أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - صراع -مجموعة قصصية-















المزيد.....



صراع -مجموعة قصصية-


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2526 - 2009 / 1 / 14 - 09:57
المحور: الادب والفن
    





















الطبعة الأولى 1948
المحتويات
صراع – بقلم : علي جواد الطاهر 7
مقدمة – بقلم : عبد المجيد لطفي 19
صراع 26
عجيب! 31
دكتور القرية 37
بداية النهاية 44
لقمة العيش 47
بوبي 53
أحلام ضائعة 58
عذاب 63
خطيب الحرية 67
ضحية 71
مغامرة ! 74





بمناسبة صدور صراع


بقلم : علي جواد الطاهر

(1)
كما أن الكلام على فوائد الأدب أصبح من فضول القول .. كذلك أصبح الكلام عن فوائد القصة . ولا غرو ، فهي فرع حيّ ، نابض ، فاتن ، أجل فاتن 0 وهل هناك من ينكر السحر الذي يسيطر عليه وهو يقرأ القصة ، السحر الذي يغريه فلا يستطيع معه قطع القراءة .. ثم السحر الذي يدخل إليه فكرة القصة شعوراً ولا شعوراً .. ثم السحر الذي يفعل فعله في توجيه حركاته وسكناته .
ولكن ليس هذا مجال الكلام على فوائد القصة ، بل لم يعد يمثل هذا الكلام مجال .. وقد قطف " العالم " ثمار القصة ماديا ومعنوياً ، ولم لا والقصة عنصر أساسي في آدابهم ؟! أما نحن ، في أدبنا العربي فأين القصة ؟! وأين فعلها ؟! وأين مكانتها ؟! .. أين ؟! إن القصة الحقيقية معدومة في أدبنا القديم . أما الحديث – وحتى في مصر ولبنان – فالحكم نفسه يكاد يكون نافذا .. أو قل إن القصة بعيدة عن بلوغ الدرجة المطلوبة . وإذا كان هذا في مصر ولبنان حيث لمسنا محاولات مشكورة ، وأحيانا ناجحة ، فوا حسرتاه على العراق ؟! العراق بعيد .. بعيد.. بعيد ..
أجل ، إنه بعيد وهده حقيقة مرة " تزعل" الكثيرين . ولكن يجب أن تذكر ويجب أن تسجل ويجب أن تعلن .
أجل ، إن النثر الفني عامة والقصة الفنية خاصة معدومة في العراق ؛ وإلاّ فأين القصّاص المتفنن ؟! وأين القصة الفنية ؟! وأين أين ؟! كل ما لدينا لا يتعدّى محاولات عابرة تحقيقا لشهوة مرفقة بخبرة هزيلة .. وإذا كانت "كل" هذه موجعة فضع محلها " جل" من قبيل المجاملة ، وبئست المجاملة .

(2)
أقول هذا ؛ بمناسبة صدور " صراع" . وما هو " صراع" ؟! لعلك عرفته قبلي ... إنه [ مجموعة قصص عراقية] ألفها " شاكر خصباك " وطبعها في مصر ، وأهداها لأستاذه الكبير محمود تيمور . وقدم لها الأستاذ عبد المجيد لطفي . وكان مما جاء في هذه المقدمة أنه ( لقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك .. فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف ..) وهنا لا أريد أن أسأل الأستاذ عن ( هذه البداية الحسنة ) ! ولا أريد أن أسأله عن هذا (النجاح) ولا أريد أن أسأله تعداد أعلام القصة العراقية ، لا .. فجواب هذا معروف لديّ ! إنه صفر دون شك .. لا .. لا أريد ذلك .. وإنما أريد أن أنقل قوله ( ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ ، وننتظر منهم تقدما واضطرادا في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة ، وهو شاب حدث قرأت له قصصا ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب . وقد كتبت إليه مبديا هذا الإعجاب .فما خيب ظني به ، إذ وجدت نفسي بعد هذا أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة ) . فهل هذا الذي قاله ( الأستاذ لطفي) صحيح ؟ وأن في ( الأستاذ شاكر) نبوغاً وأن في أسلوبه حيوية وروعة وإخلاص ؟ سنرى ذلك فيما بعد ، بل سنراه الآن ، فما أريد أن أقف عند " صراع" قصة قصة ألخصها وأحللها وأنقدها .. فإني أحب أن أترك ذلك لغيري من القراء . فها هي ذي المجموعة أمامهم : ( صراع – عجيب – دكتور- القرية – بداية النهاية – لقمة العيش – أحلام ضائعة – بوبي – عذاب – خطيب الحرية – ضحية – مغامرة )
هذه هي المجموعة أمامهم ، ولهم أن يقرؤوا ،و لهم أن يمدحوا ، ولهم أن ينتقدوا ولا شك أنهم فاعلون .
أما أنا .. فأود أن أسجل ملاحظات عامة ، وأول ما يجدر ذكره أن تسمية الكتاب بـ(صراع) مشتقة من اسم القصة الأولى . ولكن ذلك لا يعني أن القصص الأخرى بعيدة عن (الصراع) . لا00 فكل ما في الكتاب صراع .. صراع الجنس ، وصراع الاقتصاد ، وصراع التقاليد .. وكل هذه الصراعات في مفهوم العصر الحاضر أمر واحد .. بل كلها يؤدي إلى نتيجة واحدة : هي التقدم إلى الأمام ، وأنا متأكد بأن شاكر هدف إلى هذا .. لأنه من القصاصين الذين يحملون فكرة ويهدفون نحو غاية ويسيرون بوعي .
ومن ينكر أثر القصص التوجيهي ؟! القصص الذي يشرب قلبك الحب والخير والجمال ، القصص الذي يشحنك ثورة على الدعارة والشر والقبح ؛ القصص الذي وفر رواء الأسلوب وصحة الفكرة .
أجل .. الأسلوب والفكرة .. أجل .. لا يفعل القصص مفعوله في الإصلاح الاجتماعي ما لم يوفر الأسلوب الفني والفكرة الصالحة ، أما إذا فقد احد هذين الشرطين فهو أما قصة فنية هدامة .. وأما فكرة معقولة لا تغري المجموع ولا تستهويه ولا تشخذه ؛ وقد دار براس عدد من حملة الأفكار أن يغروا الناس بأفكارهم بتقديمها باسم القصة ، ولكنهم لم يحظوا بغير الفشل لبعدهم عن الفن .. أجل .. الأسلوب والفكرة يجب أن يسيرا فيها يدا بيد . يجب أن يتمازجا . يجب أن يكوّنا شيئاً واحداً .
وقد حاول شاكر التوفر على هذه الوحدة . وقد نجح نجاحاً ملحوظاً . ولكن بعد أن آمن بضرورة هذه الوحدة . وهذا أحد العوامل الأساسية التي تمّيز قصصه في (صراع) عن قصصه الأولى . أجل ؛ فأسلوبه حسن وأنا متأكد بأنه سيكون في أقرب وقت أحسن وأحسن، بل لم لا نقول إنه أحسن . إنه أسلوب قصصي ناجح .
فأنت تلمس الروح القصصي جليا في كل مكان . وإنك أمام قصاص في كل ما تقرأ . إنك أمام قصص لها طابعها الفني لا حكايات على السلاطين وكيفما أتفق .
بل إنك تؤمن تماماً أنك أمام قصاص منذ الجملة الأولى لأية قصة ، ولا غرو فإن شاكرا قد وفّر ما كان يسميه أجدادنا النقاد ببراعة الاستهلال ، أجل ، إن من مزاياه الأساسية براعة الاستهلال القصصي ، وحسبك لتتأكد من هذا أن تقرأ أي مطلع لأية قصة من (صراع) .
على أن القضية ليست قضية مطلع فحسب . لا . فهناك أيضاً ، براعة العرض وبراعة الختام .
ومن هنا وهناك جاء عنصر الإغراء ، فإنك ما تكاد تقرأ الجملة الأولى ؛ حتى تواصل وتواصل وتواصل إلى الجملة الأخيرة من حيث تدري و لا تدري .
واللطيف في أمر هذا الأغراء أن عوامله خفية ، فهو إغراء سام ، ليس من ذلك النوع الرخيص الذي يزجه بعض القصاصين زجا بالإكثار من المفاجأة البهلوانية استجداء لاثارة انتباه الصبيان وسعيا وراء اللعب بعواطفهم أملا بأن يقول فلان قصاص مغر .
لا ، إن عوامل الإغراء في قصص شاكر خفية ، وهذا شرط في القصة الناجحة ، هي خفية ، هي نتاج عوامل عدة سارت يدا بيد ، وتمازجت وتوحدت .
منها ما كان مأتاه الفكرة الصحيحة الصادقة الصالحة ومنها ما كان مأتاه التأكيد الخاص في الضرب على وتر الغريزة الجنسية وفعل الدينار واصطراع الأجيال ، مع ثوب فني مرصع بالاستعارة المناسبة ومزين بالأخيلة الملائمة ومحلّى بالألوان الأخاذة .
بل ، ومنها ما كان مأتاه ما أوضحه الأستاذ لطفي في مقدمته من أن هذه القصص ( .. منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا ، ومن بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء ، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب ، ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح) ومن أن هذه القصص ( تضعنا وجها لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها ، وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرة ، لكن الأستاذ شاكر خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان ) ومن أن هذه القصص ( تتحدث عن طائفة من الناس – عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم ، بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عددا كبيرا من نظرائهم .. وقد استطاع قاصنا أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة؛ وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم ، وهذا توفيق كبير حقاً ، بل إنه البراعة القصصية ذاتها ) .
على أني نسيت التأكيد على ناحية أخرى من نواحي القصة الناجحة ومن نواحي قصص شاكر ؛ ومن نواحي الإغراء ، ذلك هو الحوار . فقد أجاده شاكر أجادة ملحوظة .
كما أني نسيت التأكيد على ميزة أخرى في قصص شاكر ، نسيت أن اذكر أنه يأخذ الصغير ، الذي ينظر إليه كأمر تافه حقير لا يستحق عناية ما ، يأخذه ويوليه عنايته ، وما يزال به حتى يقدمه إليك بشكل يدفعك للاهتمام به0 ولعل في ملاحظات الأستاذ لطفي شيئا من هذا .
هذه بعض مزايا (صراع) ؛ هي بعض ما أعرف ؛ وأصارحك بأني لم أقصد اليها في كلمتي هذه ، وإنما أخذت طريقها عفواً ؛ فأهلا وسهلا .
أما قصدي الأول فهو التحدث عن [شاكر] نفسه .
شاكر .. ولد شاكر في الحلة عام 1930 معمّا مخولا فكلا البيتين من آل خصباك وآل شهيب – بيت كريم مثقف ؛ يتذوق الأدب بل يمجده ، بل ينتجه 0 وحسبك أن تعلم أن خاله هو شاعر ثورة العشرين الأستاذ الدكتور محمد مهدي البصير00 هذا إلى التحرر الكافي الذي يتسم به الأب والذي كان بموجبه أن متع ابنه بقسط كبير من الحرية ، وراح يهيء له حاجياته ، ويحقق له طلباته ، ويحترم له حركاته . وحسبك أن الابن كان يستطيع أنن يشتري أي كتاب ويناقش في أي فكرة ، ويكتب في أي موضوع 0 أقول هذا وأنا أعرف أن الكثيرين من الآباء عندنا يصبّون على أبنائهم سوط العذاب إذا ما نشروا قصة غرامية أو تكلموا في قضية سياسية أو نقدوا قاعدة اجتماعية .
وإذا ذكر فضل الأب فلا تنس فضل الإخوان ، فضل الأستاذ جعفر ، الذي أهتم بأخيه ووجهه منذ الدراسة الابتدائية إلى مطالعة القصص ، وقد كان لمجلة " سمير التلميذ" مكانها الأول من هذا .
وقد حدث في هذا التاريخ (في أوائل الأربعينات) أن تأسست المكتبة العامة ، وكنت كلما دخلتها وجدت طفلا مكبا على المطالعة ‍0 من هو ؟ لم أكن أعرفه قط ، بل إني لا أراه إلا في المكتبة ، ولكن صورته بجرمه الصغير ذائباً في كتابه أمام هذه المنضدة الكبيرة التي لا يكاد يحصل على راحته فيها ، صورته هذه لا تزال واضحة المعالم في مخيلتي ، وأكبر الظن أنه كان يقرأ كل شيء ويخص القصص بالدرجة الأولى .
كان يوالي الدراسة في المكتبة ، ويوالي اصطحاب الكتب ويوالي شراء المنشورات ، وهو تلميذ . وأقول [وهو تلميذ] لأننا ألفنا التلميذ - مع الأسف – أحد أثنين : أما لاهيا لاعبا عابثا . وأما آلة تعيد في قراءة الصفحات المحدودة من دروسه وتبدي ، يدرخ ويصم ويحبر . همه الوحيدة أن يأخذ العشرة من عشرة ، ومن المؤسف أيضا أن هذا الأخير بفعلته هذه كان ينال العشرة من عشرة ، وينال ثناء المدرسين وينال احترام الجميع . وأقل ما يثنى به عليه أن فلانا [تلميذ صدك] تلميذ بكل معنى الكلمة ، تلميذ لا يعرف غير دروسه ، ولو عقل القوم لاحتقروا هذا " الفلان" ولعلموا أنهم يعدمون مؤهلاته بهذا الثناء الغلط ولعلموا أن قاعدة " أما ترى الحبل بتكراره بالصخرة الصماء قد أثرا " قاعدة لا تصلح إلا للأغبياء والبلداء .
هذا هو التلميذ عندنا ، أما شاكر فما رضيت نفسه أن يكون هذا الفلان . إن المدرسة ومدرسيها وكتبها ليست إلا ناحية واحدة من هذا الكون واسع ، ما قيمة هذه المدرسة بالنسبة لما تزخر به المكتبات ولما تنتجه المطابع كل يوم ولما تبدعه القرائح كل لحظة . إن عليّ أن أقطف الثمر من أكثر من بستان واحد ، علىّ أن أخرج من محيط المدرسة الضيق ، علىّ أن أقرأ أكثر ما يمكن ، بل علىّ أن لا أتأخر عن النشر عند الحاجة .
وهذا ما حدث بالفعل . فقد نشر شاكر قصصه في سن مبكرة جداً . بدأ في النشر وهو في الثانوية بل في المتوسطة ، ولا تتصور أن المجلات الكاسدة هي التي تخص شاكر . لا، فقد فتحت له أمهات المجلات العربية صدرها وحسبك منها الطريق والأديب وشهرزاد والرسالة ، بل إنه زاد على المطالعة والنشر بأن كوّن صداقات أدبية لها أثرها الكبير ، وحسبك أن يكون على رأس هؤلاء الأصدقاء الأستاذ الجليل محمود تيمور ، ومكانة تيمور من القصة أظهر من أن يدلّ عليها ، ولكن الذي يجدر ذكره أن الأستاذ تيمور كان – ولا يزال – يحترم شاكرا ، وكانت نسخة شاكر تصل العراق من مؤلفات تيمور ؛ ولهذا لا أراني أخطأت حين قلت عند تشرفي بزيارة تيمور فسألني عن شاكر : إن شاكرا هذا إذا أصبح – وسيصبح فعلا – شيئاً ، فإن لتيمور فضله الواضح في تكوين هذا الشيء . أجل ، إن تيمور عامل واضح في تكوين شاكر ، وتبدو لهذه العوامل في أسلوب شاكر آثار ، ولا غرو فتلمذة الكتب والمراسلة تفوق تلمذة المدرسة .
وهذا وذاك يدل على أثر له قيمته ، يدل على أن الكفاءة تثبت نفسها بنفسها . فمع أننا في عصر الوساطات إلاّ أن شاكر كان يبعث قصته لمجلة ما فتنشرها له دون أن تعرفه ، ثم يدل على أثر آخر له قيمته أيضاً ، يدل على أن إنتاج شاكر لم يكن هزيلا ، لا يكاد المحرر يقرأه حتى يضحك ويرميه في سله المهملات وهو يردد : كم ابتلاني الله بهؤلاء الذين تحدثهم أنفسهم بأمور ليسوا منها في شيء ، إنه يقرأ ، فيعجب ، فينشر.
ولكن .. ولكن هل كان هذا (الولع) بهذا النوع من النشاط يعوق تفوق شاكر المدرسي؟ لا . أبدا ، فهو دائماً في الطليعة . في الأمام . الأول ، وهذا يكفي لإقناع الآباء والمدرسين والتلاميذ لأن يقلعوا عن ضلالهم القديم .
على أن الحق يقال أن النظريات التربوية قد تقدمت وأن بعض المدرسين كان يشجع شاكرا ويقدره ويحترم سلوكه . وإني لأحسد إنسانا له هذا النشاط ، إنسانا ينهمك في كتابة القصة ليلة الامتحان ثم يدخل (البكالوريا) في الفرع الأدبي ، ويخرج منه متفوقا مرفوع الرأس ، أول زملائه ، وإذن فالبعثة حقه الطبيعي .
أجل ، حقه الطبيعي ، وكان حريّا بأولي الأمر أن يلحظوا موهبة شاكر ونشاطه الخاص ، وتفوقه الخاص ، فيبعثوه بما يتسق وطبيعته ؛ ولكن ذلك لم يقع وإنما بعث شاكر لدراسة الجغرافيا في مصر .
ولكن للفطرة التي استفادت من ظروف كتلك التي مرّ ذكرها ، وهيأت لها من الأجواء كتلك التي سلف الحديث عنها ، واخترقت من القيود كتلك التي مر الكلام عليها ، أقول إن هذه الفطرة وحدها كفيلة بأن تقوي الأمل بأنها هي نفسها ستعرف كيف تستفيد وكيف تهيأ وكيف تخترق ؟! وهذا ما حدث فعلا، فإن شاكر ما كاد يصل مصر حتى اقتنع أن في الجغرافية مجالا جديداً للقصاص . ثم أن له في مصر أصدقاء مرموقين في دنيا القصة العربية ، وإذا كنت قد عرفت الأستاذ تيمور فاعرف الآن نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار .
ثم أن عليه أن يراجع قصصه السابقة ويضيف إليها تعديلا ويزيد عليها جديداً ، وينشرها في الناس . وهذا ما حدث فعلا إذ طلع علينا بأولى مجموعاته (صراع) .
طلع علينا (بصراع) وعمره .. كم عمره ؟ أتدري كم ؟ لقد سألت احد الأدباء الذين قرؤا لشاكر فقال إنه لا يقل عن الأربعين ، ولا شك في أنك إن قرأت قصصه ووقفت على ما فيها من أفكار وما لها من أسلوب لن تستطيع أن تقدره بأقل من الأربعين . إن عمر شاكر يصلح لأن يكون مسابقة أدبية ، ولكن ( الأستاذ لطفي) أفسد علينا طرافة هذه المسابقة ، إذ كتب في المقدمة ما كتب من أنه (شاب حدث) ، أجل ، إنه شاب حدث ، إنه دون العشرين .
وهذا دليل جديد على أن شاكر مفطور على القصة ، أجل القصة فطرة ؛ القصة موهبة خاصة ، وهذه الموهبة الخاصة هي العامل الأول في تكوين القصاص ، أما ما عداها فمهذبات ومشجعات ومعجلات .
أجل القصة فطرة يا شاكر ، أخاطب شاكر بالذات لأنه طالما أنكر ذلك ، وهذه الفطرة ، وهذه العوامل ، وهذا الصراع ؛ كل ذلك يؤيد أن " القطر" سينهمر ، وأن الفجر سيصبح ، وأن النواة ستثمر .


(4)
ولكن هل إن شاكرا يخلو من مناطق ضعف ؟ أستغفر الله ما قلت هذا ! فإني طالما صارحته بأنه لن يكون القصاص الكامل ما لم يتوفر على إتقان تام للغة أجنبية واحدة على الأقل ، وإني أرى أن يتأنى قليلاً في إخراج قصصه الأخرى قدر ما يقتضيه الإتقان ؛ وقدر ما يستلزمه التوفيق بين الجغرافية والقصة ، وقدر ما قطف من ثمار تأخير إصدار صراع مدة تقترب من عام كامل 0 أجل ، ما قلت أن شاكرا يخلو من ضعف ، لا ، وإنما كل ما في الأمر أني أخذت الكلام من ناحية وتركت لغيري الكلام في النواحي الأخرى من محاسن ومساوئ .

علي جواد الطاهر
باريس – الغري النجفية (1950)





مقدمة
بقلم : عبد المجيد لطفي

تستأثر القصة اليوم بالكثير من وقت الأدباء والمؤلفين ، وتنتشر بين القراء انتشاراً واسع النطاق . وهي بحق وسيلة مفضلة لدى الكاتب والقارئ معا . إذ ينشر الكاتب القاص في قصصه أفكاره وآراءه ويدعو إلى المثل التي يراها أنفع للحياة الاجتماعية في إطارها الخاص والحياة الإنسانية في إطارها العام . لذلك يخطئ من يحسب القصة ملهاة أو متعة ذهنية عديمة الجدوى ، إذ أنها بما فيها من عناصر الإغراء والتشويق خير مسرح لإظهار الشخصيات التي ينتقيها المؤلف ويلتقطها من الحياة التي يعيش فيها كل قارئ ويضع على أفواههم خلاصة ما عنده من ثقافة وذوق وأدب .
وفي اعتقادي أن من يهاجم القصة ويراها نوعا من الأدب المزيف أو غثا لا فائدة فيه هو أحد اثنين : إما مؤلف فاشل أخفق في كتابة القصة أو قارئ جامد الحسّ لا يريد أن يرى ما في الحياة من أصداء وتجارب وآلام تجليها القصة التي كتبت بلباقة كاتب ذكي حر جميل الأسلوب .
ومن حسن الحظ – حسن حظ الفكر – أن هؤلاء الشامتين بالقصة عن جهل والموسمين إياها بما هي براء منه هم قلة ضئيلة ، وأن الزمن وتطور الحياة المتجددة يدفعهم ويسحقهم ويفرقهم .. فما من قوة تستطيع صدّ تقدم القصة الماشية مع الحياة والمعبّرة بتفصيلات دقيقة عما فيها من مآسي وعما يجب أن تكون عليه . وقد أثبتت القصة في هذا الأمد الطويل أنها قوية حية ، حيث ساهمت بقسط وافر في تحفيز الهمم ونشر المبادئ النافعة .
ثم إن القصة مرنة وقابلة للتطور وسباقة في ذات الوقت . ذلك لأن كتّابها أوسع أفقا وأرحب خيالا من غيرهم . وإن مداركهم لتمتد فترى الشيء الكثير مما يخبئه المستقبل أو ما ستكون عليه حياة الناس . وهي أبدا دعوة للتجديد والحرية ، فما تقدم العلم خطوة حتى كان الأدب القصصي إلى جانبه يعززه ويدفعه ويدعمه ، فهذا علم النفس وهو علم جديد في مرحلته الأولى وجد النماء والحياة بسرعة عندما وجد مؤازرة فعالة من القصة 0 والقصة التحليلية التي تتسم بالفحص العميق والاختيار البعيد للحالات والنفسيات التي مرّ بها المؤلف هي خير معين في زيادة اختبارات علماء النفس وتنميتها . وكثير من المبادئ الإنسانية أو مبادئ الاقتصاد أو النظريات العلمية أصبحت مفهومة ومقربة إلى ذهن القارى العادي ، لأن القصة ألقت عليها روحا جديداً ورونقا أخاذا محببا وأنقذتها من صلابة العلم وجفافه ، وبذا أصبح العلم مخضل الجوانب وارف الظلال .
أما المشاكل الاجتماعية المعقدة والمآسي الأخلاقية المؤلمة فقد ظهرت بأنصع صورة في القصص . فلقد وضع القلب البشري تحت شمس ساطعة وعرف ما يدب فيه من حقد ورغبة وانخذال وغرور . وقد عرفنا ذلك في ما نقرأ من قصص لكبار القصاصين والأدباء ، أولئك الذين تزودوا أحسن الزاد من الثقافة والتجارب ووهبوها لنا بإخلاص وإغراء .
والواقع أنني لست بحاجة – كما أعتقد – أن انبري للدفاع عن القصة . فالقراء يعرفون ما أعطتهم وما وجدوه في قراءاتهم الشخصية من متعة وفائدة ولذة وتوجيه وحقائق رائعة . ولست أجد كذلك ما يدعو لذكر ماضي القصة لأن أول قصة كانت قد حكيت عندما وجد على البسيطة رجل وامرأة . وستختم القصة عندما يلفظ أنفاسه أخر إنسان على الأرض . وقد كتبت آلاف القصص وحكيت الملايين منها ، وستكتب آلاف وتحكي ملايين إلى أن تنتهي الحياة في كوكبنا هذا . فالإنسانية تعبر من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى المستقبل على جسر من القصص والحكايات الطريفة والمؤلمة ، المأساة والملهاة والمهزلة .
وفي المرحلة الأخيرة التي عاشتها القصة تطورت كثيرا وأصبحت ذات فن وأساليب ومدارس . واستفادت من اختبارات المئات الذين مارسوا كتابتها . ومع أنني أؤمن أن للقصة و لكتابتها بعض الشرائط والقواعد إلا أنني لا أصدق بأن هذه القواعد والشرائط هي الكل في القصة الناجحة . إذ هناك روح الكاتب وأسلوبه ودقته في التعبير . فنحن نقرأ أحيانا قصصا تتوفر فيها كل عناصر القصة الفنية الحديثة ومع ذلك لا نجد فيها ما يريحنا كثيرا ، في حين نقرأ قصصا أخرى انعدمت فيها الشرائط الفنية لكننا نجد فيها حلاوة ولذة وفائدة0 والواقع أنني مع المعتقدين أن شرائط كتابة القصة شيء أصولي تواضع عليه النقاد ، ولكن هذه الشرائط لا يمكن أن تستمر هذه إلى الأبد ، بل لا بد من تطورها وتغيرها أيضا ، ولا يستطيع ذلك بالطبع غير العباقرة الأفذاذ والحياة غنية بهم دوما ، فنحن نعرف أن قواعد الموسيقى المرعية من قبل كبار الفنانين والعازفين قد خرقت مرارا . حتى أن أخطاء بتهوفن نفسه أصبحت قواعد مرعية فيما بعد لدى العازفين ! وهكذا الأمر في جميع فنون الفكر .
***
هذه مقدمة وجب علىّ ذكرها لكي أرجع إلى القصة عندنا . ولا أقصد بهذا القول القصة العربية عموما ، بل القصة العراقية المنشأ والاتجاه والأبطال . فقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك . فمع أننا في بدء نهضتنا وبدء تخلصنا من قيود القدماء وأفكارهم المحدودة ، ومع أننا في بدء فهمنا للحياة العصرية فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف . وحين أقول ذلك أترك ورائي عددا كبيرا من القصص الفاشلة ، وعشرات من الكتّاب والأدباء الذين أرادوا أن يكونوا قصاصين فخابوا ، وإنما أتحدث عن أولئك الذين بدؤا بكتابة القصة مزيجا من الحسّ والاختبار وحسن الأداء . ومع أن هؤلاء قلة الآن فإننا نجد لحسن الحظ أن عددهم في تكاثر ، وأن عدد من نتوسم فيهم النجاح والنضوج أكثر من عدد المخفقين والمتضعفين والمتكلفين . ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ وننتظر منهم تقدما واطرادا في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة . وهو شاب حدث قرأت له قصصا ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب ، فكتبت إليه مبديا هذا الإعجاب ، فما خيّب ظني به ، إذ وجدت نفسي بعد حين أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة . وإذ أقبلت على دراستها في عناية ألفيت أنها كتبت بأسلوب حيّ رائع وروح متحررة مخلصة ونفس تحرت الحقائق وعاشت في محيط واقعي محض ، ولذلك جاءت تلك القصص واقعية أصيلة ، منضوية تحت لواء خير مدارس القصة الحديثة . وإني إذ أقول واقعية فلأنها تجردت من الرومانتيكية الباكية وما فيها من يثّ النجوى والمغازلات الرخوة ، ولأنها تخلصت أيضا من حبائل الكلاسيكية التي لا تريد أن تعترف بتقدم أو تطور وتضع العقل في حجر يصعب الخروج منه .
فالقصص التي ستقرأها إذن منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا ، ومن بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء ، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح .
ولا أريد بالطبع تلخيص هذه القصص فإن التلخيص يخرجها من الروح التي كتبت فيها ، ولكنني بوسعي أن أقول لك إنك ستخرج من قراءتها بأفق أوسع ونفس مليئة بالسخط على البعض من أبطالها وطافحة بالرضى عن البعض الآخر .
***
والواقع أن هذه القصص تضعنا وجها لوجه مع حقائق مرة كثيرا ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبّرة ، ولكن الأستاذ خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان .
وسترى أيها القارئ أن الفضيلة والرذيلة والفقر والثراء في صراع دائم بين أبطال هذه القصص . وأنت ملزم بحكم الذوق أن تكوّن طرقا مع هؤلاء الأبطال فتؤيد وتنتقد وتغضب وترضى . وفي جميع هذه الحالات يكون المؤلف قد بلغ مبتغاه ووضع أساسا مكينا لنجاحه في هذا الفن .
***
ومن الواضح أن الأستاذ خصباك قد وضع أمامنا طائفة من الناس وتحدث عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم . بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدد كبيراً من نظائرهم .وقد وفّق والحق يقال أيّما توفيق في إبراز النواحي الاجتماعية في حياة أبطال قصصه . إذ كانت صوره لبقة بارعة تفيض بالحسّ والجمال . حتى المآسي المرة الموجعة كانت ذات روعة خاصة .
وقد استطاع قاصنا بأسلوبه الحيّ المتدفق حماسا وقوة أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة ، وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر المخلص الصادق ، حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق ان عرفتهم وبلوتهم . وهذا توفيق كبير حقا ، بل إنه البراعة القصصية ذاتها .
***
ومع أنني من المؤمنين بأن القصة تكون أغزر وأجمل في الحياة الاجتماعية المعقدة ،وأن القصاص يجد أمامه مادة أغزر وأكثر في الحياة الصاخبة كحياة الغربيين وما يكتنفها من حركة وتطور ومادية ومطامع ، أقول مع ذلك كله فإن الأستاذ شاكر خصباك قدم لنا قصصا ناجحة جداً من حياتنا ومن أبناء وطننا بفقرائه وأغنيائه وسادته وعبيده .
وإني لسعيد كل السعادة حين أتركك أيها القارئ الآن مع هذه القصص لأني واثق أنك ستجد فيا ما وجدته أنا فيها من متعة ذهنية ولذة قلبية، وسترى ما رأيت فيها من حقائق أزيح عنها الستار بقلم نابض بالحياة .
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أقول بأن قصص هذه المجموعة ظفر للأدب القصصي الحيّ ، وظفر للحماس في الكتابة المجدية .

عبد المجيد لطفي




صراع
امتلأت شوارع الموصل بالإعلانات عن فرقة الكواكب الجديدة التي حلت في المدينة لتقيم فيها الحفلات لبضعة أسابيع . وانتهزنا أنا وصديقي نهاد هذه الفرصة وحجزنا تذكرتين في ملهى حمورابي في الصف الأول . ولكن سرعان ما دب السأم إلى نفسينا ونحن نراقب فقرات البرنامج الهزيلة . وكنا على وشك مغادرة الصالة حين برزت على المسرح راقصة عجفاء ترقص بتبذل فاضح ، وإذا بنهاد يتشبث بمقعده وقد تسمّرت عيناه على وجهها في فضول غريب . وفجأة تباطأت الراقصة في رقصها وهي تنظر نحونا ، وظلت أنظارها معلقة بمائدتنا طوال الوقت . وما أن غادرت المسرح حتى فوجئنا بها تقف بجوار مائدتنا . قالت تخاطب نهاد : ألست نهاد ؟
فمد نهاد إليها يده مصافحا وقال : نعم يا فاطمة .
فجلست إلى مائدتنا وقد تألق وجهها . قالت وهي تهز رأسها بإعجاب : ما شاء الله 00 صرت شابا جميلا يا نهاد .
فابتسم نهاد بحياء ، فأضافت وهي تكاد تلتهمه بنظراتها : ولكنك كنت جميلا منذ كنت طفلا يا نهاد .
قال نهاد وهو يتجنب النظر في عينيها : ما أعجب المصادفات في أن نلتقي بعد كل هذه الأعوام في مثل هذا المكان يا فاطمة .
فقالت بنبرة حزينة : هذه حال الدنيا 0 إنها غدّارة يا نهاد !
ثم هزّت رأسها في لامبالاة وأضافت : دعنا من هذا الحديث فإنه لا يسر وحدثني عن حياتك .
وانقضى الوقت سراعا ولم نشعر إلاّ والراقصة تستأذن في الانصراف . فغادرنا الصالة إثر انصرافها وسلكنا الشارع المجاور للنهر . وكان البدر يتوسط السماء ويغمر دجلة والشارع والكون بنوره الألاّق . وكانت النسمات تهب عبر النهر بليلة منعشة .
سرنا في صمت ، وكان يبدو على نهاد أنه يجترّ ذكريات بعيدة . قلت له أخيرا وأنا أتابع نظراته الشاردة : يبدو أنك عرفت هذه الراقصة من زمن بعيد يا نهاد .
فنظر إليّ وابتسامة خفيفة تطوف على ثغره ثم قال : فعلا عرفتها من زمن بعيد .
وسكت لحظة ثم راح يتحدث وكأنه يستعيد ذكريات غابرة : أذكر أنني كنت في الثامنة من عمري حينما عرفتها . وكنت في الصف الثالث الابتدائي في المدرسة الغربية وليس لي أحد من الصحاب في المدرسة أو خارجها . فقد كنت غريباً في محيطي الجديد إذ كان والدي الموظف قد نقل من الديوانية إلى الحلة .ولمّا كنت صغير السن فإنني لم أكن أغادر منزلي إلاّ لأذهب إلى المدرسة متخذا درباً معيناً لا أعرف غيره ولا أحيد عنه . وكنت كلما توسطت ذلك الدرب تناهت إلى سمعي ضحكات ناعمة تنطلق من نافذة تشرف على الدرب لمنزل متميز . فإذا رفعت رأسي رأيت فتاة لطيفة تطل من تلك النافذة . وكانت عينا تلك الفتاة تتعلقان بوجهي بإلحاح يثير خجلي . فكنت أسرع في سيري لتجنب نظراتها الملحة . بل كثيرا ما كنت أقاوم فضولي لدى سماعي ضحكاتها فلا أرفع رأسي إلى النافذة وأجتاز الدرب مسرعا وعيناي مثبتتان في الأرض .
وذات يوم سمعت وأنا أجتاز الدرب صوتا ينادي ورائي : يا ولد .. يا ولد .
التفت وإذا بفتاة النافذة تتقدم نحوي وهي تحمل كيس حلوى . قالت وهي تمد إليّ يدها بالكيس : هذا الكيس لك .
وفتحت الكيس فرأيته مليا بالجكليت و المصقول .قلت متلكأ اللسان : لماذا ؟! لا أريده .
فابتسمت الفتاة ابتسامة رقيقة وقالت : خذه ولا تكن خجولا .
فنظرت إليها محتارا وقد بدأ ريقي يتحلّب . ثم وجدتني أختطف الكيس وأجري مهرولا .وهكذا تم التعارف بيني وبين فاطمة . وسرعان ما تطورت هذه المعرفة إلى صداقة متينة . ودأبت على زيارتها كل يوم . وكانت تعد لي مآكل شهية . فكنت أتبلغ بطعامنا في وجبة الغداء لأملأ معدتي من مآكلها اللذيذة . وشتان ما بين مائدتها الحافلة بألوان الأطعمة ومائدتنا التي كانت تجتزىء بلون واحد يكاد يتكرر كل يوم . وكانت تحرص دائماً على أن تحضر لي الحلوى التي أحبها وهي الحلقوم والسمسمية و الكركري 0
وسكت نهاد لحظة وكأنه يستعيد الأحداث في ذهنه ثم عاد يتحدث : لكنني دفعت ثمن تلك الصداقة غالياً يا عزيز .. دفعتها قبلات كانت تضايقني أشد المضايقة . فقد كانت وهي تقلبني يهتز جسدها اهتزازات عنيفة ويعلو صدرها ويهبط في اضطراب يخيفني . وكم شعرت بالاختناق من أنفاسها الحارة اللاهثة التي تلفح وجهي . ولم تكن قبلاتها وحدها التي تضايقني . كنت أعاني طوال وجودي معها من الضيق والحياء 0فقد كانت تقوم بحركات غير لائقة تخجلني0 وكانت تجلس دائماً على مقعد وتأبى عليّ إلاّ أن أتخذ من حجرها مقعدا لي . ثم تطوق جسدي بذراعيها وتشدني إلى صدرها شدا محكما . وكثيراً ما تراخت على مقعد قبالتي وأسندت ساقيها إلى مقعد أخر فتراجع فستانها واستقر قرب الخصر وانكشف جسدها لعينيّ . وكم كان وقع ذلك شديدا على نفسي ! ولكن على الرغم مما كنت أعانيه من خجل وضيق في تلك الجلسات فإنني عجزت عن مقاومة مغرياتها0 على أية حال تلك كانت حالي وحالها . لكن الدنيا لا تدوم على حال ، وما كانت لتدوم لنا وعين أمي الثاقبة قد نفذت إلى التغير الذي طرأ على حياتي . ففي ظهر يوم بينما كنت ألتهم غدائي على عجل باغتتني سائلة : لِمَ تتناول طعامك بهذه العجلة يا نهاد ؟
وكنت قد أعددت جوابا لمثل هذا السؤال لقنتني إياه فاطمة ، فقلت : إنني يا أمي تعلمت لعبة كرة المنضدة وأريد أن أرجع إلى المدرسة مبكرا لألعب هذه اللعبة .
فهزت أمي رأسها في ارتياب . لكنني لم آبه لها وأسرعت إلى دار فاطمة شأني كل يوم . وكانت فاطمة قد استلقت على مقعد تجاهي وأسندت ساقيها إلى مقعد آخر فانكشف جسدها . وكنت أنصت إليها وهي تحكي لي بلهجتها الفاترة أخبار العشاق ومغامراتهم المشوّقة . وفجأة انصفقت باب الدار ودوّت صيحة جزع تبينت فيها صوت أمي . وتسمّرت فاطمة في مقعدها مذعورة . وتسارعت ضربات قلبي حتى خيّل إليّ أن طبلا يقرع في جوفي . أقبلت أمي على فاطمة وصفعتها بكل قوتها وصاحت : يا عاهرة .. أفسدت ولدي .
فهزت فاطمة رأسها وقالت بلهوجة : أبداً .. أبداً
فصرخت أمي : وماذا كنت تعرضين له من جسدك النجس يا عاهرة ؟
فحنت فاطمة رأسها ولم تتكلم . وأعولت أمي مولولة : أفسدت ولدي الصغير .. ولدي التعس .. ولدي المنكود .
وما شعرت إلاّ و الدموع تنحدر على وجنتيّ حارة لاهبة 0تطلعت فاطمة إلى أمي بنظرات متوسلة وقالت : أنا مظلومة يا أم نهاد .
فقاطعتها أمي : بل ما أنت سوى عاهرة . ألا تخجلين من فعلتك وأنت امرأة متزوجة ؟
فهزت فاطمة رأسها في استهانة وقالت في تهكم : وهل يحسب عليّ زوج هذا العاجز الذي اشتراني بماله ؟
فقالت أمي وهي ترميها بنظرة احتقار : اشتراك بماله أم لم يشترك فأنت امرأته وقد جنيت على ولدي بسلوكك الساقط ، جزاك الله عنّا شرّ الجزاء .
ثم التفتت إليّ وأمسكت بمعصمي وضغطت عليه بقوة وجذبتني وراءها موسعة الخطى كالهاربة من دار شبّت فيها النيران !




عجيب !
عجيب ! كيف حدث هذا ؟! أنا المتشرد .. أنا المعدم .. أنا الذي لا يجد لقمة يسد بها جوعه .. أنا زبالة الشحاذ . ما معنى وجودي في هذا المتجر الفخم والألبسة الفاخرة تكسوني من رأسي حتى قدمي ؟! كنت أتحسّر على ثوب يستر جسدي ، فكيف حصلت على هذه الملابس الغالية ؟! إما أن أكون قد جننت أو أنني أحلم .. ولعلني لست زبالة الشحاذ .
_اسمع يا أخ .. أتعرفني ؟
عجيب ! إن هذا العامل يضحك مغتبطا ! لماذا ؟! أفي سؤالي ما يدعو إلى الضحك ؟ كأنه سمع دعابة طريفة !
-ومن يجهل الوجيه زبالة صاحب أكبر متجر في العاصمة يا سيدي؟
عجيب ! ماذا يقول هذا العامل ؟! أنا صاحب هذا المتجر العظيم ؟! أنا ؟! حقا إن الله سبحانه وتعالى يمنّ على عباده بكنوز الأرض في غمضة عين متى شاء . وصدق المثل القائل" من صبر ظفر" 0 فها أنذا قد ظفرت بالثروة بعد أن صبرت على الفقر أفترش الأرض وألتحف السماء . لكنني لم أكن أحلم أن أكافأ على صبري هذه المكافأة العظيمة . شكراً لك يا رب . لقد وهبتني بين يوم وليلة هذا المتجر العظيم الذي كنت أحسد نفسي على مجاورته . سأتجول في المتجر وأتفرج على ما يحويه من بضائع .
عجيب ! عجيب ! كل هذه الثروة لي يا رب ؟! رحماك يا إلهي . هبني من لدنك قوة أصون بها عقلي من الخبل . أتذكر أنني توسدت الرصيف لآخر مرة والجوع يعصرني عصرا 0 فكيف هبطت عليّ كل هذه الثروة ؟! ولكن ألست تعطي عبادك متى تشاء بغير حساب ؟! فلأكف عن التفكير في مصدر هذه الثروة . سأجلس على ذلك المقعد لأشرف على البيع .
حمدا لك يا رب ! ما أجمل أن أغوص في هذا المقعد وما أعظم الفرق بينه وبين الأرض الخشنة التي كنت أفترشها بالأمس ! وهؤلاء النسوة .. ما أحلاهن ! يا سبحان الله ! كنت أقتعد الرصيف في طريقهن وأمدّ يدي أسألهن الصدقة فما كنّ يتصدقن عليّ بفلس واحد . وكن يبتعدن عن يدي الممدودة لئلا تمس فساتينهن الأنيقة0 وها هنّ ينفقن عشرات الدنانير على مشترياتهن . بإمكاني أن أحرمهن بإشارة من يدي من شراء ما يرغبن فيه من البضائع .. فسبحان مغيّر الأمور !
ها قد انتصف النهار وإني لأشعر بجوع شديد . ماذا سأفعل ؟! الحمد لله . ها هو خادمي عباس يدعوني إلى المضيّ إلى البيت لتناول الغداء .
_السيارة جاهزة يا سيدي .
عجيب ! أية سيارة يا رجل ؟ أأمتلك سيارة أيضا ؟ أهكذا تهبط رحمة الله على عباده دفعة واحدة ؟ صدقت يا عباس ، فها هي ذي سيارة فخمة تجاور باب المتجر ! ما أبدعها وما أسعدني بركوبها ! ها هي ذي تطوي بنا الأرض وكأننا محلقون في الهواء ! لن أكون بحاجة إلى قدميّ بعد اليوم ما دمت أمتلك هذه السيارة .ها قد توقفت السيارة أمام قصر عظيم . ما هذا يا ربي ؟ أي قصر هذا ؟ أهو لي ؟ رحماك يا إلهي .. لقد وهبتني الثروة لكنك ستسترد عقلي .
ها قد حضر الطعام .. عجيب ! ما هذه الأصناف التي ازدحمت بها المائدة ؟! هذا صحن الرز . هذا صحن اللحم . وهذا .. وهذا . ها قد جاء دور الفاكهة ، برتقال . ليمون . رمّان . موز . عفوك يا ربي إن سألت هذا السؤال : فهل خلقت بطون الأغنياء أوسع من بطون الفقراء ليقدّم لواحد منهم هذا الطعام الذي يشبع العشرات ؟
وهذه الملاعق والسكاكين والأدوات التي تشبه كفّ البشر .. ما الداعي لها ؟ ولماذا يتناول الإنسان طعامه بهذه الأدوات القاتلة ؟ أجننت لأدخل كفّ الحديد في فمي فيقطع لي لساني ؟! ما أشد كفرانكم أيها الأغنياء ! لقد استعضتم عن أقدامكم بالسيارة تركبونها كلما خطوتم خطوتين . واستعضتم عن أصابعكم بأصابع من حديد لترفع الطعام وتدفعه في أفواهكم . ولم يبق لكم إلاّ أن تستعيضوا عن ألسنتكم بأداة تغنيكم عن الكلام !
ها قد امتلأت معدتي ولم يزل الطعام مكوّما على المائدة . شكرا لك يا رب ..
_أحب أن أذكّرك يا سيدي قبل قيلولتك أن لديك موعدا في الرابعة والنصف مع الوجيه محيسن .
عجيب ! بماذا يهرف عباس ؟! الوجيه محيسن ؟! أنا لا أعرف سوى محيسن رفيقي في الشحاذة الذي كنت أمضي معه كل وقتي بجوار متجر أحلام العرائس . فهل أصبح وجيها أيضاً ؟! كل شيء جائز .. وما الأمر على الله ببعيد! ألم أصبح أنا وجيها ؟!
_وسأوصي السائق أن يعدّ لك السيارة في الساعة الرابعة .
_لا . لن أحتاج للسيارة يا عباس .
هذا أفضل . سأجوب الشوارع على قدميّ ليرى رفاقي الشحاذون ملابسي الجديدة . وسأزور صديقي العزيز محيسن .. نعم سأزوره في مكانه المعتاد بجوار متجر أحلام العرائس .. والآن سألجأ إلى غرفة النوم لأستمتع بقيلوتي .
عجيب ! عجيب ! ما هذا الفراش الوثير ؟ إنه يرتفع وينخفض بي وكأنني في أرجوحة ! أهكذا يتمتع الأغنياء بحياتهم ؟! متاجر وقصور وسيارات وألوان شهية من الطعام وأسرّة كالمراجيح ! ما أسعدهم وما أشدّ بؤسنا نحن الفقراء !
ها قد انقضى الوقت سراعا وحلّ العصر . سأطوف الشوارع على قدميّ وسأبدأ أولا بشارع النهر !
عجيب ! لماذا لا يتعرف عليّ أي واحد من الناس ؟ وهؤلاء الشحاذون الذين يزحمون الشارع والذين كنت أعرفهم ويعرفونني .. ما بالهم لا يلتفتون إليّ ولا يحيونني ؟ هل يعني هذا أنني سأكون بلا أصدقاء ؟
ها قد بلغت مقري القديم بجوار متجر أحلام العرائس وهاهو صديقي محيسن يفترش الأرض في موضعه الدائم . سأجود عليه ببعض النقود من دون أن أكشف عن حقيقتي .
_تعال يا رجل .
_نعم يا مولاي0
_خذ هذا .
_ها ! درهم ! الله يمدّ في عمرك يا مولاي . الله ينعم عليك بالمال والبنين والصحة والعافية .
ها .. ها لم يكتشف حقيقتي . فلأناده وأسأله عني .
-تعال يا رجل .
_مولاي .
_ أتعرف شحاذا اسمه زبالة كان يقيم في هذا المكان دائما؟
_نعم يا مولاي .
_وأين هو الآن ؟
_لا أدري . اختفى منذ ليلة أمس ولا أعلم أين ذهب . كان صديقي العزيز .
_خذ هذا أيضا .
مسكين ! كم ابتهج بالدرهم الثاني . إنه يقلّبه في كفّه كأنه غير مصدق ما يرى ! ماذا سيكون حاله إذن لو هبطت عليه ثروة كاللتي هبطت عليّ ؟! .. أتعبني السير وعليّ أن أرجع إلى القصر .
-مساء الخير يا عباس .
_مساء النور يا سيدي .
ما أبدع أن يصبح الشخص ثريا ! انحنى عباس أمامي وأفسح لي الطريق . إن عباس ليذكّرني بشرطي المرور الجبار الذي كان يتخذ موضعه في الساحة المقابلة لمتجر أحلام العرائس وإنه ليشبهه تماما بجسده الضخم وشاربه الكث ووجهه المتجهم . وكم نلت منه من صفعات على قفاي بسبب وبدون . سبحان الله ! يخلق من الشبه أربعين !
أشعر بالتعب . لو كنت أعلم أن قدميّ ستؤلمانني من المشي لركبت السيارة . سأستخدمها غدا من الصباح الباكر حتى المساء .. إنني في حاجة الآن إلى النوم فالنعاس يكاد يصرعني .
ما أبدع هذا الفراش ! ها قد عاد يرتفع بي وينخفض كأنني في أرجوحة ! ولكن ما هذا ؟ أشعر بوخز شديد في ظهري . عجيب ! أي شيء في هذا الفراش الوثير يخزني بهذه القوة ؟
00عبثا أحاول النوم ما لم أتخلص من هذا الشيء المزعج00 فلأفتح عينيّ وأفحص الفراش لعلني أكتشفه ! عجيب إن جفوني ثقيلة ولا أستطيع فتحها 00لكأنني نمت منذ ساعات وساعات !
ها قد استطعت أن أفتح عينيّ . يا إلهي .. ما هذا ؟! إنني ممدد على الرصيف بجوار " متجر أحلام العرائس " ، وها هي الشمس توشك أن تغرب وشرطي المرور عباس يلكز ظهري بحذائه ويزأر كالأسد الثائر : " تنح عن الطريق للناس يا ابن الكلب" 00 عجيب ! أين المتجر ؟ أين القصر ؟ أين كل ما رأيت ؟





دكتور القرية
كان المطر يهطل بغزارة ، والرعد يقصف مدوّيا ، والبرق ينير لي الأزقة المظلمة الموحلة التي خبت ذبالات فوانيسها فلم تعد تنير غير زجاجها المحطم القذر . وكانت قدماي تغوصان في الأوحال فيتعذر عليّ السير . وأخيرا بلغت مسكن الدكتور . وكانت دار الدكتور قائمة في طرف القرية بجوار المستوصف الحكومي يحيط بها فضاء واسع يترامي على مدّ البصر . فكانت منعزلة عن بيوت قرية المحاويل كأنها تترفع عن مجاورة بيوت مبنية من الطين وهي المشيدة بالحجارة الصلدة .
طرقت الباب بالمطرقة الحديد فلم يجبني أحد . فكررت الطرق حتى تناهى إلى سمعي صوت يهتف مغيظا : من أنت ؟
فهتفت : افتح لي الباب يا دكتور .
وسمعت سيلا من اللعنات ثم فتح الباب وظهر الدكتور وهو يحمل مصباحاً زيتيا ينير المدخل . وما أن لمحني على ضوء مصباحه الخافت حتى قال في امتعاض : أدخل .
خطوت إلى داخل المنزل وأنا أمسح عن ثيابي ما تجمع عليها من قطرات المطر . نظر إليّ الدكتور باستياء وتساءل بجفاف : ماذا تريد ؟
فقلت : توجد فتاة على فراش الموت وهي في حاجة إلى مساعدتك يا دكتور . فهل ستصحبني لنجدتها ؟
_أصحبك لنجدتها ؟ سأكون حمارا لو خرجت معك في مثل هذا الجو .
_عفوا يا دكتور . أنت مجنّد لخدمة الإنسانية ولا يصح أن تتخلى عن واجبك المقدس في إنقاذ نفس مشرفة على الهلاك 0
-قلت لك لن أذهب .
_لكن ذلك غير ممكن يا دكتور . فالفتاة ..
قاطعني الدكتور في عصبية : الفتاة حمار 0
قلت مغيظا : ما هذا يا دكتور ؟! أكل شيء حمار في نظرك ؟
-نعم ، عندما يستثيرني حمار مثلك .
وصمت لحظات ثم قال : لماذا وقفت هنا ولم تدخل الغرفة ؟! حمار !
تقدمني إلى باب على الجانب الأيسر من الرواق ودفعه ودخل أمامي فتبعته . وانتبذت مقعدا في ركن من الغرفة وجلس هو قبالتي وأشعل سيجارة وراح يدخن صامتا وكأنه نسي وجودي !
- أرجوك يا دكتور .. الأمر خطير . حرام عليك أن تترك للموت شابة في عزّ شبابها .
- أهي شابة ؟ إني أعطف على الشابات . كانت لي بنت شابة وماتت .
- إذن لا شك أنك ترأف بحالها . فلنذهب الآن فربما ماتت إذا تأخرنا .
- إذا ماتت فالله يرحمها .. ولكن من قال إن موتها سيغيرّ في الأمر شيئا ؟ فالأمر سواء بالنسبة لأهالي هذه القرية الحقيرة أعاشوا أم ماتوا !
- بربك عجّل يا دكتور .. إنني تركتها في حالة خطيرة .
- لا داعي للعجلة أيها الشاب . إذا كان مقدّرا لها أن تموت فستموت صحبتك أم لم أصحبك . ويجب أن ننتظر انقطاع المطر فلا يمكن التنقل في أزقّة القرية في هذا المطر اللعين .
- وهل سنضيع الوقت هكذا إذن ؟
- لا , لن نضيع الوقت . سأروي لك قصة حياتي لتكون عبرة لك .وسأحكي لك كيف أصبحت دكتورا تتوقف حياة أهل المحاويل على براعته . واعلم أيها الشاب أنني ابتدأت عملي في مهنة الطب كمتدرب في مستوصف الحلة . ونبغت في عملي حتى أصبحت شخصا يشار إليه بالبنان . لا تيأس أيها الشاب إن أصابك الخذلان وشمّر عن ساعد الجدّ وخض غمار الحياة معتمدا على ذكائك . إن ذكاء الإنسان سلاحه الثمين في معركة الحياة . خذ من حاضري قدوة لك . فإن صبري واعتمادي على ذكائي أوصلاني إلى هذه المكانة المرموقة . وقد نلت لقب دكتور بجدارة يشهد لها الجميع . فأنا لا أمتنع عن معاجلة مريض مهما يكن مرضه معتمدا على القول المأثور " الحياة تجارب " .
قاطعت الدكتور في توسل : إذا كنت تدرك واجبك فلماذا تتباطأ في الذهاب معي ؟ دكتور .. قد يكون الموت اختطف الفتاة الآن .. حاول أن تنجدها قبل أن يضيع الأمل .
- لماذا تتعجل الأمور أيها الشاب ؟ ما زال أمامنا وقت كاف . وكما قلت لك إذا كان مقدرا لها أن تموت فستموت صحبتك أم لم أصحبك . لا تقلق ، فسأصحبك حالما ينقطع المطر .. ولكن تمهل فلعل المطر انقطع الآن .
نهض الدكتور إلى النافذة المطلة على الطريق وأزاح الستارة عن الزجاج وألصق به أذنه يتسمع في انتباه . ثم فتحها ومدّ يدا مبسوطة في الفضاء وهز رأسه قائلا : أعتقد أن المطر انقطع .
ثم التفت إليّ وأضاف : سأرتدي ملابسي وأرجع إليك فما زال عندي كلام كثير ويسرني أن أعثر على شاب يحسن الإصغاء مثلك .
ما كاد الباب يغّيب الدكتور حتى تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئا ثقيلا عن كاهلي . ونهضت أذرع الغرفة وصدري يكاد ينفجر ضيقا . وانقضت دقائق ثم ظهر الدكتور وهو يحمل حقيبته الطبية . وهتف بي متعجلا : هيا أيها الشاب .
غادرنا المنزل بخطى سريعة ، لكن الأوحال خففت من سرعتنا ، وإذا بنا نسير ببطء وأحدنا يمسك بيد الثاني ويسنده إن زلقت قدمه . والتفت إليّ الدكتور بعد حين وقال : أنت شاب وقوي أيها الفتى ومع ذلك تعجز عن مغالبة هذه الأوحال . فكيف بي أنا الذي قد أكون في سن أبيك ؟ لكنني على أية حال تعودت مصارعة الحياة في هذه القرية البائسة . ولا تسلني عن المتاعب التي عانيتها فيها . لا.لا. لن أحدثك عنها . كفاك علماً أنني أدير مستوصف القرية وحدي ، إلا إذا حسبت مساعدي الخائب إنساناً يعتمد عليه . وفي كل يوم يزور المستوصف أعداد كبيرة من القرويين تزدحم بهم البناية ولا ينفع معهم الطرد . ومهما صرخت وهددت فلن يؤثر فيهم ذلك . ولا أدري كم كان سيكون عددهم لو لم يكونوا يخشونني0 فهيبتي عظيمة عندهم ، والبعض منهم يقف أمامي وهو يرتعد خوفاً . لكنني على أية حال اتبعت طريقة مختصرة في فحص المرضى وإلا ما كان بمقدوري علاجهم . فما أن يقف المريض أمامي حتى أساله : " ماذا بك ؟ " فإذا أجابني : " عندي حمىّ يا دكتور " ناولته حبوب الأسبرين . وإن أجابني : " أكح يا دكتور " ناولته شرابا خاصا بالسعال . وأصارحك أيها الشاب أن مهنة الطب ليست صعبة لولا ان الناس هنا حمير لا يفهمون 0 غير أن أرباحها شحيحة 0 فالقليلون ممن أشفيهم يحضرون إلى بيتي هداياهم من الدجاج والبيض والخضر والفاكهة ، ونادراً ما حضروا لي خروفاً ..
قاطعت الدكتور برفق: لكنك تعلم يا دكتور أن الفلاحين أناس فقراء مسحوقون وبالكاد يدبرون لقمة العيش 0 وأنت لست محتاجا لهداياهم فلك راتبك من الحكومة .
فلوح الدكتور بذراعيه في الهواء محنقاً وهو يهتف : وهل تتصور أن راتب الحكومة يشُبع.
وقبل أن يتم عبارته ترنح بشدة، وحاولت أن أسنده لكنني انزلقت معه وهوينا معاً في الوحل. فانطلق يسبّ ويشتم . فساعدته على النهوض ومسحت عن بدلته ما تراكم عليها من وحل . وتفقد حقيبته فإذا بها تطفو في وحل متجمع على بعد أمتار . التقط الحقيبة حانقاً وبصق أمامه وهو يدمدم : لعنة الله على المرضى والممرضين والدكاترة أجمعين .
واصلنا المسير والدكتور يعرج عرجاً خفيفاً ، واستمسك بصمته وهو عابس الوجه . وسرني صمته وحسبت أنني قد تخلصت من ثرثرته . لكنه رمقني بعد حين متفحصاً وتساءل:مظهرك لا يبدو قرويا أيها الشاب . أليس كذلك ؟
-فعلا يا دكتور .
_حمار ! ما الذي أتى بك إلى هذه القرية البائسة إذن ؟
- لي أقرباء هنا هم أهل الفتاة المريضة . وقد جئت أمضي معهم بعض الأيام ترويحاً عن النفس فوجدت فتاتهم مريضة جداً . وأخبروني أن طبيبها هو سيد محيسن 00
قاطعني الدكتور مغيظاً : تصور أن سيد محيسن هو منافسي في المحاويل .. تصور ! شخص جاهل لا يعرف من الأدوية سوى التعاويذ وأكياس الحرمل ينافسني ! ألم أقل لك إن أهل المحاويل حمير لا يفهمون ؟
قلت برفق : أعذرهم يا دكتور فأنت تعاملهم بشدة وهم يتهيبون لقاءك .
_وماذا افعل لهم إذا كانوا حميراً ؟ الشدة ضرورية معهم وإلاّ فلت الزمام مني.
-على كل حال كان لابد لي من الحضور إليك يا دكتور فلعلك تنقذ حياتها قبل فوات الأوان .
_أحسنت صنعاً أيها الشاب في الاستعانة بي ، وسيتم شفاؤها على يدي إن شاء الله.
وكنا قد اقتربنا من الدار فترامى إلى مسامعنا ضجيج بكاء وعويل ، فارتجفت خشية أن يكون المحضور قد وقع . والتفت إلى الدكتور فقرأ في نظراتي مخاوفي فقال في ثقة : اطمئن .. اطمئن .
وبلغنا الدار فملا أسماعنا الصوات والنحيب . فالتفتّ إلى الدكتور وقلت غاضباً : إن خوفك من المطر وثرثرتك عن تجاربك قد ضيعا على الفتاة حياتها .
فرمقني في استعلاء وقال: من يدري ؟ لعل قيمة هذه التجارب أنفع لك من حياة المرحومة. وعدا ذلك فكلنا للموت ولا ينفع طب إذا حضر الأجل .. البقية في حياتك .

بداية النهاية
إن سناء تتقلب على فراشها في إرهاق تحاول عيناها اصطياد النوم فلا تجد إلى ذلك حيلة . وإن رأسها لتعصف به أفكار سود. وإنها لتحس كأن فراشها الوثير مليء بإبر تخز جسدها!
دقت ساعة الدار الكبيرة الثانية صباحاً وهي لم تنم بعد . لشدّ ما أضناها هذا الأرق! لقد انقضت أربع ساعات منذ لجأت إلى فراشها ، وهي تحاول شتى الحيل لكي تغفو ولكن بلا جدوى .. لو عاد محي فقد يكون بإمكانه مساعدتها . ولكن متى عاد قبل أن ينتصف الليل ؟! فمنذ الأسبوع الأول من زواجهما استأنف سيرته اللاهية وكأنه لا يزال أعزب! ومنذ شهور لم تسعد بوجوده ليلة واحدة ، وقلما رجع قبل منتصف الليل . وحينما يرجع يكون ثملاً واهنا فيجرّ جسده المتعب إلى الفراش وينطرح عليه في تهالك كحمار مكدود .
واشتد على سناء الصداع وهي تستعرض حياتها 00 ليتها تزوجت من معدم لا يجد ما يسدّ به رمقها على أن يرعاها رعاية الزوج المحب بدلاً من أن تقترن بهذا المترف الذي ضمّها إلى قصره وكأنها إحدى تحفه الغالية ! وكلما عاتبته على إهماله لها هتف مغضباً : " وهل قصرّت تجاهك في شيء "، وكأن كل ما تحتاج إليه هو الملابس الغالية والجواهر الثمينة ! أما حاجة الجسد إلى الدفء ، وحاجة الروح إلى الحب ، وحاجة النفس إلى الحنان فلا معنى لها عنده !
رفست سناء الغطاء وهي تهمس في لوعة : غضب الله على راسي!
دقت الساعة معلنة الثانية والنصف . وتناهى إلى سمعها صوت سيارة . وانقضت دقائق ثم سمعت صرير باب الحجرة وأبصرت شبح محي يخطو متمهلاً . وخزرته في غيط .. إنها تمقت هذا الرجل من أعماق قلبها !
فتح محي مفتاح النور وخلع بدلته وارتدى لباس النوم . وحينما فرغ أدار عينيه حواليه فرأى سناء مفتوحة العينيين فتساءل : لماذا ظللت صاحية ؟
_ لم يأتني النوم .
_ حاولي أن تنامي .
وانطرح على الفراش بجوارها وأدار لها ظهره . وبعد دقائق تعالى شخيره . عضت سناء على شفتيها غيظاً وانقلبت على جنبها الآخر ، لكنها عادت فولّت وجهها صوب جسده ثانية. إن نارا غريبة تنهش جسدها ! وأطبقت عليها فجأة آلام حادة فأنت في توجع . ولمست جسد محي في رفق فلم ينتبه . فهزته في قوة ورددت : محي .. محي .
فتح عينيه وتساءل منزعجاً : ماذا بك ؟
_ جسمي يوجعني يا محي .
_ هل أنت مريضة ؟
_لا ، لكن جسمي يوجعني ولا أقدر أن أنام .
قال في امتعاض وهو يدير لها ظهره : حاولي أن تنامي . أنا تعبان .
وتعالى شخيره ثانية . وشعرت سناء كما لو أنها تختنق . وخيّل إليها أن صدرها يوشك أن ينفجر .وتسمرت عيناها في السقف وصور حياتها تنثال على ذهنها كموج متدفق0 ثم تخيلت نفسها تفارق فراشها متلمسة طريقها إلى حجرة الخادم إبراهيم لترتمي بين ذراعيه القويتين 00 وتوالت على مخيّلتها الصور، وغرقت في أحلام عذبة !

لقمة العيش
أؤكد لكم يا أصدقائي أنني أحببت سلمى من صميم قلبي .. ولا تتسرعوا في اتهامي بأنني هوائي العاطفة وأنني هجرتها بلا سبب . واسمعوا حكايتي كاملة قبل أن تحكموا عليّ حكماً قاسياً . نعم ، لقد أحببت سلمى بكل جوارحي ،وكنت مستعداً لمثل هذا الحب . تصوروا شابا في أوج شبابه لم يتذوق الحب بعد .. وتصوروا ما كان يدور في رأسه من خيالات وأوهام عن تلك الكلمة السحرية التي يتحدث عنها الأدباء في رواياتهم الغرامية 0 ثم تذكروا أن هذا الشاب محاط بزمرة كزمرتنا لا تمل الحديث عن المرأة . تصوروا كل هذا لتدركوا حالتي النفسية في تلك الفترة التي علق بحبها قلبي . كانت كل جارحة من جوارحي مهيأة لهذا الحب . لقد كنت يا أصدقائي أشبه ببرميل بارود في انتظار من يشعل فتيلته لينفجر ملتهباً . وقد كانت هي هذا الشخص المنتظر الذي أشعل الفتيلة ..
وسأحكي لكم الآن كيف التهبت جوانحي بحبها . فهي كما تعلمون تعمل في مستشفى الحلة الكبير . وقد شاءت الصدف أن يمرض صديقي جهاد وأن تجرى له عملية في المستشفى المذكور . وكنت بطبيعة الحال أزوره أثناء فترة رقاده في المستشفى .
ثقوا يا أصدقائي أنني أحببتها من أول نظرة . اسمعوا كيف حدث ذلك . حينما دخلت غرفة جهاد في إحدى زياراتي رأيت سلمى بجوار سريره . ألقيت تحيتي فرفعت رأسها ونظرت إليّ 00 ويا لها من نظرة ! شعرت بجسمي قد خدر وبساقي قد وهنتا حتى لم أعد أقوى على الوقوف . وانحططت على مقعد بقربي وجسمي ينضح عرقاً . وكان جهاد نائماً فلبثت ساكناً في مقعدي . ولما استعدت هدوئي وجدت من نفسي الشجاعة للتحدث معها . قلت :" من فضلك"0 فتطلعت إلي في استفهام ، فشعرت بالتيار الكهربائي يسري في جسدي ثانية . قلت : أتسمحين لي بسؤال عن حالة جهاد ؟
قالت بصوت رخيم بدا لي أجمل من وجهها : اطمئن ، صحة جهاد في تحسن .
- شكراً لله .
وانصرفت إلى عملها . وسكت وبودي لو أتكلم وأتكلم وأتكلم . قلت أخيراً : اسمحي لي بسؤال أخر وإن كنت مشغولة .. هل صحيح أن حالته كانت خطرة أمس ؟
فوجهّت إليّ سهام نظراتها المكهربة وهي تتكلم : الحقيقة أن حالته كانت خطرة أمس فعلاً. ارتفعت حرارته إلى الواحدة والأربعين . لكن درجة الحرارة هبطت فيما بعد ، وتحسنت حاله تدريجيا ، ووضعه مطمئن الآن .
والتفتت نحوه ورمقته بنظرة حنان وقالت : إن شاء الله ستتحسن صحته ويرحم المرض شبابه .
- شكراً لك .
وكنت ألتهم وجه سلمى وهي تتحدث إليّ . كنت أتأملها بجرأة عجبت فيما بعد كيف تأتت لي. فأنتم تعلمون أنني خجول تجاه الفتيات الجميلات . ولم تقو سلمى على مقاومة نظراتي فكانت تغض الطرف وهي تخاطبني وحمرة خفيفة تعلو وجنتيها .
لم تكن زياراتي لجهاد يومية من قبل . وبعد أن عرفت سلمى صرت أواظب على الحضور إلى المستشفى كل يوم . وتهيأت لي بذلك فرصة اللقاء بها يومياً . وكم كنت سعيداً ! كنت أحس أروع الأنغام تنصبّ في أذني وهي تلقي عليّ التحية . وعندما كانت تروح وتجئ من غرفة جهاد إلى الردهات الأخرى كنت أتطلع إلى قوامها الممشوق في دهشة وذهول .
أجل يا أصدقائي .. إن الحب الأول يكلف صاحبه غاليا . هذه تجربة خبرتها حق الخبرة ، فقد كلفّني حبي لسلمى عذابا عظيما . وكان هذا العذاب يشتد بي كلما خلوت إلى نفسي ووجدتني بعيداً عنها . كنت أشتاق إليها شوقاً لا حدود له . ولست أدري ماذا كنت سأفعل لو لم تبادلني سلمى حبي . وحمدا لله فقد بادلتني سلمى حبي بنفس القوة والاندفاع . وبات كل واحد منا يعتقد أن حياته لا قيمة لها إن افترق عن الآخر ، وأن الساعات التي يمضيها بعيداً عن الآخر ليست محسوبة من ساعات اليوم ! أرأيتم إلى السمكة تعجز عن العيش خارج الماء ، والبلبل لا يستمرئ الحياة بدون تغريد ، والأم لا تهنأ لها ساعة واحدة إن فقدت طفلها الوحيد ؟ هكذا كنا في ساعات البعاد . ولكن لكل قصة في الحياة نهاية ، وكان لابد لقصتنا من نهاية .. وهذا ما حدث فبينما كنت ذات مغرب عائدا إلى المنزل بعد أن فارقتكم في مقهانا المعتاد اعترضت طريقي امرأة محجبة وسألتني :أ أنت نجيب السلمان ؟
قلت : نعم ، هل من خدمة ؟!
قالت : أنا أم سلمى ، وعندي كلام أريد أن أقوله لك ، فأرجوك أن تأتي معي .
قلت مبتهجاً : أنا في الخدمة يا أم سلمى .
سارت أمامي مسرعة ،ثم عبرت الجسر متجهة إلى محلة " الوردية "0 ثم اجتازت أزقة ضيقة عديدة . وأخيراً توقفت أمام دار متواضع . فتحت الباب وقالت وهي تسبقني إلى الدخول : تفضل.
أدرت أنظاري حواليّ فطالعتني مظاهر الفقر في الطارمة الصغيرة الضيقة . وجلست على مقعد خشبي قديم واتخذت أم سلمى مجلسها قبالتي بعد ان كشفت عن وجهها . كانت امرأة في حوالي الأربعين ، لكن وجهها بدا متعباً . ظللت أتطلع إليها وهي غارقة في الصمت وقد لاح التردد على وجهها كأنها تخشى الإفاضة بدخيلة نفسها. أخيراً رفعت رأسها وقالت وهي تتجنب النظر إليّ : أعذرني يا ابني إذا كنت سألتك الحضور معي فأنا مضطرة .
قلت في حرارة : بالعكس يا أم سلمى ، أنا في الخدمة . أطلبي مني ما تشائين .
قالت بلهجة مترددة وهي ما تزال تتجنبني بأنظارها : ما سأطلبه منك قد يكون صعباً عليك وأنا متأكدة من ذلك ، ولكن ما باليد حيلة يا ابني .. ولا أدري إن كنت تعلم أنه لا عائل لنا سوى سلمى .. وهي لم تحصل على عملها في المستشفى الكبير إلا بشق الأنفس .
وسكتت لحظات ثم عادت تقول وهي مطرقة . وأنت لست غريبا يا ابني عن المشاكل التي تواجهها العاملات في المستشفى وخاصة من المسؤولين عديمي الضمائر الذين يستغلون مراكزهم0 وسلمى عانت كثيراً من رؤسائها في المستشفى لو لا أنها كانت تضطر إلى إرضائهم0 ومنذ عرفتك لم تعد ترضي رؤساءها .. وسيعرضها ذلك للطرد من المستشفى.
صمتت أم سلمى وهي منكسة الرأس وطال صمتها . وكان الذهول قد ملك عليّ حواسي وأنا مصغ إليها . وخيّل إليّ أنني أعاني كابوسا فظيعاً . لكن صمت أم سلمى نبهني إلى الحقيقة القاسية وصدمني صدمة زلزلت كياني . وتواثبت العواطف المتباينة في قلبي وتصارعت الأفكار في رأسي . وبقيت صامتاً دقائق حتى خفّت وطأة الصدمة عليّ . وأخيرا قلت : ولكن لماذا تحكين لي هذه الحكاية المخزية ؟
فرفعت إلي وجهها يفيض بالحزن وقالت : أعذرني يا ابني .. ولكنني مسؤولة أمام الله عن أربع أنفس وهم مهددون بالجوع .
قلت وإنا أتفرس في وجهها : وما المطلوب مني ؟
قالت في ضراعة : أرجوك يا أبني أن تقطع صلتك بابنتي فلعلها تغيّر سلوكها فلا تغضب رؤساءها وتعرّض نفسها للطرد .
قلت في حدّة : هذا مستحيل .. وأنت قد اخترعت هذه الحكاية المخزية لتفرقي بيننا .
فاندفعت تقول بلهجتها الضارعة : اسمع يا ولدي .. حبكما لا فائدة منه فلا يمكنكما الزواج0 فأنت ما تزال تلميذا في الثانوية ومواردك لا تمكنك من مد يد العون إلينا لو طردت سلمى من عملها . فلماذا تنتزع لقمة العيش منا ؟!
قلت في إصرار : ما تطلبينه مني مستحيل .. مستحيل .
أجهشت أم سلمى بالبكاء وأخذ جسدها يهتز بقوة. وواصلت الكلام منتحبة: يا أبني .. ضحّ بحبك من اجل أطفالي ، حياتنا متوقفة على قرارك . ارحمنا يجزك الله عنا خيراً .. لا تسلبنا لقمة العيش .. لا تسلبنا لقمة العيش يا ابني .
وروّعتني زفرات أم سلمى فوجدتني أتمتم ذاهلاً : اطمئني .. سأفعل ما تريدين .
وكان ذلك آخر عهدي بسلمى ، فقد صرفتها عني زاعما لها أن قلبي تعلق بفتاة جديدة . ولا تسألوني يا أصدقائي عن العذاب الذي كابدته فهو أفظع من أن يصوره اللسان . لكنني لست نادماً على ما فعلت لأن الحياة تفرض على الإنسان النبيل أن يضحى بسعادته من أجل إسعاد الآخرين .

بوبي
هبت ضياء فزعة حينما تناهى إلى سمعها نباح بوبي . ولم يكن النباح هادئاً لطيفا كما اعتادت ان تسمعه كل صباح بل كان صاخبا متوجعاً . وبقفزات سريعة بلغت الغرفة الصغيرة القائمة في ركن من حديقة الدار التي يشارك فيها بوبي الصبي حمودي . دفعت باب الغرفة وهي تهتف : بوبي .. بوبي فترامى إليها نباحه متألما كأنه يشكو ظلما وقع عليه . حاولت فتح الباب فلم ينفتح فانهالت عليه ركلا بقدميها0 وصرخت باكية عندما امتد الألم إلى قدميها . ولم ينقض دقائق حتى لحق بها أبواها . وما أن فتحا الباب حتى اندفعت ضياء إلى الداخل كالقذيفة ، فهجم عليها كلبها الصغير يتمسح بساقيها وينبح بنبرة شاكية . حملته ضياء على صدرها وهي تقبله وتمسح فروته البيضاء وتردد : ما ذا بك يا بوبي؟
تلفت الأب حواليه باحثا عن حمودي . وتساءل في عجب : أين ذهب حمودي؟
أنهك النباح بوبي فخفت صوته حتى بات كالأنين . وأثارت حاله قلق ضياء فصاحت باكية : إنه يموت .. إنه يموت .
قالت الأم : لعله جائع يا ضياء .
وقال الأب : بالتأكيد إنه جائع فهيا بنا إلى إطعامه .
قصد الجميع إلى غرفة الطعام . وصبت ضياء لبوبي كوبا من اللبن لكنه أبى أن يقربه . ودهش الجميع من إصراره على رفض الطعام فقد أطبق فكيه في عناد . ولم يستحب لتوسلات ضياء وقبلاتها .
ساد الصمت والفطور قابع على المائدة . وانكمش بوبي في حجر ضياء وهو يشخر شخير الألم . وأخيرا لاح الصبي حمودي متلصصا عبر باب الغرفة وإذا ببوبي ينتفض ويثب نحوه . وقامت بينهما معركة حامية . صفقت ضياء جذلة واندفعت خارج الغرفة لتراقب المعركة عن كثب. وسالت الدماء من ساقي حمودي ويديه ، لكنه ظل مزموم الشفتين. قهقه الأب في غبطة وقد سرّه منظر ضياء وهي تتواثب وتطلق عبارات التشجيع. ثم انتهت المعركة بتدخل الأم، فحملت ضياء بوبي إلى المائدة وأجلسته في حجرها وقدمت له البسكويت، فاقبل عليه في شهية وهو يهز ذيله راضيا .
تسلل حمودي إلى حديقة الدار ، واختار شجرة منزوية واستلقى عند جذعها . وتأمل الدماء المتسايلة من ذراعيه وساقيه وأجهش باكياً . وازدحمت مخيلته بالصور والذكريات . لقد هبط هذا القصر منذ كان طفلاً . وكانت أمّه تخدم في القصر . ثم رحل أهله إلى مكان بعيد وتركوه في القصر0 وانقطعت عنه أخبارهم . ولكن حياته مضت رضية وادعة . فقد أوكل إليه خدمة ضياء فوجد في ذلك سعادة عظيمة . كان يصاحبها كل صباح إلى المدرسة حاملاً عنها حقيبتها ، ويعود ظهراً ليتلقى عنها الحقيبة . فكانت أحلى ساعات يومه هي تلك التي يقف فيها بجوار باب المدرسة ينتظر خروجها. وكان قلبه يخفق بشدة حينما تلوح لعينيه مجتازة بوابة المدرسة وهي تتضاحك مع رفيقاتها . فيسرع إليها ويتلقى عنها حقيبتها 0 ثم ينزوي وراءها دون أن يحس له أحد وجوداً . وهكذا عاش سعيداً هانئ البال. وكانت ضياء تتلطف به دائما وتحنو عليه . ولكن منذ حلّ بوبي في القصر أصبح الشغل الشاغل لها ولم تعد تكترث به . وهي تصحبه عند ذهابها إلى المدرسة صباحاً فيعيده هو إلى البيت معه ، ثم توصيه باصطحابه عند قدومه ظهراً لكي ترجع بصحبته . وفرضت عليه أن يشاركه غرفته وان يكون تحت رعايته . ولماذا يجب أن تحمله على صدرها وتقبله وتدلله بالكلمات الرقيقة ؟ ولقد فكر بالأمس قبل أن ينام أن يلقن بوبي درساً لا ينساه . وفي الصباح بحث في الحديقة عن عصا غليظة وعثر على بغيته فعاد بها فرحا وخبأها تحت فراشه . ونام وصورة بوبي تتراءى له في أحلامه وهو يئن متوجعا .
وعند الصباح أفاق من نومه وأدار عينيه في الغرفة فأبصر بوبي متكوراً في زاويته وهو يغطّ في النوم . واستخرج العصا ونهض على أطراف أصابعه إلى حيث يرقد وأهوى بها على رأسه بكل قواه فهبّ ينبح بجنون . وهجم عليه هجوم الكواسر ، لكنه أهوى عليه بضربة ثانية فركض بعيداً ونباحه يتعالى . فجرى خلفه وأهوى عليه بضربة ثالثة فأنّ متوجعاً دون أن يستطيع الحراك . وحينئذ أحكم إغلاق الباب وانسلّ إلى الحديقة . وتوارى وراء شجرة وراقب ضياء وأبواها وهم يقتحمون الغرفة ، وغمره سرور جارف .
فزّ حمودي على صوت ضياء وهي تنادي عليه فقفز نحوها عجلاً0 كانت واقفة على عتبة الحديقة متأبطة حقيبتها0 وحمل عنها الحقيبة .
سارت ضياء أمامة وهي تقود بوبي من سلسلة صغيرة . ورمى بوبي بنظرة متوعدة فهزّ ذيله وهرّ بنباح خفيف مهددا. وعند باب المدرسة تناولت منه الحقيبة وسلمته سلسلة بوبي ليعود به إلى الدار . أخذ يسحبه بقوة وهو يتشبث بالأرض ويزحف ببطء . وكلما همّ بركله حرّك ذيله يميناً وشمالا وهرّ مهددا .
حينما أوى حموّدي إلى فراشه ليلاً استعصى عليه النوم . وظل يتقلب وقتاً طويلاً . وكان بين الحين والحين يجلس ويخزر بوبي فيراه قد رفع رأسه وبادله النظرات الغاضبة . وهو يهرّ متوعدا، فيتمدد ثانية محاولاً النوم . وأخيراً علا شخير بوبي فنهض واتجه إليه حذراً . وفي غمضة عين أطبق يديه على عنقه . واشتبك الأثنان في معركة ضارية وتدحرجا على الأرض. وضجت الغرفة بالصراخ والنباح . وترامى الضجيج إلى داخل الدار فتراكض الجميع نحو الغرفة . ودامت الضجة دقائق ثم خفتت الأصوات حتى انقطعت وساد السكون.
حينما اقتحمت ضياء وأبواها الغرفة رأوا بوبي منطرحاً على الأرض بلا حراك وحمودي منكمشاً في إحدى الزوايا وهو مخضب الوجه واليدين بالدماء . ارتمت ضياء على جثة بوبي تبكي بحرقة بينما وقف الأبوان مشدوهين . وفجأة انقضّ الأب على حمودي وركله وهو يصرخ : لماذا قتلت بوبي يا مجرم؟ أخرج من هنا ..ابعد عن وجوهنا .. ابعد ..
نهض حمودي متثاقلاً وجسده يلتهب ألما .وجرّ قدميه حتى غيّبه باب الحديقة . وتلفّت حواليه لايدري وجهته . ورأى سياجاً عالياً أمامه فخطا نحوه متباطئا وتهاوى إلى جواره . ثم دفن رأسه بين يديه وأجهش بالبكاء .

أحلام ضائعة
أماّ اسمها فزاهدة .. أجل هذا هو اسمها0 ولكنها لم تكن زاهدة في نظراتي الوالهة أو ابتساماتي المشوقة التي كانت تتلقاها بحبور وهي منتصبة أمام شباك غرفتها المطلّ على الطريق . وكانت شابة قد شارفت عامها السادس عشر ذات جمال رائع تبهر روعته الأنظار ويخلب سحره الألباب . فلم يكن غريباً على صبي مثلي يفيض قلبه حماسا للمرأة أن يقع في أسرها وأن تملك عليه كل إعجابه. ولست أبالغ إن قلت أن حبها ملأ قلبي 0 غير أنني لم أكن شقياً بذلك الحب 0 فزاهدة لم تضق يوما ذرعاً بنظراتي المغرمة أو ابتساماتي الجريئة ،بل كانت تشاركني النظرات والبسمات . وأيقنت يقينا قاطعاً أنها تحبني كما أحبها . كيف لا تحبني وهي ترتقب رواحي إلى المدرسة وعودتي منها في صبر نافذ ؟! فما أن تلمحني من بعيد حتى تهب واقفة . وما ان أتطلع إلى نافذتها حتى يفترّ ثغرها عن بسمة عذبة . وما أن ترتسم الابتسامة على وجهي حتى تحييني بهز رأسها المتوج بشعر أسود حالك كالليل .. أفي حاجة أنا إلى الشك في حبها وعندي كل هذه الدلائل الأكيدة ؟! وهكذا أصبح حبها شغلي الشاغل ، وكثيرا سرح بي الفكر إلى شبّاكها وبين يدي أحد كتبي المدرسية أطالع فيه دون أن أعي حرفاً واحدا. وكثيراً ما شرد ذهني وإنا في الصف فأتظاهر بالإصغاء إلى المدرس وهو يلقي علينا الدرس دون أن أفقه شيئاً مما يسرد . ومع ذلك لم تتح لي الفرصة يوما لأن أتحدث معها. ولم تتجاوز علاقتنا النظرة والإبتسامة . وما حاجتنا إلى الكلام وعيوننا تفصح عما يضطرب في قلوبنا من عواطف جياشة ؟
دامت حياتي على هذا الحال شهوراً وأنا سعيد بحبي حتى حلّ ذلك اليوم المشؤوم . وكنا صبيحة ذلك اليوم رفقة من التلاميذ نتجمع في ساحة المدرسة قبل بدء الدرس . وانساق بنا الحديث إلى الكلام عن الفتيات . وكان هذا موضوعنا المفضل وما أكثر ما خضنا فيه في نشوة وسعادة . وشرع كل منا يدلي بملاحظاته عن فتيات الحلة الأعلام لدينا واللواتي ما كان يتسنى لنا معرفتهن إلا من بعيد وهن يتنزهن في الشارع المجاور للنهر . فمن قائل أن نهاد فاتنة إلا أن عينيها أصغر مما يجب 00 إلى آخر يؤكد على أن إحسان متوسطة الجمال على الرغم من أن عجرفتها لا تطاق . والثالث يدّعي ان منيرة خفيفة الروح وإن لم تكن جميلة. وهكذا انبرى الرابع والخامس والسادس يذكرون من الأسماء المعروفة لدينا وينقدون صاحباتها بما يحلو لهم حتى فرغت جعبتنا . وفجأة غمز عبد الفتاح بعينه وقال : أعرف فتاة تصلح نموذجاً للجمال الكامل .
فقال محمود الذي يعد نفسه قاموساً لربّات الحسن في المدينة : أهناك فتاة بهذا الحسن ومحمود لا يعرف عنها شيئاً ؟! الويل لك يا عبد الفتاح. كيف كتمت هذا الاكتشاف عني؟
قال عبد الفتاح مختالاً : كونوا على ثقة أن معرفتكم بالفتاة لن تنفعكم فلن تهتم باي واحد منكم .
فتصايح البعض : ولماذا يا نحس الفأل؟
أجاب عبد الفتاح في زهو : لأنها متيمة بغرامي . ولن تمنح أي شخص اخر يسكن الكرة الأرضية ذرة من اهتمامها .
فهتفت عباس ، ونحن ندعوه بـ " الفيلسوف " لأن له طريقة خاصة في الكلام: ما هذا الخلط أيها الجاهل ؟ أنسيت النظرية التي درسناها في الجغرافية والتي تقول أن الأرض ليست كروية بل هي مفلطحة عند القطبيين ومنتفخة عند خط الاستواء ، وأن هذا الشكل يمسى بالكروي المنتفخ؟
أجاب عبد الفتاح : كلا لم أنس يا حضرة الفيلسوف، ولكن ذلك لا يبدل من الحقيقة شيئاً وهي ان الفتاة لن تحب أحدا غيري ..
فقاطعه الفيلسوف قائلاً : لا تتسرع بإصدار هذا الحكم يا عبد الفتاح دلني عليها وسأوقعها في غرامي . وأنا أتحداها أن تقاوم ما لديّ من سكس أبيل .
فهز عبد الفتاح رأسه بإصرار وقال : كلا ، لن أفعل ذلك .
فتصايح البعض وهم يهجمون على عبد الفتاح ويأخذون بخناقه : هيّا يا عبد الفتاح .. دلناّ على مكان الفتاة وإلا قلعنا أذنيك .
قال عبد الفتاح أخيرا : الحقيقة أن دارها ليست بعيدة عن مدرستنا فهي تقع في درب الطوويس 0
وغمز بعينه وهو يضيف : وهي تقضي وقتها أمام شبّاكها المطل على الطريق تترقب مروري عند ذهابي إلى المدرسة أو عودتي منها فنتبادل نظرات الغرام وبسمات الهيام .
ولم يكد عبد الفتاح يفرغ من كلامه حتى شعرت كأن قلبي يتوقف عن الخفقان . ومكثت صامتا ورأسي يدور كما تدور الطاحونة . ثم انتبهت إلى محمود وهو يقول بسخرية وطيف ابتسامة باهتة يتخايل على شفتيه : إني أعرف هذه الفتاة.
فالتفت إليه عبد الفتاح وقال وهو يبتسم بهزأ : لست أصدق .
فاستمر محمود يقول : إن اسمها زاهدة . أليس كذلك ؟
فلاحت الدهشة على وجه عبد الفتاح وتساءل : وكيف عرفت ذلك ؟
فقال محمود : إنها رمت لي ورقة باسمها .. ولكن هل أنت واثق أنها تحبك حقاً ؟
فقال عبد الفتاح : ثقتي من شروق الشمس في الصباح وغروبها في المساء .
فالتفت إلينا محمود وقال وهو يتصنع الهدوء والاضطراب باد في حركاته: أيها الرفاق . باستطاعتي أن أبرهن لكم على كذب عبد الفتاح فزاهدة تحبني أنا . وإن شئتم حدثتكم عن الغزل الصامت الذي تتطارحه عيوننا كل يوم .
فتساءل الفيلسوف بلهجة رصينة : وهل التقيت بها وجها لوجه واستوثقت من حبها؟ أعني هل باحت لك بحبها شخصياً ؟
فقال محمود : وكيف لي بذلك أيها الفيلسوف وهي حبيسة الدار لا يسمح لها أهلها بالخروج وحدها ؟ ثم ما ضرورة هذه المواجهة وعندي كل الدلائل على حبها ؟
وهمست لنفسي بحسرة : " وداعا أيتها الأحلام " . ثم رفعت صوتي أتساءل بمرارة : خبرّوني أيها الرفاق .. من أي صنف من البشر هذه الفتاة ؟ إنها خدعتني أنا أيضا وأوحت لي بأنها تحبني . فلماذا ؟! لماذا؟!
وقهقه الرفاق وتبادلوا نظرات ساخرة وابتسامات شامتة ترفّ على ثغورهم .

عذاب
ستموت ولا شك أيها الصديق إن لبثت على هذا الحال . فكم من محزون مثلك غيّبه القبر وكانت خاتمة أحزانه الإنطمار تحت التراب. فكيف يحلو لك أن ترقد ميتا تحت أكداس الأتربة بينما في وسعك أن تعيش حيّا تحت أشعة الشمس المشرقة ؟! كيف حطّمت حياتك هكذا أيها الصديق وأبدلت الفرح بالكآبة ، والإشراق بالعبوس والحياة المرحة بالموت البطئ؟ ثق أنك مضيت في وسواسك إلى أبعد مما يجب وعذّبت نفسك أكثر مما تحتمل . وكل ذلك ثمرة لتهاويل هوسك ليس إلا0 فأنت الذي حاكمت نفسك على جريمة لم ترتكبها ، وأنت الذي أدنت نفسك ولكنك بريء . أوكد لك أنك برئ يا صديقي . ودعني أعيد عليك سرد الحادثة لعلك تحكّم فيها عقلك وتصدر على نفسك حكما عادلاً .
كنت عائداً من عملك وقت الظهيرة متخذا الشارع المجاور للنهر0 وقبل أن تصل إلى " قهوة كاظم أبو سراج " أيقظك من أفكارك صراخ مفزوع ينطلق من النهر . تلفت حواليك فوقع بصرك على طفل يصارع الموج وسط النهر . ولم تكن تتوقع أن تشهد طفلاً يغرق فلبثت مبهوتاً لا تدري ماذا تفعل . كان عليك ان تخلع بدلتك الجديدة وتطرحها في الأوحال من حولك ، ثم تلقي بنفسك في النهر وتسارع بإنقاذ الطفل . وخيل إليك أنك لن تدركه فقد كان يغوص تحت الماء تارة ويظهر أخرى . وظللت متردداً وإذا بالطفل يغيب عن أنظارك وتبتلعه أمواج النهر . واحترت كيف تتصرف .. هل تبلّغ مركز الشرطة بالحادث ام تواصل طريقك كان شيئاً لم يحدث ؟! ووجدت من الأسلم لك أن تواصل طريقك إلى المنزل ما دام الطفل قد مات . ولما بلغت المنزل أعرضت عن تناول الغداء وانتابك الوساوس وحاصرتك الأفكار السود . وأخذت تعنف نفسك لترددك في إنقاذ الطفل ، بل واتهمت نفسك بأنك المسؤول عن موته .
وعجزت عن مقاومة الرغبة التي انبعثت في أعماقك بالعودة إلى موضع الحادثة . فارتديت ملابسك عجلاً وانطلقت إلى النهر . وهناك أبصرت الناس متجمهرين ورأيت الغطاسين وهم يستخرجون جثة الطفل . وشهدت أمّه التي استبد بها الحزن فلم تعد تعي تصرفاتها . كانت قد شقت ثوبها ووارت رأسها بالتراب . وكان بعض النسوة ممسكات بها فأفلتت منهن وارتمت في الأوحال . وما أن أنهضوها حتى غافلتهم وألقت بنفسها في النهر . فسارع عدد من المتجمهرين يلقون بأنفسهم في النهر وهم بملابسهم وينقذونها من الغرق . وكانت الأم تصرخ طوال الوقت : " دعوني أموت يا ناس ..ارحموني واتركوني أموت .. لم تنقذوني ؟! ألم يكن أحد منكم حاضراً لينقذه ؟!" واخترقت صرخات الأم سمعك كجمرات مسعرة . وافترسك دوار زلزل كيانك وعصفت برأسك عبارة مدوية : " أنا المسؤول عن كل ما يجري أمامي " .
عدت إلى الدار والصداع يكاد يعمي عينيك ويحجب عنك طريقك0 وتهالكت على فراشك والآلام تنبعث من كل جزء من جسدك . وضجّ سمعك بعبارة الأم الجزعة : " ألم يكن أحد منكم حاضراً لينقذه ؟" .
مرت الساعات وأنت في رقدتك منهوك القوى . ثم تناهى إلى سمعك صوت مناد ينادي في جنازة : " الله أكبر . وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير " . فقفزت من فراشك كأن أفعى لدغتك . وهرعت إلى الخارج وانضممت إلى المشيعين . وكنت تحاول طوال الوقت أن تستأثر بحمل التابوت دون غيرك من المشيّعين . وراقبت أباه من طرف خفي . كانت دموعه تجري على خديه بصمت فيحاول إخفاءها . لكنه لم يقو على مقاومة حزنه إلى النهاية . فما أن ووريت الجثة في القبر حتى أجهش ببكاء محرق ، فلم تشعر إلا والدموع تسيل على وجنتيك . ولم تذق في تلك الليلة للنوم طعماً وأرقت حتى الصباح . ومزّقت بدلتك التي حمّلتها ذنب ترددك في إنقاذ الطفل .
اسمع يا صديقي . هذه هي الحادثة كما رويتها لي ففكر فيها بتعقل . ولا تنس أنك تعذبت بما فيه الكفاية . فكم من ليلة سهرتها لا تذوق فيها للنوم طعماً . ولا تكاد لحظة من لحظاتك تخلو من صورة الطفل الغريق وصراعه من الموج ، والأم ومناحتها ، والأب وبكائه . ولا تكاد أذناك تستريحان من عبارة الأم الجريحة " ألم يكن احد منكم حاضراً لينقذه ؟ "، هذه الصرخة التي تدوي في أذنيك ليل نهار. لا ليلك ليل ولا نهارك نهار يا صديقي . ففي الليل تتألب عليك هذه الصور ويبرز من بينها شبح مرعب يقرع رأسك صارخاً : " لماذا ترددت في إنقاذه ؟ "، وفي النهار لا تجرؤ على النظر في وجه أحد من أصدقائك لئلا يقرأ ف عينيك ما تحسّ به من ذنب . ثق أيها الصديق أن خيالك هو الذي أوصلك إلى هذه الحالة التعسة . لو فكرت بالحادثة بتعقل ما قاسيت هذا العذاب . صحيح أنه ما كان يجدر بك أن تتردد في إنقاذ الطفل ولكن المقدور قد وقع ولا ينفع الندم . أهجر أحزانك أيها الصديق فإنها تخطو مسرعة بك نحو القبر . وهيا بنا نزور مقبرة باب الحسين حيث يرقد الطفل ونقرأ الفاتحة على روحه، وليكن ذلك عربونا لنسيانك كل ما يتعلق بهذه الحادثة المشؤومة .

خطيب الحرية
اعتلى طاهر العلي منصة القاعة ليقي خطبة عن الحرية ، بينما شغلت شقيقته نعيمة مقعداً في الصفوف الأولى . وبدأ يتحدث بلهجة مؤثرة عن معاناة المواطنين بسبب حرمانهم من حرياتهم الأساسية التي تصادرها السلطة . ثم دوّى صوته مجلجلاً وهو يقول : ولكن السلطة الغاشمة ليست مسؤولة وحدها عن هذه الجريمة أيها السيدات والسادة فنحن الرجال نشارك في هذه الجريمة أيضاً . ذلك أننا مسؤولون عن مصادرة الحريات الأساسية للمرأة .. نعم ، نحن المسؤولون عن هذه الجريمة . فحريات المرأة الأساسية جزء من حريات المواطنين ولا يمكن أن نسمى شعب متحرر ونساؤنا ترسف في قيود ثقيلة من الاستبداد .
سيداتي وسادتي . لن ترتقي بلادنا ما دمنا نصادر حريات المرأة الأساسية0 وكيف ترتقي ونصف شعبها مشلول بقيود من استبدادنا نحن الرجال ؟! فلماذا أيها السادة ؟ لماذا؟! أنخشى عليها من الرجل وهي ما خلقت إلا من أجله وما خلق إلا من أجلها ؟ أليس هذا هو التخلف بعينه ؟ وإلى متى تدوم نظرتنا المتخلفة هذه إلى المرأة وهي نصف المجتمع ؟ إنني أطلق هذه الصيحة من فوق هذا المنبر وأرجو أن تصل إلى أسماع الرجال جميعاً : فكّوا عقال المرأة .. أعيدوا إليها حرياتها المسلوبة ، فلن نعد شعب متحضر إن لم نحرر المرأة من استبدادنا .
وقوطع الخطيب بعاصفة من التصفيق ارتفعت من أكفّ النساء ، وهتفت شابة جلست بجوار شقيقة الخطيب : " ليحيى خطيب الحرية " 0 فرد عليها رفيقاتها بحماس :"ليحيى بطل الحرية "0
وابتسمت نعيمة ساخرة وتمتمت:"ليحيى بطل الحرية طاهر"!
ما أعجب أن يلقب شقيقها طاهر بمثل هذا اللقب،وما اغرب أن يتشدق هو أمام هذا الجمع بمثل هذا الكلام!ففي الأمس انهال عليها تقريعا لأنها وقفت في باب الدار تحادث إحدى الجارات وكانت بلا عباءة0فما أن انصرفت الجارة حتى نادى عليها وقال لها مغضبا: ما معنى هذا التصرف السخيف يا نعيمة؟
-أي تصف يا طاهر؟
- وقوفك في باب الدار بلا عباءة وأنت مكشوفة الوجه والرأس0
- لكن جسمي كان متواريا وراء الباب يا طاهر0
_ وماذا بشأن المارة؟ وماذا بشأن ما يمكن أن يطلقه الجيران من كلام؟ المفروض فيك أن تتجنبي مثل هذه الحماقات0
ومضى الخطيب في خطبته يقول:ألا تملك المرأة قلبا ينبض بالحياة أيها السادة؟ أليس للمرأة نفس تشعر بالظلم وتتألم لهذا الشعور؟ فكيف يحق لنا أن نحكم عليها بالحجز في الدار؟ نحن أيها السادة نمقت كلمة الظلم ،لكن تصرفنا هو عين الظلم 0 نعم00 نحن قساة ذوو قلوب متحجرة وعقول جامدة ما دمنا ننظر هذه النظرة الظالمة إلى المرأة 0
هتفت فتاة في أقصى القاعة:فليحيى بطل الحرية0
ودوت عاصفة التصفيق تهز القاعة 0وعضت نعيمة على شفتيها غيظا وهمست:ليسقط أبطال الحرية إن كانوا من نوع طاهر00 كيف يتناسى أنه من أشد المتحمسين لحجزها في البيت؟ كيف ينسى أنه يعارض دائما في زياراتها لصاحباتها بل وحتى في خروجها للتسوق؟ فأية حرية تلك التي ينادي بها؟
واندفع الخطيب يقول في حماس: وهذا البرقع أيها السادة00مزقوه 00مزقوه إن كانت قلوبكم تخفق بعواطف إنسانية 0 البرقع أيها السادة يخنق أنفاس المرأة 00إنه يكمم فمها00 إنه يعمي عينيها00البرقع أيها السادة هو رمز وحشية الرجل 0كيف يجوز له إرغام المرأة على ارتدائه؟ كيف يجوز له أن يحرّم رؤية وجه خلقه الله ليكون رمزا لقدرته وجلاله؟كيف يجوز له أن يحوّل وجوها مشرقة إلى أكياس سوداء كأكياس الفحم؟ لا تعجبوا من قولي هذا يا سادتي ،فما المرأة سوى كيس من أكياس الفحم المتحركة عندما تلف جسدها بعباءة سوداء وتحجب وجهها ببقع أسود0
أيها السادة00 مزقا البرقع بجهودكم الفردية0 ليحاول كل منكم أن ينقذ نساء أسرته من البرقع،وسيبدو لكم جمال الدنيا على أمه وجلال الله على أكمله0
ودوت هتافات بعض النسوة:ليحيى بطل الحرية00ليحيى بطل الحرية00ليحيى بطل الحرية00
فهتفت نعيمة:"ليسقط بطل الحرية"، لكن صوتها ضاع بين أصوات النساء0وعضت بأسنانها على البرقع وبودها أن تمزقه0وتذكرت كيف أوقعها قبل أسبوع في مشكلة معه فقد فارقت الدار لزيارة ابنة خالتها وكانت تحمله بيدها لترتديه عند اجتياز الزقاق0 وإذا بطاهر يلتقي بها وهي مكشوفة الوجه0 وأصر ألا تمر هذه الحادثة بلا عقاب . لكن أمها تحدثت إليه طويلا حتى أفلحت في استرضائه .
وأثارت هذه الذكرى الحزن في نفسها فشهقت باكية ، فنظر إليها النسوة من حولها بإعجاب وقد راعهن شدة تأثرها من دفاع الخطيب عن المرأة المظلومة .

ضحية
من هذه الصبية الحسناء ؟!
هذه السمراء ذات العينين الدعجاوين الواسعتين والوجه الصبوح الفاتن؟
هذه التي تمنطقت بعباءة زرقاء وحملت على ظهرها حزمة من الحطب قد ناء جسمها الفتي بثقلها ، وسارت وئيدة حافية القدمين تقطع هذه الأرض الخشنة في طريقها إلى المدينة ؟!
إنها صابحة 00 إنها الصبية التي تبكر كل يوم بالخروج من كوخها وبصحبتها فأس تقطع بها الحطب من الأرض الممتدة أمام أكواخ الفلاحين المبعثرة خارج المدينة.
أجل . لقد اعتادت صابحة أن تجمع الحطب مع رفيقاتها كل صباح وتحمله إلى المدينة لتبيعه بقروش زهيدة . ولم يكن لها أب فقد توفى فحل محله أخوها حمزة الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره . فكان ما تكسبه صابحة من بيع الحطب عونا للأسرة في حياتها الصعبة.
وكانت صابحة الصغيرة الحسناء محظوظة في البيع . كان جمالها وصغر سنها وجاذبيتها وسائل لاجتذاب المشترين . لكن هذه الوسائل جرّت الوبال ذات يوم . وكان ذلك حينما مرّ يوسف العبد الله في سوق الحطابين وأبصرها مفترشة الأرض بجوار حزمة الحطب . فقد راعه جمالها ، وقرر في الحال ان تكون ملكا له .
ولم يتخذ يوسف هذا القرار عبثا . فهو الابن المدلل للثري المعروف عبدالله العباس ، أعظم الوجهاء نفوذا في الحلة 0 ولقد استحق بجدارة لقب " دون جوان الحلة " الذي أطلقه عليه أصحابه . فمن مبادئه أن الحياة لا قيمة لها إن لم تكن سلسلة متصلة الحلقات من المغامرات النسائية .
اقترب يوسف من صابحة وسألها وهو يشير إلى حزمة الحطب : بكم هذه ؟
فأجابت : بسبعين فلساً .
قال يوسف : لك درهمان على ان تحمليها إلى منزلي القريب .
حملت صابحة حزمة الحطب وتبعت يوسف في خطوات وانية . وما ان تخطت باب المنزل حتى أغلقه يوسف من الداخل وتقدم منها باسما . وأدركت صابحة أنها وقعت في الفخ . ألقت حزمة الحطب على الأرض وتراجعت إلى الوراء فزعة والتصقت بالباب واهتز جسدها كسعف النخلة . قالت بصوت مرتجف : خلّني أخرج الله يخليك .
قال يوسف وهو يضحك مغتبطا : هذا مستحيل ،فأنت أشهى من تمر الخستاوي .
قالت بصوت مرتعد : سيقتلونني إذا اغتصبتني .. لماذا تحكم علي بالموت؟ خلّ سبيلي يجزك الله عني الله خيراً .
قال يوسف : اسمعي . لن أفلتك مهما أطلت التوسل .
انفجرت صابحة تبكي في مرارة وهي تولول : سيقتلونني .. سيقتلونني .. ماذا جنيت يا ربي ؟ اشهد أنني سأموت بجرم غيري .. اشهد أنني بريئة مظلومة .
وانقضّ عليها يوسف كما ينقض الذئب الجائع على فريسة سمينة .
وتلاحقت الشهور 00
وشعرت صابحة بالجنين يتحرك في أحشائها فأيقنت أن نهايتها قد دنت . واستبد بها العذاب خشية اليوم المحتوم0 وراح الجنين ينمو وينمو والبطن ينتفخ وينتفخ . وكانت تطوي سرها بين حنايا ضلوعها لكن الجنين بدأ يفشي السر . فانتشرت الهمسات من حولها وتطايرت الإشاعات بين أذنيها . وكانت كل امرأة من جاراتها تقول للأخرى : حرام أن تقتل صابحة وان يوارى حسنها في التراب .
وأقبل اليوم المحتوم . فقد تعالت الهمسات حتى غدت صراخا0 ونفذ الصراخ إلى سمع أخيها حمزة . لكن حمزة كان على ثقة أن صابحة بريئة وان هذا العار ألصق بها بالرغم منها . لذا ظل أسابيع عديدة يصم أذنيه عن ذلك الصراخ . لكن مقاومته انهارت أخيراً. فصابحة ألحقت العار بالعشيرة ولن يمحى هذا العار إلا إذا انمحت من الوجود . إنها إصبع نتن ويجب قطعه كما تقضي عادات الآباء والأجداد .
خرجت صابحة ذات صباح لجمع الحطب. وكان أبناء القرية ينتشرون خارج أكواخهم مقبلين على مشاغلهم . وفجأة وعلى مرأى منهم جميعاً انقض الفتى حمزة على أخته صابحة وأغمد خنجره في صدرها فتهاوت موشحة بدمها . ورفع الخنجر الملطخ بالدماء عاليا في أنفة وفخر فزغردت النسوة وهلل الرجال !

مغامرة !
ارفع رأسك وانظر . ها قد التقت عيناك بعينين خضراوين تفيضان سحرا وفتنة . لا تتلفت حواليك فأنت محاط بزمرة يرصدون كل حركة من حركاتك . إنها تبادلك النظر فلا تبالغ في التحديق فيها . الكل يرصدون حركاتك00 فكيف واتتك هذه الجرأة ؟! ولكن ما رأيك في أن تتخلى عن مقعدك لهذه المرأة المسنة لتكون إلى جوارها ؟!00 أنت واقف الآن بجانبها وبإمكانك أن تنظر إليها بطرف عينيك في اطمئنان .
إن الباص يتحرك بقوة فأمسك بالعمود الحديد الذي يستعين به الركاب . قرّب قبضتك من قبضتها فقد تمسكت به هي أيضا. لا تلمس قبضتها . تمهل إن الباص " يندفع في سيرة والواقفون يترنحون يمينا وشمالاً فترتطم أجساد بعضهم ببعض . لكنك لست متضايقا من الصدمات فالجسد الذي يرتطم بجسدك بات حبيبا إليك .. ما ألطفها وهي تعتذر إليك باسمة إثر صدمة قوية .. وما أجمل عينيها الخضراوين !
خالسها النظر من طرف عينيك .. إنها منصرفة إلى نافذة الباص . أدن قبضتك من قبضتها واضغط عليها برفق . لماذا لم تنتبه إليك ؟! كرر ضغطك .. والآن كفّ عن الضغط فقد التفتت إليك وتأملتك بنظرة خرساء ثم أدارت وجهها إلى النافذة . أعد الضغط على قبضتها . لماذا لم تسحب قبضتها وتركتها ملامسة لقبضتك ؟! صوّب إليها نظرك بحذر. إن عينيكما تلتقيان لكنك عاجز عن أن تستشف معنى واضحا من عينيها الصامتتين0 أراضية هي أم ساخطة ؟! لست تدري بالضبط ، ولعل من الخير لك أن تسحب قبضتك فتريحها وتريح نفسك . حسنا . أتقول أن هناك تطورا ؟! هذا صحيح فهي ترمقك بطرف عينيها بنظرات .. أتسميها ساخطة ؟ كلا فليس فيها ثورة السخط . افتحسبها راضية إذن؟ كلا فليس فيها وداعة الرضا . لا يمكنك أن تحكم الآن ، لكنك ستدرك مغزاها لو عاودت النظر إليها . مهلا .. مهلا .. أفلا تعتقد أنك جاوزت حدود اللياقة بهذه النظرات الجريئة؟ إنها لجرأة غريبة منك .. الناس متلفون من حولك وأنت تحدق بإلحاح في فتاة محتشمة . ولكن ماذا يضيرك ؟ ليس بينهم من يعرفك . ثم ها هي الفتاة تسارقك النظر وبإمكانك الآن أن تراهن على أنها ليست ساخطة إن لم تكن راضية فعلاً. إن عينيها لتبتسمان لعينيك . دعك من الناس فما من احد منهم يرصد حركاتك . الله ! ما أجمل هاتين العينين . هذه نظرة رابعة . وتلك الخامسة . هنيئا لك . وهاهي السادسة . لا فائدة من تظاهرها بإهمالك فعيناها الضاحكتان تنطقان بالغبطة والرضى . من حقك الآن ان تتطلع إليها دون حياء . ولكن ما شأن هذا الشاب الفضولي بكما ؟! لماذا يراقبكما ؟ إن نظراته لتورثك ضيقاً شديداً وتنغص عليك هذه الدقائق الهنيئة . فليدعك تستمتع قليلاً فما هي إلا لحظات وينتهي كل شئ . أجل ينتهي كل شئ فستغادر الفتاة الباص في أية لحظة انتبه 00أظن أن كل شئ قد انتهى الآن . لقد شغر مقعد وهاهي قد شغلته . إنها تجلس الآن بعيدة عنك . فماذا ستفعل ؟! ولكن مهلاً فالموقف كما يبدو لم يتغير . إنها الآن قبالتك وبإمكانك ان تخالسها النظر دون ان تنحرف برأسك تجاهها فتثير انتباه الحاضرين .
يا للخيبثة ! ما أبرعها ! إنها تسبل جفنيها فتتلصص نظراتها إلى وجهك على حذر . يا لهذه النظرات الساحرة التي تطلقها نحوك فتعبث بعواطفك عبثاً محبباً . إن عينيها موصولتان بعينيك كأنها تقول لك " لا تنس ان تغادر الباص معي " . إنها أعجبت بك كما أعجبت بها .. لاشك في ذلك ، جميل أن يحب المرء وأن تبادله حبه فتاة حسناء . لقد كنت تطمح دائما إلى فتاة على مثالها وها قد تحققت أمنيتك . هذه ولا ريب فتاة أحلامك . هذه هي الفتاة التي طالما تمنيت أن تصحبك في نزهاتك على شاطئ النهر وفي الحدائق والمتنزهات . يا لله ! إن النهر جميل ، ولكنه سيزداد جمالاً وانت تنساب معها على صفحة الرقراقة في زورق لا يضم سواكما !
والآن انتبه .. هاهي ذي تتأهب لمغادرة الباص 00هيا أسرع لتكون إلى جوارها . ولكن من هذه الفتاة التي ترافقها ؟! لعلها شقيقتها فبينهما شبه كبير . لا عليك ، اتبعهما على مهل وفكر بهدوء فيما ستقوله لها . ولكن ماذا دهاك ؟! أيها العقل افتح عليه بعبارة يبتدئ بها الحديث .. عبارة واحدة فقط .. ستقول .. ستقول .. عبثا تحاول ابتداع العبارة المناسبة فعقلك خاو تماماً . لتكتف من الغنيمة بالإياب .. لا. لا. هذا غير ممكن . لاحقا إلى اخر لحظة . اتبعها إلى نهاية المطاف .. أيها الجبان ، ألا تتقدم منها وتقول أية عبارة كانت ؟ أتظل سائراً وراءها وأنت ترشقها بنظرات بلهاء وثغرك مفترّ عن ابتسامة لا لون لها ولا طعم ؟! ألا ترى أنها تشجعك على الكلام بما تطلقه من ضحكات رقيقة وهي تتحدث مع رفيقاتها ؟
لو لم تكن راغبة في الكلام معك لأسرعت في سيرها. أتظن أنها ستبدؤك الحديث؟! عليك أن تفهم أن المرأة تحب الرجل الجرئ لا الجبان المتردد .. ها قد خلا الطريق من المارة . لا تضع الفرصة وتقدم منها وقل لها : " إنني سعيد بمعرفتك يا آنسة " . أيها السخيف ، لماذا أحمرّ وجهك وأنت تنطق بهذه العبارة ؟! ما الداعي لكل هذا الارتباك ؟ تحدث إليها ولا تصمت . أهذا كل ما في جعبتك من كلام ؟ يا لك من تلميذ خائب0 أنسيت انك الوحيد بين أصدقائك التلاميذ الذي لا يملك صديقة؟
تكلم ولا تكترث لمظاهر الصخرية التي بدت على الفتاتين . من قال إنها سخرية ؟ نظرت كل منهما إلى الأخرى وضحكتا . من قال إن هذا التصرف من علائم السخرية ؟ من قال ؟00 أتظل سائرا وراءهما وكأنك إنسان آلي ؟ قل أية عبارة أخرى . تكلم عن الجو . امتدح جمالها . اسألها أي سؤال . أتضل عاجزا عن الكلام ؟ أصغ إليها إذن فهي تخاطبك قائلة: " ماذا تريد منا ؟ لماذا تلاحقنا ؟ " قل لها : "إنني أعجبت بك وأريد أن التعرف بك" . ثق أنها لن تغضب لو قلت لها ذلك . أتخجل من قول عبارة واحدة يا رجل ؟ تكلم ولا تضع آخر فرصة لك .. الحمد لله الذي هداك أخيراً إلى فتح فمك وقول هذا الكلام المناسب .. ولكن يا عجباً ! ما لها عابسة الوجه ؟! أصغ إليها وهي تقول لك : " اسمع .. إذا لم تدعنا وحالنا فستندم على ذلك".
والآن إلى الوراء د ر.. إلى الأمام سر !



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - صراع -مجموعة قصصية-