أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - بيت الزوجية -مسرحية-















المزيد.....



بيت الزوجية -مسرحية-


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2525 - 2009 / 1 / 13 - 09:34
المحور: الادب والفن
    



الطبعة الأولى 1962

أشخاص المسرحية :
صلاح : الزوج .
راقية : الزوجة .
قدري : أخو الزوج .
سنية : أم الزوج .
سالم : أبو الزوج .
نبيلة : أخت الزوجة .
مجيد : زوج نبيلة .
مها
اعتدال
نظيمة أصدقاء الزوجين
منير
فاضل

فصول المسرحية
الفصل الأول : في إحدى غرف منزل الزوجين ( أوائل الخريف )
الفصل الثاني : في حديقة منزل الزوجين ( بعد بضعة أشهر )

الفصل الأول
يرتفع الستار عن غرفة ذات أثاث متواضع يشتمل على سرير ومنضدة كتابة وخزانة كتب وخزانة ملابس وأريكة وبضعة كراسي .
تتناثر بعض الملابس على السرير والأريكة والكراسي في فوضى . الكتب مبعثرة فوق منضدة الكتابة مع بعض أقداح الشاي . تظهر بعض الحقائب فوق خزانة الملابس وتحت السرير .
قدري مشغول بارتداء ملابس الخروج وهو يدندن بلحن . يتم ارتداء البنطلون ويرمي بجامته على الأريكة . يبحث عن قميصه في خزانة الملابس وعلى الكرسي وفوق الأريكة فلا يجده . يدنو من باب الغرفة ويهتف :
قدري : (صائحاً ) أمي .. أمي .. هل رأيت قميصي الأزرق ؟
سنية : (من الخارج ) ماذا تقول يا قدوري ؟
قدري : ( يستمر في البحث فيجد القميص تحت الأريكة ، فيهتف وهو
يرتديه ) لا شيء ... وجدته .
( يدخل صلاح )
صلاح : أأنت خارج يا قدري ؟
قدري : نعم يا صلاح . لديّ موعد مع بعض الأصدقاء .
صلاح : ( يجلس وراء المنضدة ويقلّب بعض الكتب ) موعد مع بعض الأصدقاء أم موعد حزّبي ؟ ( يرفع أنظاره ويثبتها في وجه قدري) حذار يا قدري من أن تكون مندفعاً لدرجة الطيش 0 التعقل في هذه الأمور ضروري .
قدري : أنا لا أقوم إلاّ بمهام بسيطة يا صلاح ، ولم أبلغ بعد المرتبة التي بلغتها أنت يوم كنت تلميذاً مثلي .
صلاح : (في ارتباك ) أنت تحمل عني صورة مبالغاً فيها يا قدري .
قدري : أنت لا تعرف قدرك إذن بين الأوساط الحرّة في بلدتنا . إنهم لا يزالون يذكرون نشاطك بالإكبار والإعجاب .
صلاح : ( يشرق وجهه لحظة ثم يعاوده الجمود ويخاطب قدري وهو منشغل بتقليب كتاب بين يديه ) وعلى أية حال فأنت مندفع أكثر مما يجب يا قدري . لم أكن أنا أهمل دروسي مثلاً .
قدري : ما رسبت في صفيّ من قبل يا أخي صلاح ، ولا أحسبني سأرسب هذا العام .
صلاح : ولكنك إذا انصرفت هذا الانصراف عن الدرس فربما لا تنجح .
قدري : لست أبالي كثيراً نجحت أم لم أنجح . المهم ان أخدم بلدي ، فنجاحي لن يكون أنفع للبلد من العمل الذي أقوم به الآن . ( بعد لحظة) ماذا سأكون حينما أكمل دراستي ؟ مدرساً آخر ؟! مهندساً ؟! طبيباً ؟! سيتخرج مئات المدرسين والمهندسين والأطباء غيري ممن يحرصون على الدرس حتى لو شهدوا بلدهم يحترق .
صلاح : انت مخطئ يا قدري . يجب ألا تستهين بالدرس إلى هذا الحدّ . ( بعد لحظة ) أنا لا أعتقد أن هذا الاندفاع وحده يخدم البلد . لو انصرفت إلى دروسك لأدّيت لبلدك خدمة أعظم خصوصاً وأن لك ظروفك الخاصة .
قدري : أية ظروف ؟!
صلاح : ( في تلكّؤ ) كونك لا تزال تلميذاً في الثانوية ، .. وتحت سيطرة والد من نوع والدنا .
قدري : ( ينتهي من ارتداء ملابسه فيجلس على مقعد قبالة صلاح) وأية علاقة لهذه الظروف بنشاطي الوطني؟
صلاح : مثل هذه الظروف تحتم عليك أن تجمّد نشاطك الوطني هذا في الوقت الحاضر ريثما تنهي مرحلة الدراسة الثانوية على الأقل .
أما اندفاعك هذا فلا يقودك في طريق مأمون ولا يؤدي بك إلى مستقبل مضمون .
قدري : ( يتأمل صلاح في دهشة واستنكار ثم يهزّ رأسه في حيرة بينما يتشاغل صلاح بتقليب كتاب بين يديه . ينهض قدري ويخطو في الغرفة وخيبة مرّة ترتسم على وجهه . ثم يغمغم في حيرة وكأنه يحدث نفسه ) أنت ! أنت من دون الناس جميعاً توجّه إلى مثل هذه النصائح ! وكأنك مدير مدرستنا حينما يخاطب فينا خطبة الخميس ! أنا لا أصدّق ذلك . أنت تتحدث عن ضمان مستقبلي وكأنه منفصل عن مستقبل الملايين من أبناء بلدي ! ما أهمية مستقبلي تجاه مستقبل البلد ؟ لماذا تهتم بمستقبلي متناسياً مستقبل الناس جميعاً ؟ ! أنت نفسك لم تهتم بمستقبلك حينما كنت تلميذاً مثلي0 فلِمَ تهتم الآن بتوجيهي هذه الوجهة الأنانية ؟! وما معنى تغيرك هذا ؟! ما معناه ؟!
صلاح : ( ينهض ببطء وهو مطرق ويدنو من قدري الذي يقف وسط الغرفة ويضع يده على كتفه ويهزه برفق ) لم يتغيّر أخوك صلاح يا قدري ، وهو ما يزال يحمل روح ذلك المناضل الذي حارب السلطة الغاشمة بكل صلابة وتفان . ( ينبسط وجه قدري وينظر إلى صلاح باسماً . يتحرك صلاح في الغرفة وهو يحاول الكلام ثم يصمت ويترامى على الأريكة . يستأنف الكلام بلهجة جامدة متجنباً النظر إلى قدري ) ومع ذلك فهناك ظروف خاصة تضطرني إلى دعوتك إلى التخفيف من نشاطك هذا والعودة إلى الناصرية والعيش مع الوالد بسلام 00
قدري : ( مقاطعاً ) هذا مستحيل فلا يمكنني العيش مع الوالد .
صلاح : وإذا رجوتك رجاءً خاصاً ان تستمع إلى نصيحتي وتعود إلى الناصرية وتتصالح مع الوالد وتسوّي الأمور معه ؟!
قدري : ( بعد صمت ) أنت تضطرني إذن إلى مصارحتك بالحقيقة التي كنت أود كتمانها عنك .. الوالد طردني من البيت وهدّدني بالقتل . ( بعد لحظة ) والآن هل اقتنعت بأنني لا يمكنني العيش معه ؟!
صلاح : (يلوح على وجهه اشمئزاز حاد ويقول بلا وعي وكأنه يحدث نفسه) إذن كرّرها ثانية !
قدري : كن واثقاً يا صلاح أنني ما كنت لأقدم إلى بغداد لولا أن بقائي مع الوالد صار مستحيلاً .
صلاح : ( وهو شارد ) بالطبع ، بالطبع . بإمكاني أن افهم ذلك .
قدري : ( وهو ينهض ) اسمح لي يا صلاح فإني تأخرت عن موعدي ، في أمان الله ، ( يخرج ) .
صلاح : ( يهزّ رأسه في شرود وعيناه تائهتان . يطفأ النور في المسرح لدقائق من دون أن تسدل الستارة . وحين يُنار ثانية تكون الملابس المتناثرة على الأريكة والسرير والمقاعد قد رفُعت ويكون صلاح جالساً وراء المنضدة وهو منكبً على كتبه0 يبدو أصغر من سنّه الحالي ببضع سنوات . يفتح باب الغرفة بعنف ويندفع سالم بقامته الضخمة وشاربه الكثّ وهيئته الفظّة متجهاً نحو خزانة الكتب في غضب واضطراب ) .
سالم : ( مخاطباً صلاح في هياج ) أين هي ؟ هاتها بسرعة .. لا تضيع الوقت فسيأتون في الحال .
صلاح : ماذا تريد ؟
سالم : ( ناثراً الكتب والدفاتر حواليه ) المنشورات غضب الله على رأسك .
صلاح :( في شيء من الارتباك ) أية منشورات ؟!
سالم : لا تحاول أن تخدعني . سأكسر رقبتك لو فعلت . أنا أدري أنك تخبئها في مكان ما ، ( بصوت هادر ) المنشورات .. قلت لك هاتها قبل ان يحضروا للتفتيش .
(تدخل سنية مرتدية ملابس شعبية وهي تبدو أصغر سنّا)
سنية : (في فزع ) اللهم صلَّ على محمد وأل محمد . خير أبو صلاح 00خير !
سالم : ليس في هذا البيت سوى الشرّ والمصائب ، غضب الله على رأسك وعلى رأس أولادك .. ملعونة الساعة التي رأيت فيها وجهك .. ابنك يخبئ في بيتي منشورات ضد الحكومة .
سنية : أبوس رأسك أبو صلاح لا تفوّر دمك . ( إلى صلاح ) أعطه المنشورات يا صلّوحي .. أبو رأسك .
صلاح : ( متلجلجا) أنا لا أملك أية منشورات .
سالم : ( مستمراً في بحثه في الخزانة ) عميت عيونك وعيون أمك .. أنا أدري انك تخبئها في مكان ما .
سنية : ( في توسل ) أبوس رأسك أبو صلاح .. لا تفوّر دمك .
سالم : أخرسي يا ملعونة الوالدين . لعنت الساعة التي رأيت فيها وجهك .
ابنك يريد أن يخرب بيتي . أنا أعرف ذلك ( ملتفتاً إلى صلاح ) أنتم المخربون جميعاً كذلك . ( يثب نحو صلاح ويمسك بخناقه ) قلت لك هات المنشورات وإلا كسرت رقبتك .. أين خبأتها ؟ قل لي أين خبأتها؟
صلاح : (محاولاً تخليص نفسه ) أية منشورات ؟! أنا لا أعرف عنها شيئاً .
سنية : (تهرع نحو سالم وتتشبث به متوسلة فيدفعها عنه بعنف ) أبوس رأسك أبو صلاح .. أبوس رأسك أبو المروءة . ليس عنده منشورات فهو لا يكذب عليك .
سالم : ( يتهالك على أحد الكراسي متعباً وهو يلهث ) غضب الله على رأسك . أنت سمّمت حياتي سمّم الله حياتك .
سنية : أبو رأسك أبو صلاح00 لا تفوّر دمك .
سالم : يا حمارة ، كيف لا يفور دمي إن لم أجد المنشورات وأتلفها ؟ سيحضرون للبحث عنها في أية لحظة . ماذا يحدث لي لو كبسوا الدار وعثروا عليها ؟ ستقع المصيبة على رأسي لا على رأس ابنك فهو لا يهمه شئ .
سنية : ولكنه لا يملك المنشورات يا أبو صلاح .
سالم : ( في هياج ) يا حمارة ، إنه يكذب ، ألاّ تفهمين ذلك ؟! قبل ساعات فتشنا عدة دور من دور المشبوهين أمثاله وضبطنا آلاف المنشورات . وقبضنا على المخربين الذين يقومون بتوزيعها وبعضهم من أصدقاء ابنك. ( وهو يغطي وجهه بكفيه ) ماذا سأفعل له ؟ أنا أدري انه يخبئها في مكان ما. أنا أعرف أن هذا الملعون ابن الملعونة سينزل المصائب على رأسي. ما العمل ؟! ( يثبت عينيه على وجه صلاح الذي يبدو مسمّراً في مقعده وراء المنضدة كالتمثال ، ثم يخاطبه بلهجة متوسلة ) ماذا تريد مني ؟! أتريد أن أركع أمامك على ركبتي متوسلاً إليك ؟! أعطني المنشورات لأتلفها قبل أن يحضروا . لماذا تخرب بيتي ؟! أنا أدري أنهم سيحضرون. صدر أمر بتحرّي دور جمع المشبوهين . أفتحسب أنهم لا يعلمون عنك شيئاً ؟ ! إنهم تغاضوا عنك حتى اليوم من أجلي . لكنهم لن يفعلوا ذلك الآن . صدرت أوامر مشددة بمطاردة جميع من في حوزتهم المنشورات والقبض عليهم . وإذا عثروا على المنشورات في بيتي كان في ذلك نهايتي . قد أطرد خارج سلك الشرطة . قد تُنتزع مني نجمتي التي ذقت المر في سبيل الحصول عليها . فماذا سأفعل حينئذ ؟ قل لي ماذا سأفعل ؟!
سنية : أعطيه المنشورات يا ابني .. أبوس رأسك .
صلاح : (يظل متمسكا بصمته وهو مطرق وقد بانت على وجهه علائم الضعف).
سالم : ( يستمر بلهجته المتوسلة) هل أنت عدوّ لي ؟! إنني كوّنت نفسي بتعب السنين ، وتدرجت في المراتب حتى حصلت على هذه النجمة . هل تريد ان تنزعها منّي ؟! ماذا فعلت لك لتعيدني شرطياً بسيطاً وتجرعني المرّ من جديد ؟! ( يصرخ بصوت مختنق ) أعطني المنشورات ، قلت لك ، أعطني المنشورات ( إلى سنية ) قولي لابنك يعطيني المنشورات . سيخرب بيتي ، سيهدم كل ما بنيته بتعب السنين ( ينهال على رأسه ضرباً بأم جمعه وهو يردد صارخاً ) سيخرب بيتي . سيهدم كل ما بنيته بتعب السنين .
سنيه : ( تهرع إلى صلاح وتقبّل رأسه ) أبوس رأسك يا ابني .. إنه أبوك .. أيهون عليك أن تؤذيه هكذا ؟! أبوس رأسك يا صلّوحي .
صلاح : ( ينهض متباطأ نحو مخبأ في الغرفة ، ويستخرج منه لفافة كبيرة يناولها إلى سالم في صمت ) .
سالم : ( يقفز في تهيّج ويفتح اللفافة ، ثم يرفع رأسه ويصرخ في هياج ) هذه هي المنشورات اللعينة إذن ... ( يتجه نحو صلاح متنمراً ) أيها المجرم. كنت تنوي إخفاءها إذن حتى يتحرّوا بيتي فيعثروا عليها . أيها الزنيم ابن الزنيم ، أنت تريد خراب بيتي . وأنت .. من أنت ؟! ما أنت إلاّ حشرة سامّة . أنتم جميعاً حشرات سامّة لابد من سحقكم وإبادتكم ... تسبّون الحكومة . ! تحضوّن الناس على التمرد ضد الحكومة التي تطعمكم وتكسيكم . أنتم تريدون كسر رقاب الناس 00 ولكنني سأكسر رقبتك قبل ان تكسر رقبتي . أقسم بشرفي أنني سأكسر رقبتك قبل ان تكسر رقبتي . أقسم بشرفي أنني سأكسر رقبتك . ( يثب نحو صلاح كالنمر الهائج ويحاول الإمساك به فيحتمي صلاح بأثاث الغرفة قافزاً من مكان إلى آخر) سأقتلك قبل أن تجرّ الويلات عليّ . اقسم بشرفي أنني سأقتلك ، سأمحو أثرك من على وجه الأرض . سأطهّر الأرض من شرورك.
سنية : ( في رعب ) أبو رأسك أبو صلاح .. أبوس رأسك أبو المروءة .
صلاح : ماذا تريد مني ؟! ألم أعطك المنشورات ؟!
سالم : ( محاولاً الإمساك به ) أريد أن أمحو أثرك من على وجه الأرض ، أريد أن أطهّر الأرض من شرورك ( ينجح في الإمساك بصلاح فيطبق على عنقه . يرتفع صراخ سنية بينما يركل صلاح بقدميه ويقاوم بذراعيه وقد بدت عليه علائم الاختناق ) .
صلاح : (في صوت مخنوق ) آخ .. آخ .. أتركني .. سيخنقني .. سيخنقني يا أمّي .
سالم : (في هياج ) أقسم بشرفي أنني سأقتلك .. سأتخلص منك .. سأمحو أثرك من وجه الأرض .
سنية : (تتشبث بتلابيب سالم محاولة تخليص صلاح وهي تصرخ مولولة ، فلما تعجز تندفع نحو باب الغرفة صارخة ) تعالوا يا أهل الرحم . تعالوا يا أهل المروءة .. سيخنق أبني .. سيقتل ابني ..( تخرج مهرولة).
سالم : ( يترك صلاح وينطلق وراءها مهرولاً ) عودي أيتها الملعونة وإلاّ قتلتك.
(يسقط صلاح على الكرسي متهالكاً ، وبعد دقائق ينهض متعثر الخطا وهو يتنفس بصعوبة وينطرح على الأريكة . يطفأ النور في المسرح دقائق من دون أن تُسدل الستارة ثم يُضاء ببطء فتعود الغرفة إلى وضعها السابق فتتناثر الملابس على الكراسي والسرير والأريكة ، ويكون صلاح جالساً على الأريكة وقد بدا عليه الشرود 0 تدخل راقية ).
راقية : هل اتفقت مع قدري على موعد عودته إلى الناصرية يا صلاح ؟
صلاح : (مستفيقاً من شروده ) لا يا راقية ، سيبقى هنا بعض الوقت . هناك ظروف لم أكن أعرفها .
راقية : ( في امتعاض ) وكيف ؟ ! علام اتفقنا إذن ؟!
صلاح : كنت احسب أن القضية مجرد خصام مع الوالد . لكن الأمر أعقد من ذلك .
راقية : ( ترفع الملابس عن الأريكة باشمئزاز وتلقيها على السرير ثم تجلس) ولو فرضنا ذلك ، فماذا ذنبي ؟! أأنا مسؤولة عن حلّ مشاكل إفراد أسرتك؟
صلاح : القضية أعقد مما تظنين يا راقية00 ( بعد لحظة ) إنه حضر إلى بغداد مرغماً لا مختاراً .
راقية : ( في امتعاض ) وهل يعني ذلك أنه سيقيم في بيتنا إذن ؟!
صلاح : لا بالطبع إن لم يكن يرضيك ذلك ، ولكن ..
راقية : (مقاطعة ) يرضيني ؟! وكيف تتوقع أن يرضيني ؟!
صلاح : (مفكراً ) إذا أردت فلن يقيم إلاّ مؤقتاً ... وسأدرس القضية وأجد لها الحلّ .
راقية : ( في تهكم ) لا ، لا . ما الداعي لأن يقيم في بيتنا مؤقتاً ؟ فليقم معنا إلى الأبد ، فبيتي تحوّل إلى فندق على أية حال .
صلاح : أنت تبالغين في تصوير الوضع يا راقية .
راقية : أبالغ ؟ ! ألا ترى أن الضجيج يملأ البيت ؟! ألا ترى ان زوّار أخيك يشغلون غرفة الاستقبال باستمرار ؟ ألا ترى أن البيت لم يعد يعرف معنى للهدوء منذ حضر قدري ؟! هذا الحال تؤثر في صحتي وصحة باسم (تضع يدها على جبينها بتعب ) أشعر بإرهاق شديد . لعل من المناسب لي أن أقضي بعض الأسابيع في بيت أهلي لأستريح . أنت لم تعد تبالي براحتي .
صلاح : أؤكد لك يا راقية أنني حاولت إقناعه بالعودة إلى الناصرية ولكن تبين لي أن الولد طرده من البيت . فهل أطرده أنا أيضا ؟ لمن يلتجيء إن لم يلتجيء إلى بيت أخيه ؟!
راقية : ولماذا طرده ؟
صلاح : ( متردداً ) طرده بسبب نشاطه الوطني.
راقية : الحلّ بسيط إذن ، عليه أن يترك السياسة فيعيش مع والده بسلام .
صلاح : لا أظنه يفعل ذلك .
راقيه : لماذا ؟! ألم تكن أنت أيضا مصاباً بهذا الهوس حين عرفتك ؟ وها أنت تخلصت منه فلماذا لا يستطيع هو أن يترك السياسة ؟ أنت أخوه الكبير وهو يحترمك ، فلا بد ان يصغي إلى نصيحتك .
صلاح : لكن موقفه حرج ودقيق يا راقية .
راقية : ( في حدة ) وماذا عن موقفي ؟! المفروض أن يكون بيتي مكاناً مريحاً ، فما حاله فعلاً ؟! إنه فندق يضجّ بالحركة والازدحام .
(تدخل سنية وهي ترتدي ملابس شعبية . ترمقها راقية بغيظ )
أنظر إلى أمّك . إنها تبدو وكأنها قادمة اليوم من إحدى قرى الجنوب0 وكثيراً ما نصحتها أن تترك هذه الملابس السخيفة وتلبس كما يلبس الناس بدون جدوى . إنها تبدو مضحكة أمام ضيوفي .
سنية : (باسمة) اللَّهم صلّ على محمد وآل محمد .. خير يا أم باسم .
راقية : (بحدّة ) لا تسمّيني أم باسم .. اسمي راقية . قلت لك ذلك مئات المرات . إنني لم أصبح جدّة بعد . ( إلى صلاح ) ألم أقل لك بأن جوّ البيت بات يتعب أعصابي ؟
سنية : سامحيني يا راقية . أنا لا أقصد إزعاجك . إنها عاداتي التي تربيت عليها .
صلاح : أرجوك يا أُمي أن تتركي العادات التي تنبهك إليها راقية .
سنية : أبوس رأسك يا ابني . المثل يقول بعد أن شاب أخذوه على الكتّاب.
راقية : آخ يا ربي ! سئمت العيش في هذا البيت ( بعد لحظة صمت) اسمع يا صلاح ، لابد ان تقنع أخاك بالعودة إلى البلدة فلا يمكنني احتمال هذا الجوّ .
سنية : ( في دهشة مزيجة بالألم ) سامحيني يا راقية . بماذا يضايقك وجود قدّوري ؟
راقية : في كل شئ . إنني لا أدير فندقاً . إنه بيتي . المكان الذي أستريح فيه . ولقدري عادات همجية لا أستطيع احتمالها . فكلما احتاج إلى شيء أحدث صوته الجهوري دوياً في البيت . المنغصات تحيط بي حيثما التفت . وباختصار لست أجد راحة في مثل هذا الجوّ .
سنية : ( في حيرة أليمة ) سامحيني يا راقية ، هل نحن مقصّرون في خدمتك؟
راقية : نعم ، مقصرّون في كل شيء ، أهذا مسكن لائق ؟! ( تنظر حواليها بازدراء ) الفوضى تعمّ كل مكان فيه وكأنكم لم تسمعوا بشيء اسمه الترتيب .إنني لأموت خجلاً من هذه الفوضى حينما تزورني صديقاتي.
صلاح : ( بلطف ) البيت لا يبدو مرتباً بالفعل يا أمي .
سنية : ( تنهض وتجمع الملابس الملقاة على المقاعد وتحاول ترتيبها في مواضعها ) سامحني يا ابني ، أنا لا أترك مكاناً في البيت من دون أرتبه كل يوم . وقتي مقسّم بين التنظيف والطبخ .
راقية : (بتهكم ) الطبخ ! من يسمعك تتحدثين هكذا يتصور أنك تطبخين لنا أنواع الطبخات وليس مرق الخضار والرز لا غير . إنني سئمت هذه الأصناف السخيفة التي تكررين طبخها كل يوم .
سنيه : أبوس رأسك يا راقية ، لا تقولي هذا . أبو صلاح الله يسامحه لم يكن يرضى عن شيء أعمله إلاّ عن طبخي .
راقية : وإذا رضي أبو صلاح عن طبخك ، فهل يتوجب عليَّ أن أرضى عنه أنا أيضا ؟
سنيه :قل لها يا صلّوحي ..
راقية :( مقاطعة في غضب ) أرجوك لا تسمّيه صلوحي00 ذلك ينرفزني .
سنيه :سامحيني يا راقية .. ( إلى صلاح ) قل لها يا صلاح يا ابني كم كان والدك راضياً عن طبخي .
صلاح :(ضاحكاً ) كان يلتهم ما تطبخه كالوحش الجائع . ولكن إذا لم يعجبه صنف قلب الصينية على الأرض .
راقية : سأقلب في المرة القادمة الأطباق إذن لأعلن لك عن احتجاجي
( يدخل قدري )
قدري :السلام عليكم . ( ينقل أنظاره في الوجوه المدلهمة ، ثم يقول في دعابة) هل لديكم اجتماع ؟!
سنية :أنت رجعت سريعاً يا قدوري .
قدري :نسيت أن أأخذ معي بعض الكتب يا أمي ( يتجه إلى خزانة الكتب ويبحث فيها مستخرجاً بعض الكتب ) .
راقية :(فجأة ) يجب أن تخبره الآن يا صلاح .
قدري :(ملتفتاً إلى راقية نصف التفاتة وهو ما يزال يقلّب الكتب ) يخبر من ؟ هل الكلام عني ؟!
سنية :(في اضطراب ) لا يا قدّوري ، ليس عنك . إذا خرجت فلا تتأخر كثيراً.
راقية : نعم عنك. سيخبرك صلاح بوجوب العودة إلى الناصرية والتصالح مع أبيك.
قدري :لكنني أفهمت صلاح أن الصلح مع الوالد أمر مستحيل .
راقية :ولماذا مستحيل ؟! ألأنك تصرّ على الاشتغال بالسياسة ؟! لماذا لا تترك السياسة وأنت لا تزال تلميذاً في الثانوية ؟! أفليس في قدرتك ذلك ؟
قدري : ( ينظر إلى راقية في استنكار ) لا ، ليس في قدرتي ذلك ، فالمسألة ليست مسألة سياسة ، ولا أظنك تقدّرين الأمر يا زوجة أخي حق قدره .
راقية : طبعاً لا أستطيع أن أقدّر حقّ قدره ، إنه فوق إدراكي ولا يمكن تقديره إلاّ لأساطين السياسة أمثالك . كيف يمكن أن تستقيم أمور هذا البلد إذا تركت السياسة ؟! ( تطلق ضحكة ساخرة ) أنا أعرف هذا المرض السخيف الذي يصيب التلاميذ في دور المراهقة .
قدري : أنا لا أتوقع منك يا زوجة أخي أن تقدّري التلاميذ حق قدرهم . لكنني في الوقت نفسه لا أجد مبرراً لأن توجّهي إليهم الإهانات . ويكفيهم فخراً أنهم يضحون بأرواحهم من اجل الوطن .
راقية : لكنك تجد مبرّراً لفرض نفسك ضيفاً على بيوت الآخرين .
قدري :(بصوت مرتعش وقد شحب وجهه) عفواً يا ست راقية . أنا لم أفرض نفسي ضيفاً على أحد 00 أنا في بيت أخي .
راقية : ( في حدة ) يجب أن تفهم أنني لا أفتح فندقاً للرائحين والغادين من أفراد أسرة أخيك . إنه بيتي .. المكان الذي أستريح فيه . وأنا لست مستعدة أن افتح أبواب بيتي لكل من يرغب لا لسبب إلاّ لأنه قريب زوجي.
سنية : ( في تأثر عميق ) تعال نذهب إلى بيت خالك محمود يا قدّوري فهي لا تريدنا في بيتها .
قدري : هذا لا يدهشني منك يا ست راقية على أية حال . لكنني أريد أن أسال صلاح عن رأيه في المسألة .
صلاح : ( في ارتباك ) لا داعي للجدل يا قدري فالأمر لا يستحق ذلك . يمكنك أن تذهب الآن إلى بيت خالك محمود وسنتدبر الأمر فيما بعد . ولعلك تتصالح مع الوالد .
قدري : ( مقاطعاً في احتقار ) إذن فهذه الفكرة ليست من عندك . إنها من أفكار زوجتك .. ( وهو يهز رأسه ) هذا يفسر كل شيء .
صلاح : ( في ارتباك ) يفسّر ماذا ؟
قدري : يفسرّ كيف أصبحت متخاذلاً وكيف ابتعدت عن النضال الوطني نهائيا.
صلاح : اضبط لسانك وفكّر بما تقول يا قدري .
قدري : أنا أفكر جيداً بما أقول . أنت أصبحت متخاذلا فعلاً منذ تزوجت هذه الزوجة الأرستقراطية . تخليت عن نضالك وصمودك الذي كان مضرب المثل في الناصرية . لكنني لم أتزوج امرأة أرستقراطية بعد لأجمد نضالي وأتخلى عن صمودي .
سنية : أبوس رأسك قدّوري .. لا تتكلم مع أخيك هكذا .
راقية : ليس من حقّك أن توجّه إليّ وإلى أخيك الإهانات وأنت في بيتي .
صلاح : أضبط لسانك واعرف كيف تتكلم يا قدري .
قدري : في بيتها ! كما لو كان جنّة عدن ! اطمئني فلست أنوي البقاء في هذا البيت ذي الهواء الفاسد !
راقية : ( في حدة ) من فضلك . أخرج الآن من بيتي ما دمت لا تريد أن تتنفس هواءه الفاسد .
قدري : ( يتجه بعنف إلى حقيبته ويشرع بوضع ملابسه وكتبه فيها) اطمئني 00سأترك جنتك الآن . أنا لا أنوي البقاء فيها ساعة أخرى فقد يصيبني هواؤها الفاسد بالاختناق .
سنية :(تتجه بدورها إلى حقيبتها وتشرع بوضع حاجياتها فيها وهي تتحدث بصوت متهدج ) تعال معي يا قّدوري إلى بيت خالك محمود . إنها لا تحبنا . كل ما أعمله لا يرضيها مع أنني أدعو الله صباحاً ومساء أن ترضى عني . لا أدري ماذا أعمل لها لترضى عني . هي لا تحبنا ، الله يسامحها.
قدري : (في سخرية شديدة ) وكيف تحبّنا يا أُمي ؟ قد نشاركها في تركة أبيها يوماً .
راقية : أرجوك .. لا داعي للإهانات !
صلاح : ( في عصبية ) إذا كنتما عازمين على ترك البيت فاتركاه بسلام ولا داعي لإثارة خصام .
سنية : أبوس رأسك يا ابني صلوحي ، لا تغضب مني . امرأتك لا تحبني . وأنا لا أحب أن أثقل على أحد . وإذا أثقلت على خالك محمود فسأعود إلى أبيك وأصبر على عذابه وعذاب امرأته الجديدة . أنا لا أريد أن أثقل على أحد .
قدري :اطمئني يا أُمي . سأعثر على عمل وأستأجر غرفة لنا ولا داعي لرجوعك إلى الوالد .
سنية : (بصوت متهدج ) سامحني يا ابني صلاح 00 سامحني 0 كثيراً ما ألحَ عليّ خالك محمود في العيش في بيته وسأذهب إلى هناك . امرأتك لا تحبّني . وهي تغضب مني لأقل سبب .
راقية : ( لصلاح في غضب ) هل يرضيك هذا الكلام ؟
صلاج : (بعصبية ) لماذا تريدان إثارة المشاكل ؟! إذا عزمتما على الذهاب فاذهبا بسلام . لا داعي لهذا الأخذ والردّ .
قدري : لا تتكلمي يا أمّي لئلا يجرح كلامك عواطف زوجته الرقيقة .
سنية : سامحني يا ابني . سنذهب الآن . لم يبق من حاجاتي شيء . وضعتها كلها في الحقيبة .
قدري : (وهو يغلق حقيبته ) فلنذهب يا أُمي . هات حقيبتك . فلنتنفس هواءّ نقياً ، ( يحمل الحقيبتين ويتقدم أمّه خارجاً ) .
سنية : ( وهي تحاول عبثاً كبح دموعها ) مع السلامة يا ابني .. حافظ على نفسك وعلى الطفل . مع السلامة يا أم باسم . حافظي على الطفل ولا تتركيه للخادمة ( تخرج ) .
(صمت ثقيل )
راقية : ( وهي تتنفس الصعداء ) أظنني سأتمتع ببعض الهدوء اخيراً .
صلاح : (في سخرية مبطنة ) نعم فقد رحلا وخلا البيت .
راقية : ( في ارتياح ) نعم رحلا أخيرا .
صلاح : (بعد لحظة في تأثّر ) أعتقد أنه كان يمكن أن يرحلا بطريقة أفضل حتى لو لم تكوني راغبة في بقائهما !
راقية : ( في استنكار ) ماذا تعني ؟!
صلاح : أعني أنه لم يكن هناك داع إلى كل هذه الخشونة في توضيح موقفك من قدري .
راقية : وماذا كنت تريدني أن أفعل ؟! هل كان الأمر يقتضيني أن أرتمي على قدمي أخيك وأطلب منه متوسلة أن يعود إلى بيت أبيه ؟! إنه لا يريد أن يفهم الموقف .
صلاح : (بلهجته المتأثرة ) قد يكون بقاء قدري في البيت صعباً عليك فعلاً ولكن طريقتك في طرده كانت في منتهى الخشونة .. لو صبرت بضعة أيام لحللت القضية بطريقة معقولة.
راقية : ( في استنكار ) ما معنى أقوالك هذه ؟! أتريد أن تضيف إلى إهاناتهم لي إهانات أخرى ؟!
صلاح : ( في تأثر ) أنت تعلمين أنني لا يمكن أن أفكر في ذلك . ولكنك بالتأكيد لم تعط أيّ اعتبار لي . أنت أحرجت موقفي ( وهو يهز رأسه في مرارة ) أحرجت موقفي جداً .
(صمت ثقيل )
راقية : ( تنهض وتجلس إلى جواره ) هل زعل مني أميري ؟
صلاح : ( وهو يهزّ رأسه خافض الطرف) أنت أحرجت موقفي جداً .
راقية : (بلهجة رقيقة وهي تمرّر يدها على شعره ) وهل يمكن أن يزعل مني أميري ؟! هل يمكن أن يزعل مني أمير الجمال؟
( يظل صلاح مطرقاً وهو متهجم الوجه )
راقية : أنا آسفة يا صلاح ولكنك تعلم أنني ما عدت أحتمل تصرفات أخيك وأنني صرت أشعر بإرهاق شديد .. وذلك يؤثر على صحتي .. ( برقة ) ألا تلاحظ ذلك ؟!
صلاح : ( دون أن يرفع رأسه ) أنا معك في أن تصرفات قدري غير مقبولة بالنسبة لك ، ولكن ليست هذه هي الطريقة التي تُحل بها القضية .
راقية : (بلهجة مزيجة من الزعل والدلالال ) فهل تفضل إذن أن أظل أُعاني من كل هذه المضايقات ؟! أترضى أن أعيش على أعصابي ؟ ( بعد لحظة) ربما كان من الأنسب لي إذن لو ذهبت إلى بيت أهلي لاستعادة صحتي.
صلاح : ( في شيء من الاضطراب ) أنت تعلمين أنني مستعد دائما أن أعمل أي شيء يوفّر لك الراحة وأنني أبذل كل ما في وسعي من أجل ذلك .
راقية : أنا أعلم ذلك .. وأرجوك ألاّ تعكّر وجهك الجميل بالزعل يا حبيبي .
صلاح : (وهو يبتسم ابتسامة ضئيلة ) أنت تعلمين أنني غير قادر على الزعل منك يا راقية .
راقية : ( ترفع رأسه بين يديها وتغرق عينيها في عينيه ) دعني أنظر إلى عينيك الجميلتين .. دعني أمتع عينيّ بوجهك الجميل .. ( بعد لحظة ) عدني بأنك ستظل تحبني إلى الأبد يا أمير الجمال مهما تكن الظروف ومهما يبدر مني من تصرف .. سيظلّ حبّنا أقوى من كل شيء .
صلاح : أنت تعلمين أنني لا أستطيع أن أتوقف عن حبك يوماً يا راقية .. أنت تعلمين ذلك جيداً .
راقية : (بمرح ) هذا هو حبيبي الوحيد .. الرجل الذي سحرني بجماله حالما وقعت عليه عيناي.. الرجل الذي أحببته من بين كل طلاّب كلية التجارة وقاومت كل الضغوط من أجله .
صلاح :أنت تعلمين أن ذلك لم يغب عن بالي يوماً .. وأنني لم أسامح نفسي أبداً على أنني انتزعتك من جوّ الرفاهية من دون أن أكون قادراً على تعويضك عن تلك التضحية .
راقية : حبّنا هو أثمن من كل شئ يا صلاح .
صلاح : لكنني لن أكفّ عن لوم نفسي ما لم أعوضك عن تلك التضحية يا راقية وأهيئ لك جوّ الرفاهية الذي كنت تتمتعين به في بيت أهلك .
راقية : وأنا واثقة أنك ستفعل ذلك يوماً يا صلاح . أنا واثقة من ذلك .
صلاح : سأستقيل من وظيفتي في أول فرصة مناسبة وأدخل معترك العمل الحرّ وأحقّق كل ما في رأسي من آمال يا راقية.
راقية : وستنجح بالتأكيد يا صلاح .
صلاح : سأعيد إليك حياتك المرفهة يا راقية . هذا عهد عليّ .
راقية : أنا متأكدة أنك ستفعل يا صلاح0 وسأثبت لأهلي ولجميع أصدقائنا أنك قادر على ذلك .
( تطوقه بذراعيها وتنطلق أنظارهما الحالمة في الفضاء وقد ارتسمت النشوة على وجهيهما) .
- ستار -

الفصل الثاني
(حديقة منزل الزوجين التي أعدّت لاحتفال خاص فامتدت أشرطة الأوراق الملونة بين الأشجار ، وتدلت البالونات الملونة من الأغصان ، وعُلّقت المصابيح الملونة الصغيرة بين أوراق الأشجار .
في ركن من أركان الحديقة مائدة الطعام . وفي الجهة الأمامية المجاورة للمسرح تتناثر مقاعد الجلوس والطاولات الصغيرة وعلى إحداها " كرامافون " .
في الجهة اليمنى القريبة من المسرح تظهر شرفة صغيرة والمدخل المؤدي إلى داخل الدار. وفي الجهة اليسرى القصوى يظهر ممر يؤدي إلى باب الحديقة .
راقية ونبيلة مشغولتان بتنظيم المائدة ، وبين حين وآخر تقدم الخادمة من الداخل حاملة الصحون )
نبيلة : كم عدد الضيوف يا راقية ؟
راقية : ( وهي تعدّ على أصابعها ) مها ، واعتدال وزوجها ،

ونظيمة وزوجها

ومجيد طبعاً ، ماما وبابا اعتذار عن المجيء .
نبيلة : لماذا ؟ !
راقية : يظهر أن لديهما موعداً سابقاً . لكنني سأرسل إليهما نصيبهما من
الكيك ما داما قد أرسلا هدية باسم .
نبيلة : (ضاحكة ) لا تنسي أن تقولي لماما إذن أن الكيك من صنعي .
راقية : وهل يخفى ذلك على ماما؟ ومن يصنعه غيرك ؟! أُمّ صلاح ؟! ( تراقب نبيلة وهي منكبة على العمل ، ثم تقول بعد لحظة ) صحيح يا نبل أنني أتعبتك اليوم كثيراً . ومن سوء الحظ أن يصادف مرض أم صلاح في هذه الأيام وإلاّ لعاونتك أكثر مني .
نبيلة : وكيف حالها اليوم ؟
راقية : ( في غير اكتراث ) هي متعبة فالحكم الذي صدر على قدري أثّر على صحتها كثيراً .
نبيلة : هي في حاجة إلى الراحة إذن .
راقية : إنها لا تعمل شيئاً متعباً هذه الأيام فالخادمة تساعدها في كل شيء (بعد لحظة ) وحتى لو طلبنا منها أن تستريح في فراشها فلن تفعل ذلك. هي متعودة على العمل منذ كانت طفلة . تصوري هذا يا نبيلة .
نبيلة : (ضاحكة ) في ذلك السنّ كناّ أنا وأنت نقضي الوقت في العناية بلعبنا..
راقية : (بعد صمت ) هل سيتأخر مجيد في الحضور ؟
نبيلة : لا أظن . ربما حضر بعد ساعة . وعلى كل حال فموعد حضوره يتوقف على الوقت على الوقت الذي سيستغرقه اجتماع الجمعية .
راقية : هل ذهب إلى الجمعية اليوم أيضاً؟
نبيلة : (في عجب ) طبعاً ، وكيف لا يذهب وهو رئيس الجمعية ؟ واليوم ميعاد الاجتماع الأسبوعي للجمعية .
راقية : وماذا يحدث لو تأجّل اليوم اجتماع الجمعية الفيزيائية ؟ نحن لا نقيم حفلة ميلاد لباسم كل شهر .
نبيلة : ولكنك تعلمين أن المناسبات المشابهة لمناسبة اليوم كثيرة ، ولو اضطر إلى تأجيل أعماله بسببها لما استطاع أن ينجز أي عمل 00 مشاغله كثيرة جداً كما تعلمين يا راقية .
راقية : ولو فرضنا أن مشاغلة كثيرة فهل يبّرر ذلك الحرمان من حفلات المعارف والأصدقاء ؟
نبيلة : لا يزعجني تخلّفه على أية حال يا راقية فأنا شخصياً لا أرتضي أن يترك أعماله ليصاحبني إلى مثل تلك الحفلات ( بعد لحظة ) بالمناسبة متى يحضر صلاح؟
راقية : المفروض أن يكون حاضراً الآن ولست أدري لماذا تأخر ( في تردد ) الحقيقة أنه لم يكن راضياً عن إقامة الحفلة بسبب مرض أُمه ، وقد خرج بعد الظهر وهو شبه زعلان .. ( وهي تضحك ) ولكنه سرعان ما ينسى زعله .. هذه ميزة صلاح .
نبيلة : ما دامت أمّه مريضة يا راقية فالمفروض تأجيل هذه الحفلة.
راقية : ( في لامبالاة ) مشاكل أهله لا تنتهي .. والآن دعينا نرى ماذا ينقص المائدة . ( تبدأ بعدّ صحون المائدة ) كل شيء على ما يرام .
( تدخل مها وهي ترتدي ملابس أنيقة وتحمل بين يديها علبة كارتون كبيرة)
مها : مساء الخير راقية .. مساء الخير نبيلة .
راقية : (بحرارة ) هالو مها .
نبيلة : أهلاً مها .
مها : (تناول العلبة إلى راقية ) هذه هدية باسم .
راقية : ( تنزع الأوراق عن العلبة ثم تفتحها فتظهر حقيبة يدوية ذات لون بنفسجي ) ولكنها حقيبة ! ( تتأمل مها بنظرات امتنان ) هي لي وليست لباسم !
مها : (باسمة ) سيحصل باسم على هدايا كثيرة .
راقية : (تقبل مها ) شكراً لك يا مها . ( تتأمل الحقيبة بفرح وإعجاب) إنها من لون فستاني البنفسجي .
مها : اخترت هذه الحقيبة خصيصاً لتناسب فستانك البنفسجي . ( تدنو من نبيلة ) هل تحتاجان إلى مساعدة يا نبيلة ؟
نبيلة : انتهينا تقريباً من إعداد المائدة .
راقية : فلنجلس إذن . ( تقود مها من يدها وتجلسها بجوارها ) .
نبيلة : كيف حال الجامعة يا مها ؟
مها : كالعادة . ليس فيها شيء جديد .
نبيلة : كم أتمنى أن أكون مكانك .. كم أحن إلى أيام تلمذتي في الجامعة !
مها : لا أدري ما الذي يجتذبك في الجامعة !
نبيلة : كيف ؟! إن أكثر الأيام مرحاً هي أيام الجامعة .
مها : ولماذا ؟ الأساتذة يبعثون الملل في النفس والطلاّب يثيرون الاشمئزاز .
راقية : أنا أؤيد مها . لم أشعر يوماً بحنين إلى أيامي في كلية التجارة .
نبيلة : كلية التجارة لا تقاس بكلية الآداب في نشاطها الاجتماعي ياراقية فكلية الآداب مشهورة بحفلاتها وسفراتها وسباقاتها الرياضية .
مها : أنا لا أشترك في تلك الحفلات أو السفرات يا نبيلة . جوّها لا يعجبني ، كما لا يعجبني الطلاّب .
نبيلة : هذا غريب ! كنت أجد دائماً زملائي مرحلين ولطيفين !
مها : ( في استعلاء ) أما أنا فلم أستسغ وضع احدهم يوماً ( بعد لحظة ) الحقيقة أن أغلبهم قادم من مناطق أرياف الجنوب أو الشمال . وهم سمجون خشنو الطباع ولا يعرفون أبسط قواعد الذوق . تصوري أنهم تقاسمونا نحن الطالبات فيما بينهم منذ بداية السنة الأولى دون أن ندري. ولذلك قاطعتهم مجموعتنا ولم نحاول أن نكلّم أي واحد منهم إلاّ في الرسميات . فأنا وسلوى ومنى نغدو ونروح معاً ولا صلة لنا بأحد منهم وكأننا لسنا في الجامعة .
نبيلة : هذا مؤسف فإن أيام الجامعة لا تعوض . سوف تتذكرين ذلك يا مها حينما تتخرجين وتعملين في التدريس .
مها : أنا لا أنوي العمل في التدريس . هذا آخر عمل يمكن أن أفكر به.
نبيلة : ماذا ستعملين إذن ؟
مها : بابا وعِدني بتعييني في وزارة الخارجية ، فخريجو قسم اللغات مرغوب بهم في هذه الوزارة ، وسأنقل فيما بعد إلى السلك الخارجي .
راقية : هذا هو العمل الذي كنت أحلم به . لو لم أتزوج لكان من الممكن أن أعين سكرتيرة في وزارة الخارجية . لكن زواجي أفسد كل شيء .
نبيلة : لكن عملك في المصرف مريح أيضا يا راقية .
راقية : صحيح ، لكنه ممل جداً .
نبيلة : أما عملي فمرهق وشاق ، لكنه ممتع للغاية . إنني اشعر بسرور عظيم كلما نجت في تبسيط المعلومات للتلميذات فاستطعن فهمها . وإن حركاتهن الصبيانية تسلّيني وتنسيني تعبي .
مها : لا أدري يا نبيلة كيف تتحملين أشكال بعض التلميذات وعاداتهن المقرفة .
راقية : أما أنا فلو كنت مدرسة لنجّحت التلميذات الحلوات ورسبت التلميذات القبيحات !
(يدخل منير وزوجته اعتدال . يرتدي الزوج بدلة أنيقة ويحمل بين يديه لعبة . في زينة الزوجة إسراف وفي تسريحة شعرها غرابة ) .
إعتدال : مساء الخير جميعاً .
نبيلة : مساء الخير .
راقية : أهلاً ، أهلاً بكما . يا مرحباً .
اعتدال : ( تتناول اللعبة من زوجها وتناولها إلى راقية وهي تقبلها ) عيد ميلاد سعيد يا راقية ، أرجو أن تعجب باسم هذه اللعبة . هي أثمن ما وجدناه في مخزن "دنيا الأطفال " ( ملتفتة إلى زوجها ) .
أليس كذلك يا منير ؟
منير : بلا شك .. بلا شك .
راقية : ( تتناول اللعبة وتضعها على إحدى الطاولات ) شكراً يا اعتدال ..
لعبة جميلة حقيقة .
( يجلس الضيفان )
منير : أين أبو باسم ؟
راقية : خرج إلى عمله عصراً ولم يعد حتى الآن .. سيحضر في أية لحظة.
إعتدال : ( تخرج من حقيبتها مروحة عاجية وتحركها أمام وجهها في ضيق) أوف.. موت حرّ !
مها : الجوّ اليوم حار جداً .
راقية : ( تتأمل الأشجار ) وليس هناك نسمة هواء !
منير : بلا شك فبغداد قطعة من جهنم ، ولا أدري كيف تكون جهنم إن لم تكن شبيهة ببغداد ! كفانا الله شرّها ! ( يطلق قهقهة عالية قصيرة ) .
اعتدال : لا أدري لماذا جئت بباسم إلى الدنيا في هذا الوقت يا راقية . أنت لم تحسني اختيار الفصل المناسب مع الأسف . كان من الأفضل أن تأتي به في الربيع ، أو أن تنتظري إلى الخريف على الأقل .
راقية : في المرة القادمة سآتي بالطفل في الربيع !
مها : افعلي ذلك يا راقية . أنا أحب الربيع .
اعتدال : نعم ، إفعلي ذلك يا عزيزتي وإلاّ فستحرميننا من حضور حفلات ميلاد أبنائك إن ظللت تجيئين بهم في فصل الصيف 0 ولولا بعض الظروف الخاصة ما استطعنا حضور حفلة ميلاد باسم 0 فلا يمكن ان نظل حتى هذا الوقت في بغداد . كان يجب أن نكون في لبنان منذ أكثر من ثلاثة أسابيع . ( ملتفتة إلى زوجها ) أليس كذلك يا منير ؟
منير : بلا شك . لولا مرض الوكيل وتأخر المحصول ما بقينا في جهنم هذه (يطلق قهقهة قصيرة عالية ) .
اعتدال : اضطر منير أن يشرف بنفسه على قسمة المحصول بعد أن لازم وكيلنا المستشفى منذ أكثر من شهر ، وإلا لكنّا الآن في المصيف .
منير : وكيف أترك المحصول بين يدي أولئك اللصوص ؟! الفلاح قادر على ان يختطف اللقمة من بين يديك حالما تديرين وجهك عنه . حتى السركال لا يستطيع أن يسيطر عليهم ( ملتفتا إلى اعتدال ) لكن كل شئ سينتهي خلال أسبوع على أية حال ، ولن تمضي عشرة أيام حتى نكون في بحمدون .
اعتدال : ( تهوّي بالمروحة على وجهها في إرهاق ) لم أعد أحتمل البقاء في هذا الحرّ . كان يجب أن أسافر قبلك يا منير .
منير : ( يهز ً رأسه ) بلا شك ، بلا شك .
اعتدال : وأين ستقضين الصيف هذه السنة ؟!
مها : سأذهب مع أمّي إلى سويسراً فهي في حاجة إلى بعض الفحوص . كان المفروض أن نسافر بعد الامتحان مباشرة لكن بعض المشاغل أخرتنا .
راقية : ( بسخرية ومرارة ) أما نحن المتزوجات من أزواج فقراء فكُتب علينا أن نشوى في حرّ بغداد .. ومع ذلك فربما صحبت بابا وماما إلى لبنان حينما يسافران إلى المصيف . ( ناظرة إلى نبيلة ) وإلاّ كان من حظي وحظّ نبيلة أن نقاسي من هذا الحرّ لنكفر عن ذنبونا ونحن ما نزال في هذه الدنيا .
نبيلة : لا أظن الجو حاراً إلى هذه الدرجة .. هذا المساء حارً بشكل غير اعتيادي بسبب سكون الهواء وإلاّ لكان الجوّ طيباً ، فالنسائم العذبة تهب في أغلب الليالي . أما أثناء النهار فالمبردات تجعل جوّ البيت أكثر اعتدالاً من جوّ لبنان .
اعتدال : ولكن كيف يمكن ان تقارني جوّ بغداد بجوّ لبنان يا عزيزتي ؟ وطبعاً أنا لا أقصد جوّ بيروت الحارّ الرطب بل جوّ الجبل . وأين ليالي لبنان بفرقها الغنائية والموسيقية من ليالي بغداد ؟! وماذا في بغداد ؟! ليس فيها سوى السينمات وهي فوق هذا مزدحمة بمن هبّ ودبّ 0 وليس في قدراتي أن أحتمل روائحهم الكريهة التي تخنق جوّ السينمات وخاصة في فصل الصيف .
( يدخل فاضل وزوجته نظيمة . يرتدي فاضل ملابس مما يرتديها الفنانون وترتدي الزوجة ملابس "سبورت " وهي تتأبط هدية في علبة صغيرة ) .
نظيمة : مساء الخير .
فاضل : مساء الخير .
راقية : مرحباً .. مرحباً بكم .
نظيمة : معذرة يا راقية عن تأخرنا .. أرجو ألاّ نكون عطّلنا الاحتفال .
راقية : لا ، فما نزال ننتظر ضيوفاً آخرين يا نظيمة .
نظيمة : هذه هدية باسم . إنها أعجبتني وأرجو أن تعجب باسم .
راقية : ( تتناول الهدية وتضعها بجوارها ) شكراً يا نظيمة .
( يجلس الضيفان )
فاضل : ( ملتفتاً حواليه ) وأين الأستاذ صلاح ؟
راقية : لا أدري ما الذي أخّره حتى الآن ! كان من المفروض أن يعود قبل ساعة
.. سيأتي في أية لحظة .
فاضل : أما عن تأخّرنا فالذنب في ذلك ذنبي . كنت أشتغل في صورة على وشك أن تتمّ . لم يكن بإمكاني أن أؤجل اللمسات النهائية .
راقية : وهل أتممتها يا أستاذ فاضل ؟
فاضل : تقريباً .
راقية : إذن فسيمكننا أن نراها عند زيارتنا القادمة لكم .
نظيمة : (بحماسة ) إنها صورة نفيسة . ستعجبك كثيراً يا راقية.
راقية : أنا متأكدة من ذلك . و أنت تعلمين أن الأستاذ فاضل رسّامي المفضل0
فاضل : شكراً .. ربما ستكون هذه الصورة أحسن صوري فعلاً . قد تصبح " ماستر بيس".
منير : أهنئك يا أستاذ فاضل بهذه المناسبة بنجاح معرضكم . كانت رسومك أحسن رسوم المعرض بلا شك .
فاضل : شكراً . هل أعجبكم المعرض يا أبا نائل ؟
منير : أعجبنا بلا شك .
نظيمة : كان الجميع معجبين بالمعرض ، وخاصة بصور فاضل .
مها : كان المعرض يخبّل . اشتريت ثلاثاً من صوره هي " دجلة في الخريف " و " زهور الأقحوان " و" ستل لايف – صحون محطمة " .
اعتدال : أما نحن فأعجبتنا صورتك يا أستاذ فاضل " الغروب في الجادرية" لذلك اشتريناها وكانت أغلى الصور .
فاضل : شكراً .
نظيمة : ذلك لأنها كانت أنفس صور المعرض يا اعتدال .
فاضل : ( إلى نبيلة ) وما رأيك بالمعرض يا ست نبيلة ؟ وما رأي الدكتور مجيد فيه ؟
( يدخل مجيد ، يضع على عينيه نظارة طبية سميكة0 يبدو عدم الاهتمام بأناقته )
مجيد : مساء الخير ( إلى راقية ) أعذريني يا راقية على تأخري . طال اجتماعنا على غير المتوقع .
راقية : أهلاً بك يا مجيد . أنت معذور . ( ضاحكة ) ثم إنك لم تتأخر بمقياسك المألوف . كنت أتوقع ألاّ تحضر إلاّ بعد أن ننتهي من تناول الطعام .
مجيد : أنا آسف .
نبيلة : ( إلى مجيد ) هل انتهى اجتماعكم ؟
مجيد : لا ، لم ينته . اضطررت إلى تركه قبل النهاية حينما لاحظت أن الوقت تأخر . ( يتلفت حواليه ) وأين صلاح ؟
راقية : ( في ضيق ) لم يحضر بعد ، كان يجب أن يعود قبل ساعتين . ولا أفهم كيف تأخر حتى الآن !
نبيلة : لابد أن له عذراً في تأخره .
راقية : ( في عصبية ) سنتناول الطعام الآن فلا يمكننا ان نقضي الليل في انتظاره .
( تنهض راقية متجهة نحو المائدة وتتبعها نبيلة ، تبدآن في توزيع صحون الطعام على الضيوف في حين يستمر الحوار بين الحاضرين ) .
فاضل : كنا في ذكرك يا دكتور مجيد قبل مجيئك بلحظات .. ابن الحلال بذكره!
مجيد : ( باسماً ) خيرا إن شاء الله !
فاضل : كنت أسأل الست نبيلة عن رأيك في المعرض .
مجيد : ( متردداً ) لا يمكنني أن أحكم عليه حكماً دقيقاً يا أستاذ فاضل فأنا لا أفهم كثيراً في الرسم .
نبيلة : ( وهي منهمكة في عملها ) لكنك تحتفظ في مكتبتك بكثير من كتب الرسم يا مجيد .
مجيد : نعم ، قد يكون هذا صحيحاً فأنا أقرأ بعض الكتب عن الرسم كجزء من الثقافة العامة . لكنني لا أستطيع الحكم على قيمة المعرض كما يحكم شخص متخصص .
فاضل : ولكن من المؤكد يا دكتور أنك كوّنت عن المعرض انطباعاً ما.
مجيد : ( مفكراً ) انطباعاً ؟! .. نعم ( مبتسماً ) وأخشى ألاّ يكون انطباعي مرضياً لكم .
فاضل :(بدهشة وخيبة أمل ) وكيف ؟ كان انطباع النقاد عنه حسناً للغاية .
نظيمة : ( في فخر واستعلاء ) المعرض ضرب الرقم القياسي في مدح النقاّد00 كان معرضاً نفيساً بكل معنى الكلمة .
مجيد : نعم 00 قد يكون هذا صحيحاً يا مدام ، ولكنك تعلمين انه ليس في بلدنا نقاّد بالمعنى الصحيح ، بل هواة يمدحون أو يقدحون حسب الظروف والأهواء الشخصية . ( ملتفتاً إلى فاضل ) أما أنا فوجدت صور المعرض تؤكد أكثر مما يجب على النواحي التقنية مهملة جانب المضمون.
فاضل : هذا أمر طبيعي فلا بد أن تتمثل فيه كل مدارس الرسم المعروفة 00الكلاسيكية والتكعيبية والانطباعية والسريالية .
مجيد : ولكن المعرض بدا في هذه الحال بعيدا عن أن يمثل المجتمع العراقي أو أن يعطي صورة واضحة عنه .
فاضل : ولكن لا شك أنك تتفق معي يا دكتور مجيد ان من أهم واجبات الفنان هو تطوير الأساليب الفنية وإلا كان مصير الفن الجمود ثم الموت . أما المضمون فشيء ثانوي .
نظيمة : المعرض غصّ بصور عن الحياة العراقية يا دكتور مجيد ، وكان لفاضل عدة صور شعبية .
اعتدال : صحيح ، حتى أنني استغربت كثرة الصور عن بائعات الروبة ومساحي الأحذية والحمالين . ولا أدري ما معنى تعليق تلك الصور بجانب صور الأزهار والمناظر الجميلة . إنها أفسدت روعة المعرض .
مجيد : (موجهاً الحديث إلى فاضل ) وكان المعرض يا أستاذ فاضل يضم عدداً كبيراً من الصور الرمزية والتجريدية البعيدة عن إدراك غالبية زوّار المعرض.
نظيمة :طبعاً . كيف يستطيع العوام أن يفهموا الفن الراقي ؟ ليس ذنب المعرض أن يزدحم بالعوام الذي جاؤوا ليشاهدوا صوراً فوق مستواهم .
اعتدال : ربما كان من الأفضل لجمعيتكم يا أستاذ فاضل ان تجعل الدخول إلى المعرض بتذاكر ذات أسعار عالية حتى لا يدخله من هبّ ودبّ0 صدّقوني 00 إنني وجدت صعوبة في البقاء نصف ساعة في المعرض . كانت الروائح الكريهة تفسد هواء القاعة . وكان بين الموجودين عدد كبير من ذوي الملابس الزريّة والشعور المشعثة . ( بعد لحظة ) وبالطبع فهذه هي نتيجة السماح بدخول المعرض مجاناً .
مجيد : أنا أخالف رأي المدام . ( موجهاً الكلام إلى فاضل) واعتقد أن في إقبال الناس على معارضكم فرصة ذهبية لكم أيها الرسامون لتعليم الشعب تذّوق الفن لابد أن تتناولوا في صوركم مواضيع قريبة من إدراكهم ولا بد أن تعبّروا عن مضامينها بأساليب واضحة .
نظيمة : ما معنى الفنّ إذن ؟ في هذه الحالة لم يعد هناك من داع إلى الفنّ إذا كان في إمكان كل شخص ان يتذوقه مهما تكن ثقافته0 ثم ما فائدة إقبال العوام على المعارض ؟! أنهم يبخلون بشراء صورة واحدة من صور المعرض.
مجيد : عفواً يا مدام . لكنني لابد أن ألفت نظرك إلى أننا لسنا في القرن التاسع عشر .. نحن في القرن العشرين يا مدام . وفي هذا القرن لم يعد العلم او الفن في خدمة الخاصة .
فاضل : ولكنك تعلم يا دكتور مجيد أن الإغراق في البساطة وفي تناول المواضيع الشعبية يكتب موتاً سريعاً للصور ، فهذه مواضيع زائلة0 أما الطبيعة وهواجس الإنسان فهما خالدان على مرّ الدهور والصور عنهما لا تبلى.
راقية : اسمحوا لي .. إذا ما ظللنا نتناقش حول صور المعرض فسنقضي الليل بطوله . فما رأيكم في الاستماع إلى بعض الأغاني الغربية ؟
اصوات : موافقين .. موافقين .. أسمعينا أغاني .
راقية : ( تتجه إلى موضع الجرامفون وتقلّب الأسطوانات بين يديها ) من تحبون سماعه ؟ بنج كروسبي ؟ إلفس بريسلي ؟ فرانك سيناترا ؟
مها : إلفس بريسلي من فضلك إن لم يكن لدى الجماعة مانع .
أصوات : موافقين .. موافقين .
( تضع راقية اسطوانة تحوي مجموعة من أغاني إلفس بريسلي وتعود إلى مقعدها ، النساء يتبادلن عبارات الإعجاب بالأغاني ، في حين لا يبدو الاهتمام على وجوه الرجال . راقية تعاني من قلق وعصبية واضحة . في أثناء الغناء يتسلل صلاح من الممر المؤدي إلى باب الحديقة وهو في هيأة مبهذلة ويقف لحظات مصغيا دون أن ينتبه إليه أحد ، ثم يأتي بحركة تلفت إليه الانتباه فتتجه عيون الجميع نحوه )
راقية : ( تهتف فرحة ) أخيراً جاء الأمير .
مها : أمير الجمال !
راقية : (ناظرة إلى الجميع في اعتزاز ) أنظروا إليه .. أليس هو أميراً ؟
(ثم ناظرة إليه في عتاب ) ولكن أي أمير مبهذل أنت يا صلاح ؟
صلاح : (يتقدم بخطوات غير ثابتة حتى يقف أمام الرجال فيحنى رأسه قليلاً ويقول بلسان متلعثم " السلام عليكم أيها السادة الكرام " 0ثم يتجه نحو النساء ويحني رأسه قائلاً : " السلام عليكن أيتها السيدات المحترمات " ثم يتقدم من راقية ويبالغ في إحناء رأسه قائلاً : " السلام عليك يا زوجة الأمير " . ينظر إليه الجميع في شيء من الاستغراب وهم يبتسمون ) .
منير : ( وهو يطلق ضحكة قصيرة ) مرحباً بك يا صاحب السمو !
صلاح : ( يجلس بجوار مجيد ثم يلتفت إليه متسائلاً ) كيف حال زوج شقيقة زوجة الأمير الطرطور؟
مجيد : (باسماً ) بخير . وأنت ؟
صلاح : إنني سعيد اليوم بشكل يجعلني راغباً في أن أقبّل الناس جميعاً . ( ينهض ويقبّل مجيد ثم فاضل ثم منير ، ويتوقف أمام النساء قائلاً : " عفواً سيداتي وآنساتي فلا أظن زوجتي توافق على أن أقبلكن "0 يعود إلى مقعده ) .
اعتدال : ( في استنكار ) أعتقد أنه سكران .
صلاح : ( في لطف مصطنع ) كلا يا سيدتي المحترمة00 أنا لست سكراناً0 لم أشرب إلا قليلاً وذلك لاحتفل بمناسبة هامة .
راقية : ( في استنكار ) صلاح .. إنني فهمت لعبتك .. لا تفسد الحفلة .
صلاح : أية لعبة ؟ ! ألا تريدينني أن أشارك في هذا الاحتفال ؟! أليس هو عيد ميلاد ولدي وأن كنت ابن شرطي ؟!
مها : ( وكأنها تحدث نفسها ) إنه يحاول إفساد الحفلة فعلاً .
صلاح : ( يتجه بسمعه إلى مها ) هل تكلمت يا صديقة زوجة اميرالطراطير؟ كنت أعتقد دائماً أن من الخير لك لو تظلين صامتة . إن وجهك جميل بلا ريب، لكن رأسك يحمل عقل فأرة !
راقية : ( في ذهول ) لماذا تهين مها ؟!
صلاح : ( في احترام مصطنع ) إنني لا أهينها لكنها الحقيقة التي رغبت أن أصارحها بها من زمن بعيد غير أنني لم أجد الفرصة المناسبة .
اعتدال : (وهي تتهيأ للنهوض ) فلنذهب يا منير قبل أن تلحقنا الإهانة .. إنه سكران ولا يعي ما يقول .
منير :(يتهيأ للنهوض ) بلا شك .. بلا شك .
صلاح : ولِمَ العجلة يا سيدتي ؟ أتخشين أن أواجهك بالحقيقة عن عقلك أيضاً؟ لكنني لن أفعل إكراماً لصديقي المسكين أبو نائل !
منير : ( مطلقاً قهقهة عالية ) لا تكثر من الشراب يا أبا باسم فأنت لا تحتمل ذلك بلا شك .. كلامك صار شيش بيش .
اعتدال : (في اشمئزاز واستعلاء ) إنه سكران لدرجة فقد بها عقله !
صلاح : ( إلى اعتدال ) كوني على ثقة يا سيدتي المحترمة إنني في كامل قواي العقلية . إنها المرة الأولى التي أتحدث فيها أمامكم بوحي من عقلي . وأرجوك أن تلغي كل ما سمعته مني في السابق وتعتبريه نفاقاً . ( إلى منير ) اذهب معها أيها الصديق المسكين . لا تجادلها . إنك طرطور مثلي . وقد تلقى الحساب في البيت إن لم تطعها ( ملتفتاً إلى الجميع ) وبهذه المناسبة أعلن على مسامعكم جميعا بأنني عتقت نفسي اليوم . وكنت احتفل بحريتي قبل حضوري إلى احتفالكم هذا . ( يهتف ) لتعش الحرية !
نظيمة : ( في عجب وكأنها تحدث نفسها ) ولكن ما معنى هذا ؟!
مها : ( وهي تتهيأ للقيام ) سأذهب أنا أيضاً الآن يا راقية . ( ملتفتة إلى منير ) لم تحضر سيارتنا بعد ، فهل تتكرم بتوصيلي يا أستاذ منير ؟
منير : بلا شك . بكل ممنونية .
صلاح : (إلى مها ) لا تذهبي فقد تحتاج إليك راقية . إنها صرفت ما تبقىّ من رواتبنا وقد تستدين منك بعض المال لمصروف غد ( ضاحكاً ) وإلاّ فقد تجديننا متنا جوعاً لو مررت علينا بعد يومين .
راقية : ( في غيظ ) لا تصدقي كلامه يا مها .
صلاح : ( يضع يده على صدره ) أقسم بالله العظيم إنني أقول الحق . ( ملتفتاً إلى الحاضرين ) إنني أتحداها أن تفتح حقيبتها وتخرج منها ربع دينار.
نظيمة : ( في عجب وكأنها تحدث نفسها ) ولكن . ما معنى هذا ؟!
اعتدال : ( تقف مخاطبة راقية ) كل عام وباسم في أتمّ الصحة . اسمحي لنا بالذهاب .
نظيمة : ( متهيئة للنهوض ) الوقت تأخر فأرجو أن تسمحي لنا أيضاً بالانصراف يا راقية . كل عام وأنت وباسم بكل خير لا تزعجي نفسك لأي شئ يا راقية ( تشير بعينيها إلى صلاح ) أنت جوهرة بيد شخص يجهل قيمتها .
صلاح : ( إلى نظيمة ) في هذه الحال سأستعين بجواهريّ يا سيدتي المحترمة ليعينني على معرفة قيمتها .
فاضل : ( وهو ينهض ) شكراً على كل شئ يا ست راقية .
راقية : آسفة جداً لاضطراركم إلى الانصراف مبكراً .. وآسفة جداً لهذا الإزعاج..
( يتجه الضيوف إلى الممر المؤدي إلى باب الحديقة وهم يتحدثون مع بعضهم ويشكرون راقية حتى يبتعدوا عن الأنظار )
نبيلة : ( إلى صلاح بلهجة رقيقة ) ماذا جرى لك يا صلاح ؟!
صلا ح : لا شيء . كل ما في الأمر أنني تحررت . إنه يوم الحرية .
مجيد : لا يا صلاح . لم يكن من اللائق بك أن تسلك هذا السلوك .
نبيلة : كنت قاسياً جداً مع راقية يا صلاح . أخجلتها أمام ضيوفها .
صلاح : حقاً ؟! إذن فإنني مسرور . أنت لا تعلمين إذن مدى سروري .
مجيد : ( وهو ينهض ) فلننصرف نحن أيضا يا نبيلة . الوقت متأخر .
(ملتفتاً إلى صلاح ) إياك يا صلاح أن تثير مشاجرة في هذا الوقت المتأخر من الليل.
صلاح : أنا لا أنوي أن أثير مشاجرة . انتهى واجبي . أعلنت تحرري . هذا كل ما في الأمر ( بعد لحظة وكأنه يحدث نفسه ) ثم أن صحة أمّي لا تتحمل مشاجرات . إنها مريضة جداً وليس بوسعها أن تتحمل مشاجرات .
مجيد : حقاً ؟! أهي مريضة إلى هذا الحد ؟!
صلاح : نعم إنها مريضة جداً يا مجيد .( بعد لحظة بتهكم ) ولا شك أنها استمتعت بضوضاء هذه الحفلة أحسن استمتاع !
مجيد : أرجو لها الشفاء السريع .. تصبح على خير يا صلاح .
نبيلة : تصبح على خير يا صلاح .. وأنا آسفة على كل شيء .. وقلبي معك .
صلاح : تصبحون على خير .
( يخرج مجيد ونبيلة من الممر المؤدي إلى باب الحديقة )
صلاح : ( يحدث نفسه بصوت هاديء عميق ) نعم 00 إنه يوم الحرية . وقد تحرر العبد أخيراً .
( تعود راقية إلى الظهور قادمة من الممر المؤدي إلى باب الحديقة وقد بدا على وجهها التهيج والانفعال ) .
راقية : ( بصوت متهدج حاد ) والآن أرجو أن تتفضل فتوضح لي بالضبط معنى لعبتك .
صلاح : ( بهدوء ) أية لعبة ؟
راقية : آخ يا ربي ! وددت لو تنشقّ بي الأرض وتبتلعني . ( ملتفتة إليه في تنمرّ ) وددت لو تنشق بك الأرض أيها الوحش وتبتلعك .
صلاح : (بهدوء) أرجوك .. أرجوك .. الوقت غير ملائم لأن تثيري شجاراً .
راقية : (صارخة ) غير ملائم لأن أثير شجاراً ! ماذا تعني بذلك ؟! لماذا تتصرف وكأنك مجنون هارب من مستشفى المجانين !!
صلاح : أنا لست مجنوناً ولم أهرب من مستشفى المجانين . ولم يكن عقلي في يوم من الأيام أصفى مما هو عليه الآن .
راقية : أفتحسب أنك في كامل قواك العقلية إذن ؟! هذا هو عين الجنون !
صلاح : (بهدوء ) أرجوك . لا داعي لمزيد من الإهانات .
راقية : مزيد من الإهانات ! وماذا عن الإهانات التي وجهتها إلى ضيوفي ؟! لماذا أهنت مها ؟
صلاح : هل أهنتها حقّـاً ؟! أنا لم أقل لها سوى الحقيقة . ومع أنها تصاحبنا ليلاً ونهاراً كالعفريت ، لكنني لم أجد فرصة لمصارحتها بذلك غير اليوم.
راقية : عقلها أكبر من عقلك !
صلاح : ربما . لكنني أخالفك الرأي .
راقية : بالتأكيد . لأنك لو كنت تملك عقلاً سويّاً لما تظاهرت بالسكر وتصرفت بهذا الشكل المزري .
صلاح : ( ببرود ) وماذا فعلت ؟ كل ما هنالك أنني أعلنت تحرري على رؤوس الأشهاد .. هذا كل ما في الأمر .
راقية : ماذا تعني بـ " أعلنت تحررك " ؟! ما هذا الهذيان ؟!
صلاح : أنا لا أهذي . أعلنت تحرري من عبوديتك اليوم . لم أعد عبداً لك .
راقية : عبداً لي ؟! ومتى كنت عبداً لي ؟!
صلاح : نعم ، عبداً لك . كنت عبداً لك فعلاً . ومتى عرفت الحرية منذ تزوجتك ، متى ؟! إنه لم يكن حبّاً .. كان عبودية .
راقية : ( بلهجة مجروحة ) وأنا التي كنت أحسبك سعيداً معي !
صلاح : سعيداً معك ؟! ( يطلق ضحكة مريرة ) أنا أحبّك فعلاً .. أحبك حبّاً عظيماً لسوء حظي وليتني استطيع تحطيم قيود حبك التي تكبلني0 لكن السعادة بعيدة عني بعد السماء عن الأرض. وربما لم يكن ذلك خطاّك . ربما كان خطأ الطبيعة ، فأنا لم اخلق للسعادة كما يظهر . بعض الناس يولدون للشقاء كما يبدو وأنا واحد منهم. وكثيرا ما تساءلت لماذا جئت إلى هذه الدنيا ! إنني عشت في بيت أبي معذّباً شقيّاً أعاني من اضطهاد أب قاس 0 ثم أحببتك فمنيت نفسي بالسعادة قربك . ولكنني وجدت نفسي في جحيم أشد ! وبدأت أقتنع بأنني خلقت للشقاء وإن كانت آرائي تناقض أمثال هذه المعتقدات .
راقية : ( في تهكم ) ولماذا لا تعتبرني مسؤولة عن متاعبك في بيت أبيك أيضاً؟!
صلاح : أنا لم أقل أنك مسؤولة عن ذلك ، ولكن تلك المتاعب كانت أهون من حياتي معك . كنت أحلم بمجتمع حرّ من الاستبداد والاستغلال يسوده العدل والرخاء ، وكنت أؤمن بأن مثل هذا المجتمع سيتحقق في يوم من الأيام لشعبنا على أيدي أبنائه من المناضلين . وكنت أعمل لمثل ذلك الهدف . وكان ذلك يمنحني مبرراً لوجودي . وإلاّ فما قيمة حياة المرء إن لم يكرّسها لتحقيق مثل هذه الأهداف ؟! لكنني منذ أحببتك فقدت هذا العزاء . فقدت كياني كله . كان عليّ منذ أحببتك أن أنسى أن هناك إنساناً مناضلاً اسمه صلاح يكره الطغيان ويقاوم الاستبداد والاستغلال ويعمل في سبيل العدالة الاجتماعية .لقد مات ذلك الإنسان وحلّ محله شخص آخر . شخص جبان لا رأي له ولا موقف من هذا النظام .. (وهو يضحك ضحكة ساخرة)00 هذا النظام الجمهوري الذي انتظرناه طويلاً واعتقدنا انه سيحقق الديمقراطية والحرية للشعب وإذا به يتحول إلى نظام دكتاتوري رغم نزاهة صاحبه ووطنيته . وكان من واجبي أن أقاومه لكنني جمدت نضالي الوطني بسببك وكففت عن مقاومة السلطة المنحرفة 00
راقية : (مقاطعة ) عليك أن تشكرني لأنك تركت ذلك الجنون وأصبحت إنساناً سوياً ، وإلاّ لكنت الآن سجيناً شأن أخيك .
صلاح : ( في ثورة ) نعم ، كان يجب عليّ أن أشكرك لأنك جعلت مني بهيمة تأكل وتنام ولا تفكر بشيء ! فما أنا الآن ؟! أنا لست سوى موظف من بين آلاف الموظفين الذي يبكرون إلى وظائهم صباحاً ويعودون إلى بيوتهم مساء وهم لا يفكرون بمستقبل شعبهم .. لا يساهمون في صنع ذلك المستقبل . وكيف لي أن أفكر بشيء آخر وذهني مشغول بتحقيق رغباتك التي لا تنتهي ؟! أصبح من الضروري أن أشتغل ليلاً ونهاراً لأهيء المصاريف التي يقتضيها أسلوب حياتك .. كالحصان المشدود العينين الذي يدور بالناعور ويدور بلا نهاية . ولم تفكري أبداً ان تكيفي نفسك للحياة الجديدة وتمدّي رجليك على قدر غطائك وتتخلي عن بعض الكماليات التي أعتدت عليها قبل الزواج في بيتك الأرستقراطي .
راقية : ( مقاطعة في سخرية حادة ) فإذن كان من واجبي أن أهبط إلى مستواك ولم يكن من واجبك ان ترتفع إلى مستواي ! الحق معك فهذا ما كنت تعدني به دائماً !
صلاح : لا تتهكمي . الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب . يجب أن أفتح عينيك إن كانتا مغلقتين حقاً . فأنت على ما يبدو لا تريدينني زوجا بل دمية تلهين بها . ولهذا فعليّ أن أكون عبداً على شكل زوج . عليّ ألاّ أملك حياة خاصة ، ولا أحتفظ بأصدقاء يخصونني من أصدقاء طفولتي أو من زملائي في الجامعة لأن من واجبي أن أكون مرافقاً لك حينما ترغبين في زيارة صديقاتك الأرستقراطيات ذوات العقول الفارغة . عليّ ألاّ أشعر أنني إنسان حرّ يستطيع أن يخرج متى يشاء ويعود متى يشاء 00 بل حتى يلبس ما يشاء0 عليّ أن أردد دائما لنفسي : "إنني عبد .. عبد .. عبد" ، حتى لا أنسى ذلك لحظة واحدة . ومع أنني أثبت لك أنني قائم بواجبات العبودية خير قيام فلا بد لك أن تذكرينني دائما بأنني أبن شرطي . فأنت لا تحترمين أمي رغم أنها تعمل لخدمتك ليل نهار كأفضل من اية خادمة .. لا يا عزيزتي لا . إن عبدك لا يستطيع بعد ان يتحمل أغلال عبوديته . لقد حطمها هذا اليوم ولا ينوي أن يقيد نفسه بها ثانية .
راقية : ( في برود واستعلاء ) هل انتهيت من خطبتك ؟ ( بعد لحظة بلهجة مترفعة ) فإذن كان حبك لي عبودية ؟! ( تضحك في مرارة ) أعترف أنك نجحت في خداعي فاعتقدت انك تحبني حقيقة . فارتضيت بكل التضحيات وصبرت على المضايقات والمزعجات التي كانت تحيط بي من كل ناحية . صبرت على البيت الحقير الذي استأجرته ، والأثاث السخيف الذي فرشت به البيت والذي يجعلني أموت خجلاً كلما زارني صديقاتي . صبرت على مضايقات أسرتك وأقربائك ( ترفع رأسها وتنظر إليه بغضب وتندفع في كلامها بحدة ) أم أنك تستطيع أن تنكر ذلك أيضاً؟! فمنذ اليوم الأول أخذ أفراد أسرتك وأقربائك يترددون على البيت حتى جعلوه فندقاً . وكانوا يصدمونني ويثيرون اشمئزازي بعاداتهم الهمجية .. حتى أُمّك التي تحدثت عن خدماتها لم يكن بإمكان شخص مثلي ان يتحمل عاداتها لولا خاطرك . أما عن عملك ليلاً ونهاراً لتهيّ المصاريف لحياتي كما قلت فأنت تعرف حقيقة الأمر . وقد ظللت تردد دائما أنك ستهيء لي الحياة اللائقة بي وإن كنت لا أدري كف سيتحقق ذلك يوماً وأنت تتشبث بوظيفتك السخيفة هذه . فما أكثر ما أعلنت انك ستستقيل من وظيفتك الحكومية وتدخل السوق 0 لكنني أصارحك الآن أنك لا تملك الاستعداد لذلك0 وستظل موظفاً بسيطاً في وزارة التجارة طول حياتك لا يكاد مرتبك يكفي لنفقات فساتيني 0 وسأظل أعيش معك حياة كفاف . وسأظل عالة على أهلي . وبعد كل هذا فأنت تدعى انك عبد لي !! ( تهز رأسها ) ولكن الخطأ ليس خطأك .. إنه خطئي ، وكان عليّ أن أدرك أن ابن الشرطي يظل ابن بيئته ولا يمكن أن يرتفع إلى مستوى آخر. ( وهي تهز رأسها ) ما أشد أسفي لأنني لم أستمع إلى نصائح من هم أعقل مني ، وكم كنت غبية0 لكنني سأصحح خطئي الآن فبيت أهلي أولى بي0( تنهض راقية بغضب وتختفي مسرعة في داخل البيت 0 يظل صلاح جامداً في جلسته . يسمع صوت محرك السيارة وهي تنطلق من الكراج) .
صلاح : ( مغمغما ) إلى جهنم وبئس المصير .
(تقبل سنية بعد دقائق من المدخل المؤدي إلى الداخل وهي تسير بخطوات وئيدة وقد بدا عليها المرض ، ولا ينتبه صلاح لوجودها إلاّ حين تقترب منه فيقفز نحوها مسرعاً ويمسك بيدها ويقودها إلى مقعد بجواره).
صلاح : (وهو يجلس سنية ) ما هذا يا أمي ؟! كيف تركت السرير ؟! ألا تعلمين أن ذلك خطر على صحتك ؟
سنية : (بضعف ) سامحني يا ابني صلاح .. سمعتك تتشاجر مع راقية .
لماذا ؟ هل ذهبت إلى أهلها ؟!
صلاح : ( في حنق ) نعم ذهبت .. روحة بلا رجعة .
سنية : أبوس رأسك يا ابني ، لا تقل هذا عن امرأتك . كيف تركتها تذهب يا صلاح ؟
صلاح : ذلك أفضل يا أمي .لم يعد هناك مجال لأن نواصل الحياة معا0
سنية : سامحني يا ابني00 لا تقل ذلك . هي أم ولدك .
(يرتمي صلاح فجأة على صدر أمه )
صلاح : ( بصوت مختنق ) أنا إنسان معذب يا أمي .. معذب جداً .. كم أود لو يختطفني الموت ويخلصني من هذه الحياة .
سنية : (بصوت فيه رنة بكاء وهي تربت على رأسه ) اسم الله عليك يا ابني يحرسك الرحمن . لا تقل ذلك أبوس رأسك .. لا تقل ذلك ( تجري الدموع على خديها ) .

- ستار الختام -





#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - بيت الزوجية -مسرحية-