فقال: الحياة والموت بيد الله عزّ وجل يا مليكة. لكنني أحدس بأن أيامي باتت معدودة. وأريد أن أطمئن عليك لكي أرقد في تربتي قرير العين.
قالت له: اسم الله عليك يا أبي. ستنام في تربتك قرير العين حينما يختارك الله إلى جواره. ولا تقلق عليّ فلي من إخوتي أكبر سند. ولن أكون وحيدة من بعدك.
فقال: أدعو الله أن يكونوا عند حسن ظنك فعلاً يا مليكة. ولكن لا يعلم بالغيب إلا الله. وأنا أريد أن أطمئن عليك وأنا في قبري. وبإمكانك أن تساعديني في ذلك.
قالت له في عجب: وكيف لي أن أساعدك في ذلك يا أبي؟!
فقال: توافقين على أن أورثك هذا البيت فيكون لك سقف يظلّلك من بعدي ويبعدك عن العوز.
فهتفت في جزع: مستحيل.. مستحيل يا أبي. كيف تريدني أن أغمظ حقوق إخوتي وأخواتي؟
فقال: أنت لن تغمطي حق أحد يا مليكة. فأنت أحق الجميع بهذا البيت الذي خدمته وخدمت كل من عاش فيه منذ كنت صبية.
فقالت له: لا يا أبي.. لا. لا تجعلني أخطئ بحق نفسي وأحرم إخواني وأخواتي من حقوقهم. ثم أنني سأكون في حمايتهم وسيقومون برعايتي ولن يتخلوا عني فهم يحبونني.
فقال لها: ليس هناك عاصم من طمع الدنيا يا مليكة. والنفس البشرية جبلت على الطمع وحب الذات. فلا يغرنك ما تشهدينه من محبة أخواتك وإخوتك مادمت لم تمسّي مصالحهم.
فقالت له في إصرار: مستحيل.. مستحيل يا أبي.
افترش الحزن وجه مليكة وهي تسمر عينيها على وجه القط بابا.
- ألم أرفض طلبك في إصرار يا أبي؟
ولقد ظلت أسابيع تصم أذنيها عن توسلاته حتى انهارت عزيمتها. فقد كانت تراه يتعذب عذاباً منكراً بسبب إصرارها. وخشيت أن تكون سبباً في موته . وما أن أذعنت لرغبته حتى جعلها تقسم على كتاب الله ألاّ تغيّر وصيته لأي سبب من الأسباب.
نقلت مليكة عينيها الحزينتين في وجوه القطط والدموع تتسابق على وجنتها. فهرّت هريراً قوياً وأشرعت مخالبها في وجه بعضها بعضا.
- كيف طاوعتكم قلوبكم على إيذائي وأنا أُمّكم التي أحبتكم أكثر من نفسها؟
ولم يخطر على بالها أبداً أنهم قد ائتمروا بها. وتلاحقت الأيام دون أن يطرق بابها أحد منهم. ولم تدرك مغزى ذلك. ثم زارتها حسنية وواجهتها بالحقيقة. قالت لها بتشفّ: هل رأيت ماذا كانت نتيجة عنادك يا مليكة؟
فقالت لها: أفهمتك يا حسنية أنني ملتزمة بميثاق أبي لا أكثر.
فقالت بهزء: لكن خدعتك هذه لم يعد يصدقها أحد.
فقالت لها: الله يساعد أخي مالك عليك. ولن أقول لك أكثر من هذا.
فقالت بسخرية: وهل مثلك الذي يتألم لحال مالك؟! كنت دائما تغشينه وتغشينني. والحمد لله الذي كشف زيفك للجميع. فأنت لا تحبين مالك ولا أيّ واحد من إخوتك وأخواتك. أنت تحبين نفسك فقط.
قالت لها: أنت معذورة على لسانك الزفر يا حسنية. فالله خلقك بهذا اللسان.. ومعذورة أيضاً على حبّك الجنوني للمال فأنت ذقت مرارة الفقر في بيت أهلك .
فقالت بسخرية : وهل كان أبوك الموظف غنيا ؟ أسكتي ولا تفضحي أهلك . ونفاقك انكشف للجميع. وجئت أخبرك بأن أخوتك وأخواتك اتفقوا على أن ينبذوك حتى تعيدي إليهم حقوقهم. وإذا ظللت متمسكة بعنادك فسيقيم ناظم الدعوى في المحكمة لإبطال وصية عمي المجنون.
فشبت النار في جوفها وصرخت فيها باهتياج: أخرجي.. أخرجي وإلاّ قطعت لك لسانك.
فولّت هاربة. وانهارت على الأرض ولم تعد تعي شيئاً.
تطلعت مليكة إلى القطط وقد فار الحزن في وجهها.
- كيف طاوعتكم قلوبكم على أن تفعلوا بي ذلك يا أحبابي؟!
ويا لمرارة الأيام التي عصفت بها. كانت تمضي يومها في تفقد الغرف واحدة بعد الأخرى وهي تسترجع ذكريات أصحابها. وكان يومها أطول من أسبوع. وجرّبت أن تنشغل بقراءة مجلاّتها الأثيرة. لكنها لم تكن تعي حرفاً مما تقرأ. وكانت أشباح إخوتها وأخواتها تتقافز بين السطور. وكان الليل يرعبها. فقد كانت عيناها المفتوحتان تتسمّران في السقف.
تدفقت دموع مليكة فهاجت القطط وأخذ يعضّ بعضها بعضا وهي تهر هريرا قويا .
- ماذا فعلتم بي يا أحبابي؟! ماذا فعلتم بي؟
وأخيراً تهاوت إرادتها. وفي تلك الليلة ألمّ بها ذلك الكابوس الفظيع. فقد انتصب شبح الأب بجوار سريرها وقد تفجر وجهه أسى . سألته فزعة: ما بالك حزيناً هكذا يا أبي؟
فقال بتهكّم مرّ: أتسألينني عن حالي يا مليكة وأنت عزمت على الغدر بي؟!
قالت له باكية: لكنني لم أعد قادرة على مقاومة ضغوطهم يا أبي.
فقال باستنكار: وهل مثل مليكة ذات الشكيمة القوّية تستسلم للضغوط وتغدر بأبيها؟!
قالت له وهي تبكي: أعصابي تلفت يا أبي وصارت حالي حال الضيم.
فانفجر يبكي بحرقة. وتوسلت إليه أن يكفّ عن بكائه لكنه تمادى فيه. وقال بصوته الجريح: كيف لا أبكي يا مليكة وأنا أتوقع ما سينزل بي من عذاب؟! فأنا المسؤول عن قسمك على كتاب الله. وستحنثين بقسمك فينالني بلاء عظيم.
ثم هبّت من نومها مرعوبة وجسدها يتصبب عرقا.
شردت أنظار مليكة ووجهها يطفح بالحزن.
- الحمد لله الذي جنّبني الوقوع في خطأ عظيم وحماني من الضغوط.
فلقد استعادت تصميمها عند الصباح. وإذا كانت مشيئة الله ألا تكتحل عيناها برؤية أحبابها فلا رادّ لمشيئته. وعليها أن تصبر حتى لو استحالت حياتها إلى صحراء مقفرة. ولقد استحالت حياتها إلى صحراء مقفرة فعلا. كانت تقضي يومها هائمة بين غرف الدار وصور حياتها الغابرة تحاصره في كل مكان0
تشبثت الابتسامة بشفتي مليكة وهي ترمق القطط بحبّ.
- الله لا يحجب رحمته عن عباده يا أحبابي. وهو هداني إلى التغلّب على وحدتي ووحشتي.
فحينما عادت ذلك الصباح من تبضعها من بقالة المحلة تبعها قط قذر الفروة بائس المنظر. وتعثرت به أكثر من مرة. وعند باب الدار تأملته وهو يرفع رأسه ويموء متوسلا فرقّ له قلبها .
صافحت مليكة وجه القط بابا بنظرات رقيقة.
- لا أدري كيف غلبتني أيها القط بابا. فأنا لم أحبب القطط يوما.
وأدخلته البيت وغسلت له فروته وقدّمت له الطعام. وفي خلال أيام تبدّي بمظهر جديد. وتنامت ألفتها له يوماً بعد يوم. وتبدد شيء من وحشتها. وذكرّها وجهه الوقور بأبيها فأخذت تناديه بالقط بابا.
التفتت مليكة إلى القط بابا وابتسامة صغيرة تترنح على شفتيها.
- شكراً لك أيها القط بابا. فأنت الذي أوحيت لي بأن أسترد أفراد عائلتي.
فلقد خطر لها أن تبحث له عن أليفة. وعثرت على قطة جميلة راقها منظرها فأحضرتها إلى البيت. وسرعان ما ألفا بعضهما بعضا.
ابتسمت مليكة وهي ترنو إليهما بامتنان.
- أنا أشكركما إذ هديتماني إلى جمع أفراد عائلتي أيها القط بابا وأيتها القطة ماما.
فقد تخيرّت من القطط الضالة ما يشكّل كل أفراد عائلتها. ومنذ ذلك اليوم لم تعد تعرف للوحشة معنى.
تأملت مليكة القطط وقد افترشت وجهها بسمة سعيدة.
- أنا أشكركم كثيراً يا أحبابي. أنتم بددتم عني وحدتي ووحشتي.
تقافزت القطط فوق بعضها بعضاً في مرح. وسرعان ما غام وجه مليكة ثانية.
- ولكن ماذا سيحدث لنا يا أحبابي عندما يحضر الدلاّل بعد قليل ويطردنا من البيت؟ هل ستعودون أنتم إلى التشرد وأعود أنا إلى وحدتي ووحشتي؟ ماذا سنفعل وقد رفضت أم كريم كل توسلاتي؟!
وكم بذلت من جهد لإقناع ام كريم. قالت لها: اطلبي ما تشائين من أجر للغرفة يا أم كريم بشرط أن تسمحي لي بالاحتفاظ بقططي.
فقالت: أنا لا أوافق على شرطك حتى لو دفعت لي عشرات الدنانير.
فقالت لها متوسلة: لكنها قطط لطيفة يا أمّ كريم ولن تزعجك أبداً.
فقالت باستنكار: كيف أُدخل هذا القطيع من القطط في بيتي؟! الناس يحتفظون بقطة أو قطتين لا بسبع قطط.
تأملت مليكة القطط وغيمة من الحزن تظلل وجهها.
- صّدقوني يا أحبابي.. بذلت المستحيل مع أم كريم لكنني فشلت. وبحثت عن نزل آخر فلم أوفق.
تلاحقت دموع مليكة فهرّت القطط هريراً عاليا.
- الله كتب علينا التشرد يا أحبابي. فأنا أيضاً سأعيش في بيت أم كريم مستوحشة.
سرحت عينا مليكة وهي مظلمة الوجه. وراحت القطط تتقافز في عنف.
- قوموا يا أحبابي لنودّع بيتنا قبل أن يحضر الدلاّل.
نهضت مليكة فتسابقت القطط وراءها. وتوقفت عند غرفة الأب. وطوّفت عيناها في أرجائها. والتفتت إلى القط بابا وقد أشرق وجهها.
- ما كان أعظم سعادتي معك يا أبي!
ضحكت ضحكة صافية وهي تسترجع تلك الحادثة في ذهنها. فقد انتظرته على الغداء ذلك اليوم كعادتها لكنه لم يحضر إلاّ عند المساء. وحينما رأى الصحون معدّة على المائدة سألها بانزعاج: ألم تتغدي بعد يا مليكة؟
فقالت له: لا يا ابي فانا في انتظارك.
فقال بارتباك: الحقيقة يا مليكة أنني تغديت. كان عندي اجتماع طارئ مع الموظفين وتغدينا معا. وكان يجب عليّ أن أتلقن لك وأخبرك لكن العمل شغلني فنسيت.
وطوال المساء بدا وكأنه لا يدري كيف يتخفف من حرجه. فخطر لها أن تغتنم الفرصة وتفاتحه بقضية الموظف رشيد الحسوّن. وكانت زوجته قد زارتها وتوسطت لديها لرفع عقوبة أوقعها الأب عليه. وكانت تعلم أنه صارم مع موظفيه وأنه لا يسامحهم على إهمال أو تقصير. وتفوق في صرامته هذه على جميع مدراء الأفسام في وزارة المالية . وقد قال لها ناظم يوماً: " أبي لا يغفر لأحد الخروج على نظامه ودكتاتوريته.. لا في البيت ولا في العمل. لذلك يسميه موظفوه .. السيف".
أصغى إليها وهو مطرق. وظل صامتا دقائق. ثم رفع رأسه وقال باسما: " كنت أخشى أن يكتشف موظفيي يوماً كيف يلوون ذراعي يا مليكة. وها قد فعلو. غداً سأصدر أمراً برفع العقوبة عن رشيد الحسون".
ربتت مليكة على القط بابا بلطف فهز ذيله مسرورا.
سارت مليكة في بطء والقطط تسير من حولها. وتوقفت عند غرفة الأولاد. والتفتت إلى القط مالك وهي ضاحكة العينين.
- هل تتذكر يا مالك تلك الحادثة التي أغضبت فيها أباك؟! كانت تلك المرّة الوحيدة التي غضب فيها منك.
فلقد مرّ بغرفة الأولاد في جولته التفتيشية فإذا بجدرانها مليئة برسوم غريبة. وكتب تحتها: " الدين ممنوع والعنب مرفوع". وكانت قد راقبت مالك وهو يخط تلك الرسوم على جدران الغرفة باهتمام. وسألته أين تعلّمها فأجابها إنه رآها مرسومة على واجهة دكان عطار المحلة. وقد سألها كيف يمكن أن يمنع الدين وكيف يمكن أن يكون العنب مرفوعاً فعجزت عن الجواب. وغضب الأب غضباً شديداً لمرأى تلك الرسوم. وهتف بمالك: " لماذا فعلت ذلك يا مالك؟ أنت أتلفت جدران الغرفة ". فانكمش مالك في موضعه وهو يرتعد فرقا. فخمد غضب الأب في الحال وقال له برقّة: لا تفعل ذلك مرة أخرى يا ملك. فجدران الغرفة ليست كسبّورة الصف.
ماء القط ناظم بقوة فالتفتت إليه مليكة وابتسامة وضيئة تفترش وجهها.
- أنا أعلم يا ناظم أنها غرفتك أيضاً وليست غرفة مالك وحده. وما أكثر ما أتعبته معك. وما أكثر ما أحرجته مع أبيك.
هرّ القط ناظم باحتجاج فضحكت مليكة ضحكة رقيقة.
- وما أكثر ما أحرجتني أنا أيضاً مع أبينا يا ناظم.
ولعلها لم تحرج مع الأب كما أُحرجت في تلك الحادثة. وكان ناظم قد فشل في امتحان آخر العام فعاقبه الأب بالحبس في المخزن. وأوكل إليها مهمّة السجان. لكنها كانت تسمح له بالانطلاق إلى الطريق حالما يغادر الأب. واشترطت عليه أن يرجع إلى محبسه قبل عودة الأب. وفي ذلك الصباح خرج إلى الطريق كعادته لكنه لم يعد في موعده. واستبد بها كرب عظيم. وفي اللحظة الأخيرة دخل ناظم راكضا. وقبل أن تقوده إلى محبسه أهلّ عليهما الأب. سأله غاضبا: " لماذا أنت هنا؟" فلم يحر جوابا". فبادرت تقول: " إنه كان في الحمّام يا أبي". فهزّ رأسه في ارتياب ولم يقل شيئا.
خطت مليكة إلى الغرفة المجاورة فتهادت القطط خلفها. وسرحت عيناها في أرجائها وهي باسمة الثغر.
- ما أحلى ذكريات هذه الغرفة يا أحبابي.
استقرت عينا مليكة على القطة نظيمة ووجهها يفيض عذوبة.
- ألا تتذكرين يا نظيمة يوم أفزعتني؟! لم أشهدك يوماً تبكين بمثل تلك الحرقة.
وكانت قد عادت من المدرسة وهي تحمل " نتيجة" آخر العام. وكانت تنتظرها بفارغ الصبر. لكنها دخلت غرفتها دون أن تلتفت إليها. ولحقت بها فوجدتها تبكي بحرقة . سألتها بفزع: " مالك يا نظيمة؟!" فمدت إليها يدها بـ"النتيجة" فقرأت في أسفلها: " الثانية على الصف" فضحكت من أعماق قلبها.
ماءت القطة عزيزة فالتفتت إليها مليكة وابتسامة عريضة تزين ثغرها.
- أنت الوحيدة التي لم تغضبني يوماً يا عزيزة.
رفعت مليكة القطة عزيزة بين ذراعيها وقبلتها في حرارة فأخذت تلعق خدّها بشغف.
- أنا التي أغضبتك مرة يا عزيزة وكم أسفت على ذلك!
وكانت عزيزة قد تخيّرت إحدى الدجاجات صديقة أثيرة لها وسمتها " تاتا ". وقامت ألفة قوية بينهما. وكانت تمضي وقتا طويلا أمام قفص الدجاج نحدث (تاتا) عن كل شأن من شوؤنها. وحينها كان الدجاج يطلق من قفصه كانت تلاعب " تاتا" في ابتهاج . وفي يوم ألمّ بالبيت ضيوف على غير توقع. ولم يكن قد تبقّى في القفص سوى "تاتا" . فكان لابد من ذبحها . فافترسها مصاب عظيم . ولبثت تبكي طوال اليوم. ومن يومها لم تقرب لحم الدجاج.
سارت مليكة إلى المطبخ فتبعتها القطط. وهامت عيناها في أرجائه وقد تألق وجهها.
- كم أمضيت من سنين عمري في هذا المكان يا أحبابي.. وما أحلاها من سنين!
وتذكرت أول مرة مارست فيها الطبخ. ولم تكن قد تجاوزت الثانية عشرة. وكانت قد عادت من المدرسة فوجدت أمها نائمة. ولم يكن طعام الغداء معدّا. وأحزنها أن يحضر الأب فلا يجد غداءه معدّاً. وجرى كل شيءٍ على ما يرام. وسُرّ الأب سروراً عظيما لذلك. ولكن ما أن تناول الملعقة الأولى من المرق حتى لفظها بتقزز وهتف: ما هذا يا مليكة؟! هل وضعت فيها كل ما لدينا من ملح؟!
وتحول إلى الرز ومضغ منه لقمة ثم قال باسما: لا بأس يا مليكة. إنه بلا ملح. فأنت وضعت كل ما لديك من ملح في المرق.
صافحت مليكة وجه القط بابا بنظرات محبة فهز شواربه في وقار.
تحركت مليكة باتجاه الصالة فمشت القطط وراءها. وتنقلت عيناها في أرجائها ووجهها يتدفق غبطة.
- كان هذا البيت مملكتي بحق يا أحبابي.
كان الجميع يستجيبون لتوجيهاتها. وكان الأب أول من يلتزم بتلك التوجيهات. وكانت الأم تقول لها: "أنت أم البيت يا مليكة فلا تسأليني عن شيء". وكان كل إخوتها وأخواتها يحبونها ويطيعونها وكأنها أمّهم الحقيقية.
تأملت مليكة القطط واحداً فواحداً وقد أطلّ من عينيها حزن هادي.
- ما كان أسعدني بكم جميعاً يا أحبابي.
وصك سمعها فجأة رنين جرس الباب فشحب وجهها وزاغ بصرها. وجعل صدرها يعلو ويهبط في اضطراب عظيم.
- حضر الدلال لينتزع منا مفاتيح البيت ويطردنا يا أحبابي. فماذا سنفعل؟ هل سنفترق من جديد؟! كيف لي أن أحتمل الوحدة والوحشة بدونكم يا أحبابي؟
تقافزت القطط حول مليكة في اضطراب . وهرعت مليكة إلى الغرف تطلّ عليها إطلالة أخيرة. ثم توقفت في فناء الدار. وتجولت عيناها الجاحظتان حواليها. ثم استقرتا على القطط المفزوعة.
- تعالوا معي يا أحبابي فلن نفترق مرة أخرى.
هرولت مليكة إلى المطبخ فتراكضت القطط خلفها. أغلقت بابه ثم دلقت زجاجة النفط في كل زواياه . ثم رشّته على جسدها وعلى القطط0 وأشعلت عود الثقاب فشبت نار حامية وتعالى صراخ القطط.
- تمت -
طبعت في اليمن 2003 من مركز عبادي للدراسات والنشر



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - عالم مليكة