أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-















المزيد.....



انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2533 - 2009 / 1 / 21 - 09:40
المحور: الادب والفن
    



الطبعة الاولى 1954

مقدمة

محنة الإبداع والظفر بمزاياها!
( عن هذا الكتاب وصانعيه )
□ د. عبد العزيز المقالح □ د. إبراهيم الجرادي
(1)
الأدباء يتشابهون، مصائرهم تختلف.
الأدباء يختلفون، مصائرهم تأتلف.
الأدباء يتشابهون في الدافع وأصول الدافع، في المشابهة وقرائن المشابهة. في الباعث الإنساني وفي أشكال تجلياته، في اليقين الخالق، وفي استثمار تأثيراته الجمالية، التي تتأتي -أولاً وقبل كل شيء- من تنظيم المشاعر البشرية، وبعثها نسيجاً جمالياً متعالياً على غاية الانتفاع بالطارئ، والعابر، والمستقرِّ على جزعه المتداول في ابتذاله الوضيع.
الأدباء يتشابهون في ارتياد آفاق النفس البشرية، واكتشاف مجاهلها، وفي النقاط المضيئة والمعتمة في خباياها، وهي تتأمل اضطرابها وثباتها، عزوفها وإقدامها، رقتها وجلافتها، أسباب حيرتها، وأسباب مصيرها العادل وغير العادل.
كلُّ ذلك في محمولات تخلق أشكال تعبيراتها الجمالية، التي تدلُّ عليها، وتستدلُّ بها، ليس من خلال أبنيتها اللفظية والدلالية فحسب، وليس من أنساق الظاهر والمضمر فيها، المتجلي والغائب، المواجه والموارب، بل من نفود المشاعر المنتجة للمثال العادل والسويِّ، الجميل والمدهش، المتعالي والنافذ، تلك الهِبات التي يسعى إليها كلُّ مبتكرٍ خالقٍ وعظيم، يقود خلائقه إلى مِيزَة الاختيار:
اختيار العذاب ومتعة العذاب! اختيار الجُلجلة ومتعة الصعود إلى الجلجلة، اختيار المحنة طريقاً للخلاص من المحنة، اختيار الجمال طريقاً قويماً لدحر القباحة، اختيار الجمال الأنثويِّ فتنةً لرجولةٍ ظافرة، وقبل هذا وذاك اختيار الحرية؛ الحرية! مصدر الغواية، وسبب العذاب البشري العظيم، وأسباب الظفر بمزاياه، وأسباب الانحياز الحاسم للإنسان، في اختيار مصيره المشروع الذي يتعرض لانتهاكات أخرجت بعض الإنسان من صفاته.
أليس هذا ما قاد أنطون تشيخوف عام 1890 إلى جزيرة ساخالين في رحلةٍ مضنيةٍ قادته بدورها إلى مصادر العذاب والفقر والانحلال والدعارة والمساجين والأمراض المزمنة، لتكون أساس كتابه: (جزيرة ساخالين 1895)، الذي فرض على الحكومة القيصرية آنذاك اتخاذ سلسلة تدابير، تتدارك بها -إذا استطاعت أن تتدارك- أسباب ما وصل إليه حال الواقع الروسي. وقد بدا أنطون تشيخوف راضياً كل الرضا عن رحلته، وعن كتابه المشبع بالاحتجاج على القهر والظلم الذي يمارس ضد الإنسان، وهو احتجاج على القائم السياسي في الوقت نفسه، الرحلة التي دامت واحداً وثمانين يوماً في ظروف بالغة السوء حيث الصقيع وحرائق الغابات والجدب ووحشة الطريق ومخاطر السفر.
لقد كان أنطون تشيخوف في ذلك إنساناً جيداً وطبيباً سيئاً، كما قيل عنه آنذاك، وإلا من يذهب بقدميه إلى بؤرة أمراض لا شفاء منها!!
«إن الطب لا يستطيع أن يعيرني بالخيانة: لقد وفيت حرمة العلم حقها، وقمت بالواجب نحو ما كان الكتّاب يسمونه تحذلقاً. وأنا مسرور لأن ركن تعليق الملابس في نثري، سوف يضم هذا المفصل الخشن».
أليس هذا، أيضاً، هو السبب الذي بكَّرَ في هجرة شاكر خصباك الفادحة، من بغداد المدينة التي يحب، ولم يعد إليها، ولن يعود إليها، مادامت المهانة البشرية صارت سلوكاً بشرياً منتشراً كالقتل، بأسباب تستدعي التفكير بالمحنة المستشرية، وبضرورة كفاح الأدب ضد جبهة اللامبالاة، والتخاذل، والحيادية، والقوة الظالمة، وإهدار الكرامة البشرية، والاستخفاف بالمصير البشري، وبعدالة الحياة وقيمة العيش.. أليست هي من قادت -قبل أكثر من خمسين عاماً- هذا الفتى اليافع العائد للتو من لندن، حاملاً إجازة الدكتوراه في الجغرافية البشرية من جامعتها، لينشغل بدءاً، بأنطون تشيخوف لا سواه، ويقدمه بالعربية، بهذا الشكل المميز لأول مرة.
اثنان يلتقيان.. اثنان مهمومان بالمصير البشري وأشكال تعبيراته ويسيران في الطريق ذاته.
الأول: أنطون تشيخوف، شاعر المشاعر البشرية، ومؤرشف انفعالاتها، الوصاف النزيه، مصور الكآبة والإحباط الروحي، مؤرخ التمرد والاستسلام، البسيط والجوهري، صاحب اللغة الغنائية المبحوحة، واللغة الضاجة النافرة، مولّد الرؤى الحزينة، والرؤى المرحة اللاذعة؛ خالق المأساة وعذوبة المأساة، خالق الملهاة ومرارة الملهاة. من في مآسيه الكبرى والصغرى، تقود الأسباب مصائر شخوصه إلى حيرتها وقلقها، وتمضي بها إلى عذاباتها المستفيضة بالوجدانيات الدافئة.. إلى فيض تساؤلاتها المشروعة عن:
الحياة
والحب
والعدل
والخيانة.
والثاني: شاكر خصباك، فتى عراقي، ساعٍ بقوة اليفاعة الجسورة للإيفاء بوعد الموهبة بجعل العار أشدَّ بجعله علنياً، وبفضح السوء البشري وأوليائه وخدمه وسادته مناصريه والساعين بجدٍ لا يضاهى إلى ملكوت مسلكيته الوضيعة!
كلُّ ذلك قاد قبل نصف قرن ويزيد إلى هذا الكتاب الهام الذي نقدمه من جديد للقراء العرب احتفاءً به وبركنيه:
أنطون تشيخوف الذي تحتفي البشرية بوفاته بعد المئة.
وشاكر خصباك الذي يقترب من حكمة الثمانين، بروح الفتى الذي لا يكلُّ ولا يملُّ بالدفاع عن الإنسان وحقه في الإبداع والحرية.
(2)
حينما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (في كانون الثاني - يناير 1954، عن المجلة ذائعة الصيت آنذاك الثقافة الجديدة) لم يكن اسم أنطون تشيخوف بهذا الذيوع والانتشار بين قُرَّاء العربية، فلم تكن قد ترجمت له في الواقع سوى قصص قصيرة نشر أغلبها على صفحات مجلة (الرواية) المصرية المحتجة، أما مسرحه فلم يكن قد ترجم بعد. لذلك كان الكتاب من الكتب المبكرة التي حاولت لفت نظر القارئ العربي إلى مكانة تشيخوف العالمية، في القصة والمسرحية. أما اليوم فقد بات تشيخوف كاتباً ذائع الصيت لدى قرّاء العربية، وأصبح من أحبِّ كتّاب القصة القصيرة إلى النفوس. كما أن الكثيرين من كتّاب القصة العرب يفخرون بتأثرهم بتشيخوف. وقد ترجمت جميع كتاباته المسرحية إلى العربية. كما ترجمت غالبية قصصه القصيرة عدا القليل منها0
ونكاد نزعم أنه على الرغم من الترجمات المستفيضة التي ظهرت في العربية لأدب تشيخوف فما زال هذا الكتاب الذي صدر قبل ما يزيد عن خمسين عاماً يكتسب أهميته، لا لسبب ريادته فحسب، بل لأسباب أخرى سنذكرها في حينها.
لقد حاول الكتاب أن يمدَّ القارئ العربي بالمعلومات الأساسية عن حياة تشيخوف وقدّم بالفعل صوراً مركزةً مشرقة، تغني القارئ عن تفصيلات كثيرة، كما ربط كتاباته الأدبية الشهيرة بمراحل حياته المختلفة وأحياناً بظروفه الخاصة. ولا نعرف أيَّ كتاب آخر صدر عنه في العربية قدّم هذه الصور.
كذلك هدف الكتاب إلى تقديم صورة صحيحة للقارئ العربي عن (القصة التشيخوفية). والواقع أن القصة التشيخوفية مرت بمراحل عديدة. فقد كانت في أوائل حياته الأدبية قصة فكهة ساخرة تفتقر بعض الشيء إلى العمق والتركيز، بل وقد تميل إلى الهزل أكثر من استهدافها للجدّ. ولكن منذ بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر، حققت القصة التشيخوفية نوعيةً جديدةً على الصعيد الفكريِّ والفنيِّ واكتسبت صفات مميزة، وهي مرحلة تكاد تكون مغايرة تماماً للمرحلة السابقة. ويمكن القول إن مرحلة الثمانينات هذه وما تلاها هي التي أنتجت ما نسميه (القصة التشيخوفية) وهي القصة التي صارت معروفة السمات. ولقد اشتملت (القصة التشيخوفية) على نماذج متعددة، فهناك نموذج القصة القصيرة للغاية والشديدة التركيز من أمثال قصة (بعد المسرح) التي لا تكاد تتجاوز بضعة صفحات. وهناك النموذج المتوسط الطول، وهو نموذج القصة التشيخوفية بحق مثل قصة (المعلمة) (الساحرة) و(فولوديا) و(فتاة الكورس).. إلخ. وأمثال هذه القصص تنطوي على حسٍّ إنسانيٍّ مذهل. ثم هناك أخيراً نموذج القصة الطويلة التي تكاد تتحول إلى رواية قصيرة، وهذه القصص تحفل بتفاصيل عن حياة الشخوص، ذات دلالة عالية. وهي تجمع بين مزايا الرواية فيما تمتلكه من مساحة ممتدة، لعرض تفاصيل الحياة الخارجية والداخلية للشخوص، وفي الوقت نفسه تظل محتفظة بسمات القصة التشيخوفية القصيرة، بتميزها بالتركيز والتكثيف الشديدين. وقد أصاب تشيخوف في هذا النموذج من القصص نجاحاً منقطع النظير، وبلغ فيها قمة الإبداع ولعل أشهرها (قصة رجل مجهول) و(المبارزة) و(حياتي) و(عنبر رقم 7) و(النطاطة).. وغيرها.
ولقد هدف الكتاب، أيضاً، إلى إعطاء صورة للقارئ العربي عن مسرح تشيخوف بترجمة مسرحيتين ذات فصل واحد. وقد برع فيها تشيخوف براعة خاصة. ولم يكن تشيخوف قد اشتهر، إبّان صدور هذا الكتاب -أي لغاية منتصف خمسينات القرن الماضي- باعتباره كاتباً مسرحياً كبيراً بالنسبة للقارئ العربي. والواقع أنه، في الأساس، كان كاتباً مسرحياً مقلاً، فلم تتجاوز مسرحياته الطويلة، ذات الفصول المتعددة الخمس، إضافة إلى بضعة مسرحيات ذات فصل واحد. ولعل عدم شهرته، آنذاك، ككاتب مسرحيٍّ في العالم الغربي يعود إلى أنه كتب مسرحياته بأسلوبٍ جديدٍ لم يكن مألوفاً في المسرح الغربي، وربما أمكن أن نطلق على مسرحه ما لم يكن شائعاً آنذاك (الواقعية الجديدة) وكان الأسلوب السائد قبله هو أسلوب إبسن الكاتب النرويجي، الذي يعدُّ رائد (الواقعية الكلاسيكية)، والذي طغى على مسرح النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولقد انطوى الأسلوب التشيخوفي على البساطة المتناهية في الأحداث، مع شحنات عاطفية شفيفة ومعقدة. الأمر الذي يلزم عرضها على المسرح جهداً فنياً صادقاً وعالياً، لذلك واجهت مسرحياته في تجسيدها صعوبة بالغة، في المسرح الغربي الذي لم يكن يألف هذا النوع من المسرحيات. ولم يتحقق لها النجاح إلى بعد أن اجتاحت المسرح الغربي، أواخر الأربعينات من القرن الماضي، تيارات الواقعية الجديدة على يد المسرحيين الأمريكيين أمثال تنسي وليامز، وآرثر ميلر، وأوجين أونيل، وهي التيارات التي اعتمدت الصدق الفني في التعبير عن الحياة وابتعدت عن التصنع والتهويل. ومنذ ذلك الحين ومسرحيات تشيخوف تلقى عناية متزايدة من قبل المهتمين بالمسرح في دول أوربا الغربية، وفي أمريكا، ولا يخلو موسمٌ مسرحيٌّ من عرض إحدى مسرحياته.
وإذا الدكتور شاكر خصباك قد ذكر في مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب أن تشيخوف لم ينل ككاتب مسرحي، ما يستحقه من شهرةٍ في العالم الغربي، لكن مكانته ستعزز في هذا الميدان في السنوات المقبلة. وقد صدق هذا التنبؤ، فتشيخوف اليوم يعدُّ من أكبر كتاب المسرحية المعاصرين. إن قراءة تشيخوف ستظلُّ ممتعة ومجزية، مهما ظهرت من نماذج جديدة في القصة أو المسرح، ولكن يكون، أبداً، كاتباً عقيق الطراز، فالمواهب الخالدة لكل العصور ولكل الشعوب، وهذا هو شأن المبدعين العظام.
(3)
أما ثاني موضع الاحتفاء فهو الدكتور شاكر خصباك.
والدكتور شاكر خصباك واحدٌ من علماء العراق بل من علماء الأمة العربية البارزين في مجال علوم الجغرافيا، وهو في الوقت ذاته روائي وقاص وكاتب مسرحي تربو أعماله الأدبية المنشورة على الثلاثين عملاً، ومشكلته أو بالأصح مشكلتاه، أن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية، وأنه احترف المعارضة لأنظمة الحكم في بلاده منذ نعومة أظفاره. وبسب ذلك دخل السجن وعرف المنفى الاختياري والاضطراري ولا يزال منذ أكثر من عشرين عاماً يعيش خارج بلاده ويبدو أنه لن يعود إليها قريباً. وفي الوطن العربي، وربما في بقية أنحاء العالم، يصعب الجمع بين شهرتين، ولذلك فإن عدداً كبيراً من العلماء ومن المبدعين هنا وهناك يتخلون عن إحدى الشهرتين، أو أن ظروف الواقع هي التي تفرض عليهم هذا التخلي كرهاً أو طوعاً.
ونحسب أن صديقنا الأستاذ الدكتور شاكر خصباك عالم الجغرافية المعروف والروائي والمسرحي والقاص يصلح نموذجاً لجناية الشهرة العلمية على المبدع، وعليه كمبدع كبير يكفي ما كتبه من أعمال أدبية أن يجعله في طليعة الأدباء المشاهير، ويبدو أن هذه الظاهرة، ظاهرة جناية الشهرة العلمية على العالم المبدع في الآداب والفنون لم تأخذ نصيبها من الجدل في وطننا العربي، بوصفه -أي الجدل- مدخلاً إلى إنصاف كثير من العلماء المبدعين والعكس صحيح.
بدأ الدكتور شاكر كتابة القصة القصيرة وهو طالب في الإعدادية ونشر مجموعته القصصية الأولى (صراع) وهو طالب في الثانوية، ومعنى ذلك أن علاقته بالأدب تسبق علاقته بالعلوم تلك التي بدأت مع دراسته الجامعية وحتى بعد أن اختار طريقه العلمي الشائك والمليء بالصعوبات سيما وقد اختار لندن مكاناً لدراسته العليا. فقد ظلَّ على صلة بالإبداع الأدبي وخاض في العراق وفي مصر وفي بريطانيا معارك ساخنة من أجل الأدب ولم يمنعه من ذلك التفرغ لإعداد أطروحاته العلمية التي وضعته فيما بعد في الطليعة من العلماء الجغرافيين واكتسبت كتبه مكانة علمية عالية في الجامعات وبين أساتذة هذا العلم الذي تطور وصار له رواده الذين يشار إليهم بالبنان.
للدكتور شاكر خصباك مؤلفاته وترجماته البالغة الأهمية في الفكر الجغرافي وأحدث كتاب (التحليل الموقعي في الجغرافية البشرية) ومؤلفه واحد من أشهر علماء الجغرافيا في العالم وهو (بيتر ها غيت) ويقع الكتاب في 596 صفحة من القطع الكبير واستخدم الدكتور شاكر في ترجمته لغةً علمية راقية كانت -فيما أرى- السبب في طغيان شهرته في هذا المجال على شهرته الأدبية، إذ صار اسمه في الوطن العربي مقروناً بأعمال الجغرافية التي تربو على العشرين كتاباً، وقليل من الأدباء العرب الذين يتذكرون شاكر خصباك مبدعاً في حين أن إصداراته الأدبية تربو على الثلاثين كتاباً موزعة بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة.
ولعلَّ أهم ما قدمه الدكتور شاكر خصباك للقصة القصيرة العربية في بداية حياته الأدبية كتابه الرائد عن أنطون تشيخوف ساحر القصة العالمية وكاتبها بامتياز ملفتاً بذلك انتباه المبدعين العرب إلى أهمية وجود مستوى من القصة يجمع بين واقعية الموقف وجمالية فضاء السرد الفني. كان ذلك عام 1954م. في الكتاب الذي نقدم للقراء العرب لأسباب وجيهة ذكرناها هنا وهناك فضلاً عن مشاركة الدكتور شاكر في الإشراف الثقافي على مجلة (الثقافة الجديدة) وما بشرت به، يومئذ، من انفتاح على الفكر الجديد والآداب والفنون الحديثة، ومشاركته أيضاً في هيئة تحرير مجلة (الآداب) البيروتية التي قامت بدور بارز في تقدم القصة القصيرة وفي تطوير حركة الشعر العربي الحديث.
لقد نجح الدكتور شاكر خصباك في إثراء المكتبة العربية بإنتاجه العلمي وإنتاجه الأدبي، واللافت أن له في المجال الأخير أربع عشرة رواية، وله تسع مسرحيات. أما في مجال القصة القصيرة التي احتضنت بداياته الأدبية، فله ثلاث مجاميع، إلى جانب ما كتبه من ذكريات أدبية عن أدباء مشهورين عاصرهم خلال حياته.
ويتضح لنا من هذا أن الدكتور شاكر خصباك مبدع غزير الإنتاج متعدد المواهب، ومع ذلك يتم تجاهله بقسوة من نقاد الأدب المعروفين في العراق أولاً، وفي بقية الأقطار العربية ثانياً لا لسببٍ فني أو سياسي، وإنما لأن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين في العالم الذين كانت لهم إنجازات في الرسم والموسيقى فتجاهلها النقد بعد أن اشتهرت أعمالهم العلمية أو الأدبية وألقت بظلالها على الجانب الآخر من حياتهم الذي أصبح خافياً في حين أنه لا يقل أهمية عن الجانب المعلوم الذي أضاءته الشهرة وتركزت حوله اهتمامات العلماء والباحثين. ولعل وقفتنا هذه تحفز نقاد الأدب والسرديات خاصة على الاقتراب من عالمه الأدبي ونتاجه السردي الغزير.
(4)
بإعادة نشر هذا الكتاب الرائد:
وردة لصانعيه.. نهتف، ونهتف: تحيةً للمبدع في محنته الظافرة.
تحية للأول وتحية للثاني.
ونتمنى أن نكون قد ساهمنا، ولو بالقليل القليل، بالتقدير والعرفان لمن يستحقون التقدير والعرفان.
صنعاء أوائل 2008.

د. عبد العزيز المقالح د. إبراهيم الجرادي
عضو مجمعي اللغة العربية في دمشق والقاهرة أستاذ الأدب المقارن والحديث
مشتشار رئيس الجمهورية اليمنية الثقافي في جامعة صنعاء وفروعها
رئيس مركز البحوث والدراسات اليمنية

أنطون تشيخوف
أنطون تشيخوف، ولد في تاغانروغ في روسيا عام 1860، بدأ الكتابة عندما كان في العشرين من عمره تحت اسم مستعار هو «انتوشا تشيخونتا»، تخرج طبيباً عام 1884، منحته الأكاديمية العلمية الإمبراطورية في بطرسبورغ جائزة بوشكين عام 1888. سافر خلال آسيا وأوربا الغربية فيما بين 1890 - 1891. شخص الأطباء فيه مرض السل عام 1897، وبناء على نصيحتهم انتقل إلى شبه جزيرة القرم عام 1988. تزوج أولكا كنيبر عام 1901, وهي ممثلة في مسرح موسكو الفني، توفي في بادن فيلر في ألمانيا عام 1904، دفن في موسكو.



مدخل لحياة تشيخوف وأدبه
يضم هذا الكتاب بعض أعمال الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف، مع لمحة عن حياته وأدبه. ومع أن أقاصيص تشيخوف قد حظيت بنصيب وافر من التقدير بين قراء العربية، إلا أن القليل منهم من يعرف عن كاتبها معلومات شافية. لذلك رأينا أن نقدم هذه الصفحات التي تسهم في تنوير القارئ بحقيقة هذا الكاتب الإنساني العظيم.
إن أول ما يلفت نظر الدارس لحياة تشيخوف تلك العاطفة القوية التي تختلج في صدره بحب الحياة وحب الإنسان، فعلى الرغم من أنه قاسى ألواناً من العنت والآلام منذ ولادته حتى مماته إلا أنه لم يضق يوماً ذرعاً بالحياة، ولم يحس بالاشمئزاز نحو البشر. فلقد ولد في بيت فقير، وعاش طفولته في جو عابس متجهم. وبينما كان زملاؤه أطفال المدرسة يلعبون في الطريق بعد انتهاء اليوم المدرسي، كان عليه أن يرابط في حانوت أبيه البقال. ولم يكد يبلغ العاشرة حتى أفلس أبوه، وفرّ من مدينة تاگانروگ إلى موسكو، وارتحلت معه الأسرة عدا أنطون الذي لبث في المدينة ليواصل دراسته الثانوية. واضطر أن يعمل بعد أوقات الدوام المدرسي محترفاً التعليم لكي يعيل نفسه. ولما أنهى دراسته الثانوية والتحق بأسرته في موسكو ضاعف جهوده في العمل ليكسب من المال ما يمكنه من الإنفاق على أسرته وعلى مواصلة دراسته في كلية الطب بجامعة موسكو. واحترف الصحافة في هذه الفترة من حياته. فكان يمدّ عدة صحف ومحلات فكاهية بالصور القلمية والأخبار والأقاصيص الهزلية. ومما يثير الدهشة أن يكون لشخص يعيش تلك الحياة القاسية هذه المقدرة الرائعة على كتابة الأشياء الفكاهية. وما كاد يتخرج من كلية الطب حتى بدت عليه أعراض مرض السل، وربما كان مرجع مرضه إلى الإرهاق البدني الذي كان ينتابه في حياته اليومية. وظل يصارع هذا المرض صراعاً بطولياً حوالي عشرين عاماً. وضحى بسببه بكثير من متعه ورغائبه، واضطر أن يعيش بعيداً عن موسكو، المدينة التي أحبها من أعماق قلبه، متنقلاً بين يالطا وشبه جزيرة القرم، وجنوب فرنسا، وألمانيا. ثم ختمت مأساة حياته في الثاني من تموز عام 1904.
لقد أمضى أنطون تشيخوف الأعوام الأربعة والأربعين في حياة مشرفة، وكان أدبه في الواقع صورة صادقة لتلك الحياة المجيدة. وقد أوقف حياته دائماً لخدمة الإنسانية. فعندما كان يمارس الطب كان يرفض الأجور التي يقدمها إليه الفلاحون الفقراء. وكان ذلك يثير دهشتهم وعجبهم. وحينما انتشر وباء الكوليرا في روسيا عام 1892 هجر الكتابة وعمل مشرفاً صحياً في إحدى اللجان الطبية لمكافحة هذا المرض. وكان يسافر إلى القرى المجاورة ويجمع الناس ليلقي عليهم محاضرات صحية.
ولقد بادر إلى نجدة سكان مقاطعة نوفجورد عندما اجتاحتها المجاعة عام 1892، وشكّل منظمة لجمع الإعانات لشراء الأطعمة والأبقار والخيول للفلاحين الفقراء.
وبالرغم من صحته المعتلة لم يدع تشيخوف فرصة يستطيع أن يؤدي فيها خدمة لوطنه أو للإنسانية إلا واستغلها. ففي عام 1897 بذل جهوداً عظيمة في إحصاء النفوس العام الذي جرى تلك السنة. ولم يكن متصنعاً في عطفه على البائسين، فقد خطر له عام 1890 أن يحقق في حالة المحكومين بالأشغال الشاقة، الذين تبعدهم الحكومة إلى شبه جزيرة سخالين. وشد الرحال عبر ثلوج سيبريا إلى تلك المنطقة النائية. واتصل هناك بكل سجين من ساكني تلك المستعمرة البالغ عددهم عشرة آلاف سجين، واستقصى أحوالهم. ثم أصدر كتاباً بعنوان (الهاربون في سخالين) يُعدّ الدراسة الأولى من نوعها في مباحث وإدارة وإصلاح السجون. وقد كشف في كتابه عن وحشية الحكومة القيصرية في معاملة الشعب الروسي. كذلك اشتمل على صور قلمية طريفة لبعض المسجونين. ومن الغريب أن ينجو تشيخوف من عقاب الحكومة القيصرية التي لقي على يديها أغلب الكتاب الروس ألوان العذاب وصنوف التشريد والسجن والانتقام بل والموت.
ولم يألو تشيخوف جهداً في مساعدة الفقراء. ففضلاً عن قيامه بتطبيبهم مجاناً، وأنشأ في القرية التي يقيم فيها والقرى المجاورة عدة مستشفيات على حسابه الخاص، كما سعى في بناء عدد آخر في النواحي المجاورة، وشيد أيضاً بضعة مدارس على نفقته، وحثّ السلطات الحكومية لتشييد مدارس أخرى.
وهكذا نلمس سعي تشيخوف الدائب -قولاً وفعلاً- للقضاء على عدوه الأكبر، الانحطاط بكل لون من ألوانه. ويقول الكاتب مكسيم گوركي في هذا الصدد: «كان الانحطاط عدوه الأول، وكان يناضل ضده طوال حياته، ويحاربه بقلم ساخر حاد الشفرة».
لم يكن تشيخوف يكتب عن الفقراء أو أفراد الطبقة الوسطى وهو قابع بين جدران بيته الأربعة كما يفعل أغلب كتَّابنا. كان يحاول جهد استطاعته أن يتغلغل في أعماق مجتمعه، ويندس بين الناس البسطاء، يصغي إلى أحاديثهم، ويسمع شكاواهم، ويتلمس مشاكلهم، وعدّته ملاحظة دقيقة حادة لا تفلت من مجالها أدق الإشارات أو اللمحات! ويالها من ملاحظة مدهشة حقاً! فإذا أضفنا إلى هذا الاندماج بالناس وهذه الملاحظة الدقيقة، إدراكاً عميقاً لمشاكل الحياة ولنفسيات الناس، ومشاركة وجدانية لهم، وحسَّاً درامياً وفكاهياً عميقاً، أدركنا لماذا صار أدبه نموذجاً عالياً للأدب الرفيع، فياضاً بأرق العواطف وأدق اللفتات الإنسانية.
كان تشيخوف يصرح دائماً أنه لا يمكن للكاتب أن يخلق المواضيع من ذاته، بل ينبغي عليه أن يحتك بالناس ويسمع أحاديثهم ويحاول فهم مشاكلهم، وبذلك يستطيع أن يعبر عنهم بصدق أو كمال. وبما أنه لم يكن يكتب للشعب الروسي فقط، بل للإنسانية جمعاء، فقد آمن بضرورة الرحلات ليطّلع على حياة مختلف الشعوب. وقد سافر فعلاً إلى الشرق الأقصى والأوسط، وجاب بلدان أوربا، وكان يود أن يسافر إلى أستراليا وأمريكا لولا صحته المعتلة.
ولشخصية تشيخوف جوانب إنسانية أخرى تظهره بمظهر الإنسان الكامل. فلقد باع حقوق طبع مؤلفاته السابقة واللاحقة إلى الناشر البطرسبورغي ماركس عام 1899 لضائقة مالية ألمت به مقابل خمسة وسبعين ألف روبل، فلما انكشف أمر هذه الصفقة وعرف بها الكتّاب الروس، نظّم جماعة منهم بالاشتراك مع بعض العلماء والممثلين والسياسيين عريضة احتجاج إلى ذلك الناشر يطالبونه بفسخ العقد. ولما بلغ تشيخوف أمر الاحتجاج رفض الموافقة عليه محتجاً بأنه قبل التوقيع على العقد بمحض إرادته الشخصية، ولا مجال هناك لأن ينقض اتفاقاً وقّعه بكامل حريته!
وثمة حادثة أخرى تدل دلالة واضحة على صلابته في الحق. فقد استطاع القصصي الشاب مكسيم گوركي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أن يثبت مهارة فائقة في فن القصة وفنون الأدب الأخرى. فانتخب عام 1902 عضواً في الأكاديمية العلمية في بطرسبورغ، ولكن السلطات الحكومية ضغطت على الأكاديمية لتلغي هذا الانتخاب، فما كان من أنطون تشيخوف إلا أن قدّم استقالته من عضويتها احتجاجاً على هذا القرار.
لقد اتفق أغلب القصصيين والنقاد في العالم على اعتبار أنطون تشيخوف أستاذ القصة القصيرة، وأن أسلوبه فيها يمكن أن يسمى السهل الممتنع. والواقع أن القصة تدين له بفضل كتابتها على الوجه الأكمل. وقد ابتعد فيها عن القواعد المألوفة في القصة القصيرة من تفصيلات لا ضرورة لها، ومن غموض وإثارة في البداية والنهاية. ولقد اتخذها وسيلة للتعبير عن (الحياة) واكتشاف مجاهل محورها (الإنسان) كي يرسم له حياة مجردة من الحماقات والمعاناة. لذلك يحس قارؤها حرارة الحياة في شخصياته، فهم ليسوا مجرد أسماء على الورق، بل إن كلاً منهم شخص حي يتمثل حركاته وسكناته ويتجاوب معه في أفراحه وأحزانه. لقد آمن تشيخوف بأن على القصة أن تكون نابضة بالحياة مادامت تعالج شؤون الحياة.
والواقع أن القصة التشيخوفية مرّت بمراحل عديدة. فقد كانت في أوائل حياته الأدبية قصة فكهة ساخرة تفتقرُ إلى العمق والتركيز، بل وقد تميل إلى الهزل أكثر من استهدافها الجدّ. ومنذ بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر حققت القصة التشيخوفية نوعية جديدة على الصعيد الفكري والفنّي واكتسبت صفات متميزة، وهي مرحلة تكاد تكون مغايرة تماماً للمرحلة السابقة. ويمكن القول إن مرحلة الثمانينات هذه وما تلاها هي التي أنتجت ما نسمّيه بـ(القصة التشيخوفية) وهي القصة المعروفة السمات التي ذكرناها أعلاه.
ولقد اشتملت القصة التشيخوفية على نماذج متعددة. فهناك نموذج القصة القصيرة للغاية والشديدة التركيز أمثال قصة (بعد المسرح) التي لا تكاد تتجاوز بضعة صفحات، وهناك النموذج المتوسط الطول وهو نموذج القصة التشيخوفية بحقّ من أمثال (المعلمة) و(الساحرة) و(فولوديا) و(فتاة الكورس).. إلخ. وأمثال هذه القصص تنطوي على حسّ إنسانيّ مذهل. ثم هناك أخيراً القصص الطويلة التي تكاد تتحول إلى رواية قصيرة وهذه القصص تحفل بالتفاصيل ذات الدلالة العالية عن حياة الشخوص. وهي تجمع بين مزايا الرواية فيما تمتلكه من مساحة ممتدة لعرض تفاصيل الحياة الخارجية والداخلية للشخوص، وفي الوقت نفسه تظل محتفظة بسمات القصة التشيخوفية القصيرة التي تتميز بالتركيز والتكثيف الشديدين. وقد أصاب تشيخوف في هذا النموذج من القصص نجاحاً منقطع النظير وبلغ فيها قمة الإبداع. ولعل من أشهرها (قصة رجل مجهول) و(المبارزة) و(حياتي) و(العنبر رقم 6) و(في السهوب) و(النطاطة).
وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن أقاصيصه لا تخلو من جفاف وأنها تنقصها عنصر التشويق، ولكن الواقع غير هذا. فالقارئ الذوّاقة يشعر بمتعة لا حدود لها في قراءتها. وبالرغم من أنه لم يتكلف الحوادث المثيرة شأن الكاتب الفرنسي گى دى موبسان مثلاً أو الكاتب الإنجليزي سمرست موم، فالقارئ يجد نفسه مستغرقاً في متابعة قصته بشغف عظيم.
ولم يصب تشيخوف هذا النجاح العظيم في القصة القصيرة فحسب، بل أصابه في المسرحية أيضاً. ومع أن أستاذيته في فن المسرحية لا تزال مثار الجدل بين النقاد في الوقت الحاضر، إلا أنهم سيتفقون على ذلك في المستقبل غير البعيد حتماً. وقد اتبع في مسرحياته الأسلوب ذاته الذي كتب به قصصه؛ مبتعداً بها عن (التهريج المسرحي).
والواقع أنه كان مقلاً أساساً في كتابة المسرحية. فلم تتجاوز مسرحياته الطويلة الخمس مسرحيات إضافة إلى بضع مسرحيات ذات فصل واحد. ولعل عدم شهرته العالمية في زمنه ككاتب مسرحيّ يعود إلى أنه كتب مسرحياته بأسلوب جديد لم يكن مألوفاً في المسرح الغربي. وكان الأسلوب السائد قبله هو أسلوب الكاتب النرويجي هنريك إبس المسمى (الواقعية الجديدة) والذي كان ثورة على الأسلوب الذي كان يطلق عليه اسم (الواقعية الكلاسيكية) والذي كان طاغياً على المسرح في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولقد تبنّى تشيخوف في أسلوبه الجديد البساطة المتناهية في الأحداث مع شحنات عاطفية رهيفة ومعقدة. وجميع أشخاص مسرحياته أناس بسطاء أشد ما يلفت النظر إليهم عواطفهم الحزينة الهادئة وحياتهم المعذبة ومشاعرهم وأفكارهم الإنسانية العميقة. لذلك واجهت مسرحياته صعوبة بالغة في تجسيدها على المسرح الغربي الذي لم يكن يألف هذا النوع من المسرحيات والتي تتطلب صدقاً فنيّاً عالياً. ولم يتحقق لها النجاح إلا بعد أن سادت المسرح الغربي منذ أواخر الأربعينات التيارات الواقعية الجديدة على يد المسرحيين الأميركان أمثال تنسي وليامز وآرثر ميلر ويوجي أونيل، وهي التيارات التي اعتمدت الصدق الفني في التعبير عن الحياة والابتعاد عن التصنّع والتهويل. ومنذ ذلك الحين ومسرحيات تشيخوف تلقى عناية متزايدة من قبل المهتمين بالمسرح في دول أوربا الغربية وفي أميركا.
وسنقتطف فيما يلي نبذاً من دراسات بعض الكتاب التي توضح القيم الفنية لقصصه ومسرحياته.
أقوال النقاد في أدب تشيخوف:
قال الناقد ابراهام يارموليسكي: لقد تغلغلت أنظار أنطون تشيخوف في زوايا كثيرة من الحياة الروسية، وكانت أنظاراً فاحصة ودودة، فاستطاع في النهاية أن يقدم لنا وجهاً رائعاً، كاملاً، قوياً لتلك الحياة، عن طريق البشر الذين يضطربون فيها، والذين وجدنا أنهم يشبهون بقية البشر في أنحاء الأرض. وقد بدأ تشيخوف حياته الأدبية كاتباً فكاهياً لا تعدو بعض كتاباته عن ملاحظات عابرة، لكن تلك الفكاهة لم تظهر فيما بعد في أعماله الناضجة إلا في لمحات خاطفة، متلفعة أحياناً بروح تهكمية. ولقد اختار شخصياته من بين أبناء القرى وعمال المصانع، ولكن النخبة الكبرى منهم كانت من أفراد الطبقة الوسطى. ويعرض لنا دائماً أشخاصاً تتصف حياتهم بالكآبة، والفراغ، والضيق، واليأس. وقد تساورهم أحلام طويلة في أشياء تجعل لوجودهم معنى ولوناً وعمقاً، ولكن عوزهم إلى قوة الإرادة الكافية، وإلى الظروف المساعدة، يجعل حياتهم محافظة على قتامتها.
إن الأمثلة التي تواجهنا في قصصه دائماً هي رجل أو امرأة أو طفل يحس إحساساً عميقاً أنه يعيش في قيد. وهو في أغلب قصصه يقدم لنا المشاعر التي تنتاب الشخص، ولكنه لا يقدم لنا حلاً لمشكلته، ولا يخرجه من مأزقه. ولو درسنا الأعوام التي ظهرت فيها أحسن كتاباته لوجدناها تتفق مع فترة الانتكاس السياسي ورد الفعل النفسي الذي أصاب الناس منذ اغتيال ألكساندر الثاني حتى فترة النشاط الاشتراكي عام 1905. ولعل ذلك يلقي ضوء على سبب اصطباغ أدبه بتلك الصبغة.
ولقد استغل تشيخوف معلوماته الطبية وتجاربه في هذا الميدان في قصصه ورواياته، لذلك تميزت بعضها بملاحظات جافة يبدو فيها طابع المستشفيات. ولكن ما يضطرم فيها من عاطفة قوية، وهي أعظم مميزات تشيخوف، ارتفعت بتصويرها الداخلي إلى أسمى مراتب الأدب الرفيع. وثمة ميزة واضحة أخرى في أدبه هو أنه -أكان يكتب عن فلاحة أم مدرس فاشل أم مراهق متعذب أم أحد أفراد الطبقة الوسطى المنبوذين أم بورجوازي ساخط- يضيف دائماً شيئاً جديداً إلى معلوماتنا. بل إن بعض قصصه جرت مجرى الأمثال كما في قصة (المحبوبة) وقصة (رجل في قالب). ولتشيخوف مقدرة عظيمة في إبراز شخصياته بإطارها الاجتماعي الخاص مستعيناً بتصوير تفصيلات حياتها اليومية الدقيقة.
ويقتصد تشيخوف في الوصف عموماً، ويذكرنا أسلوبه بتورگنيف، ذلك الأسلوب الذي يجعل من وصف المنظر الطبيعي دعامة هامة ترفع من قيمة العمل الأدبي. وإلى جانب هذا كله فقصصه بما فيها من مقت للآلية التي تفقد الإنسان إنسانيته، بما فيها من استكناه للعقد النفسية، بما فيها من عرض للتجربة الإنسانية غير المنتهية، تقدم لنا حياة حقيقية كاملة.
لم يكن تشيخوف يؤيد صراحة مذهباً من المذاهب السياسية، لكن كتاباته برهنت أكثر من مرة على اتجاه الحقيقي. وهو في هذه الصفة شبيهاً بإيفان تورگنيف. فلقد سبق لتورگنيف أن أعلن عن مبدئه في الحياة قائلاً: «إنني أديب واقعي فوق كل شيء، ويهمني الجانب الحي في الوجود الإنساني قبل كل شيء، ولست أكترث لأي شيء غير طبيعي ولست أؤمن بالأنظمة المطلقة.. إنني أحب الحرية أكثر من أي شيء». وقد كتب تشيخوف مرة في رسالة إلى أحد أصدقائه يقول: «إن أعظم ما أقدسه هو (الإنسان)، وإن ما أبغي تحققه له هو الذكاء والصحة والموهبة والحب، والحرية المطلقة، والتحرر من الجبروت والبهتان». ولم يخدم الكاتبان أي حزب أو برنامج أو كنيسة، بل خدما (القيم البشرية) التي قد يخدمها كل شخص من وجهة نظره الخاصة. ولقد ظل تشيخوف بعيداً عن السياسة وحركات العمال، ولعل الإصلاح العملي الوحيد الذي اجتذب اهتمامه هو إصلاح السجون. ولم يكن يؤمن بإمكانية حدوث ثورة في روسيا في وقت قريب. كانت تساور بعض شخصياته أحلام يائسة تصوّر زمناً بعيداً تحل فيه العدالة والعقل والنزاهة. ولكنه مع ذلك كان يقدم إلينا في أقاصيص قليلة شخصيات تضيق ذرعاً بالإصلاح التدريجي. بل إنه أعلن مرة على لسان أحد شخصيات قصصه قائلاً: إذا كانت الحياة عديمة الرأفة برجعيتها فلابد أن نواجهها بصلابة مشابهة في النضال من أجل الحرية.
إن أدب تشيخوف يرسم صورة واضحة للمجتمع الروسي الذي كان السبيل فيه ممهداً للثورة؛ الخندق العميق الذي يفصل بين الطبقة البرجوازية وطبقة الفلاحين بعبوديتها الذهنية، المثقفين التافهين، الفقر والجهل الشنيع الذي تتخبط فيه الجماهير في صبر واحتمال لا يصدقان! وكان تشيخوف يصر على كونه لم ينحز إلى جهة من الجهات، بل ظل المراقب المنصف، الشاهد الشريف على حالة مجتمعه، لكنه في الحقيقة انغمر عاطفياً في القضايا التي كان شاهداً فيها. لقد كره النفاق والوضاعة والعبودية والبلادة وأي شيء يفسد البهجة ويلوّث العلاقات والحياة الإنسانية النزيهة، وإن قصصه ومسرحياته لدليلاً ساطعاً على هذا. إن كل قصة من قصصه دعوة إلى الحب والرأفة والحنان. لقد قال أحد شخصيات قصصه: «لابد أن يقف وراء باب كل إنسان سعيد هانئ شخص يحمل مطرقة يذكّر فيها الرجل السعيد دائماً بقرعة من قرعات مطرقته أن هناك أناساً أشقياء». والحق أن تشيخوف كان هو ذلك الشخص الذي يحمل المطرقة، والذي يذكّر السعداء بما تعج به الحياة من بؤس وخيبة وعذاب.
وقال الناقد روبرت لينسكوت: ذكر أنطون تشيخوف في إحدى رسائله: «إن هدف القصة هو الحقيقة المطلقة الشريفة». وقد حقق هدفه هذا في قصصه التي جعلته قمة بين كتّاب القصة القصيرة. لم يكن يغري قرّاءه بنهايات خداعة للقصة، ذات ألاعيب كثير الإعجاب، بل كان يفضل أن يحدث تأثيره في القارئ بالكشف عن مظاهر جديدة في الحياة في ظروف طبيعية مألوفة ولدى أشخاص اعتياديين. لقد فهم مواطنيه فهماً عميقاً حتى أصبحت أية إشارة تبدر منهم في قصصه شيئاً مميزاً لهم وشيئاً يضيف إلينا معلومات جديدة عنهم. لذلك فهو يعرضهم أمام القارئ بأقل عبارات ممكنة متجنباً الأوصاف المطولة والعظات، وبطريقة تضطرنا إلى قبول تصرفاتهم على أنها لا مناص منها.
وقد كان تشيخوف ذا مقدرة فائقة في حمل الحياة على محملها الخاص، فلم يستطع الفقر الذي قاساه في أيام صباه وأوائل شبابه أن يسحق روح المرح فيه، ولا استطاع ذلك صراعه الطويل الفاشل مع مرض السلّ. ولم يفسده النجاح، وظل يكافح دائماً ضد البلادة، ضد القسوة، ضد الرجعية العمياء. وكافح في ظل مرض لا يشفى بدون أن يفقد رغبته في الحياة وبدون أن تصبح لهجته قاسية مرة. ومع أنه ظل بعيداً عن السياسة إلا أنه كان ذا ضمير اجتماعي عملي حاد. فبينما كان الآخرون يتكلمون فقط، كان هو يعمل بصمت. وقد سافر وحيداً عبر سيبريا إلى سخالين، قبل إنشاء الخط السيبيري، ليحقق في حالة المحكومين بالأشغال الشاقة في تلك المستعمرة. وعندما رفضت الحكومة قبول مكسيم گوركي عضواً في الأكاديمية العلمية في بطرسبورغ استقال من عضويتها احتجاجاً على هذا الإجحاف بحق الكاتب الكبير، مع أنه كان معتزاً بتلك العضوية. وحينما كان الفلاحون يموتون بالكوليرا ترك الكتابة جانباً ليخدم الناس عن طريق الطب. إن هذه النزاهة العميقة جليّة في أدبه.
وقال الناقد برنار جلبرت گيرني: إن تشيخوف لم يبلغ بالقصة الروسية فقط درجة الكمال الفني، بل قدم إلى العالم أجمع الشكل الحقيقي الذي ينبغي أن تكتب به القصة، والواقع أن حوالي 95% من قصصه هي الكمال الفني بمعناه.
أما كونه كاتباً مسرحياً فيعتبر خالق الدراما المتفردة (المسرحية الخارجة على قواعد المسرح). وعوضاً عن أن يوجه اهتمامه إلى (الخطة) و(شقشقة اللسان) كما يفعل كتّاب المسرح، فإنه أحل محلهما في الأهمية (الجو) و(الأسلوب)، وإن الحقائق الموضوعية لتتحول في قلمه إلى أغاني عاطفية. ولقد وصفت مسرحية (بستان الكرز) بأنها أعظم مسرحية ظهرت منذ عهد شكسبير، وأن مسرحية (الشقيقات الثلاث) أعظم مسرحية ظهرت إلى الوجود حتى الآن.
وقد كان تشيخوف نفسه يصرح بأن مسرحياته ليست سوى كوميديات خفيفة! ولكن أحداً من النقاد والكتّاب لم يتفق معه على هذا الرأي أبداً. أما عن الحزن الذي يتخلل قصصه ومسرحياته، فقد كتب تشيخوف في مكان ما بأن الكآبة للكاتب الروسي كالبطاطس المتواضعة بين يدي الطباخ الفرنسي البارع، فهو يستطيع أن يطبخها في مائتي طريقة مختلفة. والواقع أن الكتابة كانت أسهل عليه من أي عمل قياساً إلى أي كاتب عبقري آخر.
إن المميزات الرئيسية لموهبته الفذة في فن القصة هي التحليل الداخلي وهو أكثر رأفة وطبيعية وأملاً من تحليل ديستويفسكي، والملاحظة الدقيقة، والإشراق، والرقة، والفكاهة العذبة، والرأفة، والفهم العميق، والتهكم الخفيف، والريبة المحركة للعاطفة التي تقرب من الحزن. ولقد كان مثل تشيخوف الأعلى مجتمعاً صحياً مثقفاً، ليس لروسيا فقط، بل للإنسانية جمعاء.
وقالت الناقدة إيفا لاجين: «من المؤكد أن تشيخوف فهم الناس -الناس الاعتياديين- كما لم يفهمهم أي كاتب آخر في الأدب الحديث. ولقد كان موهوباً بمقدرة إلهية لرؤية أخطائهم والابتسام لها، وتقدير أفراحهم ومشاركتهم بها، وتلمس أحزانهم وذرف دمعة من أجلها. ورأى برقته وحنانه المتناهي أن الإنسان ليس رديئاً ولا طيباً، ليس سعيداً ولا شقياً، ليس قوياً ولا ضعيفاً، بل خليط من كل هذه الصفات في آن واحد. ولقد صيغت مسرحياته من فهم عميق للحياة، فهم درامي وفكه لحقيقة الحياة.
ليس ثمة شيء في مسرحياته قد رتّب من أجل المسرح، ومع ذلك فتكنيكه وبراعته تحيّر المشتغلين بشؤون المسرح. حاول أن تحذف مقطعاً من إحدى مسرحيات تشيخوف، وإذا كنت حساساً تجاه العمل المسرحي وجدت ذلك مستحيلاً.
إن مسرحيات تشيخوف وإن كتبت بلا ريب لتمثل إلا أنها من أصعب المسرحيات. فلكي تعبر عما في شخصياتها من صدق لابد أن يتوفر فيك الصدق، فلا يمكنك أن تكذب في مسرحيات تشيخوف، ليس هناك من مفر، لا يمكنك أن تعبر عن بساطة جوهرية بالخدع والألاعيب المسرحية. ولهذا يبدو لي أن فرصة النجاح في تمثيل مسرحيات تشيخوف أكثر توفراً لمجموعة من الممثلين يربطهم رباط متين من الرغبة المخلصة العميقة في القيام بتمثيل تلك المسرحية، من مجموعة لنجوم المسرح الكبار الذين يحاول كل منهم أن يظهر نفسه بمظهر المتفوق. وقد دعمت التجربة هذا الرأي، إذ اشتركت نخبة من كبار ممثلي المسرح في تقديم مسرحية (طير النورس) على مسرح بطرسبورغ الإمبراطوري، ففشلت المسرحية فشلاً ذريعاً. ثم قامت بتمثيلها مرة ثانية فرقة مسرح موسكو الفني، وكانت فرقة مبتدئة تتألّف من أعضاء لم يصبحوا بعد من كبار الممثلين ولكنهم تميزوا بإدراك متجانس وحب مشترك لتلك المسرحية، فنجحت المسرحية نجاحاً باهراً وكانت نصراً للمؤلف وللفرقة.
إن أشد الأقوال افتراء على تشيخوف هو ذلك الحكم الذي يطلقه بعض النقاد على مسرحياته أنها كئيبة مثبطة متشائمة. ولنأخذ فرشنين في مسرحية (الشقيقات الثلاث). رجل شقي في حياته اليومية، يعذبه عدم احتفال الناس به وقصورهم تجاهه. ومع ذلك كانت صرخة حياته دائماً، «عندما يمر وقت أطول -قرنان أو ثلاثة قرون أخرى- فسيتأمل الناس نوع حياتنا في رعب وجزع، وسيبدو لهم كل شيء من أشياء اليوم فظيعاً ومرهقاً وغريباً جداً وغير مريح. أوه، يالها من حياة رائعة تلك التي ستتحقق للناس.. يالها من حياة رائعة! أفي وسعكم أن تتصوروا فقط؟ ...سيأتي الوقت الذي يتغير فيه كل شيء ويصبح كما تشاؤونه، سيعيش الناس على طريقتكم، بل ستصبحون أنتم أيضاً طرازاً قديماً، سيولد الناس الذين يكونون أفضل منكم».
وفي آخر مسرحيات تشيخوف، ولنقل أعظمها، في مسرحية (بستان الكرز) يقول الطالب تروفيموف المسلول، صاحب المثل العليا والأمل القوي بالحياة ومستقبلها: «إن هدف وغرض حياتنا هو إقصاء الأشياء التافهة الوقتية التي تقف في طريق حريتنا وسعادتنا. فإلى الأمام، نحن نتقدم إلى الأمام بشكل لا يقاوم، نحو النجمة المتلألئة التي تشرق هناك في البعد، إلى الأمام.. لا تتلكئوا في المؤخرة أيها الأصدقاء، تلك هي السعادة، ها هي ذي تقبل، إنها تزداد اقتراباً، إنني أسمع خطاها.. وإذا لم يكتب لنا رؤيتها، إذا لم نستطع تلمسها، فماذا يهم؟ سيذوقها الآخرون بعدنا».
كيف يسمى صاحب مثل هذه المثل العليا متشائماً؟ من المؤكد أن التشاؤم أكبر نقيض لأصحاب المثل العليا. ولقد كان لتشيخوف ثقة عميقة في فوز الإنسان النهائي في معركة الحياة، بكل ما في هذه العبارة من معنى، وهذا ما يدعونا إلى التأكيد بأنه كان متفائلاً عظيماً.
ولقد أبدع تشيخوف في تخيله الصادق البعيد المدى لمستقبل وطنه. ففي سطور ترفيموف المدهشة في نهاية الفصل الثاني من مسرحية (بستان الكرز) يبدو كأنه تنبأ بالثورة الروسية كشيء محتم، بل إنها تعرت أمام عينيه. يقول تروفيموف: «إن كل روسيا بستاننا، إن الأرض عظيمة وجميلة. هناك أماكن كثيرة جميلة فيها، تصوري يا آنيا أن جدّك، وجدّ جدك، وجميع أجدادك كانوا عبيداً للملاكين، ملاكي الأرواح، ومن كل شجرة كرز في البستان، من كل ورقة، ومن كل جذع، هناك مخلوقات بشرية تنظر إليك. ألا تستطيعين سماع أصواتها؟ أوه، يا للفظاعة! إن بستانك شيء مخيف، وحينما يجوس الإنسان خلالها في المساء يرى لحاء الشجر القديم يلتمع بكآبة في نور الغسق، وتبدو أشجار الكرز القديمة كأنها تحلم بقرون طويلة قد عذبت خلاها بمشاهد مرعبة. أجل، إننا متخلفون عن ركب الحضارة قرنين على الأقل. إننا لم نكسب أي شيء بعد، وليس لدينا موقف متميز تجاه الماضي. نحن لا نفعل شيئاً سوى رسم النظريات، والشكوى من الانحطاط، وشرب الفودكا. من المؤكد أننا لا نستطيع العيش في الحاضر ما لم نكفر عن الماضي أولاً، لابد أن نقطع علاقتنا به، ونكفر عنه بالمعاناة، بالعمل المتواصل المثمر. افهمي ذلك يا آنيا!».
وهنا في أميركا، البلد الذي يتميز بالعمل العنيف غير المنتخب، تنطلق الصيحات منتقدة قصص تشيخوف: (علام تدور؟)، (لا شيء يحدث)، (ليس هناك قصة). إن الصدق والبساطة في أعمال تشيخوف الجبارة لا تلقى قبولاً لدى جمهور يتغذى على مسرحيات مبنية بناء ميكانيكياً، وغير طبيعي. فالقصة الجيدة في عرفهم هي تلك التي تتميز ببداية مثيرة، وخاتمة مرضية، وهي عاطفية وسخيفة كلياً في نفس الوقت. أيجب أن تزحف آلية هذا العصر إلى أرواحنا أيضاً فتعمينا عن رؤية الأشياء الإنسانية البسيطة العامة بما فيها من بهجة وحزن؟ ينبغي أن نتذكر أنه بالرغم من استطاعة الإنسان أن ينتج مليون ماكينة كل عام، ينتجها وهو عالم بكل أجزائها، فإن ذلك لم يقلل من قيمة أدب تشيخوف الخالد الذي سيظل محافظاً على سحره إلى الأبد طالما تجددت الحياة؛ الزهور المنبثقة من الأرض، النجوم المتلألئة في السماء، الدموع الملتمعة في عيني طفل، غموض الموت، الحب، الولادة، وكل شيء من هذا النوع الذي يتحدث عنه تشيخوف بفهم. وستظل هذه الأشياء -مهما كنا مغرورين بانتصارنا الآلي- تحيرنا وتفعل فعلها فينا، كما فعلت في الماضي، وستترك نفس هذا المفعول في نفوس الناس في المستقبل.
إن تشيخوف سيظل حياً لأنه ابن كل زمن، ابن كل شيء، لأنه فهم الواقع من قممه الموضوعية، وقدم الناس كما هم بدون تفضيل أو ميل شخصي.
وقال الكاتب الكبير مكسيم گوركي في رسالة خاصة إلى تشيخوف: «لقد رأيت مسرحية (الخال فانيا) منذ بضعة أيام، ولقد بكيت كامرأة طيبة، رغم أني بعيد عن أن أكون عصبياً، وعدت إلى منزلي وأنا في دوار. وقد قلبتني مسرحيتك رأساً على عقب، وكتبت إليك رسالة مطولة ثم مزقتها. إن المرء ليخونه التعبير الواضح عما تثيره هذه المسرحية في أعماق النفس، إنه ليس سوى شعور، غير أنه يخيل إليّ عندما أنظر إلى أبطالها على خشبة المسرح أن ثمة منشاراً يعمل في كياني تقطيعاً. إن أسنانه تنفذ مباشرة إلى القلب الذي يتقلص تحت وطأة نهشها له، ويئن ويتمزق. إن مسرحية (الخال فانيا) عمل رائع بالنسبة إلي. إنها دستور لمسرح جديد كل الجدة، ومطرقة تهوي بها على رأس الجمهور الفارغ. هل تكتب درامات؟ إنك تفعل ذلك على شكل يستدر الإعجاب. عندما شرع الطبيب في الفصل الأخير من (الخال فانيا) يتحدث عن حرارة الطقس في أفريقيا، أخذت أهتز وجداً أمام عبقريتك وذعراً أمام الإنسانية، أخذت أهتز أمام وجودك البائس الذي لا لون له. إنك لتضرب هنا في الصميم، ولكم تحكم الضرب! إنك تتمتع بموهبة فياضة. ولكن قل لي أي مسمار تود أن تغرز بمثل هذه الضربات؟ هل أنت بهذا تحيي الإنسان؟ ما نحن في الحقيقة غير أناس يورثون الضجر، أناس مقيتين، وإن على المرء أن يكون غولاً من غيلان الفضيلة حتى يستطيع أن يحب هذا اللاشيء وكتلة المصارين هذه التي تؤلف كياننا، ويشفق عليها ويساعدها. ومع ذلك فهذا لا ينتقص من حق البشر بالشفقة. إنني لأنتحب؛ أنا البعيد عن أن أكون رجلاً فاضلاً، عندما أرى (فانيا) والآخرين معه، رغم أن الحماقة بعينها أن يفعل المرء ذلك، وأشد حمقاً منه أن يصرح به. يخيّل إليّ كما ترى أنك تعامل الناس في مسرحيتك ببرود الشيطان. إنك كالثلج في مبالاتك، كالعذاب... عبثاً يمتدحونك، إنهم لم يقدروك حق قدرك. وإنه ليبدو أنهم يسيئون فهمك، ولست أود أن أضرب المثل على ذلك بنفسي».
وقال گوركي في رسالة أخرى: «إن المرء ليؤخذ بقوة عبقريتك. إنك تصرح بأنك لا تريد أن تكتب للمسرح، وهذا يضطرني إلى أن أقول لك كلمة عن عاطفة الجمهور تجاه مسرحياتك. إنهم يقولون مثلاً بأن (الخال فانيا) و(طير النورس) تمثلان نوعاً جديداً من الدراما، ترتفع الواقعية فيها نحو نموذج من تلك النماذج التي يتحد فيها الإلهام مع عمق التفكير. إني أجد هذا صحيحاً كل الصحة، إنني عندما أستمع إلى مسرحياتك أفكر بالحياة التي تقدم قرباناً على مذبح معبد من المعبودات، وبإقحام الجمال في حياة البائسين من الناس، وأفكر كذلك في حقائق أخرى خطيرة. إن المسرحيات الأخرى لا تصرف الإنسان عن الواقع وتوجهه نحو التأمل الميتافيزيكي وهو الأمر الذي تفعله مسرحياتك. ولكن عذراً، فهذا من نافلة القول.
إذا لم تكتب مسرحيات فستكتب أقاصيص. إن الأدب الروسي لم يعرف قصاصاً نظيرك، وأنت اليوم أكبر نموذج معبر عن أدبنا. إن موبسان جيد وإني لأحبه كثيراً، غير أني أؤثرك عليه. إني بالإضافة إلى هذا لا أعرف كيف أعبر لك عن إجلالي، لست أجد الكلمات اللازمة لذلك، ولكن صدقني فأنا صريح، إنك عبقرية فذة».
ونختتم هذه الصفحات برأي أنطون تشيخوف في نفسه، فقد قال في رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه( ): «لست أذكر لأي سبب اخترت كلية الطب، فقد كانت لدي فكرة غامضة عن الكليات عموماً حينذاك، ولكنني على أية حال لم آسف على اختياري فيما بعد. ولست أشك أن دراسة العلوم الطبيعية قد تركت أثراً هاماً في عملي الأدبي؛ لقد وسعت أفق ملاحظاتي، وزودتني بمعرفة غنية، لا يمكن أن يقدر قيمتها بالنسبة لي ككاتب إلا من كان طبيباً. كذلك كان لها تأثير موجه على تفكيري وربما عاد الفضل إليها في تجنبي لكثير من الأخطاء. إن معرفتي للعلوم الطبيعية والأسلوب العلمي قد صيرتني حذراً دائماً، وقد حاولت على الدوام أن آخذ الحقائق العلمية بنظر الاعتبار. وأود أن ألفت النظر بهذه المناسبة إلى استحالة اتفاق الحقائق العلمية مع حالة (الخلق الفني) مائة بالمائة دائماً. ومثال ذلك تقديم حالة موت على المسرح بسبب التسمم كما تجري في الواقع بالضبط. ومع ذلك فلابد أن يدرك المشاهد أو القارئ أن هذا العمل المسرحي لا يراد منه مخالفة الحقائق العلمية، بل هو تماشٍ مع مقتضيات المسرح. ثم إنني لست من صنف الكتاب الذين يقفون موقفاً سلبياً من العلم، كما أنني لست من تلك الطبقة من الكتاب الذين يرومون الوصول إلى كل شيء باجتهاداتهم الشخصية».
وبعد، فليس لنا إلا أن نترك القارئ للمشاركة في تذوق أدب تشيخوف والحكم على عظمته بنفسه.
بغداد 12 / 1 / 1954
شاكر خصباك



أهم أحداث حياة أنطون تشيخوف
الجدول التالي يبـيّن الحوادث الرئيسة في حياة تشيخوف وتواريخ كتابة أعماله الرئيسية
التاريخ الحيـــاة التاريخ الأعمـــال
إن سلالة أنطون تشيخوف ترجع إلى طبقة الفلاحين. وكان جده يكور تشيخوف قنّا في مقاطعة فورونيش في أواسط روسيا. وقد استطاع بعمله المتواصل أن يقتصد 3500 روبل، وأفلح عام 1841، أي قبل إلغاء الرق بعشرين عاماً، أن يشتري بذلك المبلغ حرية أسرته المتكونة من ثمانية أفراد، فدفع عن كل فرد 500 روبل، ما عدا ابنته الكسندرا، وانتقلت الأسرة من مقاطعة فورنيش إلى جنوب روسيا وأصبح والد أنطون تشيخوف -بافل يكوروفيتش- كاتباً في مدينة تاغانروغ، ثم افتتح حانوت بقالة بعد زواجه من يجينا موروزوف، ابنة أحد تجار الأقمشة المحليين.
وتتألف عائلة أنطون تشيخوف من خمسة أبناء وبنت واحدة، هم: ألكسندرا، نيكولا، أنطون، ماري، إيفان، ميخائيل.
ولد أنطون في مدينة تاغانروغ وهذه نسخة من شهادة ولادته مأخوذة من مكتب كنيسة الكاتدرائية:
1860 17 كانون الثاني «ولد في 17 كانون الثاني عام 1860 الولد أنطونيس وعمد في 27 كانون الثاني».
أبواه هما التاجر التاغانروغي من الصنف الثالث بافل يكوروفتش تشيخوف، وزوجته الشرعية يوجينا ياكوفليفنا، وكلاهما من أتباع العقيدة الأرثوذوكسية.
العرابون: سبيريدون فيودوروف، وزوجة ديمتري كيريكوف سافيانوبولو وهو تاجر تاغانروغي من الصنف الثالث.
1867 أرسله أبوه إلى المدرسة اليونانية لكنيسة الملك قسطنطين.
1869 دخل أنطون الصف الأول في مدرسة تاغانروغ للقواعد.
1876 فشلت أعمال والد أنطون فشلاً ذريعاً، وانتقلت الأسرة إلى موسكو لتعيش في ظروف بائسة، وبقي أنطون في تاغانروغ لإكمال دراسته في المدرسة الثانوية، وظلّ ثلاث سنوات ينفق على نفسه ممتهناً تعليم الطلاب.
1879 15 تموز آب اجتاز أنطون امتحانات المتروكليشن.
التحق أنطون بأسرته في موسكو. وبدأ أنطون الكتابة في الصحف الفكاهية لينفق على نفسه وعلى أسرته.
1880 قصة تشيخوف الأولى (رسالة من دون سكواير ستبان فلاديميروفيتش ن. إلى جاره المتعلم الدكتور فردريك) وقد نشرت في الصحيفة الفكاهية ستركوزا.
وقد زود تشيخوف خلال الأعوام السبعة الأولى من نشاطه الأدبي الصحف بأكثر من أربعمائة أقصوصة، ورواية، وصورة قلمية، وأهم الصحف التي كتب فيها هي: ستراكوزا، زرتيل، بوديلينك، ميرسكوى تولك، سفيتى تسينى، موسكو، أوسكولكى ساتريجسكى ليستوك، سبوتينج، راسفلشنى، سفرشوك، نوفوستى دنيا، وصحف أخرى.
وقد ظهر نتاجه في تلك الفترة بالأسماء المستعارة التالية:
ا . ش - تا، أنش، ا. شيخونتا، أنتوشا شيخونتا، أنتونسون، بالداتسوف، (شقيق أخي)، (طبيب بدون مرضى)، (رجل نزق)، (متجول)، (يوليسس).
1884 نال شهادة الطب.
اشتغل في أثناء الصيف في مستشفى زمستفوفي فوسكرسنسك. 1884 (حكايات ملبومين).
مجموعة أقاصيص فكاهية بقلم أنتوشا شيخونتا، قامت بنشرها الصحيفة الفكاهية أوسكولكي في موسكو.
1885 قضى عطلة الصيف في بابكينو واطلع على الحياة العسكرية.
تعرف بسوفورين صاحب الصحيفة البطرسبورغية الكبيرة (نوفوي فرميا)، وقد جرت بينه وبين تشيخوف فيما بعد مكاتبات طويلة تضمنت أبدع رسائل تشيخوف، (تشتمل الطبعة الروسية لرسائل تشيخوف على ستة مجلدات، ونشرت (دار كاسل) مجموعة من تلك الرسائل عام 1925). 1885 (قصص موتلي).
مجموعة قصصية بقلم أنتوشا شيخونتا.
1886 دعي إلى التحرير في جريدة (نوفوي فرميا) فبدأ يكتب أشياء ذات طابع جدي. 1886 (أغنية البجع)، مسرحية في فصل واحد.
(الساحرة)، قصة.
أبريل هاجمه للمرة الثانية النزيف الرئوي. قضى الصيف في بابكينو.
1887 قام برحلة إلى جنوب روسيا، ووصف انطباعاته في قصة (الستبس). 1887 (في نور الغسق).
مجموعة أقاصيص، قام بنشرها سوفورين، بطرسبرغ.
(إيفانوف)، مسرحية ذات أربعة فصول، قدمها مسرح كورش في موسكو، وكذلك في بطرسبرغ. (لم تنشر هذه المسرحية إلا عام 1889).
(فولوديا)، قصة.
1888 قضى الصيف في لاكا في أوكرانيا مع لينتفاريوفس.
وطد الصداقة مع سوفورين وبليشيف وكريكوروفيتش.
كاد أن يغرق في رحلته إلى القرم لملاقاة سوفورين، وذلك نتيجة لاصطدام باخرته (دير) بباخرة أخرى.
منح جائزة بوشكين (البالغة 500 روبل) من قبل الأكاديمية العلمية الإمبراطورية. 1888 (الستبس)، قصة رحلة.
(أنوار)
(حفلة عيد ميلاد) قصص
(الأجراس)
(النوبة)
(الدب)، مقلب في فصل واحد.
(قصص)، مجموعة من الأقاصيص نشرها سوفورين، بطرسبورغ.
1889 انتخب عضواً في جمعية محبي الأدب الروسي. 1889 (شيطان الغابة)، كوميديا في أربعة فصول، قدمها مسرح سولوفزوف في موسكو.
(قصة مملة)، من صحيفة رجل عجوز.
(حفلة زواج)، مقلب في فصل واحد.
1890 تموز قام برحلة عبر سيبيريا إلى سخالين.
قام بإحصاء شخصي لنفوس سكان هذه المستعمرة من المجرمين.
عاد إلى الوطن عن طريق سنغافورة- الهند - سيلان - قناة السويس. 1890 (مفجوع رغم أنفه)، مقلب في فصل واحد.
(شياطين)، قصة.
(عبر سيبيريا)، انطباعات.
(جوزيف) قصة.
23 ديسمبر «إني أسعل. خفقان في القلب لست أدري ماذا يعني كل هذا».
1891 قام برحلة إلى أقطار أوربا الغربية: فينا - فنيس- فلورنسا- روما- نابولي- باريس - نيس، إلخ... 1891 (الهاربون في سخالين)، انطباعات.
(المبارزة)، قصة طويلة.
(النساء)، قصة.
1892 ذهب إلى مقاطعة نوفجورد ليساهم في صد المجاعة التي أصابت السكان هناك، وأنشأ منظمة لتموين الفلاحين الفقراء بالخيل والأبقار.
اشترى مزرعة في قرية مليخوفو في منطقة سربوخوف (بثلاثة عشر ألف روبل) وانتقل من موسكو إلى الريف مع جميع أفراد أسرته. 1892 (الجناح رقم 6)
(النطاطة)
(الزوجة) قصص
(في المنفى)
(الجيران)
1890 عين مشرفاً طبياً في النضال ضد وباء الكوليرا. «إنني أزور جميع القرى، وألقي المحاضرات على الناس».
1893 «إنني أسعل، خفقان في القلب، سوء هضم، صداع...». 1893 (فتاة الكورس)، قصة.
(قصة رجل مجهول)، قصة طويلة.
(جزيرة سخالين)، ملاحظات رحلة. (نشرت أولاً في أعداد أكتوبر ونوفمبر وديسمبر في المجلة الشهرية (روسكايا ميسل) ثم أكملت في أعداد فبراير ومارت ومايس وحزيران وتموز من عام 1894).
1894 «إن سعالي يقلقني، وخاصة عند الفجر، ليس هناك شيء خطير حتى الآن». 1894 (قصة رئيس البستانيين)
(مملكة امرأة) قصص
(الراهب الأسود)
مارس نصحه الأطباء أن يعيش في شبه جزيرة القرم مداراة لصحته.
نصحه الأطباء أن يسافر إلى جنوب فرنسا.
1895 (البيت ذو النافذة العريضة).
«كان لي ذات مرة حبيبة اسمها ميزيس. إنني أكتب عنها».
أكتوبر ونوفمبر (طير النورس)، «لقد أنهيت المسرحية، إن عنوانها طير النورس».
(ثلاثة أعوام)
(القاتل) قصص
(أريادن)
(الزوجة)
1896 هاجمه نزيف رئوي. 1896 قدمت طير النورس على مسرح الكساندرنيسكي في بطرسبرغ ففشلت فشلاً تاماً. «لن أنسى الليلة الماضية ما حييت، ولن أكتب مرة أخرى تمثيليات، لن أسمح بإخراجها على المسرح».
(طير النورس)، كوميديا في أربعة فصول، نشرت في مجلة (روسكايا ميسل) في عدد ديسمبر.
1897 عمل بجد ومشقة في الإحصاء العام للسكان في منطقة سيربوخوف.
بنى عدة مدارس على حسابه الخاص في قرى مليخوفو وتالج ونوفوسيلوكي.
هاجمه نزيف رئوي حاد فجائي خلال حفلة غداء مع سوفورين في مطعم موسكو. ونقل إلى المستشفى.
«شخّص الأطباء فيّ مرض السل وقرروا تغييراً كاملاً لحياتي».
سافر إلى جنوب فرنسا لقضاء الشتاء. 1897 (حياتي)، قصة طويلة.
(المعلمة)
(في الكارت) قصص
(في منطقة وطنية)
(الفلاحون)
1898 يناير اهتم اهتماماً خاصاً في قضية دريفوس، واشمئز من الحملة التي شنتها جريدة (نوفوي فرميا) ضد دريفوس فقطع علاقته بسوفورين.
توفي أبوه. قرر تشيخوف نزولاً على إلحاح أطبائه أن يستوطن في القرم مع أسرته، اشترى أرضاً وبنى بيتاً قرب يالطة. 1898 قدمت (طير النورس) على مسرح موسكو الفني بنجاح عظيم.
قدمت مسرحية (الخال فانيا) في المقاطعات ولقيت نجاحاً عظيماً.
(رجل في قالب)
(يونيش) قصص
(النزيل)
(المحبوبة)
1899 باع مزرعته في مليخوفو، وانتقل مع أسرته إلى القرم.
باع حقوق طبع كتبه السابقة والحاضرة واللاحقة إلى الناشر البطرسبورغي ماركس بخمسة وسبعين ألف روبل. 1899 (السيدة ذات
الكلب الصغير) قصص
(البنجالو الجديد)
قدمت (الخال فانيا) على مسرح موسكو الفني.
1900 انتخب عضواً في الأكاديمية العلمية في بطرسبرغ. 1900 (في الوادي)، قصة.
بدأ الكتابة في تمثيلية (الشقيقات الثلاث).
مارت ساءت حالته الصحية.
1901 2 مايس تزوج أولكا كنيبر، وهي ممثلة في مسرح موسكو الفني. 1901 قدم مسرح موسكو الفني مسرحية (الشقيقات الثلاث).
(نساء)، قصة.
1902 استقال تشيخوف من عضوية الأكاديمية العلمية في بطرسبورغ احتجاجاً على إلغاء السلطات لانتخاب مكسيم گوركي عضواً فيها. 1902 (الأسقف)، قصة.
1903 سبتمبر «إنني أسعل.. أشعر بضعف». 1903 (بستان الكرز)، كوميديا في أربعة فصول.
أكتوبر انتخب رئيساً لجمعية الأدب الروسي.
1904 27 مايس «إنني مريض منذ 2 مايس، ولم أغادر الفراش». 1904 17 يناير (العروس)، قصة.
قدم مسرح موسكو الفني مسرحية (بستان الكرز).
3 حزيران سافر إلى بادن فيلر، وهي قرية للاستشفاء، تصحبه زوجته.
توفي في بادن فيلر.
دفن في مقبرة دير نوفودفيشي في موسكو.


النطّاطة
- 1 -
حضر جميع أصدقاء أولگا إيفانوفا حفلة زواجها.
- انظروا إليه.. ألا يتميز بشيء ما حقيقة؟
قالت لأصدقائها وهي تومئ إلى زوجها، كما لو كانت تريد أن تبرر زواجها من رجل بسيط، اعتيادي جداً، ليس له نصيب من الشهرة بأي شكل من الأشكال.
كان زوجها أوسيب ستيبانيش ديموف طبيباً عامّـاً. كان على ملاك مستشفيين؛ في أحدهما طبيب جناح، وفي الأخرى جراح. كان يداوم في الأولى من الساعة التاسعة صباحاً حتى منتصف النهار، يستقبل المرضى الخارجيين ويعمل في ردهات المستشفى، ثم يستقل الترام لدى فراغه إلى المستشفى الأخرى ليشرّح الجثث. وكان عمله الخاص يدر عليه إيراداً يبلغ حوالي خمسمائة روبل في العام. ذلك هو كل شيء. ماذا يمكن أن يقال عنه أكثر من هذا؟
أما أولگا إيفانوفا وأصدقاؤها ومعارفها فلم يكونوا أناساً اعتياديين على أية حال. كان كل منهم بارزاً في شيء من الأشياء، قد نال شهرة طيبة. كانوا ذوي أسماء معروفة، ذوي شهرة، وإذا لم يكونوا كذلك فهم يوحون بأمل عظيم في المستقبل. فهم بين ممثل موهوب، ذكي، سيد لطيف، أستاذ في الخطب الحماسية، وقد علّم أولگا إيفانوفا فن الإلقاء. ومغني أوبرا لطيف المعشر، يقول لأولگا إيفانوفا دائماً وهو يتنهد إنها تبدد مواهبها.. فلو هجرت الكسل وأقبلت على العمل بجد لأصبحت مغنية مشهورة. وثمة عدد من الرسامين، على رأسهم ريابوفسكي، الذي يرسم الإنسان والحيوان والمناظر الطبيعية؛ وهو جميل، أشقر الشعر، في الخامسة والعشرين من عمره، نجح في المعارض، فباع آخر صورة بخمسمائة روبل، وله تأثير على قراءات أولگا إيفانوفا، وقد تنبأ لها بمستقبل باهر. وعازف كمان، تنوح آلته، وقد صرح بأنّ أولگا إيفانوفا هي المرأة الوحيدة التي يمكن مصاحبتها من بين جميع النساء اللواتي عرفهن. وأديب شاب اشتهر بأقاصيصه القصيرة وصوره القلمية ومسرحياته. من غير هؤلاء؟ أجل، فاسيلي فاسيلتش؛ ملاّك ريفي، مولع بفن الرسم، يكنّ عواطف عظيمة للفن الروسي القديم، والباليه القديمة والشعر القصصي، ويرسم على الورق والخزف الصيني صوراً مدهشة. في وسط هذه المجموعة من الفنانين الذين أفسدتهم الثروة، في وسط هؤلاء المثقفين المهذبين الذين لا يتذكرون وجود الأطباء إلا ساعات المرض، والذين يبدو لهم اسم ديموف مختلفاً عن سيدوروف، أو تاراسوف، في وسطهم يلوح ديموف غريباً، غير مرغوب في وجوده، ضئيلاً، وإن كان طويلاً عريض الكتفين. كان يبدو مرتدياً سترة شخص آخر، وكانت لحيته تشبه لحية صاحب حانوت، ولو كان كاتباً أو رساماً لقالوا إن لحيته تذكرهم بزولا.
ولقد قال أحد الرسامين لأولگا إيفانوفا إنها تشبه بشعرها الشمعي وحلّة زواجها شجرة كرز بديعة قد كسيت وقت الربيع ببراعم بيض رقيقة.0
«دعوني أخبركم» قالت أولگا إيفانوفا وهي تتناول ذراعه «كيف حدث الأمر بهذه الصورة الفجائية، اسمعوا.. اسمعوا، لابد أن أخبركم أولاً أن أبي كان في نفس القسم من المستشفى التي يعمل فيها ديموف. وعندما مرض أبي المرحوم كان ديموف بجواره يرعاه ليلاً ونهاراً. يالها من تضحية! اسمع يا ريابوفسكي، أنت يا كاتبي، أصغ.. إنها قصة ممتعة جداً. يالها من تضحية! يالها من عاطفة ودود! سهرت إلى جوار أبي عدة ليال لا أذوق طعم النوم، وفازت الأميرة بقلب البطل حالاً، غرق ديموف إلى أذنيه في الحب. حقاً إن القدر غريب جداً أحياناً. حسناً، كان يقدم لزيارتي عقب وفاة والدي بعض الأحيان. وذات أمسية جميلة خطبني دفعة واحدة... كسهم من السماء. ولبثتُ يقظى طوال الليل أبكي، فقد وقعت أنا أيضاً في حبه. وها أنتم ترونني زوجة له. لا ريب أن ثمة شيئاً قوياً جباراً، يشبه الدب فيه، أليس الأمر كذلك؟ إننا لا نرى الآن من وجهه سوى ثلاثة أرباعه، وفي نور رديء، ولكن تمعنوا في جبهته حينما يستدير نحونا. ريابوفسكي، ماذا تقول عن ذلك الجبين؟ «ديموف، إننا نتحدث عنك» هتفت لزوجها «تعال هنا. امدد يدك الشريفة إلى ريابوفسكي... هذا حسن، كونوا أصدقاء».
مدّ ديموف يده إلى ريابوفسكي وهو يبتسم ابتسامة ساذجة بشوش وقال: سررت جداً بلقياك. كان في صفي بكلية الطب زميل باسم ريابوفسكي. أكان من أقربائك؟

- 2 -
كانت أولگا إيفانوفا في الثانية والعشرين من عمرها، وكان ديموف في الوحد والثلاثين. وعاشا بعد الزواج حياة سعيدة. ملأت أولگا إيفانوفا غرفة الاستقبال بالصور، صورها الخاصة وصور أصدقائها، بإطارات وبدونها، حول البيانو والأثاث؛ ورتبت في فوضى بديعة مظلات صينية، منصات للرسم، أقمشة ملونة، خناجر، تماثيل نصفية، صوراً فوتغرافية. وزينت غرفة الطعام بالصور الزيتية ذات الألوان البهيجة التي يحبها الفلاحون، وبأحذية ليفية ومناجل، ووضعت مقضباً وجرافة حشيش في زاوية منها، فبدت الغرفة ذات طابع قومي. ولكي تبدو غرفة النوم كالكهف غطت السقف والجدران بقماش أسود، وعلقت مصباحاً بندقياً فوق الفراش، ونصبت بجوار الباب تمثال رجل يحمل رمحاً، وأقرّ كل شخص أن للزوجين شقة رائعة.
وتجلس أولگا إيفانوفا إلى البيانو حينما تستيقظ في الساعة الحادية عشرة، وإذا كانت الشمس مشرقة رسمت بالزيت. ثم تقصد في الساعة الواحدة إلى خيّاطتها. وبما أنها وزوجها ليسا ثريين، فقد كانت الخياطة تلجأ إلى حيل بارعة لإظهارها في بدلات جديدة تترك انطباعاً عظيماً لدى الجميع. كانت قطع القماش المصبوغ القديمة، والقطع المهملة من الدنتلا والتول والحرير، تخرج من بين يديها أعاجيب مدهشة، ليست بدلات فحسب، بل أحلاماً فتانة. ثم تيمم بعد أن تفرغ من خيّاطتها إلى إحدى صديقاتها الممثلات لتطّلع على أخبار المسرح، وتحصل على تذاكر لليلة الأولى أو لحفلة خيرية، ومنها إلى (استديو) أحد الرسامين، ثم إلى معرض تصوير، وتنهي جولتها بزيارة أحد المشهورين لتدعوه إلى زيارتها، أو تثرثر معه بعض الوقت. ويستقبلها الرجال الذين تعتبرهم مشهورين أو عظاماً كندّ لهم، ويخبرونها جميعاً في صوت واحد إنها لو لم تبدّد فرصها ومواهبها وذوقها وذكاءها لأنتجت شيئاً عظيماً حقاً. كانت تغني وتعزف وترسم وتنحت التماثيل وتمثل في الفرق التمثيلية الهاوية، وتؤدي كل شيء أداءً جيداً. وسواء أصنعت مصابيح فنيسية أم أتقنت ارتداء ملابسها، أم ربطت (كرافتة) أحدهم، فثمار عملها رائعة تفوق التصور، فنية، ساحرة. ولكن أيّاً من تلك المواهب لم تكن تفوق موهبتها في عقد الصداقات مع الرجال البارزين. فلينل أي رجل أبسط شهرة، أو فليتحدث عنه الناس فقط، وإذا بها تلتقي به خلال يوم واحد، وتعقد معه الصداقة، بل وتدعوه إلى بيتها. كان كل قادم جديد إلى بيتها مشهوراً بذاته. كانت تعبد المشهورين، تفخر بهم، تحلم بهم طوال الليل. كان ظمأها إلى المشاهير لا يرتوي. ويهجر المشهورون القدماء وينسج حولهم رداء النسيان، ويحل محلهم المشهورون الجدد. ثم تعتاد على هؤلاء أيضاً فيفقدوا سحرهم بمرور الزمن فتبحث عن غيرهم.
كانت تتناول طعام الغداء مع زوجها في الساعة الخامسة. كانت فياضة السرور ببساطته، بإدراكه، بمعشره اللطيف. وتقفز من مقعدها وتعانق رأسه، وتغمر وجهه بالقبلات، وتهتف: أنت رجل ذكي، نبيل يا ديموف، ليس فيك سوى عيب واحد فقط هو عدم اهتمامك بالفن، أنت لا تهتم بالموسيقى أو الرسم.
فيرد عليها بحنو: لست أفهمهما، إنني لم أدرس طوال حياتي سوى العلم والطب، ليس لديّ وقت للفن.
- لكن ذلك فظيع يا ديموف.
- لماذا فظيع؟ إن أصدقاءك لا يفقهون شيئاً في العلم أو الطب، ومع ذلك فلست تلومينهم على ذلك. إن لكل شخص وجهته، لست أفهم المناظر الطبيعية أو الأوبرا، لكنني أرتئي هذا المرأى؛ مادام هناك أفراد موهوبون ينذرون حياتهم لمثل هذه الأشياء، وأفراد أذكياء يدفعون فيها مبالغ طائلة، فلابد أن تكون ذات فائدة خاصة. إنني لا أفهمها، لكن عدم فهمي لها لا يعني الاستهانة بها.
- ناولني يدك. دعني أشد على يدك الشريفة.
وتقصد أولگا إيفانوفا بعد الغداء إلى أصدقائها، ثم إلى المسرح أو الحفلات الموسيقية، وتعود إلى المنزل عقب منتصف الليل، وذلك شأنها كل يوم.
وتقيم في أيام الأربعاء حفلات مسائية في بيتها، ولا تشتمل هذه الحفلات على لعب الورق أو الرقص، بل تخصص المضيفة وضيوفها الوقت للفن. فالممثل ينشد، والمغني يغني، والرسامون يرسمون التخطيطات في (ألبومات) أولگا إيفانوفا التي لا يحصى عددها، بينما تنهمك المضيفة في الرسم، وصنع التماثيل والغناء. ويتحدثون في الفترات التي تتخلل هذا الضجيج عن الكتب والمسرح والرسم. ولم يكن يحضر أحد من النساء حفلات أولگا إيفانوفا لأنها تعتبرهن جميعاً -ما عدا الممثلات والخياطات- متعبات وكريهات. ويرن جرس البهو فـتجفل المضيفة وتهتف بانتصار: «إنه هو»، وتعني بـ«هو» أحد المشهورين الجدد الذين عرفتهم أخيراً. ويظل ديموف متوارياً عن الأنظار، وقليلون يتذكرون وجوده. لكن باب غرفة الطعام ينفتح في الساعة الحادية عشرة والنصف ويظهر ديموف بابتسامة لطيفة ويقول وهو يفرك يديه: هيا أيها السادة إلى العشاء.
وإذ ذاك يتزاحمون نحو غرفة الطعام. وفي كل مرة يجدون في انتظارهم نفس الأشياء؛ طبق محار، شريحة من لحم العجل أو الخنزير، سمك معلب، كافيار، فطر، فودكا، وزجاجتين كبيرتين من النبيذ.
وتهتف أولگا إيفانوفا وهي تلوح بيديها في سرور جارف: يا عزيزي المضيف، أنت تستحق العبادة. أيها السادة؛ انظروا إلى جبينه. ديموف، أرنا وجهك الجانبي. انظروا إليه أيها السادة. إنه وجه نمر بنغالي لكن تعبيره يشبه بلطفه تعبير الغزال. يا حبيبي.
ويقبل الضيوف على الطعام في انهماك، وينظرون إلى ديموف، ثم ينسون وجوده في الحال، ويعودون إلى المسرح والموسيقى والرسم.
كان الزوجان الشابان سعيدين، وبدا كأن حياتهما تنساب في نعومة الزيت. لكن غمامة سوداء اعترضت حياتهما في الأسبوع الثالث، فقد أصيب ديموف في المستشفى بمرض الحمرة فاضطر أن يحلق شعره الأسود الجميل. وجلست أولگا إيفانوفا بجواره وراحت تبكي بمرارة. لكنها ربطت منديلاً أبيض حول رأسه حينما تحسنت صحته قليلاً، ثم رسمته بهيئة بدوي، وكان كلاهما سعيداً.
ثم حدث عقب ثلاثة أيام من عودته إلى المستشفى حادث مشئوم آخر. قال ساعة الغداء: إن سوء الحظ قد لازمني يا ماما. لقد أجريت اليوم أربع عمليات فجرحت إصبعين. لم ألاحظ ذلك إلا الآن فقط.
ففزعت أولگا إيفانوفا، لكن ديموف ابتسم، ووصف المسألة بأنها تافهة، وقال إنه كثيراً ما يجرح نفسه.
- إنني أنهمك جداً في عملي يا ماما فأنسى ما حولي.
وخشيت أولگا إيفانوفا من حدوث تسمم في الدم، وصلّت لله أثناء الليل. لكن الحادث مر بسلام، وظلت الحياة الهادئة السعيدة تنساب بدون منغصات. كان الحاضر مبهجاً جداً. وسيقدم الربيع، الربيع الذي دنا أوانه، بإشراقه وبآلاف المسرات التي يعد بها. إنه يعد بمسرات لا نهاية لها، فستمضي أبريل ومايس وحزيران في بيت ريفي بعيداً عن المدينة، في النزهات وصيد السمك والرسم. ثم تبدأ سياحة الفنانين في الفولغا من حزيران حتى قدوم الخريف، وستشترك أولگا إيفانوفا في هذه الرحلة كعضوة في اتحاد الفنانين. وقد أعدت بالفعل بدلتين غاليتين من قماش مخطط بالتيل، وهيأت مجموعة من الألوان والفرش وقماشاً للصور ولوحة جديدة للألوان. وكان ريابوفسكي يقدم كل يوم تقريباً ليراقب تقدمها في الرسم. كان يدس يديه في جيوبه إلى الأعماق حينما تريه عملها، ويطبق شفتيه بشدة، ويعبس ويقول: وهكذا فإن غمامتك تضيء. هذا النور لا يلائم المساء. صدر الصورة مضغوط نوعاً ما.. وثمة شيء ما.. أنت تفهمين.. الجوسق منسحق... يجب أن تزيدي من سواد تلك الزاوية... ولكن الصورة على العموم ليست رديئة... بوسعي أن أمتدحها. وكلما اشتد غموض كلامه كلما ازداد فهم أولگا إيفانوفا له.
- 3 -
في اليوم الثاني من الأسبوع الثالث، بعد الغداء، اشترى ديموف بعض الطعام والحلوى واستقل القطار إلى بيته الريفي. لم ير زوجته منذ أسبوعين كاملين وقد حن إلى الجلوس معها ثانية. وأحس أثناء الرحلة وفيما بعد، حينما انطلق يفتش عن (الفيلا) في الغابة، بالجوع والتعب. وملأته سروراً فكرة عشائه مع زوجه في حرية ثم الاستسلام إلى نوم عميق. لهذا كان يشعر بسعادة فائقة وهو يرنو إلى لفافة الكافيار والجبن والسمك الأبيض.
وقبل أن يعثر على (الفيلا) بدأت الشمس في الغروب. وقالت الخادم العجوز إن سيدتها خارج البيت لكنها ستعود حالاً. كانت (الفيلا) -وهي شديدة القبح- ذات سقوف واطئة قد غطيت بأوراق الكتابة وذات أرض وعرة مشققة، تشتمل على ثلاث غرف، في إحداها سرير، وفي الأخرى صور وفرش وورق قذر وملابس وقبعات رجالية منثورة على المقاعد وحواف النوافذ، وفي الثالثة وجد ديموف ثلاثة غرباء؛ اثنين منهم أسمرين ملتحيين، والثالث -ويبدو بوضوح أنه ممثل- حليق الوجه ضخماً.
«من تريد؟» سأل الممثل بصوت جهير وهو يرنو إلى ديموف. «أولگا إيفانوفا؟ انتظر... سترجع بعد قليل».
جلس ديموف ينتظر. سأله أحد الرجلين وهو يصب الشاي في قدحه وينظر إليه في كسل ونعاس: أيعجبك شيء من الشاي؟
وكان ديموف متلهفاً للطعام والشراب، فرفض الشاي لئلا يفسد شهيته. ثم سمع بعد قليل خطوات وضحكة مألوفة؛ وانفتح الباب ودخلت أولگا إيفانوفا مرتدية قبعة كبيرة وقد تدلت سلة من ذراعها. وأقبل وراءها ريابوفسكي مبتهجاً مورد الخدين حاملاً شمسية كبيرة وكرسياً منخفضاً.
«ديموف» هتفت أولگا إيفانوفا وهي تتألق سروراً «ديموف» هتفت ثانية وهي تضع رأسها وكلتا يديها على صدره «أهو أنت؟ لماذا لم تقدم قبل اليوم؟ لماذا؟ لماذا؟».
- لا أستطيع يا ماما، إنني مشغول دائماً، وحينما أفرغ من عملي فلا يوجد قطار.
- ما أعظم سروري بمجيئك! حلمت بك الليلة الماضية كلها... كلها، آخ. لو تعلم كم أحبك! ولو تعلم كم جئت في الوقت المناسب. إنك منقذي، سيحدث غداً أعظم زواج فطري..
وضحكت وأعادت ربط (كرافتة) زوجها.
- سيتزوج شاب كاتب تلغراف في المحطة اسمه سيكيلدين، صبي جميل، ليس غبياً على أية حال، يوجد شيء في وجهه، أنت تعلم، قوي، لمحة من قوة الدب. إنه يجلس كنموذج لغاراغيان بشكل يثير الإعجاب. إننا مهتمون به جميعاً، وقد وعدناه أن نحضر حفلة زواجه.. إنه فقير، وحيد، خجول، وإنها لخطيئة أن يرفض رجاؤه. تصور، ستقام بعد الكنيسة حفلة الزواج، ثم يقصد الجميع إلى دار العروس.. أنت تفهم.. الغابات، أغاني الطيور، بقع الشمس على العشب، ونحن أنفسنا بقع مرقشة على أرض صافية الاخضرار.. شيء فطري جداً، بأسلوب الانطباعيين الفرنسيين تماماً. ولكن ماذا سأرتدي يا ديموف؟ إنني لا أمتلك شيئاً هنا، لا شيء بالمعنى الحرفي.. لا بدلة ولا زهوراً ولا قفازاً.. يجب أن تنقذني. إن معنى مجيئك أن القدر من جانبي. هاك المفاتيح يا حبيبي، استقل القطار إلى المدينة واجلب لي بدلتي الحمراء من خزانة الملابس. أنت تعرفها. إنها أول بدلة ستقع عليها أنظارك، وسترى في صيوان الثياب في المجر الأسفل الأيمن تولاً وخرقاً أخرى، ولكنك ستجد أسفلها زهوراً. اجلب الزهور كلها.. بعناية. لست أدري. ثم سأختار.. واشتري قفازاً.
قال ديموف: حسناً، سأجلبها غداً.
«كيف، غداً؟!» قالت أولگا إيفانوفا وهي ترنو إليه في عجب «لا يمكنك أن تفعل ذلك غداً. إن أول قطار يترك البلدة في الساعة التاسعة، وستقام حفلة الزواج في الحادية عشرة. لا يا عزيزي. اذهب هذه الليلة، وإذا لم تستطع أن تجيء بنفسك غداً فابعث رسولاً. لقد حان وقت القطار تقريباً. لا تخطئ في شيء يا روحي».
- حسناً.
«آخ! كم يؤسفني أن أبعثك» قالت والدموع تلتمع في عينيها «لماذا وعدت كاتب التلغراف كالحمقاء؟!».
ابتلع ديموف قدح شاي، وعاد إلى المحطة وهو ما يزال يبتسم. وأكل الممثل والرجلان الآخران الجبن والكافيار والسمك الأبيض.

- 4 -
كانت ليلة مقمرة ساكنة من ليالي تموز. وقفت أولگا إيفانوفا على ظهر مركب من مراكب الفولغا، وانطلقت تنظر إلى النهر تارة، وإلى ضفتيه البديعتين تارة أخرى. وانتصب بجوارها ريابوفسكي، وراح يؤكد أن الظلال السود على المياه ليست ظلالاً بل حلماً، إن هذا المجرى السحري بوميضه الخيالي، هذه السماء العميقة الغور، هذه الضفاف الحزينة -التي تنم عن تفاهة الحياة ووجود شيء أسمى، شيء خالد، شيء مبارك- كل هذه الأشياء تدعونا أن ننسى أنفسنا، أن نموت، أن نتلاشى في الذكريات. لقد كان الماضي تافهاً ومملاً، وسيكون المستقبل عظيماً. وإن هذه الليلة السحرية، هذه الليلة المتفردة في الحياة، ستمضي سراعاً، ستمضي سراعاً نحو الأبدية. لماذا نعيش إذن؟
أصغت أولگا إيفانوفا إلى صوت ريابوفسكي تارة، وإلى سكون منتصف الليل تارة أخرى، وخيل إليها أنها خالدة، أنها لن تموت أبداً. كان أديم المياه الأزرق اللازوردي، السماء، الضفاف، الظلال القاتمة، البهجة التي أفعمت قلبها، تهمس لها أنها ستصبح فنانة عظيمة، إنه في مكان ما بعيد جداً، وراء هذه المسافات، وراء الليلة المقمرة، في مكان ما في بقعة معينة، ينتظرها النجاح والمجد وحب العالم. وحينما رنت باهتمام إلى الأفق البعيد رأت جموعاً من الناس، أنواراً، وتناهت إلى سمعها موسيقى رزينة وصيحات افتتان؛ رأت نفسها ببدلة بيضاء تحيط بها الزهور التي تلقى عليها من كل صوب. وأيقنت أنه يقف بجوارها هنا، متكئاً على الحاجز، رجل عظيم حقاً، عبقري، مختار الله. لقد قدّم بالفعل أشياء جميلة، جديدة، غير اعتيادية، وسينتج أشياء أعظم عندما ينضج الزمن موهبته العظيمة. إن ذلك مسجل بوضوح في وجهه، في تعبيره، في علاقاته بالعالم المحيط به. إنه يتكلم عن الظلال، عن ألوان الليل، عن ضوء القمر، في لغة من صنعه، وهو يكشف بدون وعي عن أستاذيته الساحرة تجاه الطبيعة. إنه جميل، بعيد عن التكلف، وإن حياته الحرة الطلقة المغايرة لتفاهات العالم لتبدو كحياة طير.
قالت أولگا إيفانوفا وهي ترتجف: برد الجو.
فدثرها ريابوفسكي بمعطفه وقال بكآبة: أشعر أنني تحت سيطرتك كلياً، إنني عبد. لماذا تبدين ساحرة للغاية هذه الليلة؟
ورنا إليها بثبات، وكانت عيناه فظيعتين بدرجة خشيت أن تنظر فيهما.
«إنني أحبك بجنون» همس وهو يتنفس على خدها «قولي كلمة واحدة وسأفارق الحياة، أهجر فني...» وتمتم في اضطراب شديد «أحبيني .. أحبيـ ..».
«لا تتكلم بهذه اللهجة» قالت أولگا إيفانوفا وهي تغلق عينيها «إنه شيء فظيع. وديموف؟».
- من ديموف؟ لماذا ديموف؟ ما شأني بديموف؟ الفولغا، القمر، غرامي، افتتاني، لا وجود لديموف أبداً! آخ، أنا لا أعرف شيئاً.. أنا لا أريد الماضي، هبيني اللحظة الوحيدة.. الثانية الوحيدة.
وأسرعت ضربات قلب أولگا إيفانوفا. حاولت أن تفكر بزوجها، لكن ماضيها كله، زواجها، ديموف، حتى الحفلات المسائية بدت لها تافهة، حقيرة كئيبة، لا موجب لها، وبعيدة جداً.. وفي الحقيقة، من كان ديموف؟ لماذا ديموف؟ ما شأنها بديموف؟ هل له وجود حقاً؟! أكان حلماً فحسب؟
«لقد نال من السعادة قسطاً أعظم مما يتوقع رجل اعتيادي بسيط مثله» فكرت وهي تغلق عينيها «فليدينوني، فليعدموني، لكنني سأنال كل شيء وأموت.. أنال كل شيء وأموت.. يجب أن نجرب كل شيء في الحياة.. يا إلهي كم هو مؤلم وكم هو طيب!».
«حسناً، ماذا؟» تمتم الرسام وهو يطوقها، ويقبّل يديها بشراهة بينما حاولت أن تسحبهما «أنت تحبينني؟ أجل؟ آه، يالها من ليلة! أيتها الليلة الإلهية!».
«أجل، يالها من ليلة!» همست وهي ترنو إلى عينيه التي التمعت فيهما الدموع. ثم نظرت حواليها وشبكت ذراعيها حوله وقبّلته بعنف على شفتيه.
«لقد اقتربنا من كينشما» قال صوت في مكان ما عبر سطح السفينة.
وتتابعت وراءهما خطوات ثقيلة. ومر بهما ساقٍ قادم من (البوفيه).
«أيها الساقي» صاحت أولگا إيفانوفا وهي تضحك وتبكي من فرط سرورها «هات لنا خمراً».
جلس الفنان على مصطبة وهو شاحب الوجه لشدة انفعاله، وراح يحدق في أولگا إيفانوفا بعينين ممتنتين وامقتين، لكنه أطبق جفنيه بعد لحظات وعلى شفتيه بسمة شاحبة وتمتم: إنني تعب.
وأحنى رأسه على الحاجز.

- 5 -
كان اليوم الثاني من سبتمبر دافئاً ساكن الهواء، لكنه كئيب. وطوّف فوق الفولغا منذ الصباح المبكر ضباب خفيف. ثم بدأت تمطر في الساعة التاسعة. لم يكن ثمة أمل في سماء صاحية. وقال ريابوفسكي ساعة الفطور لأولگا إيفانوفا إن الرسم أشد الفنون إزعاجاً وإثارة للملل، إنه ليس فناناً، إن الحمقى وحدهم يعتقدون أنه موهوب، ثم أمسك سكيناً بدون سبب واضح وأخذ يقطع أحسن دراساته إلى قطع صغيرة. وجلس عقب الفطور في مزاج معكر ومضى يرنو إلى النهر، وألفاه بدون حياة، كئيباً، ميتاً، بارداً. كان كل من حوله يتحدث عن قدوم الخريف العابس، وبدا بالفعل أن السجاجيد الخضر التي تفرش الضفتين، أن الومضات الماسية المنبعثة من مياه النهر، أن كل خيلاء الطبيعة وجمالها قد انتزع من الفولغا وخبئ في صندوق حتى قدوم الربيع المقبل، وأن الغربان المحلقة فوق الفولغا كانت تسخر منه وتصيح «عريان... عريان». وأصغى ريابوفسكي إلى صيحاتها، وفكر في نفاذ موهبته وفقدانها، وأيقن أن العالم كله سخيف، وقتي، غبي، وأنه كان يجب عليه أن يتجنب الارتباط بهذه المرأة. كان -بعبارة مختصرة- منقبض النفس كئيباً.
وجلست أولگا إيفانوفا وراء الستارة في فراشها تمشط شعرها الجميل. تخيلت نفسها في منزلها، في غرفة الاستقبال أولاً، ثم في غرفة النوم، ثم في مكتب زوجها، وحلقت بها التصورات إلى المسارح، إلى خياطتها، إلى أصدقائها. ماذا يعمل ديموف الآن؟ هل يفكر فيها؟ لقد بدأ الموسم، وقد حان وقت التفكير في الحفلات المسائية. وديموف؟ ديموف العزيز! ما أعظم لطفه! بأية شكوى ساذجة طفولية كان يتوسل إليها أن تعود إلى بيتها! كان يبعث إليها خمسة وسبعين روبلاً كل شهر، وعندما كتبت إليه أنها اقترضت من الرسام مائة روبل أرسل إليها المائة أيضاً. الرجل الطيب الكريم! كانت أولگا إيفانوفا متعبة من الرحلة، كانت تشكو الملل، وودت أن تهرب بأسرع وقت ممكن من الفلاحين، من رطوبة النهر، من الإحساس بالقذارة الجسدية الناجمة عن الحياة في الأكواخ والتنقل من قرية إلى أخرى. ولولا أن ريابوفسكي قد وعد زملاءه الرسامين الآخرين بالمكوث حتى عشرين سبتمبر لسافروا تواً.
زفر ريابوفسكي قائلاً: يا إلهي... ألن تشرق الشمس بعد أبداً؟ لست أستطيع أن أرسم منظراً طبيعياً بدون شمس.
«ولكن ماذا عن دراستك للسماء الملبدة بالغيوم؟» قالت أولگا إيفانوفا وهي تبرز من وراء الستارة، «ألا تتذكر الصورة ذات الأشجار في الجهة اليمنى من مقدمتها، والأبقار والماعز في الجهة اليسرى؟ بإمكانك أن تكمل تلك الصورة».
قال الرسام عابساً: ماذا؟ أكملها؟ أتعتقدين حقيقة أنني أبلغ من الغباء درجة لا أعرف فيها ما أصنع؟
فقالت أولگا إيفانوفا وهي تتنهد: كل ما أعرفه أنك قد تغيرت تجاهي.
- أجل، ولا بأس بهذا.
ارتعش وجه أولگا إيفانوفا واتجهت إلى الموقد وشرعت تبكي.
- لسنا نحتاج إلاّ للدموع لكي تكمل الصورة، كفى. إن لدي آلاف الأسباب للبكاء لكنني لا أفعل.
«آلاف الأسباب» انفجرت أولگا إيفانوفا صارخة «السبب الرئيسي هو أنك ضجرت مني. أجل» وطفقت تشهق باكية «سأقول لك الحقيقة.. أنت خجل من حبك، أنت تحاول إخفاءه، تحاول الحيلولة دون إطلاع الآخرين عليه، لكن محاولتك عديمة الجدوى، فهم يعرفون عنه كل شيء منذ زمن طويل».
« أولگا، إنني لا أسألك سوى شيء واحد» قال الفنان بلهجة متوسلة «شيء واحد فقط، لا تعذبيني. لست أطلب منك أكثر من هذا».
- أقسم لي إذن أنك ما تزال تحبني.
«إنه لعذاب!» فحّ ريابوفسكي من خلال أسنانه وقفز «سأنتهي إلى إلقاء نفسي في الفولغا، أو إلى فقدان صوابي. دعيني لوحدي».
«اقتلني إذن، اقتلني» صرخت أولگا إيفانوفا «اقتلني».
أجهشت ثانية في البكاء، وتراجعت خلف الستارة. وراحت قطرات المطر تنقر على سطح الكوخ، وانطلق ريابوفسكي يقطع أرض الغرفة من زاوية إلى أخرى ويداه تضغطان على رأسه. ثم التقط قبعته وقد تجلى العزم في وجهه، كما لو أنه أراد أن يبرهن على شيء ما، وتناول بندقيته وغادر الكوخ.
اضجعت أولگا إيفانوفا لدى خروجه على فراشها وانفجرت بالبكاء. وفكرت أولاً أن من الخير لها أن تتناول السم حتى إذا ما عاد ريابوفسكي وجدها ميتة. لكن أفكارها ما لبثت أن حملتها إلى غرفة الاستقبال، إلى مكتب زوجها. وتخيلت نفسها جالسة بهدوء بجوار ديموف، مستمتعة بالراحة والنظافة الجسدية، مسجية ليلتها بالاستماع إلى (كافيليريا رستيكانا). وضج قلبها بالحنين إلى الحضارة، إلى أصوات المدينة، إلى الاحتفالات. دخلت فلاحة وانصرفت إلى تهيئة الموقد للغداء. وفاحت رائحة الهباب، وأصبح الهواء أزرق اللون من الدخان. ثم دخل نفر من الرسامين بأحذية طويلة عالية وقد تبللت وجوههم بالمطر، ونظروا إلى رسوماتهم ثم قالوا إن للفولغا سحره الخاص حتى في الطقس الرديء معزين أنفسهم. كانت الساعة الرخيصة المعلقة على الجدار تدق في سأم، وكان يحتشد في زاوية الأيقونة ذباب نصف متجمد يئز باستمرار، وكان في الإمكان سماع صرير الجنادب تحت المقاعد.
عاد ريابوفسكي عند الغروب وتهالك على مقعد وهو شاحب متعب ملوث بالطين وأغلق عينيه.
«إنني متعب» قال وهو يعقد حاجبيه محاولاً أن يفتح عينيه.
أقبلت عليه أولگا إيفانوفا، ولكي تظهر له لطفاً وتبرهن على تلاشي غضبها قبلته بصمت، وأمرّت المشط خلال شعره الطويل الأشقر.
«ماذا تفعلين؟» قال ذلك وهو يجفل كأن شيئاً بارداً مسه، وفتح عينيه، «ماذا تفعلين؟ دعيني وشأني، أتوسل إليك».
ودفعها بكلتا يديه، ولاح على وجهه تعبير مزيج من النفور والانزعاج. جلبت له الخادمة في حذر صحنا، ولاحظت أولگا إيفانوفا كيف غمست إصبعيها الغليظين في الشوربة. وبدت لها الفلاحة القذرة ببطنها المتدلية، والشوربة التي ابتلعها ريابوفسكي بنهم، والكوخ الذي أحبته أولاً لبساطته وفوضاه الفنية، أشياء لا تطاق.
- لابد أن نفترق بعض الوقت، وإلا فسيحدث بيننا خصام عنيف بدافع من الضجر الخالص. لقد سئمت. سأعود اليوم.
- تعودين؟ كيف؟ بالباخرة؟
- اليوم هو الخميس، هناك سفينة تتحرك من هنا في التاسعة والنصف.
«آه؟ آجل، حسناً! اذهبي» قال ريابوفسكي برقة مستخدماً منشفة بدلاً من فوطة السفرة «المكوث ممل هنا، وليس هناك ما تعملينه. لن يحاول منعك من العودة إلا أنانيّ كبير.. اذهبي، سنلتقي بعد عشرين سبتمبر».
حزمت أولگا إيفانوفا أشياءها في جذل، وتوهجت وجنتاها سروراً.
«أيمكن؟» سألت نفسها «أيمكن أن أرسم في غرفة الاستقبال، وأرقد في غرفة النوم، وأتناول طعامي على منضدة الأكل؟!».
تفجرت الغبطة في قلبها، وتلاشى حنقها على الفنان، وقالت: سأترك لك الألوان والفرش يا ريابوشا. ستجلب معك كل شيء واحذر أن تتكاسل في غيابي، لا تستسلم للحزن وانكب على العمل، أنت ولدي يا ريابوشا.
في الساعة العاشرة قبلها ريابوفسكي في الكوخ قبلة الوداع، ليتجنب -على حد تفسيرها- تقبيلها على الرصيف في حضور الآخرين. ثم وصلت الباخرة بعد قليل وحملتها بعيداً.
بعد يومين ونصف بلغت البيت. وانطلقت تنتقل بين الغرف وهي ما تزال في رداء السفر والقبعة العريضة وقد غمرها الانفعال. من غرفة الاستقبال إلى غرفة الطعام. كان ديموف جالساً إلى المنضدة بقميصه القصير الكمين وصديريته المفتوحة وهو يحد سكيناً، وكانت أمامه قطاة. وحالما دخلت أولگا إيفانوفا المنزل قرّ رأيها على إخفاء الحقيقة عن زوجها، وأحست أن لها من الذكاء والقوة ما يؤازرها في قرارها. لكنها شعرت حينما واجهتها ابتسامته العريضة اللطيفة السعيدة وعيناه الفرحتان اللماعتان أن خديعة رجل مثله أمر مستحيل ووضيع، كاستحالة الصفع أو السرقة أو القتل عليها، وعقدت عزمها في لحظة أن تفضي إليه بالقصة كلها. ولما عانقها وقبلها سقطت على ركبتيها وأخفت وجهها.
«ماذا؟ ما الأمر يا ماما؟» سألها برقة «هل أتعبتك الرحلة؟».
رفعت وجهها وقد احمر خجلاً، ورنت إليه بنظرات مذنبة ضارعة. لكن الخوف والعار ألجما لسانها عن قول الحقيقة.
«اجلسي هنا» قال وهو ينهضها ويجلسها أمام المنضدة «حسناً، كلي القطاة، إنك جائعة جداً ولا شك، أيتها الطفلة المسكينة».
ملأت رئتيها في شراهة من هواء الوطن، وأكلت القطاة، وراح ديموف يرنو إليها في افتتان ويبتسم بسرور.

- 6 -
من الجليّ أن ديموف لم يرتَب بسلوك زوجته لأول مرة إلا حوالي منتصف الشتاء. فأخذ يتصرف كمن يؤنبه ضميره. لم يعد ينظر في وجهها مباشرة، لم يعد يبتسم ابتسامته المشرقة في وجودها. ولكي يتجنب الانفراد بها في المنزل أخذ يصطحب معه أغلب الأيام زميله كوروستليف، وهو رجل ضئيل، قصير الشعر، مضغوط الوجه، يتجلى اضطرابه في حضور أولگا إيفانوفا بانهماكه في زر سترته وفتحها باستمرار ونتف شاربه الأيمن. وكان الطبيبان يتحدثان أثناء الغداء عن الحجاب الحاجز وكيف يؤدي ارتفاعه إلى ازدياد ضربات القلب واختلال الأعصاب، ويتناقشان في اكتشاف ديموف خلال إحدى العمليات لخطأ تشخيص أحد الأطباء مرض السرطان البنكرياسي بمرض الأنميا. وكان من الواضح أن كلا الرجلين يتحدثان في الطب لتظل إيفانوفا صامتة وتمتنع عن قول الأكاذيب. ثم يجلس كوروستليف بعد الغداء إلى (البيانو) فيقول له ديموف متنهداً: آخ أيها الأخ، اعزف لي لحناً حزيناً.
فيرفع كوروستليف كتفيه وينشر يديه، ويبدأ بعزف ألحان قصيرة، ويغني: «أرني بقعة واحدة فقط لا يئن فيها الفلاح الروسي» فيتنهد ديموف ثانية ويسند رأسه إلى كفيه ويغرق في لجة من الأفكار.
وأخذت أولگا إيفانوفا تسلك في الأيام الأخيرة سلوكاً طائشاً. كانت تستيقظ كل صباح منقبضة النفس، تعذبها فكرة ملحة، هي أن ريابوفسكي لم يعد يحبها، وأن كل شيء بينهما قد انتهى، وشكرا الله على أية حال. لكنها ما تكاد تحتسي قهوتها حتى تدرك أن ريابوفسكي قد سرقها من زوجها، إنها لم تعد ملك أي واحد منهما الآن. ثم تتذكر تلميح الأصدقاء بأن ريابوفسكي قد هيأ للمعرض صورة رائعة، مزيجاً من المنظر الطبيعي والإنسان بأسلوب بولينوف، وأن هذه الصورة فتنت كل من شاهدها، فتعزّي نفسها بأنه رسمها ولا شك بإيحاء منها. وأنه لمدين بالشكر لتأثيرها، فقد تغير إلى شيء أفضل، ولو حرم من هذا التأثير لكان من المحتمل أن يتلاشى.
وتتذكر أيضاً أنه كان يرتدي أثناء زيارته الأخيرة لها رباطاً زاهياً وسترة جديدة. وقد سألها بلطف: «هل أبدو جميلاً؟» والحق أن ريابوفسكي الأنيق، بعينيه الزرقاوين وشعره الطويل، كان رائع الجمال، أو لعله بدا لها كذلك. وكان عاطفياً نحوها.
بعد أن تأملت وناقشت أفكارها طويلاً ارتدت أولگا إيفانوفا ملابسها وقصدت إلى (ستديو) ريابوفسكي في انزعاج عميق. كان منشرح النفس، فياض السرور بصورته الجميلة، كان يتقافز، يتحرك حركات الحمقى، يرد على أي سؤال جدي بفكاهة طريفة. وأحست أولگا إيفانوفا بالغيرة من تلك الصورة، كرهتها، لكنها مع ذلك وقفت أمامها خمس دقائق تتأملها صامتة. ثم تنهدت كما يتنهد الناس أمام الأشياء المقدسة، وقالت برقة: أجل، أنت لم ترسم مثل هذه الصورة من قبل، أتدري؟ إنك تفزعني.
ثم شرعت تتضرع إليه أن يحبها، ألا يهجرها، أن يرأف بها، المسكينة الشقية! وقبلت يده، بكت، أرغمته على أن يقسم بحبها، ثم انطلقت تتباهى بأنه مدين لتأثيرها وإلاّ لحاد عن السبيل ومات فنه. وهكذا تمضي، بعد أن تفسد بهجته وتذل نفسها، إلى خياطتها أو إلى إحدى صديقاتها الممثلات لتحصل على تذاكر مجانية.
وذات مرة لم تجد ريابوفسكي في (الاستديو) فتركت له رسالة تقسم فيها أنها ستتناول السم حالاً إن لم يقدم لزيارتها. فهرول إليها فزعاً ومكث لتناول طعام الغداء. وأخذ يتحدث معها بوقاحة متجاهلاً حضور زوجها، وكانت ترد عليه بلهجة مشابهة. أحسا أنهما مقيدان إلى بعضهما، أنهما عدوان لدودان، وأخفى عنهما الحنق وقاحتهما التي لاحظها كوروستليف أيضاً. ثم ودعها ريابوفسكي بعجلة ومضى مسرعاً.
- إلى أين تمضي؟
سألته أولگا إيفانوفا وهي ترمقه بنظرات حاقدة. فعبس ريابوفسكي ورمش عينيه، ثم ذكر اسم امرأة من معارفها. كان من الواضح أنه يتلذذ بغيرتها، أنه يسر بإزعاجها. فانصرفت إلى غرفة النوم واضطجعت على السرير. غمرتها مشاعر الغضب والغيرة والمذلة والعار فعضت الوسادة وانفجرت ببكاء عال. فأقبل ديموف عليها، تاركاً كوروستليف بمفرده، وقال لها برقة وهو صريع الحيرة والارتباك: لا تبكي بصوت مرتفع هكذا يا ماما، ما جدوى ذلك؟ ينبغي أن نحيط هذه المسألة بالكتمان... ينبغي ألا يرى الناس.. أنت نفسك تعلمين أن ما حدث لا يمكن تلافيه.
وبدون أن تفلح في تهدئة مشاعر الغيرة التي ارتجف لها صدغاها، بدون أن تؤمن أن ما حدث لا يمكن تلافيه، غسلت وجهها وتزينت وانطلقت إلى منزل تلك المرأة. ولما لم تعثر على ريابوفسكي هناك مضت إلى بيت صديقة أخرى، ثم إلى منزل ثالث.. وكانت في بادئ الأمر تخجل من هذه الزيارات المفاجئة، لكنها ما لبثت أن اعتادت عليها. وقد حدث مرة أن زارت كل معارفها من النساء، وفتشت لديهن عن ريابوفسكي، وأدركت كل منهن غرض زيارتها.
وقالت لريابوفسكي عن زوجها مرة: إن هذا الرجل يعذبني بكرم خلقه.
وسرّتها هذه العبارة بالغ السرور، فراحت ترددها كلما التقت برسامين على علم بعلاقتها بريابوفسكي. كانت تهتف بحماسة: إن ذلك الرجل يعذبني بكرم خلقه.
وظلت حياتها على العموم بدون تغيير. استأنفت حفلاتها في أمسيات الأربعاء، وكان الممثل يخطب، والرسام يرسم، وعازف الكمان يعزف، ثم ينفتح باب غرفة الطعام قبل منتصف الليل بنصف ساعة ويظهر ديموف بابتسامته الرقيقة ويقول: هيا أيها السادة، العشاء جاهز.
وظلت أولگا إيفانوفا كعهدها القديم تبحث عن المشهورين وتعثر عليهم، فتفتش بشراهة عن آخرين. كذلك ظلت كعهدها القديم تعود إلى المنزل متأخرة. لكن ديموف كان، خلاف عادته، يسهر في مكتبه منكباً على عمله.
وذات مرة كانت تقف أمام المرآة تتأنق للذهاب إلى المسرح، فأقبل ديموف عليها وهو يرتدي بدلة مسائية ورباطاً أبيض، ويبتسم ابتسامته الوديعة القديمة. ورنا إليها مبتهجاً وقال هو متألق الوجه: لقد دافعت الآن عن بحثي.
وجلس وطفق يمسد ساقيه.
قالت أولگا إيفانوفا: بحثك؟
«أجل». وضحك وأحنى جسمه إلى الأمام ليرى وجهها في المرآة، أما هي فاستمرت في وقفتها متجهة إليه بظهرها، وكانت منشغلة في ارتداء قبعتها.
«أجل» قال ثانية «أتدرين؟ إنني أتوقع أن أمنح (الدوسانتشيب) في البثالوجيا... وهذا أمر له شأنه».
كان يبدو من وجهه المتألق أنه مستعد أن يسامح زوجته وينسى كل شيء لو قاسمته سروره، لكن (الدوسانتشيب) و(الباثالوجيا) أسماء لا معنى لها في عرفها. وفوق هذا فقد خشيت أن تتأخر عن المسرح، فلم تقل شيئاً.
جلس ديموف ساكناً بضعة دقائق ثم ابتسم ابتسامة مذنبة وترك الغرفة.

- 7 -
كان هذا اليوم يوم نحس.
كان ديموف يشكو من صداع حاد، ولم يتناول فطوره ولم يذهب إلى المستشفى بل اضطجع عل الأريكة في مكتبه. وفي الساعة الواحدة قصدت أولگا إيفانوفا إلى (ستديو) ريابوفسكي لتريه صورتها (الطبيعية الميتة) وتسأله عن سبب عدم قدومه في اليوم السابق، والحقيقة أنها لم ترسم هذه الصورة إلا تعللاً بزيارة الرسام.
مضت إلى منزله بدون إعلام. وإذ كانت تخلع غطاء حذائها تناهت إلى سمعها خطوات مسرعة وحفيف ثوب امرأة. وحينما هرعت إلى (الاستديو) ومشى أمام عينيها قميص أسمر، ثم توارى بسرعة وراء صورة كبيرة. ليس ثمة مجال للشك أن امرأة تختبئ وراء تلك الصورة. وكم مرة اختبأت أولگا إيفانوفا وراءها.
مدّ ريابوفسكي إليها كلتا يديه في ارتباك كأنه مندهش لزيارتها، وقال بابتسامة مغتصبة: آه، إنني مسرور برؤيتك، ما الأخبار؟.
وامتلأت عينا أولگا إيفانوفا بالدموع. كانت خجلة، خائفة، تفضل التنازل عن ملايين الروبلات على أن تتكلم أمام تلك المرأة الغريبة التي تختبئ وراء الصورة وتحاول أن تكتم ضحكها المتشفي بدون شك.
«جئتك بدراسة...» قالت بصوت فزع خافت وارتجفت شفتاها «الطبيعة الميتة».
تناول الرسام الصورة التخطيطية وتفحصها، ثم مشى بصورة آلية إلى غرفة مجاورة وتبعته أولگا إيفانوفا بخضوع.
«الطبيعة الميتة...» تمتم باحثاً عن قافية «العيّتة... السيّتة... الهيّتة».
تناهى من (الاستديو) صوت خطوات مسرعة وحفيف فستان. لقد انصرفت. وشعرت أولگا إيفانوفا برغبة لا تقاوم في الصراخ، في ضرب الرسام على رأسه، لكن الدموع أعمتها. لقد حطمها عارها. أحست أنها ليست أولگا إيفانوفا الفنانة بل حشرة حقيرة.
«إنني تعب» قال ريابوفسكي بفتور. ورنا إلى الدراسة وهز رأسه كأنه يحاول طرد النوم «هذه صورة ساحرة طبعاً، ولكن.. إنها دراسة اليوم، ودراسة غد، ودراسة في السنة الماضية، وستكون دراسة مرة أخرى بعد شهر.. كيف يحدث ألا تسأمي؟ لو كنت بموضعك لهجرت الرسم واتجهت إلى الموسيقى، أو إلى شيء آخر، إنك لست رسامة بل موسيقية. لا يمكنك أن تتصوري مدى تعبي! دعيني آمر ببعض الشاي... آه؟».
غادر الغرفة، وسمعته أولگا إيفانوفا يلقي أمراً. ولكي تتجنب الوداع والتفسيرات، بل لكي لا تنفجر بالبكاء، انطلقت مسرعة إلى البهو، وارتدت غطاء حذائها وانصرفت. ولما خرجت إلى الشارع ثانية تنفست الصعداء. شعرت أنها قد تحررت إلى الأبد من ريابوفسكي والرسم والعار الساحق الذي لحق بها في (الاستديو). انتهى كل شيء. وقصدت إلى خياطتها، ومن خياطتها إلى باراني الذي وصل أمس، ومن باراني إلى حانوت موسيقى، وكانت تفكر طوال الوقت كيف ستكتب لريابوفسكي رسالة قاسية باردة تفيض بالحنق، وكيف ستمضي الربيع والخريف في القرم مع ديموف، وتحرر نفسها من الماضي إلى الأبد وتبدأ الحياة من جديد.
ولدى عودتها إلى المنزل متأخرة كعهدها، جلست في غرفة الاستقبال بملابس الخروج لتكتب رسالة إلى ريابوفسكي. لقد قال لها ريابوفسكي إنها ليست رسامة، وستجابهه بنفس الانتقام فتقول له أنه يرسم في كل عام نفس الشيء الممل، أنه قد استنفذ موهبته، وأنه لن يقدم بعد عملاً أصيلاً. وستقول له أيضاً أنه مدين بالكثير إلى تأثيرها الإيجابي، وأنها غير مسؤولة عما ارتكب من أغلاط، لأن هناك شخصيات غامضة تختفي وراء الصور تشل هذا التأثير أحياناً.
- ماما...
صاح ديموف من مكتبه دون أن يفتح الباب.
- ماذا؟
- ماما، لا تدخلي، ولكن اقتربي من الباب فقط. المسألة هكذا، أصبت بالدفتريا قبل يومين في المستشفى، وأشعر الآن بتدهور. ابعثي حالاً بطلب كوروستليف.
كانت أولگا إيفانوفا تنادي زوجها وأصدقائه من الرجال بألقابهم. إنها تكره اسم (أوسيب) الذي يذكرها بشخصية گوگول (أوسيب) وبالقافية (أوسيب.. أوكريب.. أرخيب أوسيب)، لكنها هتفت الآن: أوسيب.. هذا مستحيل.
- ابعثي في طلبه.. إنني مريض.
قال ديموف من وراء الباب، ثم سمعته يسير إلى الأريكة ويضطجع عليها.
- ابعثي في طلبه.
ترامى إليها صوته المبحوح.
«ماذا يمكن أن يكون؟» فكرت أولگا إيفانوفا وهي ترتجف فرقاً «لماذا، إن ذلك خطير».
وبدون هدف واضح أخذت شمعة ومضت إلى غرفتها وهي تتساءل ماذا يجب أن تفعل. وتطلعت إلى نفسها في المرآة. بدت لنفسها مخيفة كريهة بوجهها الشاحب الفزع، بردائها ذي الأكمام المرتفعة، بقميصها الغريب التخطيط. وفجأة أحست بالأسف على ديموف، على حبه الراسخ، على حياته اليانعة، على الفراش المهجور الذي لم ينم عليه طويلاً. وانطلقت تبكي بمرارة حينما تذكرت بسمته اللطيفة الضارعة. ثم كتبت إلى كوروستليف رسالة ضارعة. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً.

- 8 -
حينما غادرت أولگا إيفانوفا غرفة نومها صباح اليوم التالي في الساعة الثامنة وهي منهوكة من السهاد، مشعثة، ذات وجه مذنب، مر بها في البهو رجل مجهول ذو لحية سوداء، من الواضح أنه طبيب. كان الهواء مفعماً برائحة الأدوية. وكان كوروستليف واقفاً بجوار باب مكتب ديموف وهو يفتل شاربه الأيمن بيده اليسرى.
«عفواً، لا أستطيع أن أسمح لك بالدخول» قال وهو ينظر إليها بوحشية «ربما انتقلت إليك عدوى المرض. وعلى أية حالة، فما الفائدة؟ إنه في حالة هذيان».
همست أولگا إيفانوفا: أهي دفتريا حقاً؟
«لابد لمن يرتكب الحماقات أن يلاقي جزاءها» قال كوروستليف متجاهلاً سؤالها «أتدرين كيف أصيب بهذه الدفتريا؟ لقد امتص جراثيم الدفتريا من بلعوم صبي بواسطة أنبوب يوم الثلاثاء الماضي. ولماذا؟ أحمق.. مجنون».
سألت: أهي خطيرة؟ جداً؟
- أجل، إنها من نوع خطير كما يقال، لابد أن نبعث بطلب شيريك. لابد...
أقبل بادئ الأمر رجل صغير أحمر الشعر طويل الأنف ذو لهجة يهودية، ثم رجل طويل منحن مشعث، كشماس أصلي، وأخيراً شاب أحمر عظيم الضخامة يرتدي نظارات. كان هؤلاء الأطباء قد قدموا جميعاً ليعتنوا بزميلهم المريض. ولبث كوروستليف في المنزل بعد أن أنهى نوبته يتجول من مكان إلى آخر كالظل. وظلت الخادمة مشغولة تهيئ الشاي للأطباء وتراجع الصيدلية، وتركت الغرف بدون ترتيب. كان كل شيء ساكناً حزيناً.
جلست أولگا إيفانوفا في غرفتها وراحت تفكر بالعقاب الذي أنزله بها الله جزاء خديعة زوجها. يا لذلك الرجل الصموت، الغامض، الذي لا يشبهه أحد بلطفه ورأفته! إنه يضطجع على أريكة ويقاسي الآلام وحيداً، دون أن يئن أو يتذمر! وإذا شكى في هذيانه أرجع الأطباء مصدر شكواه إلى شيء آخر غير الدفتريا. وإنهم ليسألون كوروستليف الذي يعرف كل شيء، وإن كوروستليف ليتطلع إليها في اشمئزاز كما لو أنها مسؤولة عن مرض زوجها. ولم تعد تفكر بالليالي المقمرة في نهر الفولگا، بالحب، برومانتيكية الحياة في كوخ الفلاحين. كلما تتذكره أنها بدافع من الأنانية والحقد قد لوثت نفسها من رأسها إلى قدميها بشيء سافل لا يطهره شيء.
«آخ، كم كذبت عليه!» وتذكرت حبها المضطرب لريابوفسكي «عليه اللعنة!».
في الساعة الرابعة تناولت طعام الغداء مع كوروستليف الذي لم يأكل شيئاً وشرب خمراً فقط وهو عابس الوجه، ولم تصب هي أيضاً شيئاً من الطعام. لكنها صلت إلى الله بصمت، ووعدت أن تحب ديموف إذا شفي وتكون زوجته المخلصة. ثم نسيت نفسها لحظة وتطلعت إلى كوروستليف وفكرت: «كم يكون مزعجاً أن يكون الشخص رجلاً بسيطاً غير موهوب، ويتصف بمثل هذه العادات السيئة!».
وبدا أن الله سيسقطها ميتة عقاباً لها على هجر زوجها. وامتلأت نفسها بكآبة قاتلة وإحساس عميق أن حياتها قد دمرت ولن يصلحها أي شيء.
بعد الغداء، الظلام. قصدت أولگا إيفانوفا غرفة الاستقبال فوجدت كوروستليف راقداً على مقعد وقد استقر رأسه على وسادة حريرية موشاة بالذهب. كان يشخر شخيراً عالياً.
كان الأطباء الذين يقدمون للقيام بنوبتهم لا يعيرون فوضى المنزل اهتماماً. لم يكن يوقظ اهتمامهم الرجل الراقد في غرفة الاستقبال وهو يشخر، الرسومات المعلقة على الجدران، الزينات المدهشة، شعر السيدة المشوش وملابسها المشعثة. وضحك أحد الأطباء فكان لضحكته رنيناً وجلاً يثير سماعها الألم في النفس.
استيقظ كوروستليف حينما دخلت أولگا إيفانوفا غرفة الاستقبال وجلس وانطلق يدخن.
«دخلت الدفتريا التجويف الأنفي...» قال بهدوء «أجل، وهو ضعيف القلب... إنه لموقف سيء».
قالت أولگا إيفانوفا: الأفضل أن تبعثوا في طلب شريك.
- جاء شريك، إنه هو الذي عرف أن الدفتريا دخلت الأنف. أجل... ولكن، من شريك؟ في الحقيقة، شريك لا شيء. إنه شريك وأنا كوروستليف ولا شيء آخر.
انساب الوقت ببطء، واضطجعت أولگا إيفانوفا بملابسها على الفراش وغفت. أحست أن البيت بكليته، من الأرض إلى السقف، قد امتلأ بقطعة حديد ضخمة، وأنها لو أزيحت لعاد كل شيء على ما يرام. ثم تذكرت أنه لا وجود لقطعة حديد بل هناك مرض ديموف.
«الطبيعة الميتة» فكرت وهي تغيب عن وعيها «العيّتة، السيّتة، الهيّتة... وماذا عن شريك؟ تريك، گريك، فريك، كريك... أين هم أصدقائي؟ ألا يعلمون بما أصابني من أحزان!؟ أيها الرب أنقذ... أنقذنا... شريك... گريك...».
ثم قطعة الحديد ثانية... جاء الأطباء... ودخلت الخادمة وهي تحمل قدحاً فارغاً في صينية وقالت: «هل أرتب الفراش يا سيدتي؟» ولما لم تتلق جواباً غادرت الغرفة. ودقت الساعة ثانية.. أحلام المطر على الفولگا... ودخل الغرفة شخص آخر... وبدا غريباً هذه المرة. انتفضت أولگا إيفانوفا من نومها ورأت كوروستليف. سألته: كم الساعة؟
- حوالي الثالثة.
- حسناً، ماذا؟
- كما هو، جئت لأخبرك أنه يحتضر.
أجهش بالبكاء، وتهافت على سريرها. ثم مسح دموعه بكمه. ولم تفهم أولگا إيفانوفا في البداية شيئاً، ثم سرت البرودة في جسدها وجعلت ترسم إشارة الصليب على صدرها.
«إنه يحتضر» ردد في صوت خافت وأجهش بالبكاء ثانية.. «إنه يحتضر لأنه ضحى بنفسه. يالها من خسارة للعلم!» واتسمت لهجته بالمرارة «كان هذا الرجل عظيماً إذا ما قورن بأفضل واحد منا. ما أعظم الأماني التي أيقظها فينا جميعاً!» وصفق كوروستليف يديه، «أيها الإله، يا ربي، إنك لن تعثر على صنو لهذا العالِم حتى ولو فتشت إلى يوم الدينومة... أوسكا ديموف، ماذا فعلت؟ يا إلهي».
وغطى وجهه في يأس وهز رأسه «ويالها من أخلاق محكمة!» وواصل كلامه وغضبه يشتد ثانية بعد أخرى «طيب، طاهر، روح محبة. إنه ليس رجلاً، بل زجاجاً... كيف خدم العلم وكيف يحتضر الآن من أجله! لقد اشتغل ليلاً ونهاراً كالثور، لم يرحم نفسه أبداً. وهو، العالم، الشاب، أستاذ المستقبل، كان مرغماً على البحث عن عمل، وينفق الليالي في الترجمة ليدفع لهذه... هذه الخرق القذرة!» نظر كوروستليف في احتقار إلى أولگا إيفانوفا، وأمسك قطعة القماش بكلتا يديه ومزقها في حنق كأنها مذنبة «ولم يرحم نفسه أبداً... ولم يرحمه الآخرون.. ولأي غرض؟ لماذا؟».
- نعم، رجل في المائة.
تناهى إليهما صوت من غرفة الطعام. استعرضت أولگا إيفانوفا حياتها مع ديموف، من البداية إلى النهاية، بكل تفصيلاتها. وفجأة أدركت أن زوجها كان رجلاً غير اعتيادي حقاً، نادراً إذا ما قورن بأي واحد من أصدقائها.. رجلاً عظيماً. وحينما تذكرت كيف كان أبوها المرحوم وجميع زملائه الأطباء يولونه احترامهم العظيم أدركت لماذا يؤمل له شهرة واسعة في المستقبل. وتغامز عليها السقف والجدران والمصباح والسجادة، ساخرين مستهزئين، كما لو كانت تتصايح: «لقد تركت الفرصة تفلت منك... تفلت منك». أطلقت صرخة جزع وهي تندفع خارج الغرفة، ومرت بجوار رجل مجهول في غرفة الطعام، وهجمت على مكتب زوجها. كان ديموف مضطجعاً على الأريكة بهمود وقد غطي إلى خصره. كان وجهه قد ازداد نحافة، وكان ذا لون باهت رمادي غريب على الأحياء. لم يتبق من ديموف سوى ابتسامته الحنون وحاجبيه السوداوين. تلمست جبينه، صدره، يديه. كان صدره ما يزال دافئاً، لكن جبينه ويداه كانتا باردتين كالثلج. ولم تكن عيناه المغمضتان نصف إغماضة تنظران إلى أولگا إيفانوفا بل كانتا تنظران نحو الأسفل إلى الملاءة.
«ديموف» صرخت بصوت عال «ديموف».
كانت تريد إفهامه أن الماضي لم يكن سوى غلطة، أن كل شيء لم يفقد بعد، أن الحياة يمكن أن تكون سعيدة وجميلة، أنه كان رجلاً نادراً، غير اعتيادي، وأنها ستعبده إلى آخر الحياة، وأنها ستصلي وستعذب نفسها بالخوف...
«ديموف» صرخت وهي تربت على كتفيه غير مصدقة أنه لن يستيقظ مرة أخرى بعد الآن «ديموف... ديموف».
ولكن كوروستليف كان يقول للخادمة في غرفة الاستقبال: لا تسألي أسئلة سخيفة، اذهبي إلى حارس الكنيسة حالاً، وأحضري ملابس النساء. سيغسلون الجثة ويكفنونها ويفعلون كل ما يرام.

ڤولوديا
في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم أحد من أيام الصيف كان فولوديا، وهو صبي في السابعة عشرة من عمره، بسيط، خجول، ذو مظهر عليل، جالساً في حديقة منزل شوميهين الريفي وهو يشعر بكآبة خرساء. كانت أفكاره اليائسة موزعة بين ثلاث محاور. الأول كونه ينبغي عليه أن يؤدي امتحاناً في الرياضيات غداً، يوم الاثنين. وكان يعلم أنه إن لم ينجح في هذا الامتحان التحريري فسيفصل من المدرسة، فقد مضى عليه عامان في الصف السادس، وحصل في درس الجبر في سجله السنوي على اثنين وثلاثة أرباع درجة. والثاني أنه يرى حضوره إلى (فيلا) شوميهين، وهي أسرة ثرية ذات مظاهر أرستقراطية، مصدر إهانة متكررة لعواطفه. فهو يعتقد أن مدام شوميهين تنظر إليه وإلى أمه كأتباع من أقربائهم الفقراء. إن أفراد أسرة شوميهين يضحكون على أمّه ولا يحترمونها. ولقد سمع ذات مرة مصادفة مدام شوميهين تحدث أنّا فيدورفنا في الشرفة عن أمه وتخبرها أنها تحاول أن تبدو شابة، وأنها لا تدفع خسائرها في لعب الورق أبداً، وأنها تدخن تبغ الآخرين. وفي كل يوم كان فولوديا يتضرع إلى أمّه ألاّ تذهب إلى أسرة شوميهين؛ وقد صوّر لها الدور المهين الذي تمثله مع أولئك الناس الأرستقراطيين، وألح عليها وتفوه بعبارات خشنة، لكنها -وهي امرأة طائشة سبق لها أن بددت ثروتها وثروة زوجها، ولها ميل خاص إلى أفراد الطبقة الرفيعة- لم تفهمه، فكان لزاماً عليه أن يصحبها مرتين في الأسبوع إلى (الفيلا) التي يكرهها.
والثالث أنه لم يستطع أن يتحرر من شعور غريب مضايق جديد عليه كلياً.. شعور ينم عن وقوعه في حب أنّا فيدورفنا، ابنة عمة شوميهين، وهي تعيش مع الأسرة. كانت امرأة مرحة، جهورية الصوت، مولعة بالضحك، صحيحة الجسد، فياضة بالنشاط، في الثلاثين من عمرها، بوجنتين متوردتين وكتفين مكتنزين وذقن ممتلئ مدور وابتسامة لا تفارق شفتيها الرقيقتين. لم تكن شابة ولا جميلة، وفولوديا يعلم ذلك حق العلم؛ ولكنه لسبب ما لم يستطع أن يكف عن التفكير فيها؛ يتطلع إليها وهي تهز كتفيها المكتنزين، أو تحرك ظهرها المسطح حينما تلعب (الكركت)، أو حينما تطلق ضحكة طويلة، أو بعد أن تجري على السلالم صعوداً وهبوطاً ثم تغوص في مقعد واطئ وتغلق عينيها نصف إغلاق، وتفتعل شهيقاً طويلاً متظاهرة بأنها تكاد تختنق وليس في وسعها أن تتنفس. كانت متزوجة، وكان زوجها -وهو رجل رزين وقور- مهندساً معمارياً؛ يقدم إلى (الفيلا) مرة في الأسبوع وينام نوماً عميقاً ثم يعود إلى المدينة. وقد تلمس هذا الشعور الغريب المضايق حينما أحسّ بكراهية نحو المهندس لا مبرر لها، وبراحة عميقة كلما عاد إلى المدينة.
وقد أحسّ الآن، وهو يجلس في الحديقة، ويفكر بامتحانه غداً، وبأمّه التي يسخرون منها، برغبة عظيمة في رؤية نيوتا (وهو الاسم الذي تنادي به أسرة شوميهين أنّا بتروفنا)، في سماع ضحكها وحفيف ثوبها. ولم تكن هذه الرغبة من نوع الحب الطاهر الشعري الذي يقرأ عنه في الروايات ويحلم به كل ليلة حينما يأوي إلى فراشه، بل هي رغبة غريبة مبهمة؛ إنه ليخجل منها، ليخافها كشيء خطير جداً، شيء ملوث، شيء لا يليق الاعتراف به حتى لنفسه.
«إنه ليس غراماً» قال في نفسه «لا يمكن للمرء أن يقع في غرام نساء متزوجات في الثلاثين. إنه مكيدة صغيرة.. نعم مكيدة».
وراح يفكر بحيائه الشديد، بحاجته إلى شارب، ينمشه، بعينيه الضيقتين، ووضع نفسه في مخيلته بجوار نيوتا، فبدا له هذا الوضع مستحيلاً، فبادر إلى تخيل نفسه جريئاً، جميلاً، فكهاً، مرتدياً لباساً على أحدث طراز.
وإذ كان غارقاً في أحلامه مركزاً عينيه في بقعة مظلمة من الحديقة تناهت إلى سمعه خطوات خفيفة. كان أحد الأشخاص يسير متمهلاً في ممشى الحديقة. ثم توقفت الخطوات وومض شيء أبيض في المدخل.
- أهناك أحد؟
سأل صوت امرأة. وعرف فولوديا الصوت ورفع رأسه في فزع.
«من هنا؟» سألت نيوتا وهي تدخل الحديقة «آه، أهو أنت يا فولوديا؟ ماذا تعمل هنا؟ تفكر؟ وكيف تستطيع الاستمرار مفكراً، مفكراً، مفكراً؟! تلك هي الطريقة التي تفقد بها صوابك».
نهض فولوديا وتطلع مبهوراً إلى نيوتا. كانت قد خرجت من الحمام لتوها. كانت تعلق على كتفها منشفة كبيرة وقطعة قماش، وكان في وسعه أن يرى شعرها المبلل ملتصقاً بجبينها من تحت المنديل الحريري الأبيض الذي يطوق رأسها. وكانت رائحة الحمام ورائحة الصابون ما تزال تفوح حولها. وكان زرّ قميصها الأعلى مفتوحاً فاستطاع فولوديا أن يرى بلعومها وصدرها.
«لماذا لا تقول شيئاً؟» قالت نيوتا وهي ترمقه بنظرات لائمة «إن الصمت مناف للأدب حينما تكلمك سيدة. يا لك من أخرق يا فولوديا! أنت تجلس صامتاً دائماً ولا تقول شيئاً، مفكراً كأحد الفلاسفة. ليس فيك شرارة من نار أو حياة. أنت فظيع حقاً. ينبغي أن تكون مليئاً بالحياة في مثل هذه السن؛ تقفز، وتتحدث كثيراً، وتغازل، وتحب».
نظر فولوديا إلى قطعة القماش التي تمسك بها يد سمينة بيضاء، وانطلق يفكر...
«إنه أبكم» قالت نيوتا في عجب «إنه لأمر غريب حقاً.. أصغ، كن رجلاً. هيا، بوسعك أن تبتسم على الأقل» وضحكت «ولكن أتعلم يا فولوديا لماذا أصبحت أخرقاً؟ لأنك لا تبالي بالنساء. لم لا تفعل؟ حقاً إن هذا المكان خال من الفتيات، ولكن ليس هناك ما يحول دون مغازلتك للنساء المتزوجات. لماذا لا تغازلني مثلاً؟».
أصغى إليها فولوديا وحك جبينه في حيرة أليمة.
«إن الذين يحبون الوحدة والصمت هم المتعجرفون فقط» استمرت نيوتا قائلة وهي تبعد يده عن جبينه «أنت متعجرف يا فولوديا. لماذا ترنو إليّ من تحت حاجبيك؟ انظر إليّ في الوجه مباشرة إذا شئت. أجل أيها الأخرق».
وقرّ عزم فولوديا على الكلام، فلوى شفته السفلى محاولاً الابتسام ورمش عينيه، ثم وضع يده على جبينه ثانية وقال: أنا... أنا أحبك.
رفعت نيوتا حاجبيها في دهشة وضحكت.
«ماذا أسمع؟» أخذت تغني كما تغني المغنية الرئيسة في الأوبرا لدى سماعها شيئاً فظيعاً «ماذا؟ ماذا قلت؟ قلها ثانية، قلها ثانية».
ردّد فولوديا: أنا... أنا أحبك.
وبحركة آلية، بدون تأمل أو إدراك، تقدم نصف خطوة نحو نيوتا وأمسك ذراعها. كان كل شيء مظلماً أمام عينيه، وامتلأت عيناه بالدموع. واستحال الكون بأجمعه إلى منشفة كبيرة تفوح منها رائحة الحمام.
«برافو... برافو» وسمع ضحكة مرحة «لماذا لا تتكلم؟ أريدك أن تتكلم. حسناً؟».
حدق فولوديا في وجهها الضاحك حينما رأى أنها لم تصده عن الإمساك بذراعها. وببلادة، بفظاعة، وضع ذراعيه حول خصرها فالتقت يداه وراء ظهرها، وأمسك بها من خصرها بكلتا ذراعيه. قالت في صوت هادئ وهي ترفع ذراعيها إلى رأسها لتسوي شعرها تحت المنديل فتبين غمازة مرفقيها: ينبغي أن تكون لبقاً، مؤدباً، ساحراً، ولا يمكنك أن تصبح كذلك إلا بتأثير المرأة. ولكن يا للشر والغضب المرتسم على وجهك.. أجل يا فولوديا، لا تكن فظاً، أنت شاب وما يزال أمامك وقت طويل للتفلسف... هيا، دعني، إنني ذاهبة.. دعني..».
حررت خصرها بدون صعوبة، وغادرت الحديقة متمهلة وهي تترنم بلحن. وبقي فولوديا وحيداً. مسد شعره وابتسم، وقطع الحديقة ذهاباً وجيئة مرات ثلاث، ثم جلس على المصطبة وابتسم ثانية.
اجتاحه خجل لا يوصف، حتى لقد عجب كيف يمكن أن تبلغ حدة الخجل الإنساني إلى تلك الذورة. ودفعه خجله إلى الابتسام، إلى تحريك يديه مؤشراً، إلى الهمهمة بكلمات غير مترابطة.
كان خجلاً من معاملته كصبي صغير، خجلاً من حيائه، خجلاً -أكثر من كل ذلك- من وقاحته التي سولت له تطويق خصر امرأة محترمة. وبدا له أن أي شيء في مظهره الخارجي أو في سنّه، بل وفي وضعه الاجتماعي، لا يخوله حق الإقدام على ذلك العمل.
نهض وغادر المكان. ودخل مخبأ الحديقة بعيداً عن البيت من دون أن يتلفت حواليه.
«آه، لابد من الابتعاد عن هذا المكان بأسرع وقت ممكن» فكر وهو يعصر رأسه «يا إلهي، بأسرع وقت ممكن».
كان موعد سفر القطار الذي يعود فيه فولوديا مع أمه في الساعة الثامنة والأربعين دقيقة. لم يزل ثمة ثلاث ساعات على موعد سفر القطار، وإنه ليود أن يمضي إلى المحطة بكل سرور بدون انتظار أمّه.
في الساعة الثامنة دخل المنزل. كانت هيئته تنم عن عزم مكين. ماذا سيحدث! لقد قرّ عزمه على الدخول في جرأة، على التحديق في وجوههم غير مبال بشيء.
عبر الشرفة والبهو الكبير وغرفة الاستقبال، ثم توقف ليلتقط أنفاسه. كان بإمكانه أن يسمعهن يشربن الشاي في غرفة الطعام. وكانت مدام شوميهين وأمه ونيوتا يتحدثن عن شيء ما ويضحكن.
أنصت فولوديا.
«أؤكـد لكما» قالت نيوتا «لم أسـتطع أن أصدق عيني. ولما بدأ يكشـف عن عواطفه، و-تصوروا فقط- لف ذراعيه حول خصري، كنت سأشك في شخصيته. وأنتما تعلمان أنه ذو طريقة خاصة. وحينما أعلن حبه كان على وجهه تعبير قاس مثل سير كاسيان».
«حقاً» قالت أمه وهي تنفجر ضاحكة «حقاً، كم يذكرني بأبيه!».
واستدار فولوديا على عقبيه، وهرع خارج المنزل إلى الهواء الطلق.
«كيف يمكنهن الحديث عن هذا بصوت مرتفع؟!» تساءل فولوديا وهو يشبك يديه في ألم ويتطلع إلى السماء في رعب «يتحدثن بصوت مرتفع وبكل برود.. وقد ضحكت أمي.. أمي.. يا إلهي، لماذا وهبتني هذه الأم؟ لماذا؟».
ولكن لابد له أن يعود إلى المنزل مهما حدث. وذرع الشارع ثلاث مرات رواحاً وغدواً، وشاع الهدوء في نفسه، فرجع إلى البيت.
- لماذا لم تجئ وقت الشاي؟
«أنا آسف.. لقد.. لقد حان وقت عودتي» تمتم دون أن يرفع أنظاره «ماما، الساعة الثامنة الآن».
«عد لوحدك يا عزيزي» قالت أمه بفتور «سأقضي هذه الليلة مع ليلى.. مع السلامة يا عزيزي. دعني أرسم شارة الصليب فوقك».
رسمت إشارة الصليب فوق ولدها وقالت بالفرنسية مخاطبة نيوتا: إنه أقرب شبهاً بليرمنتوف.. أليس كذلك؟
ألقى فولوديا تحية الوداع ثم غادر غرفة الطعام دون أن ينظر في وجه إحداهن. وبعد دقائق عشر كان يقطع الطريق المؤدي إلى المحطة فرحاً مسروراً. إنه لم يعد يشعر بعد بالخوف أو الخجل. تنفس الهواء بحرية ويسر.
جلس على صخرة على بعد حوالي نصف ميل من المحطة، وانطلق يحدق في الشمس التي كان نصف منها متوارياً وراء أكمة. كان ثمة أضواء متفرقة في المحطة. وكان أحد المصابيح الخضر يرسل ضوءاً معتماً، لكن القطار لم يلح بعد. شعر فولوديا بالبهجة في الجلوس ساكناً بدون حركة في مراقبة المساء وهو يقبل شيئاً فشيئاً. وارتسم في مخيلته بوضوح عظيم ظلام الحديقة، صوت الخطوات، رائحة الحمام، القهقهة، الخصر، ولم تبد له هذه الأشياء مزعجة وخطيرة كما كانت من قبل.
وفكر: «ليس للأمر أدنى اعتبار.. إنها لم تسحب يدها بعيداً، وقد ضحكت حينما طوقت خصرها. لابد أنها كانت راضية. ولو كانت منزعجة لغضبت...».
أحس فولوديا بالأسف على ما كان يعوزه من جرأة أكثر. وغمره أسف لسفره الآن بهذه الطريقة البليدة. وألحت عليه فكرة بأنه سيكون أعظم جرأة إذا ما تكررت مثل تلك الحادثة معه، وأنه لن يعيرها مثل هذا الاهتمام. وليس ببعيد أن تسنح له مثل تلك الفرصة ثانية. فقد اعتدن أن يتمشين وقتاً طويلاً حوالي (الفيلا) بعد العشاء. وإذا ما سار فولوديا إلى جوار نيوتا في الحديقة المظلمة فستسنح له تلك الفرصة.
وفكر: «سأعود إلى (الفيلا) وأسافر بقطار الصباح.. سأزعم أن القطار فاتني».
استدار راجعاً... كانت مدام شوميهين وأمه ونيوتا وإحدى بنات العمة جالسات في الشرفة يلعبن الورق. ولما ألقى إليهن فولوديا أكذوبته انتابهن القلق خشية تأخره عن موعد الامتحان غداً ونصحنه بأن يصحو مبكراً. وكان فولوديا طوال الوقت الذي صرفنه في لعب الورق جالساً في جهة واحدة، يلتهم نيوتا بعينيه، وينتظر... ولقد هيأ خطة محكمة في ذهنه؛ سيقصد إلى نيوتا في الظلام، ويتناول يدها، ثم يطوقها، ولا حاجة به إلى القول فسيفهم كلاهما بدون كلمات.
لكن السيدات لم يتمشين عقب العشاء بل واصلن اللعب. ولبثن يلعبن حتى الساعة الواحدة صباحاً، ثم تفرقن إلى النوم.
«ما أعظم سخافة كل هذا!» فكر فولوديا بانزعاج وهو يلجأ إلى فراشه «ولكن لا بأس، سأنتظر حتى الغد.. غداً في الحديقة.. هذا غير مهم».
لم يحاول النوم بل جلس في فراشه ململماً ركبتيه وانطلق يفكر. كانت كل فكرة تدور حول امتحان الغد كريهة لديه. وآمن بأنه سيفصل وأنه لا شيء فظيع في فصله. وعلى العكس من ذلك فهو شيء حسن، بل حسن جداً. فسيكون في اليوم التالي حرّاً كالطير، وسيرتدي ملابس اعتيادية بدلاً من ملابس المدرسة، وسيدخن علانية، وسيقدم إلى هنا ويغازل نيوتا متى شاء، ولن يكون (تلميذ مدرسة) بل (شاب). أما عن المستقبل فهو واضح أمامه؛ سينضم إلى الجيش، أو إلى مصلحة التلغراف، أو يعمل في حانوت صيدلي ويصبح صيدلياً يوماً ما. هناك مهن كثيرة. وانقضت ساعة أو ساعات وهو غارق في أفكاره.
حوالي الساعة الثالثة، حينما شعشع الفجر، فتح الباب بهدوء ودلفت أمه.
«ألست نائماً؟» قالت وهي تتثاءت «نم، جئت لألبث دقيقة فقط... لأحضر القطرات..».
- ولأجل أي شيء؟.
- اعترت ليلى التشنجات ثانية. نم يا بني، إن امتحانك غداً...
انتزعت من الخزانة قنينة ودنت من النافذة، وقرأت رقعة العنوان ثم خرجت.
«ماريا لينتيفنا.. هذه ليست قنينة القطرات» سمع فولوديا بعد دقيقة صوت امرأة تهتف «هذه قطرات (زهرة الوادي) وليلى في حاجة إلى مورفين. هل ابنك نائماً؟ سليه أن يبحث عنها».
كان صوت نيوتا. وارتعش جسد فولوديا. وارتدى سرواله عجلاً، ورمى سترته على كتفيه وهرع إلى الباب.
«أتفهمين؟ مورفين» قالت نيوتا هامسة «لابد أن هناك رقعة على الزجاجة مكتوبة باللاتيني. أيقظي فولوديا. سيعثر عليها».
فتحت أمه الباب فرأى نيوتا. كانت ترتدي نفس الدثار الفضفاض الذي لبسته بعد الحمام. وتهدل شعرها على كتفيها في فوضى، وبدا وجهها ناعساً وقاتماً في النور الأغبش.
قالت وهي تلمحه: لماذا، فولوديا ليس نائماً. فولوديا، ابحث في الخزانة عن زجاجة المورفين. ليلى متعبة! إنها تصاب بشيء مزعج دائماً!.
تمتمت أمه بشيء وتثاءبت ثم انصرفت.
قالت نيوتا: ابحث عنها.. لماذا تقف جامداً؟!
اتجه فولوديا إلى الخزانة وركع وطفق يتفحص زجاجات وصناديق الدواء. كانت يداه ترتعشان، وكان يحس بموجات باردة تتلاطم في صدره وداخله. وشعر باختناق ودوار من رائحة حامض الفنيك والأثير والأدوية الأخرى التي كان ينتزعها بأصابعه المرتجفة بدون ضرورة فيريق شيئاً منها.
وفكر: «أظن أن أمي انصرفت.. هذا حسن.. حسن».
- ألا تسرع؟
قالت نيوتا ببطء.
«دقيقة.. أعتقد أن هذا مورفين» قال فولوديا وهو يقرأ على إحدى الزجاجات كلمة (مورف) «ها هي ذي».
كانت نيوتا تقف في الباب وقد وضعت قدماً في الغرفة وأخرى في الممر. كانت تحاول أن تسوي شعرها عبثاً، فهو طويل وكثيف جداً. ورنت إلى فولوديا بنظرات شاردة. وبدت بدثارها الفضفاض، بوجهها الناعس، بشعرها المتهدل، في النور الفضي، آسرة، رائعة. ناولها الزجاجة وهو مسحور، مرتعد الجسم، يتذكر في تلذذ كيف طوق هذا الجسد اللذيذ بين ساعديه وقال: ما أروعك!
- ماذا؟
تقدمت في الغرفة.
- ماذا؟
سألته باسمة.
كان صامتاً. ورنا إليها ثم تناول يدها، كما حدث في الحديقة بالضبط، فنظرت إليه باسمة، وظلت تنتظر ماذا يمكن أن يعقب ذلك.
وهمس: إنني أحبك.
تلاشت ابتسامتها، وفكرت لحظة ثم قالت: انتظر قليلاً، أعتقد أن هناك شخصاً قادم. آه من تلاميذ المدارس!
قالت بلهجة استسلام وهي تمضي إلى الممر وتمد بصرها فيه. «كلا... ليس هناك أحد».
وعادت إليه.
ثم بدا لفولوديا أن الغرفة، نيوتا، شروق الشمس، هو، أن كل شيء قد ذاب في شعور من الغبطة العميقة الفائقة التي لا تصدق، والتي يمكن أن يضحي المرء بحياته كلها من أجلها مواجهاً العذاب الأبدي... ثم لم يمض نصف دقيقة وإذا به يرى فجأة أمامه وجهاً مكتنزاً عاديّاً، قد شوهته الرغبة، فتملكه اشمئزاز حاد.
«لابد أن أذهب على أية حال» قالت نيوتا وهي ترمق فولوديا بنظرات احتقار «يا لك من صبي قبيح، بائس.. تباً لك أيها البطة!».
بدا له شعرها الطويل، دثارها الفضفاض، خطواتها، صوتها، كريهاً شائناً.
«بطة قبيحة» فكر إثر انصرافها «إنني قبيح حقاً.. كل شيء قبيح».
كانت الشمس مشرقة، والطيور تغرد في ضجيج، وكان في وسعه سماع خطوات البستاني وقرقعة عربته. ثم سمع خوار الأبقار وأنغام ناي أحد الرعاة. وحدثته الشمس والأصوات أن ثمة حياة طاهرة، نقية، شعرية، في مكان ما من هذا العالم. ولكن أين هذا المكان؟ إنه لم يسمع أية كلمة عنه من أمه، أو من أي شخص حواليه.
حين أقبل الخادم لإيقاظه كي لا يفوته قطار الصباح تظاهر بالنوم.. وهمس لنفسه: «إلى الشيطان».
وصحا بين الساعة العاشرة والحادية عشرة. فكر وهو يمشط شعره أمام المرآة ويتمعن في وجهه القبيح الشاحب الذي أضناه السهاد: «إنها لحقيقة أكيدة.. بطة قبيحة». وقال لأمه وقد جزعت لرؤيته متأخراً عن الامتحان: غلبني النوم يا ماما.. ولكن لا داعي للقلق، فسأنال شهادة طبية.
استيقظت مدام شوميهين ونيوتا في الساعة الواحدة. وسمع فولوديا مدام شوميهين تفتح نافذتها في ضجة، وتناهت إليه قهقهة نيوتا. ثم انفتح الباب ورأى صفاً طويلاً من المنافقات (بينهن أمه) يتحلقن حول مائدة الفطور، ولمح وجه نيوتا الضاحك النظيف وحاجبي ولحية المهندس الذي وصل من المدينة لتوه.
كانت نيوتا مرتدية حلة من حلل (الروسيين الصغار) لا تناسبها أبداً، أكسبتها مظهر الخرقاء؛ وكان المهندس يلقي نكات عامية متعبة. خيل لفولوديا أن نيوتا تضحك بصوت مرتفع لغرض مقصود. وظلت تتطلع إلى جهته لتفهمه أن ذكرى الليلة السابقة لا تزعجها أبداً، إن حضور البطة القبيحة على مائدة الطعام لم يجلب انتباهها.
في الساعة الرابعة قصد فولوديا بصحبة أمه إلى المحطة. وأثارت فيه الذكريات الشائنة، الليلة المسهدة، ارتقاب الفصل من المدرسة، لسعات الضمير، غضباً قاتماً عنيفاً. تأمل وجه أمه الجانبي، أنفها الصغير، رداء المطر الذي أهدته إليها نيوتا، ثم تمتم بانزعاج: لماذا تستعملين (البودرة) يا ماما؟ ذلك لم يعد ملائماً لسنك. أنت تسرفين في التزين، ولا تدفعين خسائرك في القمار، وتدخنين تبغ الآخرين.. هذا شيء كريه. أنا لا أحبك.. لا أحبك.
لقد أهانها. نقلت عينيها الصغيرتين في انزعاج، وشبكت يديها الرقيقتين وهمست في جزع: ماذا تقول يا عزيزي! سيسمعك الحوذي! اسكت وإلا سمعك الحوذي. بإمكانه أن يسمع كل شيء.
«أنا لا أحبك.. لا أحبك» استمر فولوديا يقول وهو متلاحق الأنفاس «أنت مجردة من الروح، مجردة من الأخلاق... حذار أن ترتدي هذا المعطف مرة أخرى.. أتسمعين؟ وإلا فسأمزقه إرباً...».
قالت أمه وهي تبكي: تمالك نفسك يا بني.. سيسمعك الحوذي.
- وأين ثروة أبي؟ أين ثروتك؟ بددتها كلها. أنا لست خجلاً من كوني فقيراً. لكنني خجل من مثل هذه الأم... إنني أحمر خجلاً دائماً عندما يسألني عنك التلاميذ.
كان قطارهما يمر بمحطتين قبل وصولهما إلى المدينة. أمضى فولوديا الوقت في الفسحة الصغيرة التي تربط عربتين. كان يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. ولم يشأ أن يجلس في ديوان العربة لأن أمه التي يكرهها كانت هناك. وأحس بكره لنفسه، لعامل التذاكر، للدخان المنبعث من الماكنة، للبرد الذي يعزي إليه ارتجافه. وكلما اشتدت الكآبة في قلبه كلما قوي شعوره بأنه في مكان ما من العالم، بين طائفة من الناس، توجد حياة طاهرة، شريفة، دافئة، نقية، فياضة بالحب والشفقة والمرح والإخلاص، فيزداد إحساسه بشقائه، حتى لقد سأله أحد المسافرين وهو يتفحص وجهه: أتشكو من وجع الأسنان؟.
كان فولوديا يعيش في المدينة مع ماريا بتروفنا، وهي سيدة ذات أصل نبيل، تمتلك منزلاً كبيراً تؤجر غرفه للنزلاء. وكانت لأمه غرفتان، واحدة ذات نوافذ وصورتين بإطارين مذهبين معلقتين على الجدار، وفيها سريرها، وهي خاصة بها، وأخرى صغيرة مظلمة متصلة بها مخصصة لفولوديا، وليس فيها سوى أريكة يتخذها له فراشاً. لكن الغرفة تكتظ بسلال خصافية طافحة بالملابس وصناديق القبعات وأشياء أخرى من سقط المتاع التي تحتفظ بها أمه لسبب أو لآخر. وكان فولوديا يستذكر دروسه إما في غرفة أمه أو في الصالة التي يلتقي فيها النزلاء وقت الغداء وبعض الأمسيات.
ولدى وصولهما إلى البيت اضطجع فولوديا على الأريكة وتدثر باللحاف ليوقف ارتجافه. وذكرته سلال الخصاف وصناديق (الكرتون) وسقط المتاع أنه لا يملك غرفة خاصة، أنه لا يستطيع أن يركن إلى ملجأ منعزل، بعيداً عن أمه، عن زائريها، عن الأصوات المنبعثة من الصالة. وذكّره القمطر والكتب المبعثرة حواليه بالامتحان الذي فاته.. ولسبب ما، بدون مناسبة أبداً، خطرت في ذهنه بلدة منتون التي عاش فيها مع أبيه حينما كان في السابعة من عمره. وفكر ببياتريس وطفلتين أخريتين كان يجري معهن على الرمال... وحاول أن يستعيد في ذاكرته لون السماء، البحر، ارتفاعات الأمواج، مزاجه في ذلك الحين، لكنه لم يفلح. ومرقت الفتيات الإنجليزيات في مخيلته كما لو كن أحياء، لكن كل شيء ظل مشوشاً مختلطاً.
«كلا، إن الجو بارد هنا» فكر فولوديا ونهض وارتدى سترته ومضى إلى الصالة.
كانوا يحتسون الشاي في الصالة. وكان يتحلق حول (السماور) ثلاثة أفراد؛ أمه، وسيدة عجوز تدرّس الموسيقى وتلبس (مونيكلا)، و أوگستين ميهيليتش، رجل كهل وضخم جداً يشتغل في مصنع للعطور.
قالت أمه: إنني لم أتغد اليوم. فكرت في إرسال الخادمة لشراء بعض الخبز.
- دونياشا.
صاح الفرنسي.
وظهر أن ربة الدار أرسلت الخادمة إلى مكان ما.
«أوه، لا أهمية لذلك» قال الفرنسي باسماً «سأذهب بنفسي لشراء بعض الخبز حالاً. إنه لا شيء».
ووضع سيگاره الكبير في مكان بارز، وارتدى قبعته وخرج. وراحت أمه تحدّث مدرّسة الموسيقى إثر خروجه، كيف تمكث لدى أسرة شوميهين، وكيف يرحبون بها بحرارة. قالت: «إن ليلى شوميهين قريبة لي كما تعلمين. كان زوجها المرحوم الجنرال شوميهين ابن عم زوجي، وكانت هي بارونة كولب».
«ماما، هذه أكاذيب» قال فولوديا بخشونة «لماذا تروين أكاذيب؟!».
كان يعلم جيداً أن ما قالته أمه صحيح؛ لم تكن هناك كلمة مكذوبة واحدة فيما قالته عن الجنرال شوميهين والبارونة كولب. لكن كان ثمة شيء يوحي بكذبها في طريقة حديثها، في تعبير وجهها، في عينيها، في كل شيء. «أنت تكذبين» كرر فولوديا وخبط جمعه على المنضدة بعنف فارتجفت الأواني وانسكب شاي أمه «لماذا تتحدثين عن الجنرال والبارونة؟ هذه أكاذيب كلها».
انتاب الارتباك مدرّسة الموسيقى وسعلت في منديلها محاولة أن تعطس، وأجهشت الأم بالبكاء.
«أين المفر» فكر فولوديا.
لقد أصبح في الشارع فعلاً... إنه خجل من مواجهة زملائه في المدرسة. وتذكر ثانية، بدون مناسبة تماماً، الفتاتين الإنجليزيتين. وانطلق يذرع الصالة. ثم قصد إلى غرفة أوگستين ميهيلش. كانت تفوح فيها رائحة زيت أثيري وجليسرين. وكانت القناني والأقداح موزعة على المناضد والمقاعد، بل وحافة النافذة أيضاً وهي تحتوي على سوائل ذات ألوان عديدة. تناول فولوديا جريدة من المنضدة وقرأ عنوان (الفيگارو).. كان ثمة رائحة قوية ومبهجة فيها. ثم التقط من المنضدة مسدساً...
«هيا، هيا، لا تبالي بهذا» حاولت المدرّسة أن تهدئ أمه في الغرفة المجاورة «إنه شاب. الشباب في سنه لا يتمالكون أنفسهم. على المرء أن يهيئ نفسه لمثل هذه الأمور».
«كلا يا يفگينيا أندريفنا، إنه فسد كلياً» قالت أمه في صوت ملول «ليس له أحد يحكمه. وأنا ضعيفة وليس في قدرتي عمل شيء.. أوه، إنني شقية».
وضع فولوديا فوهة المسدس في فمه، وتلمس شيئاً كالمحرك وضغط عليه بإصبعه. ثم شعر بشيء آخر يبرز، وضغطه مرة أخرى. أخرج الفوهة من فمه ومسحها بطرف سترته، ثم نظر إلى داخلها. إنه لم يمسك من قبل سلاحاً بيده...
وفكر: «أظن أن على المرء أن يرفع هذا... نعم، يبدو هكذا».
عاد أوگستين ميهيلتش إلى الصالة وطفق يحدثهما عن شيء ما وهو يضحك. ووضع فولوديا الفوهة في فمه ثانية وكزّ عليها بأسنانه، وضغظ شيئاً ما بإصبعه. ودوى صوت طلق ناريّ وضرب شيء ما فولوديا في مؤخرة رأسه بعنف فظيع، وسقط رأسه إلى الأسفل على المنضدة بين القناني والأقداح. ثم رأى أباه كما في بلدة منتون، يرتدي قبعة عالية بشريط أسود عريض. وأمسكته من كلتا ذراعيه فجأة سيدة ترتدي الحداد، وسقطا على رأسيهما في حفرة مظلمة وعميقة جداً.
ثم تلطخ كل شيء وتلاشى.

في الطريق العام



:
















يفيموفنا :


نازاروفـنا:
سافا:


نازاروفـنا:
سافا :


نازاروفنا:


فيديا :







صوت:
فيديا:
نازاروفـنا:

فيديا:

نازاروفـنا:


فيديا:





سافا:


فيديا:
سافا:
فيديا:
تيهون:
فيديا:

سافا:



فيديا:
سافا:
فيديا:
سافا:
بورتسوف:

فيديا:


بورتسوف:

تيهون:
بورتسوف:
تيهون:
بورتسوف:



تيهون:
بورتسوف:






تيهون:
بورتسوف:



تيهون:
فيديا:

تيهون:
بورتسوف:


تيهون:

بورتسوف:

تيهون:
بورتسوف:
يفيموفنا:


فيديا:


بورتسوف:
فيديا:


نازاروفـنا:


فيديا:

بورتسوف:


سافا:

يفيموفنا:
سافا:
يفيموفنا:
سافا:

بورتسوف:


سافا:
بورتسوف:
سافا:



فيديا:
سافا:

بورتسوف:



تيهون:


مريك:




يفيموفنا:
مريك:
بورتسوف:
تيهون:
مريك:


فيديا:

مريك:
فيديا:
مريك:

تيهون:

مريك:
تيهون:

مريك:


تيهون:



مريك:

تيهون:
مريك:
فيديا:





مريك:



يفيموفنا:

مريك:
يفيموفنا:

سافا:
مريك:

يفيموفنا:
مريك:




فيديا:
مريك:
فيديا:
مريك:
فيديا:
مريك:
فيديا:
مريك:
تيهون:
فيديا:


مريك:





فيديا:
مريك:

صوت:
مريك:









صوت:


سافا:
مريك:










يفيموفنا:

تيهون:

مريك:


نازاروفـنا:
يفيموفنا:

سافا:

بورتسوف:

تيهون:
بورتسوف:




تيهون:


بورتسوف:




فيديا:
بورتسوف:

مريك:



بورتسوف:


مريك:




سافا:
مريك:

تيهون:
مريك:

تيهون:
مريك:
تيهون:
مريك:




تيهون:

مريك:
تيهون:


بورتسوف:
تيهون:
بورتسوف:








تيهون:

بورتسوف:
تيهون:
مريك:
تيهون:
فيديا:

مريك:

فيديا:


مريك:


كوزما:




فيديا:
تيهون:
كوزما:

يفيموفنا:





كوزما:
يفيموفنا:
كوزما:



كوزما:

بورتسوف:
مريك:
كوزما:







مريك:
كوزما
مريك:
كوزما





مريك:
كوزما:









بورتسوف:
كوزما:


مريك:
كوزما:











بورتسوف:

كوزما:



فيديا:
كوزما:






مريك:
كوزما:




تيهون:


صوت:

مريك:

كوزما:
مريك:

كوزما:
مريك:
كوزما:













تيهون:
كوزما:




تيهون:
بورتسوف:
تيهون:
فيديا:



بورتسوف:
مريك:

صوت:
مريك:


بورتسوف:


تيهون:


بورتسوف:

سافا:

تيهون:

فيديا:
مريك:
تيهون:
مريك:


تيهون:

بورتسوف:
تيهون:
بورتسوف:
تيهون:
بورتسوف:




فيديا:
بورتسوف:

مريك:







تيهون:
مريك:




فيديا:
مريك:


فيديا:
مريك:



تيهون:

صوت:


تيهون:
صوت:

تيهون :

صوت:

تيهون:
صوت:
تيهون:
دنيس:

تيهون:
دنيس:


تيهون:





فيديا:

تيهون:



تيهون:

ماريا:
تيهون:


ماريا:

تيهون:
مريك:

تيهون:


ماريا:
تيهون:

بورتسوف:
ماريا:
بورتسوف:


بورتسوف:

ماريا:

بورتسوف:



ماريا:
مريك:

ماريا:


مريك:




ماريا:

مريك:

ماريا:
مريك:





بورتسوف:
نازاروفـنا:

مريك:
تيهون:
مريك:
تيهون:صاحب حانة في الطريق العام.
بورتسوف:ملاّك مفلس.
سافا:حاج عجوز.
نازاروفـنا حاجّة.
يفيموفنا:حاجّة.
فيديا:عامل في مصنع.
مريك:متشرد.
كوزما:
عابر سبيل.
دنيس :حوذي زوجة بورتسوف.
(غرفة في حانة تيهون. على اليمين «بار» ورفوف صفّت عليها القناني. في الخلف باب مفتوح على الطريق، معلق فوقه مصباح أحمر قذر. المقاعد المصفوفة بجوار الجدران والأرض غاصة بالحجاج والمتشردين؛ كثيرون منهم نائمون وهم جلوس لأنهم لم يجدوا فسحة للاضطجاع. الوقت منتصف الليل. وإذ يرتفع الستار يقصف الرعد ويومض البرق من الباب الخارجي. تيهون جالس أمام «البار». فيديا جالس على مصطبة وهو منحن نصف انحناءة يعزف بآلة «الكونسرتينا». بورتسوف جالس بجوار فيديا وهو مرتد لباساً صيفياً رثّاً. سافا ونازاوفنا ويفيموفنا مضطجعون على الأرض بجوار المصاطب).
(إلى نازاروفنا) أوكزى الشيخ المسكين يا أماه. أعتقد أنه ميت.

(ترفع طرف سترة سافا عن وجهه) أيها المسيحي الطيب.. هاي.. أيها المسيحي الطيب؛ أحيّ أنت أم ميت؟
لماذا ميت؟! إنني حيّ يا أماه. (ينهض قليلاً مستنداً على مرفقه) غطّي ساقيّ يا روحي الطيبة. نعم هكذا. إلى الجهة اليمنى قليلاً. نعم هكذا. بارك الله فيك.
(تغطي ساقي سافا) نم أيها الشيخ الطيب.
لا أمل لي في النوم. لو كان لي صبر لتحمل العذاب ما باليت بالنوم يا روحي الطيبة. لا يستحق المذنب أن يعيش في سلام. ما سبب هذه الضوضاء أيتها الحاجة الطيبة؟
بعث إلينا الله عاصفة. الرياح تعوي والمطر يفرقع ويفرقع. إنه ينقر على زجاج النافذة والسطح كالحصى. أتسمع؟ فتحت بوابات السماء. (رعد). الرحمن! الرحمن! الرحمن!
إنها ترعد وتزأر وتعوي وليس لهذا من نهاية. گوووو... كزئير الغابة.. گووو.. ووو.. الريح تعوي كالكلب. (يرتجف). الجو بارد.. وملابسي مبتلة... باستطاعتي أن أعصرها... الباب مفتوح (يعزف برقة).. ابتلت آلتي أيها المسيح الطيب.. لم يعد ممكناً العزف عليها، وإلا لانتزعت منها موسيقى تحلّق بكم.. فلنقل كوادريل، أو بولكا، أو أغنية روسية راقصة.. بوسعي أن أدبر كل ذلك. حينما كنت ساقياً في «الجراند هوتيل» لم أدخر نقوداً، لكنني تعلمت كل ما يمكن تعلمه على «الكونسرتينا». وبإمكاني أن أعزف على القيثار أيضاً.
(من الزاوية) مجنون.. وحديث مجنون.
ومن مجنون أسمع هذا الصوت. (صمت).
يجب أن تضطجع في مكان دافئ أيها الشيخ، وأن تدفئ قدميك المسكينتين. (صمت). أيها الشيخ، أيها المسيحي الطيب، أمحتضر أنت؟
خير لك أن تتناول جرعة الفودكا أيها الجد. اشرب فودكا، ستلهب معدتك قليلاً ثم يمتد مفعولها إلى قلبك.
لا تتكلم بنزق أيها الصبي. ربما كان الشيخ الآن في نزعه الأخير محاولاً أن يكفّر إلى الله عن ذنوبه، بينما تتحدث أنت عن هذه الأشياء وتعزف على «الكونسرتينا». دع الموسيقى الآن أيها الوقح.
ولماذا تلاحقينه بإزعاجك؟ إنه ليس في خير، وأنت.. يا لحماقة المرأة! إنه رجل قديس ولا يستطيع أن يواجهك بكلام خشن.. وأنت تستغلين هذا الظرف وقد سرّك إصغاؤه لحماقتك. نم أيها الجد. لا تصغ إليها. دعها تتحدث ولا تلق إليها بالاً. إن لسان المرأة خرطوم الشيطان. (يصفق يديه في جزع) ولكن ما أشد نحولك يا عزيزي. يا للفظاعة! أنت هيكل عظمي.. إنسان ميت! ليس فيك لحم حيّ.. أأنت تحتضر حقاً؟
أحتضر؟! ولأجل أي شيء؟ ادخر لي الله الموت في وقت آخر.. ستسوء صحتي قليلاً لكني سأتعافى من جديد بمعونته.. لن ترضى العذراء أن أموت في بلاد غريبة.. سأموت في وطني.
هل جئت من مكان بعيد؟
من فولوجدا. من المدينة نفسها... إنني عامل هناك.
وأين فولوجدا هذه؟
وراء موسكو.. إنها مدينة ريفية..
تت.. تت.. تت! لقد قطعت طريقاً طويلاً يا صاحب اللحية الكثة! أقطعت الطريق كله سيراً على قدميك؟
كله سيراً على الأقدام أيها الفتى. كنت في سان تيهون في زادونسك، وأنا قاصد الآن إلى الجبال المقدسة بمشيئة الله، ثم أذهب من هناك إلى أوديسا. يقال إنهم ينقلون المرء بسعر رخيص إلى القدس.. بأربعة وعشرين روبلاً كما قيل لي..
وهل كنت في موسكو؟
بالتأكيد، زرتها خمس مرات.
أهي مدينة حسنة؟ (يولع سيجارة) تستأهل الرؤية؟
فيها معابد كثيرة أيها الفتى. حيثما وجدت المعابد المقدسة وجد الخير.
(يتجه إلى «البار» ويخاطب تيهون) مرة أخرى أتوسل إليك.. أعدها لي بحق المسيح.
أهمّ شيء في المدن هو النظافة. إذا وجد الغبار رشّوا الشوارع بالمياه، وإذا وجد الطين أزالوه. وفيها بيوت شاهقة.. مسرح.. شرطة.. عربات. لقد عشت في المدن.. أنا أعرف هذه الأشياء.
قدح صغير آخر.. هذا القدح الصغير هنا. في وسعك أن تسجل الثمن.. أنت تعلم أنني سأدفع لك.
نحن نعرف كل شيء عن هذه الوعود...
هيا. أتوسل إليك. اصنع معي معروفاً.
امض لشأنك.
أنت لا تفهمني. أرجوك، افهم أيها البليد الجاهل. لو كان في رأسك الخشبي الفلاحي أوقية من المخ لأدركت أنني لست المطالب بهذا المعروف بل أعماقي هي المطالبة. ولأتكلم مثلك، مثل فلاح؛ إنه مرضي الذي يسألك هذا المعروف.. ينبغي أن تفهم ذلك.
لا شيء هناك يحتاج إلى فهم. امض لشأنك.
لماذا، إن لم أشرب جرعة هذه اللحظة -يجب أن تفهم- إن لم أطفئ غلتي فقد أرتكب عملاً فظيعاً. الله يعلم ما قد أقدم على فعله. لابد أنك رأيت الكثيرين من السكارى في خمارتك. من المؤكد أنك تستطيع أن تتصور بماذا يشعر أمثال هؤلاء الناس! لماذا، إنهم مرضى. بإمكانك أن تقيدهم، بإمكانك أن تضربهم، تطعنهم بخنجر لو وهبتهم قليلاً من الفودكا. اصنع معي معروفاً. إنني أذلّ نفسي. يا إلهي القدير، يا لها من مذلة.
أعطني نقوداً فأعطيك فودكا.
من أين أجلب لك نقوداً؟ ضاع كل شيء بسبب الشراب. لم يبق لي أي شيء. ماذا يمكن أن أعطيك؟ كل ملكيتي هو هذا المعطف الذي أرتديه. ليس بإمكاني إعطاؤك إياه. أنا لا أرتدي شيئاً تحته. أتحب أن تأخذ قبعتي؟ (يخلع قبعته ويناولها لتيهون).
(يفحص القبعة) احم.. هناك كثير من القبعات. إنها مثقبة كالمنخل.
(ضاحكاً) إنها قبعة سيد مهذب. قبعة يرتديها المرء ويخرج إلى الشارع ويخلعها للفتيات: «نهار سعيد.. نهار سعيد.. كيف حالك؟».
لن آخذها حتى لو أهديتها إليّ... نفايات قذرة.
لا تريدها؟ أعطني شيئاً من الشراب دَيناً إذن. سأمرّ عليك أثناء عودتي من المدينة وأدفع لك الكوبكات الخمسة. أرجو أن تقف في بلعومك. (يسعل) إنني أكرهك.
(يخبط «البار» بجمعه) ما الذي يدعوك إلى البقاء هنا إذن؟ أنشّال أنت أم ماذا؟ ما الغرض من وجودك هنا؟
أريد شراباً. لست أنا الذي أريد الشراب، بل مرضي يريده. ألا يمكنك أن تفهم؟
لا تهيج غضبي. ستجد نفسك ملقى على الرصيف في غمضة عين.
ما العمل؟! (يبتعد عن «البار») ما العمل؟! (يقف مفكراً).
الشيطان مسؤول عن هذه الرغبة. لا تكترث له أيها السيد فهو يحاول إغاظتك. إلعنه. إنه يظل يهمس في أذنك: «اشرب.. اشرب» لكنك يجب أن ترد عليه: «لا أريد شراباً.. لا أريد شراباً» فينخذل.
يخيل إليّ أن هناك مطرقة تخبط في رأسك وأن معدتك تقرصك. (يضحك) أنت إنسان مجنون يا صاحب السعادة؛ تعال واضطجع. لا يصح أن تظل واقفاً هناك كالناطور!
إخرس. لم يسألك أحد رأيك أيها الحمار.
فكّر بما تقول. أنا أعرف أمثالك. هناك كثيرون من صنفك يذرعون الطرق العامة. أما عن الحمير فانتظر ريثما أسدّد لأذنيك لكمة وستعوي أشد من عواء الريح. أنت الحمار. مجنون. أحمق. (صمت) نذل قذر.
ربما كان الرجل القديس يتمتم الآن صلاته مصعداً روحه إلى الله بينما هذان الكافران يحاولان تصيّد سبب للخصام ويتقاذفان كل أنواع الشتائم... أناس عديمو الحياء.
دعك من هذه الرطانة يا قمع الكرنب.. ما دمت في خمارة فلابد أن تكيّفي نفسك لأساليب الحانات.
ما الحل؟ ما العمل؟ كيف أتضرع إليه؟ أية كلمات يمكن أن تثير قلبه أكثر من هذه؟ (إلى تيهون) الدماء خمدت في عروقي. أيها العم تيهون (يبكي) أيها العم تيهون.
(يئن) الآلام تسري في ساقيّ كطلق ناري.. أيتها الحاجة الطيبة.. أيتها الأم الصغيرة..
ماذا بك أيها الشيخ الطيب؟
من هذا الباكي؟
إنه السيد.
سلي السيد أن يذرف دمعة من أجلي أيضاً كيما أموت في فولوجدا. الصلاة المرفقة بالدموع أدنى إلى الاستجابة.
لست مصلياً أيها الجد. ليست هذه دموعاً. لقد عصر قلبي فتدفقت منه الدماء. (يجلس بجوار قدمي سافا). الدماء. ولكنك لن تفهم. لا يمكنك أن تفهم هذا أيها الجد بإدراكك المظلم. إنكم تعيشون في الظلام.
وأين أولئك الذين يعيشون في النور؟
هناك من يعيش في النور أيها الجد. هناك من يستطيع أن يفهم.
صحيح، صحيح يا بني. القديسون يملكون النور. إنهم فهموا كل حزن. إنهم يفهمون بدون أن تحدثهم. إنهم يحدقون في عينيك ويفهمون. وإنك لتحس براحة عميقة لفهمهم لك فيبدو كما لو أن الحزن لا يثقل على قلبك. إنه يتلاشى كليّاً.
أفرأيت القديسين؟
أجل، رأيتهم أيها الفتى. هناك أنواع عديدة من البشر على الأرض. يوجد المخطئون ويوجد خدام الرب.
لست أفهم هذا. (ينهض بسرعة). لابد أن يكون للمرء إدراك ليفهم ما يقوله الآخرون، وإنني فاقد للإدراك الآن. ليس عندي الآن سوى غريزة ظمأى (يتجه مسرعاً نحو «البار»). تيهون، خذ معطفي. أفاهم أنت؟ (يتأهب لخلع معطفه) المعطف...
وماذا ترتدي تحته؟ (ينظر تحت معطف بورتسوف) جلدك العاري؟ لا تخلعه فلن أقبله.. لن أتحمل خطيئة على روحي..
(يدخل مريك)
(يخلع في صمت سترته ويبقى في صديريته. تتدلى فأس من حزامه) الناس جميعاً يبردون إلاّ الدب والإنسان الهارب من العدالة، فهم يشعرون بالحرارة دائماً، إنني غارق في العرق. (يضع الفأس على الأرض ويخلع صديريته). أنت مبتل بالعرق، وفي الوقت نفسه ما تكاد تقتلع إحدى قدميك من الوحل حتى تلتصق الأخرى.
هذا حق، قل لي أيها الصبي الطيب؛ هل انقطع المطر؟
(بعد أن يتأمل يفيموفنا) لست أضيع الكلمات مع النساء. (صمت).
(إلى تيهون) أنا أتحمل الخطيئة على عاتقي، أسامع أنت؟
لا أريد أن أسمع، اذهب.
الظلام حالك جداً كأن أحدهم طلى وجه السماء بالقير. ليس بقدرتك أن تبصر أنفك، والمطر يصفعك على وجهك كالثلج. (يلتقط ملابسه وفأسه).
إنه ملائم جداً لأمثالك السفلة. إنه يضطر الحيوان المفترس إلى الاحتماء بملجأ، ولكنه بالنسبة إليك أيها الشيطان يوم راحة.
من قال هذا الكلام؟
انظر فقط.. أحسب أنك لست أعمى.
لا بأس. سنلاحظ ذلك. (يتجه نحو تيهون) هالو أيها الوجه المنتفخ العجوز. ألا تعرفني؟
إذا كان لابد من أن أعرفكم جميعاً أيها السكارى المتجولين في الطرق العامة لاحتجت إلى دستة من العيون على الأقل.
تمعن فيّ جيداً. (صمت).
حسناً. أعترف أنني عرفتك. عرفتك من عينيك. (يمد إليه يده) أندريه بوليكاربوف؟
أي جواز يبعث به الله إليّ فهو يحمل اسمي. أصبحت «مريك» منذ ما يقرب من شهرين. (رعد). رر_ رر_ رر.. أرعدي ما شئت فلست خائفاً. (يتطلع حواليه) ألا يوجد هنا متعطش للدماء؟
متعطشون للدماء حقاً!.. بعوض وبرغش لا أكثر. أراهن أن المتعطشين للدماء يشخرون في أفرشتهم الريشية الآن. (بصوت مرتفع) أيها المسيحيون الطيبون، احترسوا لأنفسكم وحافظوا على جيوبكم وملابسكم إن كانت تهمكم. إنه شخص بارع. سينهبكم.
فليحترسوا لنقودهم، إن كان لديهم نقود، لكنني لن أمسّ الملابس. لا حاجة لي بها.
إلى أين يقودك الشيطان؟
إلى كوبان.
إلى كوبان؟ حقاً؟ (يجلس) إنه مكان جميل. قد تنام ثلاث سنوات ولا يحدث أن تحلم بمكان أجمل. إنه واسع جداً. يقال إنه لا نهاية لما حواليه من طيور. ويعيش الناس فيه كالأصدقاء، وتوجد مساحات واسعة من الأرض لا يدري الناس ماذا يصنعون بها. ويقال إن الحكومة -حدثني جندي في اليوم السابق- تمنح الشخص الواحد ثلاثمائة فدان. هذا هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان سعيداً، فليسقطني الله ميتاً.
سعيداً.. السعادة وراءك دائماً.. ليس في الإمكان رؤيتها.. إذا استطعت أن تعضّ مرفقك يوماً أمكنك أن ترى السعادة... الأمر كله حماقة. (يتطلع حواليه إلى المصاطب والناس). المكان كأحد ملاجئ المجرمين. مساء الخير أيها المساكين.
(إلى مريك) إن لك عينين خبيثتين جداً. الشر كامن فيك أيها الصبي. لا تنظر إلينا.
مساء الخير أيها المساكين.
استدر بعيداً. (تلكز سافا)، يا عزيزي سافا، الرجل الشرير يتطلع إلينا. إنه سيصيبك بشرّه (إلى مريك) قلت لك استدر بعيداً أيها الثعبان.
إنه لن يمسنا بأذى يا أماه. لن يمسنا. سيحمينا الله.
مساء الخير أيها المسيحيون الطيبون. (يهز كتفيه) إنهم لا يقولون شيئاً. لستم نياماً. أأنتم نيام أيها المتسولون البلداء؟
أبعد عينيك الشريرتين عنا. أبعد كبرياءك الشيطانية عنا...
أمسكي لسانك أيتها العجوز الشمطاء. إنه لم يكن كبرياء شيطانياً. وددت أن أحيي جمعكم المنهوك بكلمات رؤوفة شفوقة. أنتم متزاحمون كالذباب في البرد. شعرت بالأسف عليكم، وأحببت أن أقول كلمة رقيقة لأحييكم في بؤسكم، وأنتم تحولون عني وجوهكم القبيحة. حسناً. لست أبالي بهذا. (يتجه نحو فيديا) من أين قدمت؟
أنا من هذه الجهات، من ميادين هامونيفسكي.
انهض.
(معتدلاً في جلسته) حسناً؟
قف. قف تماماً. أريد أن أضطجع هنا.
اسمع... أهو مكانك؟
أجل... اذهب واضطجع على الأرض.
امض في سبيلك... لست خائفاً منك.
أنت صبي ذكي.. هيا، قم، لا تثرثر. ستندم على ذلك أيها الأحمق.
(إلى فيديا) لا تغضبه أيها الفتى... لا بأس.
أي حق لك في هذا؟ أنت تنقّل عينيك ككلب البحر وتحسبني خائفاً منك. (يجمع حوائجه ويذهب ويضطجع على الأرض) الشيطان. (ينام ويغطي رأسه).
(يمهد فراشه على المصطبة) لاشك أنك لم تر الشيطان إن دعوتني بهذا. الشياطين لا يشبهونني. (يضطجع ويضع فأسه بحواره). اضطجعي هناك أيتها الفأس، يا ابنتي. دعيني أغطي مقبضك. لقد سرقتها، وهأنذا أتحدث عنها كما يتحدث أحمق عن لعبة. إنني آسف إذ أرميها بعيداً، وليس هناك مكان أضعها فيه... كزوجة سئمها زوجها... أجل... (يغطي نفسه جيداً) الشياطين لا يشبهونني أيها الفتى.
(يخرج رأسه من تحت سترته) ماذا يشبهون إذن؟
إنهم يشبهون البخار، الروح، تنفخ هكذا (ينفخ)، إنهم مثل هذا. ليس في استطاعتك رؤيتهم.
(من الزاوية) إذا جلست تحت زحافة فستراهم.
جلست تحت زحافة ولم أرهم. النساء يتكلمن كلاماً فارغاً. وكذلك يفعل الفلاحون الأغبياء. ليس في إمكانك أن ترى شيطاناً ولا غول الغابة ولا شبحاً.. إن عيوننا لم تصنع لترى كل شيء. كنت أتوغل في الغابة أثناء الليل، عندما كنت صغيراً، لأرى غول الغابة. وأصرخ وأصرخ بأعلى صوتي، وأدعو غول الغابة دون أن تطرف عيني. وكان يبدو لي أنني أرى نوعاً من الكلام الفارغ، لكنني لم أر غول الغابة. كنت معتاداً أن أقصد ساحة الكنيسة ليلاً. كنت أريد أن أرى شبحاً. هذه كلها خرافات عجائز. رأيت جميع أنواع الحيوانات الوحشية، لكنني لم أر أي شيء من ذلك النوع، وأعتقد أنه كلام فارغ. العين لم تصنع لرؤية تلك الأشياء.
(من الزاوية) لا تقل هذا... قد يحدث أحياناً أن يرى الإنسان بعض الأشياء... كان أحد الفلاحين في قريتنا يقطع خنزيراً، ولما شق بطنه قفز منها شيء.
(يجلس) أيها الفتيان، لا تتحدثوا عن الشر. إنها لخطيئة يا أعزائي.
أهّا..! اللحية الرمادية، الهيكل العظمي. (يضحك). لا حاجة بنا إلى الذهاب إلى فناء الكنيسة لرؤية الأشباح، فستزحف نحونا من الأرض لتعظنا... خطيئة! وما شأنك لتعظنا بتصوراتك الحمقاء! أنتم أناس جهلاء تعيشون في الظلام. (يولع غليوناً). كان والدي فلاحاً. وكان مغرماً بالوعظ أحياناً. وذات يوم سرق كيس تفاح من الكاهن وجلبه إلينا وقال: حاذروا أيها الأطفال أن يمس أحدكم تفاحة قبل يوم تبريك التفاح في الكنيسة، إن ذلك خطيئة. الأمر ينطبق على هذه القصة تماماً، فيجب ألا يذكر الإنسان الشيطان، مع أنه قد يلاعبه. ومثال ذلك أيضاً هذه العجوز الشمطاء. (يشير إلى يفيموفنا). إنها تتحدث عن الشر وتحس أنه ينبع من داخلي، مع أنني أراهن أنها وهبت نفسها للشيطان نصف دستة من المرات على الأقل في أيامها بحماقاتها النسوية!
أوف... أوف... أوف... رحماك اللهم... (تخفي وجهها بين يديها) سافا، عزيزي.
لماذا تخيفهم؟ إنها لطريقة طريفة تسلي بها نفسك. (يصطفق الباب بالريح) يا إلهي، الطف بناء. يالها من ريح مخيفة!
(يتمطى) أريد أن أختبر قوتي (يصطفق الباب بالريح)، أن أتصارع مع الريح... تلك الريح إنها لا تستطيع خلع الباب، لكنني أستطيع أن أمحو الحانة لو شئت. (ينهض ثم يضطجع ثانية) أنا كئيب جداً.
صلّ أيها الكسول. ما الجدوى من التقلب على الجانبين؟!
لا تلمسيه... لا تضايقيه. إنه ينظر إلينا ثانية. (إلى مريك) لا تنظر إلينا أيها الشرير... عيناه... عيناه كعيني إبليس قبل صلاة السحر.
دعيه ينظر أنىّ شاء أيتها الحاجة، اتلي صلاتك، ولن تمسك العين الشريرة.
كلا. لا أستطيع احتمال ذلك. إنه كثير جداً (يتجه إلى «البار») اسمع يا تيهون. للمرة الأخيرة، أتوسل إليك... نصف قدح.
(يهز رأسه) فلوس.
يا إلهي إنني أخبرتك من قبل. أنا فقدت كل شيء بسبب الشراب. من أين أعطيك نقوداً؟ من المؤكد أنك لن تتضرر إن أعطيتني جرعة من الفودكا دَيناً. الفودكا لا يكلفك أكثر من «كوبر» لكنه سينتشلني من العذاب. إني أتخبط في العذاب. إنها ليست نزوة، بل عذاب. أرجوك، افهم.
قل هذا الكلام لشخص آخر غيري... اذهب وتسول من الناس الطيبين هنا، فليدعوك للشراب حباً بالمسيح، أما أنا فلا أحسن إلى المتسوّلين إلا بالخبز!.
أنت قد تسلب هؤلاء المساكين، ولكن أنا؛ كلا، أشكرك. أنا لست ممن ينهبهم. لست من هذا النوع. أفاهم أنت؟ (يخبط «البار» بجمعه) لست من هذا النوع. (صمت). احم... انتظر لحظة... (يستدير نحو الججاج)... تلك فكرة... أيها الناس الطيبون... أليس فيكم من يمنحني «كوبراً»؟ أعماقي تتلظى للشراب. إنني مريض.
شيء آخر... أيها النذل... أظن أنك لا تهتم بالماء؟
كم أذل نفسي! كم أذل نفسي! لست أريد شيئاً. أنا لا أريد أي شيء. كتنت أمزح.
لن تستطيع أن تنتزع منه شيئاً أيها السيد. الجميع يعلمون أنه بخيل... انتظر لحظة... عندي «كوبر» في مكان ما. (يبحث في جيوبه) عليه اللعنة.. هل فقدته في مكان ما؟ حسبت أنني سمعت خشخشة في جيبي البارحة... كلا، ليس لديّ أيها الصديق.. إنه حظك السيّء.. (صمت).
لابد أن أحصل على شراب، وإلا فسأرتكب عملاً وحشياً، أو أنتحر!... يا إلهي، ما العمل؟ هل أذهب؟ أخرج في الظلام وأمضي إلى حيث يقودني الحظ؟!...
لماذا لا تهدّئونه بعظة؟ وأنت يا تيهون، لماذا ترغمه على الخروج؟ إنه دفع لك أجرة ليلته، ألم يدفع لك؟ لماذا تطرده؟ الناس قساة هذه الأيام. إنهم مجردون من الرحمة والشفقة. الناس وحوش، إذا رأوا رجلاً يغرق صاحوا: «أسرع بالغوص فليس لدينا وقت للتفرج عليك... وراءنا عمل»... أما أن يلقوا إليه حبلاً فلا أمل في ذلك. الحب يكلف نقوداً.
لا تتعجل الحكم على الناس أيها الرجل الطيب.
اخرس أيها الذئب العجوز. أنتم قوم قساة. يهود. هيروديون. (إلى تيهون) تعال هنا. اخلع حذائي... انتبه جيداً.
اسمع، هل ستحصل له على الشراب؟ (يضحك) أنت مخيف.
قلت لك تعال هنا. انتبه جيداً. (صمت) ألا تسمع؟ أتراني أخاطب الجدران؟ (ينهض).
هيا، هيا، يكفي هذا.
أريد أن تخلع لي حذائي يا مصاص الدماء وإن كنت متشرداً وشحاذاً.
هيا، هيا، تعال واشرب كأساً... تعال وخذ شراباً.
أيها الناس الطيبون؛ ماذ أريد؟ أسألته أن يدعوني إلى الشراب أم أن يخلع حذائي؟ ألم أتكلم بوضوح؟ ألم أقل شيئاً واضحاً؟ (إلى تيهون) أظن أنك لم تسمعني؟ سأنتظر دقيقة أخرى فربما سمعت.
(يسود الانفعال بين الحجاج والموجودين. ينهضون وينظرون إلى تيهون ومريك في توقع صامت).
إنها ريح خبيثة تلك التي ساقتك إلى هنا. (يخرج من وراء «البار») سيد لطيف حقاً... هيا، أين هما؟ (يخلع حذائي مريك) أنت يا نسل قابيل...
حسناً، ضعهما جنباً إلى جنب.. هذا حسن.. بوسعك أن تمضي.
(بعد أن يخلع حذائي مريك يعود إلى موضعه وراء «البار») أنت مغرم جداً بالعظمة. أرني شيئاً آخر من عظمتك وستطير خارج الباب بغمضة عين. أجل. (إلى بورتسوف الذي يدنو منه) أأنت ثانية؟
أنت ترى... ربما كان في إمكاني إعطاؤك شيئاً ذا قيمة... إذا شئت سأ...
لماذا تتمتم؟ تكلم بوضوح...
إنها لقذارة ووضاعة مني، ولكني لا حيلة لي في ذلك. لست مسؤولاً عن ارتكاب هذه الفعلة. سأبرأ لو حوكمت عليها... خذها بشرط أن تسمح لي باستعادتها لدى عودتي من المدينة... سأعطيها لك أمام الشهود... أيها الأصدقاء، ستكونون شهوداً. (يخرج علبة ذهبية من جيب الصدر) ها هي ذي. كان الواجب عليّ انتزاع الصورة منها، ولكنني مبتلّ كلياً، وليس لديّ مكان أخبئها فيه... حسناً، خذها مع الصورة على أن تحاذر مسها بأصابعك... من فضلك، كنت فظاً معك يا عزيزي... كنت أحمقاً، لكنك يجب أن تسامحني و... لا تمسها... لا أريد أن تنظر إليها عيناك... (يناول تيهون علبة ذهبية ذات قلادة ذهبية).
(يفحص العلبة) ساعة مسروقة. حسناً، لا بأس. خذ كأساً. (يصب فودكا في قدح)... ابلعها...
لا تمسها بأصابعك... (يشرب ببطء، مع فترات تشنجية).
(يفتح العلبة) احم... سيدة... من أين حصلت عليها؟
أرني... (ينهض متجهاً إلى «البار») دعني ألقي نظرة.
(ينحي يدي مريك) إلى أين تسحبها؟ انظر إليها وأنا ممسك بها.
(ينهض ويقصد إلى تيهون) دعني ألقي نظرة أيضاً.
(حجاج وعابرون يتزاحمون حول «البار»).
(يقبض على يد تيهون الممسكة بالعلبة بشدة، ويحدق في الصورة صامتاً. (فترة صمت) جميلة هذه الشيطانة... سيدة!
سيدة! بوسعك أن تدرك ذلك من الوجنتين والعينين... نحّي يديك قليلاً... لا أستطيع رؤية شيء... الشعر يتدلى إلى الخصر!... كما لو كانت حية!... إنها توشك أن تتكلم. (صمت).
إنها لخراب محقق لرجل ضعيف. إذا ارتبطت بامرأة كهذه (يهز يده) ففي ذلك نهايتك.
(صوت كوزما: «و و و...! كفّوا أيها الوحوش الميتة!» يدخل كوزما).
(داخلاً) إذا اعترضت الطريق حانة فلا مجال لاجتنابها. قد تمر بأبيك في ضوء النهار ولا تراه، ولكنك ترى الحانة في الظلام وهي على بعد مائة ميل. افسحوا الطريق إن كنتم مسيحيين طيبين. هاي... أنت، هناك... (ينقر بكوبر على «البار») كأس من الماديرا الحقيقية. انتبه جيداً.
إنه شيطان فائر.
لا تلوّح بذراعيك. ستقلب شيئاً.
هذه هي فائدة الذراعين... لكي نلوّح بهما... أنتم خائفون من المطر أيها المرفهون أحسب أنكم مصنوعون من سكر. (يشرب).
يحق للإنسان أن يخاف إذا هاجمته ليلة كهذه وهو في الطريق. شكراً لله، إننا آمنون جميعاً. هناك قرى وبيوت كثيرة على الطرق يستطيع الإنسان أن يجد فيها ملجأ من الجو. ولكن من المفزع أن يفكر الإنسان بما كان عليه الحال في الأزمان الغابرة. قد تسير مئات الأميال ولا ترى قطعة خشب، ناهيك عن القرى أو البيوت. كان لابد من الرقاد في عرض الطريق...
أكنت تتجولين حول العالم زمناً طويلاً أيتها الفتاة العجوز؟
إنني مقبلة على الثمانين.
ثمانون عاماً. سيصبح لك بعد قليل عمر نهر. (ينظر إلى بورتسوف) وأي صنف من الأسماك الغريبة هذا؟ (يتأمل بورتسوف بدقة) سيدي!
(يعرف بورتسوف كوزما فيجتاحه الارتباك، يتراجع إلى إحدى الزوايا ويجلس على مصطبة).
سيميون سرجيفتش. أيمكن أن تكون أنت؟ آه؟! كيف حدث أن تأتي إلى هذه الحانة؟! هذا المكان لا يليق بك.
أمسك لسانك.
(إلى كوزما) من يكون؟
ضحية تعسة. (يسير بعصبية رواحاً وجيئة بجوار «البار») في خمارة؟! حسناً، مطلقاً. في خرق..؟! ... سكران؟!... إنه لأمر يثير انزعاجي الشديد أيها الأصدقاء... إنه يربك عقلي... (إلى مريك في نصف همس) إنه سيدنا، ملاّكنا، سيمون سيرجيفتش، السيد بورتسوف... أنت ترى في أي حال هو! ماذا يشبه الآن؟ انظر إلى أي حد ينحدر السكر بالإنسان.. املأ كأسي. (يشرب)... إنني من قريته، بورتسوفكا، ربما سمعت بها، على بعد مائة وخمسين ميلاً من هنا... في منطقة يرگوفسكي... كنا عبيد أبيه... إنه لأمر مؤسف.
أكان ثرياً؟
رجلاً خطيراً.
بدد أموال أبيه؟
كلا، إنه نصيبه المحتوم يا سيدي العزيز. كان سيداً عظيماً، غنياً، عاقلاً، (إلى تيهون) أراهن أنك كنت تراه أحياناً في عربته ذاهباً إلى المدينة؛ خيل بديعة وعربة ذات نوابض... كل شيء من الصنف الأول. اعتاد أن يحتفظ بخمسة خيول يا ولدي... أذكر أنه كان قبل خمسة أعوام سائراً بجوار معبر ميكيشكيني، وألقى للرجل روبلاً بدلاً من كوبر وقال: ليس لدي وقت لانتظار البقية... خذ...
أظن أنه جن؟
يبدو أنه في كامل قواه العقلية.. أصل مصيبته إفراطه في الشراب. ولكن مرجع المسألة إلى امرأة... أحب المسكين امرأة من المدينة... واعتقد أنها لا نظير لها في العالم... وقع في غرام غراب، وهي أجمل من صقر! كانت فتاة من أسرة طيبة. لم تكن إحدى بنات الطبقة المنحطة، أو أي شيء من هذا القبيل، لكنها.. كانت طائشة فقط.. تضحك وتضحك دائماً.. بدون عقل!... الناس يحبون هذا الصنف من النساء... إنهم يعتقدون أن تلك الفتاة ذكية. لكن الفلاحين يطردون مثل تلك الفتاة الطائشة خارج بيوتهم... حسناً، وقع في غرامها وقضي أمره. كان يسرف في العناية بها، هذا وذاك، شاي وسكر. وكانا ينفقان الليلة كلها أحياناً في قارب، أو في العزف على «البيانو»..
لا تتحدث عنها يا كوزما. ما الفائدة؟ ماذا يهمهم أمر حياتي؟!
معذرة يا صاحب السعادة. لم أقل شيئاً كثيراً... قلت لهم أشياء بسيطة، ذلك كل شيء. لم أستطع مقاومة رغبتي في الكلام، فقد انزعجت أشد الانزعاج... انزعاجاً فظيعاً...! املأ كأسي (يشرب).
(في نصف همس) وهل أحبته؟
(في نصف همس يتحول تدريجياً إلى كلام اعتيادي) أعتقد أنها أحبته. لم يكن سيداً قليل الشأن. إنك لابد أن تحب شخصاً يملك ثلاثة آلاف فدان ونقوداً لا يمكنه عدّها. كان مبجلاً، محترماً، رزيناً.. كان يصافح جميع رجال الحكومة، مثلي ومثلك الآن بالضبط، (يتناول يد مريك) مع «نهار طيب» و«في أمان الله» و«أهلاً وسهلاً»... حسناً، ذات أمسية كنت أتمشى في الحديقة... كان هناك أميال من الحدائق... كنت أتمشى بهدوء... ولمحتهما جالسين على إحدى مصاطب الحديقة وهما يتبادلان القبلات (ينطق صوت قبلة) منحها قبلة، وهي -الأفعى- منحته قبلتين، وتناول يدها البيضاء فتورد وجهها والتصقت به. وقالت: «أحبك يا سنيا». فاندفع سنيا، كما لو كان قد جن، وراح يوزع الروبلات على الناس، روبلاً لهذا، وروبلين لذاك، ووزع مبلغاً يكفي لشراء حصان... وعفى عن جميع مدينيه في غمرة سروره...
لماذا تواصل حكاية القصة؟ ليس لهؤلاء الناس إحساس... إنه لأمر مؤلم كما تعلم...
لم أقل شيئاً كثيراً يا سيدي... إنهم يلحون في السؤال... لماذا لا أحدثهم بشيء قليل؟ هيا، هيا، لن أحدثهم بشيء بعد أن أزعجك ذلك. لن أحدثهم. لن أهتم لأسئلتهم.
(يسمع صوت عربة البريد).
لا تصرخ... تكلم بهدوء.
كنت أتكلم بهدوء. ولكنه يريد أن أمتنع عن حكاية قصته، فلم يعد في الاستطاعة عمل شيء. والحقيقة أنه لم يتبق ما يمكن قوله... لقد تزوجا... ذلك كل ما في المسألة... لم يتبق شيء آخر غير هذا... املأ كأسي. (يشرب) أنا لا أحب السكر. وحالما جلس علية القوم لتناول طعام الغداء على مائدته فرّت في عربة (في همس) إلى المدينة... إلى محام كان عشيقها... آه، ما قولكم في هذا؟ في تلك اللحظة بالضبط... لماذا، لاشك أن القتل جزاؤها العادل.
وماذا جرى له؟
فقد صوابه.. كما ترى. بدأ يشرب قطرة، ثم تحولت القطرة إلى سطل... قطرة أولاً، ثم زجاجات... وما زال يحبها... تصوروا، يحبها!... لابد أنه الآن في طريقه إلى المدينة ليحاول التزود بنظرة منها... يتزود بنظرة ثم يعود راجعاً مرة أخرى...
(تقدم العربة إلى الحانة. يدخل عامل البريد ويشرب قدحاً).
البريد متأخر اليوم.
(يدفع عامل البريد ثمن كأسه وهو صامت ويخرج. تبتعد عربة البريد وأجراسها تصلصل).
(من الزاوية) إنه لجو ملائم لنهب عربة البريد. سيكون ذلك أمراً ميسوراً.
عشت في هذه الدنيا خمساً وثلاثين سنة ولم أنهب البريد يوماً. (صمت). والآن، ذهبت. فات الأوان... فات الأوان...
أفتشتهي استنشاق هواء السجن؟
كثير من الناس ينهبون البريد دون أن يسجنوا. وماذا لو أدى الأمر إلى السجن؟ (بلهجة موجزة) وماذا جرى فيما بعد؟
تعني للسيد المسكين؟
ومن سواه؟
المسألة الأخرى هي كيف انحدر إلى هذا الخراب. إن زوج أخته مسؤول عن ذلك. كان هذا مغرماً بالاستدانة. فكر في ضمان أعمال زوج أخته بتخصيص رأسمال قدره ثلاثون ألف روبل. كان هذا مغرماً بالاقتراض. كان يعلم كيف يغمس خبزه بالزبد. لم يحرك شعرة أبداً، الخنزير... يقترض، ولا يكلف نفسه مؤونة إعادة المال. وهكذا اضطر سيدنا أن يدفع الثلاثين ألف كلها... (يتنهد) لابد أن يجني الأحمق ثمرة حماقته. أصبح لزوجته أطفال من المحامي، وقد اشترى زوج أخته مقاطعة قرب بولتافا، أما هو فيتجول في الحانات كالمجنون، شاكياً للفلاحين أمثالنا: «فقدت إيماني أيها الفتيان... لا يمكنني أن أؤمن بشيء الآن». إنني أسمي هذا «ضعف الإرادة». لكل إنسان أحزانه، وقد تخز البعض في قلبه، لكن ذلك لا يدعو إل الانغمار في الشراب. خذ قسيس الكنيسة في قريتنا الآن؛ إن زوجته تخونه مع المدرس علانية، لكنه يتجول في القرية وثغره يحمل ابتسامة حقيرة... وإن كان وجهه قد نحل قليلاً...
(يتنهد) يتحمل الرجال متاعبهم، كل حسب ما وهبه الله من صبر.
لكن الناس يختلفون في احتمالهم، هذا أكيد. حسناً، كم الحساب؟ (يدفع حسابه لتيهون) خذ نقودي التي كسبتها بالعمل المضني. الوداع أيها الفتيان. أتمنى لكم ليلة سعيدة وأحلاماً مبهجة. يجب أن أركض... تأخر الوقت... إنني ذاهب لإحضار القابلة من المستشفى لسيدتي... لاشك أنها سئمت الانتظار، المسكينة العزيزة. (مهرولاً).
(بعد فترة صمت) هاي... أنت... ما اسمك؟ خذ شراباً أيها المسكين.
(يدنو من «البار» ويشرب) وهكذا أصبحت مديناً لك بكأسين.
إنهما لا شيء. أغرق أحزانك في الشراب.
خذ كأساً على حسابي أيضاً. (يلقي كوبراً على «البار») ستموت إذا شربت، وتموت إن لم تشرب. إنه لأمر حسن أن تمتنع عن الشراب، ولكن الفودكا تنعش القلب قسماً بالله. ولا يعود الحزن حزناًً إذا سكرت... ابتلعها.
تفو، إنها ساخنة.
(إلى تيهون) هاتها. (يأخذ العلبة من تيهون ويتمعن في الصورة) احم... تفر في يوم زواجها.. يالها من امرأة!
(من الزاوية) صب له كأساً على حسابي أيضاً يا تيهون.
(يخبط العلبة بالأرض في عنف) عليها اللعنة.
(يمضي مسرعاً إلى موضعه ويضطجع ووجهه إلى الجدار).
(توتر).
ما هذا؟ ما معنى ذلك؟ (يلتقط العلبة) كيف تجرؤ أيها الوحش؟ أي حق لك أن تفعل هذا؟ (بصوت باك) أنت تريد أن أقتلك، أليس كذلك؟ أنت أيها الفلاح الجاهل...
لا تغضب يا سيدي... إنها ليست مصنوعة من زجاج.. إنها لم تتحطم... خذ كأساً آخر، ثم اذهب ونم. (يملأ له قدحاً آخر) ظللت أستمع إليك هنا، وقد حان موعد إغلاق الحانة (يتجه إلى الباب الخارجية ويغلقها).
(يشرب) كيف تجرؤ؟! يا لك من أحمق! (إلى مريك) أتعلم أنك مجنون، حمار؟
أيها الأصدقاء الطيبون، اضبطوا ألسنتكم. ما الجدوى من إثارة الضجة؟ دعوا الناس ينامون.
اضطجع... اضطجع.. يكفي هذا. (يتجه خلف «البار» ويقفل درج النقود) حان موعد النوم.
أجل حان. (يضطجع) ليلتكم سعيدة أيها الأصدقاء.
(ينهض وينشر سترته على المصطبة) تعال وارقد هنا يا سيدي.
وأين تضطجع أنت؟
في أي مكان... على الأرض. (ينشر صديريته على الأرض) الأمر سواء لدي. (يضع فأسه بجواره) سيكون الأمر مؤلماً له أن ينام على الأرض، فهو معتاد على الحرير وريش النعام.
(إلى بورتسوف) نم يا صاحب السعادة. حدقت في الصورة وقتاً كافياً. (يطفئ الشمعة) دعها.
(مترنحاً) أين أرقد؟
في مكان المتشرد. ألم تسمع؟ إنه قدمه إليك.
أنا... أنا... سكران... هذا هو. أأنام هنا؟
أجل، أجل. لا تخش شيئاً. نم. (يتمدد على «البار»).
(مضطجعاً) إنني سكران... كل شيء يدور... (يفتح العلبة) ألديك قطعة من الشمع؟ (صمت). أنت فتاة غريبة الأطوار يا ماشا... تنظرين إليّ من وراء الإطار وتضحكين... (يضحك)... سكران... ينبغي ألا تضحكي على سكران... تحتقرين كل شيء كما يقول شاستيلفتش... وتحبين رجلاً سكيراً.
ما أشد عواء الريح! إنها مخيفة!
(يضحك) يا لك من فتاة! كيف تقدرين أن تدوري هكذا؟! ليس في الإمكان إمساكك.
إنه يحلم. إنه يواصل التحديق في الصورة. (يضحك). إنه لأمر عجيب... اخترع أولئك الناس الحاذقون مكائن وأدوية من جميع الأنواع، ومع ذلك فلم يكن لأحدهم من الحذق ما يكفي لاختراع دواء ضد الجنس الأنثوي... إنهم يحاولون علاج جميع الأمراض، وكأنهم لا يدركون أن النساء تفتك بالرجال أكثر مما تفتك بهم الأمراض... ماكرات، جشعات، ليس فيهن رحمة ولا عقل... الأمهات يحلن حياة زوجات أبنائهن إلى جحيم، والزوجات لا يشغلهن شيء سوى التفكير في الوسيلة التي يخدعن بها أزواجهن... ولا نهاية لذلك!
سحب النساء عرف الديك، وهو ينتفن ريشه!
أنا لست الوحيد... من أمد بعيد جداً، منذ أو وجدت الخليقة، ظل الرجال يتعذبون... المرأة لم تقرن بالشيطان في الأغاني والحكايات بدون سبب.. لم تقرن عبثاً... نسبة الصحة في المسألة أكثر من النصف على أية حال... (صمت). ها هو السيد هنا يمثل دور المجنون. وأنا لم أترك أمي وأبي وأصبح متشرداً لحكمة ما...
أكان سبب ذلك النساء؟
كما هو حال هذا السيد تماماً. أصبحت كالمسحور. وتباهيت بسعادتي ليلاً ونهاراً. ثم جاء الوقت الذي فتحت فيه عيني... إنه لم يكن غراماً، بل خداعاً لا غير...
ماذا فعلت لها؟
ليس هذا من شأنك. (صمت). قتلتها. أتظن ذلك؟ أخفقت يداي... المرء لا يقتلهن بل إنه ليشفق عليهن... يعيش ويصبح... سعيداً! آه، لو أنك لا تتخايلين لعينيّ وأن بقدرتي أن أنساك... أفعى بين الحشاش. (قرع على الباب).
من هناك بحق الشيطان؟ من؟ (قرع) من الطارق؟ (ينهض متجهاً نحو الباب) من الطارق؟ امض في طريقك... أغلقنا الحانة...
(وراء الباب) دعني أدخل يا تيهون لخاطر الله. كسر أحد النوابض في العربة. ساعدني. كن أبا لي. باستطاعتنا أن نصل إلى المنزل بطريقة ما لو كان لدينا قطعة من الحبل نربطه بها.
من هذا؟
(وراء الباب) سيدتي مسافرة من المدينة إلى فارسونوفيفو... لم يتبق أمامنا سوى أربعة أميال. ساعدني، لخاطر الله...
قل لسيدتك أننا سنعطيها حبلاً ونصلح النابض إذا أعطتنا عشرة روبلات.
(وراء الباب) أجننت؟ عشرة روبلات لقطعة من الحبل؟ أيها الكلب المجنون، إنك تبتهج بمتاعب الآخرين.
أنت أدرى... لست مرغماً على إعطائها إن لم تكن راغباً في ذلك.
(وراء الباب) حسناً، انتظر قليلاً إذن. (صمت). تقول سيدتي: لا بأس.
ادخل إذن. (يفتح الباب فيدخل دنيس).
أسعدتم مساء أيها المسيحيون الطيبون. خذ، أعطني الحبل، أسرع. أسرع. أيها الفتيان؛ من سيمد إلينا يد المساعدة؟ سيكون لكم شيئاً.
لا حاجة بنا إلى المساعدة. دعهم نياماً. سنتدبر الأمر معاً.
أوف.. أنهكت. أنا بردان، موحل، وليس هناك خيط جاف واحد على جسدي. أمر آخر أيها الرجل الطيب، ألديك غرفة تتدفأ فيها سيدتي؟ ليس في الإمكان أن تبقى في العربة.
أتريد غرفة أيضاً؟ دعها تتدفأ هنا إن كانت بردانة... سنجد غرفة لها! (يتجه إلى بورتسوف ويمهد المكان بجواره) انهض، انهض، في وسعك أن ترقد على الأرض لساعة واحدة فقط بينما تتدفأ السيدة. (إلى بورتسوف) انهض يا صاحب السعادة. اجلس قليلاً. (يجلس بورتسوف) هاك مكاناً لك.
(يخرج دنيس).
ها هو ذا زائر جديد الآن، فليكتسحها الطاعون. لن نستطيع النوم حتى الصباح.
من المؤسف أنني لم أطلب خمسة عشر روبلاً، فلا شك أنها كانت ستقبل بدون تردد. (يقف في الباب في هيئة المترقب).. وينبغي أن تحسنوا السلوك جميعاً.. بدون كلمات خشنة...
(تدخل ماريا يگوروفنا ووراءها دنيس. ينحني تيهون).
تفضلي يا صاحبة السعادة. مكاننا لا يناسب سوى الفلاحين الفقراء والخنافس. لا تحتقريه.
لا أستطيع رؤية شيء... إلى أين أسير؟
من هذا الطريق يا صاحبة السعادة. (يقودها ليجلسها بجوار بورتسوف). أرجو أن تسامحيني فليس لدي غرفة منفصلة. ولكن لا تقلقي يا سيدتي فهم قوم طيبون هادئون.
(تجلس بجوار بورتسوف) يا له من مكان خانق! كان في إمكانك أن تفتح الباب على الأقل.
أجل يا سيدتي. (يهرول إلى الباب ويفتحها على مصراعيها).
الناس بردانون وهم يفتحون الأبواب. (ينهض ويصفق الباب) من تكون لتصدر الأوامر؟! (يضطجع).
معذرة يا صاحبة السعادة... إنه إنسان بسيط... متأثر قليلاً... ولكن لا تجزعي.. لن يؤذيك.. ولكن عفواً يا سيدتي، فأنا لم أوافق على عشرة روبلات، بل على خمسة عشر روبلاً إذا شئت.
حسناً، أسرع فقط.
حالاً. سنصلحه في غمضة عين. (يخرج حبلاً من تحت «البار») هذه الدقيقة... (صمت).
(يحدق في وجه ماريا يگوروفنا) ماريا... ماشا...
(تنظر إلى بورتسوف) وماذا بعد؟!
ماري... أهو أنت؟ من أين قدمت؟
(تتبين ماريا يگوروفنا بورتسوف فتطلق صرخة جزع، وتندفع بعيداً عنه إلى وسط الغرفة).
(يتبعها) ماري... إنه أنا... إنه أنا... (يضحك) زوجتي، ماري. ولكن أين أنا؟ فليشعل أحدهم شمعة.
ابتعد... أنت تكذب... إنه ليس أنت... هذا مستحيل.. (تخفي وجهها بين يديها) إنها أكذوبة.. إنها سخافة..
صوتها... حركاتها... ماري، إنه أنا، لن أكون بعد الآن... سكيراً... دقيقة... رأسي يدور.. يا إلهي... انتظر قليلاً... لا أستطيع أن أفهم. (يصرخ بصوت عنيف) زوجتي. (يسقط عند قدميها منتحباً).
(يتحلق جمع حول الزوج وزوجته).
ابتعد. (إلى دنيس) دعنا ننصرف. لا أستطيع البقاء هنا.
(يقفز ويحملق في وجهها) الصورة. (يقبض على ذراعها) إنها نفسها. هاي... أيها القوم... إنها زوجة السيد.
أبعد يديك أيها الفلاح. (تحاول أن تسحب ذراعها) دنيس، ماذا تنتظر؟ (يخف إليها دنيس وتيهون ويمسكان مريك من تحت ذراعيه) هذا جحر لصوص... إنني لست خائفة منك... ابتعد.
قفي قليلاً. سأدعك تنصرفين حالاً. دعيني أقول لك شيئاً فقط.. شيئاً واحداً لكي تفهمي.. انتظري قليلاً. (يلتفت إلى تيهون ودنيس) ابتعدا أيها النذلان. لا تمسكاني. لن أدعها تنصرف إلا بعد أن أقول لها شيئاً.. انتظري قليلاً... دقيقة... (يقرع جبهته بجمعه) كلا، لم يهبني الله عقلاً. ليس بقدرتي أن أفكر بما أريد قوله لك.
(تسحب ذراعها) ابتعد... إنهم سكارى... دعنا ننصرف يا دنيس... (تحاول أن تسير نحو الباب).
(يحجز طريقها) هيا... امنحيه نظرة واحدة على الأقل... أسعديه بكلمة لطيفة واحدة. لخاطر الله.
أبعدوا هذا الرجل المجنون عني.
فلتذهبي إلى الشيطان إذن أيتها المرأة اللعينة. (يطوّح بفأسه).
(اضطراب عنيف. الجميع يقفزون في ضوضاء وهم يطلقون صيحات الفزع. يقف سافا بين ماريا يگوروفنا ومريك. يسحب دنيس مريك بعنف، ويحمل سيدته إلى خارج الحانة. يتسمّر الجميع بعد هذا في أماكنهم.
(صمت طويل).
(يحاول أن يمسك الهواء بقبضته) ماري... أين أنت... ماري؟
آه يا إلهي... آه يا إلهي... سحقتم قلبي أيها القتلة... ويا لها من ليلة مخيفة!
(ينزل اليد التي تحمل الفأس) هل قتلتها؟
اشكر الله فقد أنقذت حياتك هذه المرة.
لم أقتلها إذن... (يتجه إلى موضعه مترنحاً) لم يكن مقدراً لي أن أموت بسبب فأس مسروقة. (يترامى على سترته ويجهش بالبكاء) أوه، أيها البؤس، أيها البؤس الساحق. أشفقوا عليّ أيها المسيحيون الطيبون.

«ســـتار»


المعلمة
في الثامنة والنصف غادرا المدينة.
كان الطريق العام جافاً، وكانت شمس إبريل البديعة تشرق دافئة، لكن الثلج كان لا يزال متجمعاً في الحفر والغابات.. كان الشتاء المعتم الطويل قد ولى أخيراً، وأقبل الربيع فجأة. لكن الغابات الضاحكة البديعة التي عطرتها أنفاس الربيع، وقطعان الطيور السود المحلقة فوق البرك الواسعة التي تبدو كالبحيرات، والسماء المدهشة العميقة الغور التي يلوح أن بوسع الإنسان التوغل فيها في غبطة عظيمة، لم تكن لتقدم شيئاً جديداً أو ممتعاً لماريا فاسيلفنا التي كانت قابعة في العربة. لقد مضى عليها ثلاثون عاماً وهي تعمل معلمة، ولا يمكن حساب المرات التي جاءت فيها إلى المدينة كل تلك الأعوام لتقبض مرتبها. وكان الأمر سواء لديها؛ أربيعاً كما هو الآن، أم شتاء، أم ليلة خريفية ممطرة. وكانت تشتاق على الدوام إلى شيء واحد فقط، هو انتهاء الرحلة بأسرع وقت ممكن.
كانت تحس كأنها عاشت في هذه المنطقة الريفية منذ عصور وعصور، منذ قرن من الزمن، وبدا لها أنها تعرف كل حجارة، كل شجرة، في الطريق الذي يؤدي من المدينة إلى مدرستها. لقد كان ماضيها هنا، وإن حاضرها هنا، وليس في قدرتها أن تتصور مستقبلاً آخر غير المدرسة. الطريق إلى المدينة، ثم العودة، ثم المدرسة ثانية، ثم الطريق ثانية...
لقد كفت عن التفكير في ماضيها قبل أن تحترف التعليم، وأوشكت أن تنساه. كان لها يوماً أب وأم، وكانوا يسكنون في منزل واسع قرب البوابة الحمراء في موسكو، لكنها لم تعد تتذكر من تلك الحياة كلها إلا شيئاً غامضاً ضبابياً كالحلم. لقد توفي أبوها وهي في العاشرة من عمرها، ثم تلته أمها بعد زمن وشيك... وكان لها شقيق ضابط في الجيش، كانا يتكاتبان في البدء، ثم انقطع عن الرد على رسائلها، ثم نسي أمرها كلياً. ولم يتبق من ممتلكاتها القديمة سوى صورة لأمها، لكن هذه الصورة أصبحت مطموسة الملامح بسبب رطوبة المدرسة، ولم يعد في الإمكان تمييز شيء فيها سوى الشعر والحاجبين.
حينما قطعت العربة ميلين التفت سائقها سيمون العجوز وقال: إنهم قبضوا على كاتب حكومي في المدينة وأبعدوه. يقال إنه اشترك في قتل المحافظ في موسكو.
- من أخبرك؟
- كانوا يقرؤون ذلك في الجريدة في حانة إيفان يونوف.
خيم عليهما الصمت ثانية وقتاً طويلاً. وفكرت ماري فاسيليفنا في مدرستها، في الامتحان القادم وشيكاً، في الفتاة والفتيان الأربعة الذين أوفدت من أجلهم. وبينما كانت تفكر في الامتحان فاجأتها عربة هانوف ذات الأربعة خيول، وهو أحد جيرانها الملاّكين، وكان ممتحناً في مدرستها في السنة الماضية. ولما جاورها عرفها فانحنى لها محيياً وقال: أظن أنك عائدة إلى البيت.
وهانوف هذا في الأربعين من عمره، ذو تعبير فاتر ووجه يلوح عليه الضجر، قد دب إليه الكبر، لكنه لا يزال جميلاً يجتذب النساء. وهو يعيش لوحده في منزل الأسرة الكبير بلا وظيفة. وقد اعتاد الناس أن يقولوا عنه أنه لا عمل له في المنزل سوى السير جيئة وذهاباً وهو يصفر، وسوى لعب النرد مع خادمه العجوز. ويقول عنه الناس أيضاً إنه يفرط في الشراب. والحقيقة أن رائحة الخمر كانت تفوح من ورقة الامتحان التي أحضرها معه. وكان يرتدي في تلك المناسبة حلة جديدة. واعتقدت ماريا فاسيليفنا أنه جذاب جداً. وكانت تشعر بانزعاج طوال الوقت الذي أمضته جالسة بجواره. كانت معتادة أن ترى ممتحنين متزمتين وقورين يعرفون كل شيء، لكنه لم يكن يتذكر أية صلاة، ولم يكن يعلم عمّ يسأل، وكان لطيفاً مجاملاً للغاية، ولم يعط إلا درجات عالية.
واستطرد هانوف في كلامه قائلاً: أنا ذاهب لزيارة باكفيت، لكنني أخبرت أنه غير موجود في المنزل.
انحرفوا عن الطريق الرئيسي إلى طريق جانبي يؤدي إلى القرية؛ هانوف في المقدمة ووراءه سميون. وتحركت الخيل الأربعة في خطوات قصيرة وهي تجرّ العربة الثقيلة في الوحل. كان سميون يتنقل من جانب إلى آخر، ملتزماً جوانب الطريق، مخترقاً كتلة من الثلج مرة، وبركة صغيرة أخرى، قافزاً إلى الأرض أغلب الوقت لمساعدة الحصان. وكانت ماريا فاسيليفنا لا تزال تفكر بالمدرسة، متسائلة إن كانت أسئلة امتحان الحساب ستكون صعبة أم سهلة. وشعرت بالانزعاج من مجلس زمستفو الذي لم تلق فيه أحداً يوم أمس. يا لها من بطالة! لقد مضى عليها عامان وهي تلح عليهم بفصل الحارس الذي لا يعمل شيئاً، والذي يعاملها بخشونة ويضرب التلاميذ، لكنهم لم يعبؤا بإلحاحها. كان من المتعذر رؤية الرئيس في مكتبه، وإذا ما وجده المرء قال والدموع تكاد تطفر من عينيه إنه لا يستطيع التفرغ دقيقة واحدة. ولقد زار المفتش المدرسة مرة واحدة خلال ثلاثة أعوام، ولم يكن يعرف أي شيء عن عمله. كان موظفاً في قسم الضرائب، ونقل إلى منصب التفتيش بالواسطة. ولا يجتمع مجلس المدرسة إلا نادراً، ولا يعلم أي شخص أين يجتمع. ووصي المدرسة فلاح جاهل يشتغل رئيساً في معمل لدبغ الجلود، وهو غبي، فظ، وصديق صدوق للحارس، والله يعلم لمن يجب أن تتوجه بشكاويها أو استفساراتها...
«إنه جميل حقاً» فكرت بهذا وهي ترنو إلى هانوف.
اشتدت رداءة الطريق. وتقدمت العربتان في الغابة، وتعذرت عليهما الاستدارة، وغاصت عجلاتهما في الطين بعمق، وبقبقت المياه وطرطشت، وصفعتهم الأغصان المدببة على وجوههم بعنف.
- يا له من طريق!
قال هانوف ثم ضحك.
ونظرت إليه المعلمة ولم تستطع أن تفهم لماذا يعيش هذا الرجل الغريب هنا. كيف يمكن أن يفيده مظهره البديع، نقوده، ثقافته، في هذه الأوحال، في هذا المكان الكئيب الذي نبذه الله! إنه لن ينال بهذا أية فوائد خاصة من الحياة، وإنه ليسوق، شأن سميون، عربته ببطء، في طريق شاق، متحملاً نفس المزعجات. لماذا يعيش المرء هنا إذا كان في وسعه أن يعيش في بطرسبورغ أو في الخارج؟! وقد يخطر في ذهن الإنسان أن تعبيد طريق جيد بدلاً من هذا لطريق لتجنب رؤية هذا العذاب واليأس على وجه سميون ووجه حوذيه لا يكلف شيئاً بالنسبة لرجل غني مثله، لكنه يضحك غير مبال بشيء ومن الواضح أنه لا يهمه، بل ولا يرغب في حياة أفضل. إنه شفوق، رقيق، بسيط، وهو لا يفهم هذا النوع من الحياة الشاقة، شأنه أثناء الامتحان حين كان يجهل الصلاة. وهو لم يقدم إلى المدرسة سوى مصابيح. واعتبر نفسه شخصاً نافعاً وعاملاً هاماً من عوامل تشجيع الثقافة العامة. وما فائدة مصابيحه هنا؟
- أمسكي جيداً يا فاسيليفنا.
قال سميون.
ترنحت العربة بعنف وكادت تنقلب، وتدحرج شيء ثقيل نحو أقدام فاسيليفنا، كان لفافتها من المشتريات. كان ثمة ربوة وعرة من الطين، وكانت المياه في الحفر الكثيرة تطرطش على الجوانب. كانت المياه تلوح كأنها قد نخرت الطريق. وكيف يمكن للعربة أن تتقدم في مثل هذا الطريق؟! وتنفست الخيل بصعوبة، وترجل هانوف وسار على جانب الطريق بمعطفه الطويل. كان يعاني من الحرّ.
- يا له من طريق!
قال، وضحك ثانية. ثم أضاف: إنه سيحطم العربة حالاً.
قال سميون بخشونة: لم يرغمك أحد على السفر في مثل هذا الجو. كان عليك أن تمكث في البيت.
- إنني أضجر في البيت أيها الجد. لست أحب المكوث في البيت.
كان هانوف يبدو بجوار سميون العجوز لطيفاً، نشيطاً، ومع ذلك كان في طريقة سيره شيء محسوس ينم عما تسرب إليه من تسوس وضعف، ويدل على أنه سائر في طريق الخراب. وعلى حين غرة فاحت رائحة كحول في الغابة. وفاضت نفس ماريا فاسيليفنا بالشفقة والخوف على هذا الرجل الذي يتعجل القضاء على نفسه بدون سبب واضح. وخطر في ذهنها أنها لو كانت زوجه أو أخته لكرست حياتها لإنقاذه من هذا الخراب. زوجه! لقد شاءت الحياة أن يعيش هو وحيداً في بيته الكبير، وأن تعيش هي أيضاً وحيدة في هذه القرية التي نبذها الله. ومع ذلك فإن فكرة عيشهما معاً كندّين مرتبطين تبدو مستحيلة وسخيفة. لقد تعقدت العلاقات الإنسانية تعقّداً عظيماً يستعصي على كل إدراك، حتى أن الإنسان ليحس بالبلادة والكآبة إذا فكر بها.
وفكرت: «إنه ليستعصي على كل إدراك لماذا يهب الله هذا الجمال، هذا اللطف، هذين العينين الحزينتين، إلى أناس ضعفاء، غير محظوظين، عديمو النفع... لماذا يهبهم كل هذا السحر!».
قال هانوف وهو يستقل عربته: يجب أن أنعطف هنا إلى اليمين. مع السلامة. أتمنى لك كل خير.
وفكرت ثانية بتلاميذها، بالامتحان، بالحارس، بمجلس المدرسة. وحينما حملت إليها الريح صوت العربة الذاهبة اختلطت هذه الأفكار بأفكار أخرى. وحنّت إلى التفكير بعينين ساحرتين، بالحب، بالسعادة التي لن تذوقها...
زوجه؟! كان الجو بارداً في الصباح، ولم يكن هناك من يسخن الموقد، لم يكن هناك من أثر للحارس. وأقبل الأطفال حالما انبلج النور مصطحبين معهم الثلج والوحل والضوضاء؛ كان كل شيء مزعجاً جداً، متعباً جداً. وإن مسكنها ليشتمل على غرفة صغيرة واحدة يجاورها المطبخ. وإن الصداع لينتاب رأسها كل يوم إثر فراغها من العمل، وهي تصاب بالتهاب في القلب كلما فرغت من الغداء. وعليها أن تجمع النقود من الأطفال للخشب وللحارس، ولوصيّ المدرسة، ثم تتوسل إلى ذلك الفلاح الكريه المتخوم، أن يرسل إليها خشباً إحساناً لله. وتحلم في الليل بالالامتحانات، بالفلاحين، بأكوام الثلج. وإن هذه الحياة لتنحدر بها إلى الكبر والخشونة، لتحيلها قبيحة، نحيلة، خرقاء، كما لو أنها صيغت من رصاص. إنها خائفة على الدوام، وقد تنهض من مقعدها دون أن تجرأ على الجلوس ثانية في حضور أحد أعضاء مجلس زمستفو أو وصي المدرسة. وإنها لتستعمل عبارات الاحترام الرسمية حينما تتحدث إلى أي واحد منهم. ولم يعتبرها أحد منهم جذابة. وإن الحياة لتمضي بها موحشة، بدون عواطف، بدون مودة الأصدقاء، بدون معارف لطاف. ما أفظعه من موقف لو أنها وقعت في الحب.
- أمسكي جيداً يا فاسيليفنا.
رابية وعرة ثانية...
لقد أصبحت معلمة بدافع الحاجة، بدون أن تشعر بأدنى ميل لهذه المهنة، وهي لم تفكر أبداً بالواجب، بخدمة الثقافة. وقد كان يبدو لها دائماً أن الشيء المهم في عملها ليس الأطفال، ولا الثقافة، بل الامتحانات. وكيف يتوفر لها الوقت لتفكر بالواجب وبخدمة الثقافة؟! إن المعلمين والأطباء ذوي الرواتب القليلة ومساعديهم بعملهم المرهق الفظيع لا يجدون راحة الفكر التي تدفعهم إلى التفكير بخدمة فكرة أو بخدمة الناس. فرؤوسهم مكتظة دائماً بأفكار تدور حول خبزهم اليومي، حول خشب النار، حول الطرق الرديئة، حول الأمراض. إنه لعمل شاق، حياة تنقصها المتعة، ولا يطيقها زمناً طويلاً سوى خيول العربات الصامتة الصابرة، مثل ماريا فاسيليفنا. إن الناس الأحياء ذوي الحساسية المرهفة، الذي يتحدثون عن الواجب وعن خدمة فكرة معينة ليضيقون بها ذرعاً بسرعة، ويهجرونها.
واستمر سميون يختار الطرق الجافة القصيرة، بجوار الحدائق أولاً، ثم بجوار الجوانب الخلفية لمنازل المدينة. لكن الفلاحين لم يكونوا يسمحون لهما بالمرور في بعض المناطق. وكانت مناطق أخرى ملكاً للكنيسة فلا يمكن عبورها. وفي مناطق ثالثة يكون إيفان يونوف قد ابتاع الأرض وحفر خندقاً حولها. فكانا مرغمين على الاستدارة بين حين وآخر والعودة ثانية.
وأخيراً وصلا إلى نيزهني جوروديشج. كانت تقف بجوار الحانة، في مكان انتثر فيه السماد وتراكم الثلج، عربات تحمل زجاجات عظيمة لأوكسيد السلفات الخام. وكانت الحانة غاصة بالرواد، كلهم سوّاق. وكان الهواء عابقاً برائحة الفودكا والتبغ وجلود الأغنام. وكانت ضوضاء الأحاديث واصطفاق الباب المتأرجحة تملأ الهواء. وخلال الجدران كانت الموسيقى تسمع باستمرار. جلست ماريا فاسيليفنا وشربت بعض الشاي، بينما كان الفلاحون يحتسون في المناضد المجاورة أقداح الفودكا والبيرة والعرق يسح على وجوههم بسب الحرارة الخانقة والشاي الذي شربوه. وظلت الأصوات تتعالى في فوضى: «اسمع يا كوزما»، «بارك الله فينا»، «إيفان تيمتش، بإمكاني أن أخبرك بذلك»، «احذر أيها العجوز». وأدهش شيء ما فجأة رجلاً ضئيلاً مجدّراً ذا لحية سوداء، وكان سكراناً تماماً، فانطلق يسب بلغة مقذعة.
- علام تشتم، أنت هناك؟ ألا ترى السيدة الشابة؟
قال سميون الذي كان يجلس حول مائدة بعيدة وقد امتلكه الغضب.
- الشابة.
قال أحد الجالسين في زاوية من الحانة ساخراً.
- أيها البقرة الخنزيرية.
قال الرجل الضئيل في ارتباك: نحن لم نقصد شيئاً. أرجو العفو. إننا ندفع بنقودنا، والشابة تدفع بنقودها. صباح الخير.
أجابت المعلمة: صباح الخير.
- ونحن نشكرك أعظم الشكر.
شربت ماريا فاسيليفنا شايها في ارتياح، وبدأ وجهها يحمرّ كوجوه الفلاحين. وعادت تفكر ثانية بخشب النار، بالحارس...
وسمعت صوتاً من المائدة المجاورة يقول: تمهل أيها العجوز.. إنها المعلمة من فيازوفى... نحن نعرفها، إنها شابة طيبة.
- إنها لا بأس بها.
كانت الباب المتأرجحة تصطفق باستمرار، يدخل البعض ويخرج الآخرون. وظلت ماريا فاسيليفنا جالسة وهي تفكر طوال الوقت بنفس الأشياء، بينما استمرت الموسيقى تعزف وتعزف. كانت بقع الشمس على أرض الحانة، ثم انتقلت إلى الزوايا، ثم إلى الجدران، ثم توارت كليا، فتجاوز الوقت منتصف النهار. وتأهب الفلاحون في المائدة المجاورة للانصراف. واتجه الرجل الضئيل، وهو يترنح قليلاً، نحو ماريا فاسيليفنا ومد يده إليها. واحتذى به الآخرون فصافحوها وخرجوا واحداً إثر الآخر. صرّت الباب المتأرجحة واصطفقت تسع مرات.
قال لها سميون: فاسيليفنا. استعدي.
وانطلقا. تحركت العربة ثانية في خطوات قصيرة. قال سميون وهو يستدير حواليه: كانوا يشيّدون مدرسة هنا قبل زمن في نجنى جوروديش.. كان عملاً خبيثاً ذلك الذي ارتكب...
- لماذا؟ ماذا؟
- يقال إن الرئيس وضع في جيبه ألف روبل، وكذلك فعل وصيّ المدرسة، وسرق المعلم خمسمائة روبل.
- المدرسة بكليتها لا تكلف أكثر من ألف روبل. ليس من الصواب الوشاية بالناس أيها الجد. هذا هذر كله.
- لست أدري. لم أقل سوى ما يتناقله الناس.
كان من الجليّ أن سميون لم يصدق المعلمة. لم يكن الفلاحون يصدقونها. كانوا يعتقدون على الدوام أنها تتسلم راتباً ضخماً، واحد وعشرين روبلاً في الشهر (بينما يكفيها خمسة روبلات)، وأنها تحتفظ بالجزء الأكبر من النقود التي تجمعها من الأطفال لخشب النار والحارس. وكان وصيّ المدرسة يحمل نفس هذا الاعتقاد، مع أنه يستغل حطب النار، ويتسلم نقوداً من الفلاحين لكونه وصّياً بدون علم السلطات.
كانت الغابة خلفهما، شكراً لله، وسيكون الطريق ممهداً مفتوحاً أمامهما حتى فيازوفى، ولم تبق سوى مسافة قصيرة. عليهما أن يعبرا النهر، ثم السكة الحديد، ثم تلوح فيازوفى للأنظار.
سألت ماريا فاسيليفنا سميون قائلة: إلى أية جهة تسوق العربة؟ اتبع الطريق نحو اليمين إلى الجسر.
- لماذا؟ بوسعنا أن نمضي في هذا الطريق أيضاً، النهر غير ذي عمق يؤبه له.
- احذر أن تغرق الحصان.
- ماذا؟
- انظر، إن هانوف يسوق متجهاً نحو الجسر.
قالت ماريا فاسيليفنا وهي تلمح العربة ذات الخيول الأربعة من بعيد متجهة نحو اليمين، ثم أردفت تقول: أعتقد أنه هو.
- أجل، إنه هو. وهكذا فلم يجد باكفيت في البيت. يا له من شخص يحمل رأس خنزير! الرحمة يا رب..! إنه يسوق نحو ذلك الطريق... ولأي غرض؟! هذا الطريق أقرب من ذلك بميلين.
وبلغا النهر. كان النهر أثناء الصيف مجرى صغيراً يمكن عبوره بسهولة خوضاً، وهو يجف في شهر آب عادة، لكنه أصبح الآن بعد أن وردت عليه سيول الربيع نهراً يتجاوز عرضه أربعين قدماً، سريعاً، طينياً، بارداً. كان ثمة آثار جديدة على الشاطئ تصل إلى حافة المياه، فلابد أنه قد عبر من ذلك المكان.
- استمر.
صاح سميون بغضب وقلق وهو يشد اللجام بعنف، ويهز مرفقيه كما يفعل الطائر بجناحيه.
- استمر.
وخرجت العربة إلى الشاطئ.
-إنها لورطة بديعة. الرحمة يا رب!
تمتم سميون وهو يسوّي السرج. ثم استمر يقول: إنه لطاعون حقيقي هذا الزمستفو..
كان حذائيها قد امتلآ بالمياه، وكان الجزء الأسفل من فستانها وسترتها وأحد أكمامها قد ابتلت وأخذت تقطر منها المياه. وابتل السكر والطحين، وكان أشد الأمور سوءاً أنها لم تستطع إلاّ أن تشبك يديها في يأس وتقول: أوه، سميون، سميون، يا لك من متعب حقاً!
كان الحاجز مقفلاً في معبر الخط الحديدي وكان هناك قطار خارجاً من المحطة. وقفت ماريا عند الحاجز تنتظر مروره وهي ترتجف من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. كانت فيازوفى في مرمى البصر الآن، ولاحت المدرسة بسطحها الأخضر، والكنيسة بصلبانها المتوهجة في شمس الغروب، وتصاعد من ماكنة القطار دخان أحمر.. وبدا لها أن كل شيء كان يرتجف من البرد.
أقبل القطار، وعكست نوافذه نوراً متوهجاً شأن صلبان الكنيسة. كانت تحس بألم في النظر إليه. وكانت ثمة سيدة واقفة في الفسحة التي تربط عربتين من عربات الدرجة الأولى. نظرت إليها ماريا فاسيليفنا حينما مرت العربة أمامها... أمّها! يا له من شبه! كان لأمها مثل هذا الشعر الرائع تماماً، مثل هذا الحاجب وهذه الانحناءة في الرأس. ولأول مرة خلال الثلاثين عاماً المنصرمة تمثلت في ذهنها صورة قوية واضحة لأمها، لأبيها، لأخيها، لمنزلهم في موسكو، للحوض والسمكة الصغيرة، لكل شيء بأدق تفصيلاته وأتفهها. وسمعت عزف البيانو، صوت أبيها، وأحست كأنها شابة، جميلة، أنيقة، في غرفة مشرقة دافئة بين أهلها. وغمرها فجأة شعور من السرور والسعادة. وضغطت يديها إلى وجنتيها في فرح غامر، وقالت برقة ضارعة: أماه!
وطفقت تبكي. ولم تدر لماذا. في تلك اللحظة أقبل هانوف بعربته ذات الأربعة خيول، وحالما أبصرته تخيلت سعادة فائقة لم تخطر في ذهنها من قبل، وابتسمت، وأومأت له كندّ وصديق. وتراءى لها أن سعادتها، انتصارها، كان يشع في السماء وفي جميع الجهات، في النوافذ وعلى الأشجار. إن أباها وأمها لم يموتا أبداً، وإنها لم تكن معلمة في يوم من الأيام. لقد كان حلماً طويلا مملاً، وقد استيقظت من كابوسه الآن...
- فاسيليفنا، ادخلي.
واختفى كل شيء حالاً. ارتفع الحاجز فجأة. ودخلت ماريا فاسيليفنا العربة وهي ترتجف وقد خدرها البرد. عبرت العربة، ذات الأربعة خيول قضبان القطار، ثم تبعها سميون. وخلع عامل الإشارات قبعته.
- وها هي ذي فيازوفى. ها نحن فيها.

الساحرة
كان الليل مقبلاً. وكان سادن الكنيسة سافلي گكين مضطجعاً على سريره الكبير في الكوخ المجاور للكنسية. لم يكن غافياً، وإن كان معتاداً على الالتجاء إلى فراشه في الوقت الذي تلوذ فيه الدجاج بأوكارها. وأطل شعره الأحمر الخشن من أحد أطراف اللحاف المرقع المزيّت المصنوع من خرق ملونة، بينما برزت قدماه الضخمتان القذرتان من الطرف الآخر. كان منصتاً. كان كوخه يجاور الجدار الذي يطوّق الكنيسة، وكانت غرفته تشرف على الريف المنبسط على امتداد النظر. وكانت تجري خارج الكوخ معركة حامية. كان من المتعذر إدراك هدف الطبيعة المدمرة من زج نفسها في هذا العراك، ولكن في الإمكان الحكم، استناداً إلى الزئير الثائر الذي لا ينقطع، بأن هناك من يتلقى ضرباً حامياً. كانت ثمة قوة منتصرة تجري مطاردة فوق الحقول، في الغابات، فوق سطح الكنيسة، تتصارع في حقد وتنهال بضرباتها على النوافذ ساخطة مدمّرة، بينما كان هناك شيء ينوح ويعول؛ شيء ندّاب يبكي عند النافذة، فوق السطح، في الموقد. لم يكن صوته ينم عن نداء للغوث بل كان صرخة معذبة، يقظة ضمير بعد فوات الأوان، صراخ يعلن أنه لا سبيل إلى الخلاص. كانت كتل الثلج ملفعة بغشاء جليدي، وكانت الدموع ترتعش عليها وعلى الأشجار. كانت كتل الطين والثلج الذائب تجري في الطرقات والممرات. كان الثلج يذوب دون أن تستطيع السماء رؤيته خلال الظلام الحالك، وظلت تلقي بكتل جديدة على الأرض بمعدل هائل. وكانت الريح تترنح كالسكران؛ ولم تسمح للثلج بالاستقرار على الأرض بل مضت تدور به كالدوامة.
أصغى سافلي إلى كل هذه الضوضاء وهو عابس الوجه. كان يعلم، أو على الأقل يخمن، الغرض الذي يكمن وراء كل هذه الجلبة ومن المسؤول عنها.
«أنا أعلم» تمتم وهو يهز إصبعه تحت اللحاف متوعداً «أنا أعلم كل شيء عن هذا».
جلست زوجة السادن ريزا نيلوفنا على مقعد بجوار النافذة. كان ثمة مصباح نحيل على مقعد آخر يلقي ضوءاً معتماً متأرجحاً على كتفيها العريضتين، على ملامحها الجميلة المغرية، على ضفيرتها الكثيفة التي تمس الأرض، وكأنه خائف وجل غير مطمئن إلى مقدرته. كانت تصنع أكياساً من القنب الخام. كانت يداها تتحركان بخفة بينما كان جسدها كله؛ عيناها، حاجباها، شفتاها الممتلئتان، جيدها العاجي، ساكناً كأنها مستغرقة في النوم. كانت منغمرة في عملها الرتيب. كانت ترفع رأسها بين حين وآخر لتريح عنقها المتعب، وترنو إلى النافذة لحظة حيث تزأر العاصفة الهوجاء وراءها، ثم تنكب على عملها ثانية. لم يكن وجهها الفاتن بأنفها الأقنى وغمازتها ليعبر عن رغبة، عن فرح، عن حزن أو عن أي شيء. كذلك لا يعبر النبع الجميل عن شيء إذا كان جافاً.
فرغت أخيراً من كيس فرمته جانباً وتمطت في روعة، ثم ثبتت عينيها الساكنتين الذابلتين على النافذة. كان زجاج النافذة يغتسل بقطرات كالدموع. وكان الزجاج يتطلع إلى ريزا وقد بيضته كتل الثلج التي تذوب سريعاً وتتلاشى..
«تعالي إلى الفراش» زمجر السادن. ظلت ريزا جامدة لكن رموشها ارتعشت فجأة ولاح وميض من الإصغاء في عينيها. أخرج سافلي رأسه من تحت اللحاف، وقد كان يراقب تعبير وجهها طوال الوقت، وقال: ماذا هناك؟
أجابت بهدوء: خيّل إليّ أن أحد الأشخاص قادم.
قذف السادن اللحاف بذراعيه وساقيه بعيداً، وركع في الفراش، وتطلع إلى زوجته مدهشاً. كان ضوء المصباح الوجل ينير وجهه المجدور المليء بالشعر وينزلق على شعره الكابي. سألته زوجه: أتسمع؟
استطاع سافلي خلال زئير العاصفة الرتيب أن يميز بصعوبة صليلاً خافتاً، كصيحة البرغشة الغاضبة التي يمنعها الإنسان أن تحطّ على خده.
- إنه البريد.
قال سافلي وهو يجلس القرفصاء على كعبيه.
إن طريق البريد يمتد على بعد ميلين، وحين تهب الريح من الطريق إلى الكنيسة في الطقس العاصف تتناهى إلى ساكني الكوخ صلصلة الأجراس. قالت ريزا وهي تتنهد: يا إلهي! تصور أناساً يسافرون في مثل هذا الجو!
- إنه لعمل حكومي. لابد أن تذهبي شئت أم لم تشائي.
طوّف الهمس في الهواء ثم تلاشى بعيداً.
- إنه حاد عن الطريق.
قال سافلي وهو يندس في فراشه. وقبل أن يلتحف بالغطاء سمع صوت الأجراس واضحاً متميزاً. ورمق زوجته في قلق، وقفز خارج الفراش، وراح يتهادى بجوار الموقد رواحاً وغدواً. صلصلت الأجراس قليلاً ثم تلاشى صوتها ثانية كما لو أنها كفت عن الصليل.
«لست أسمعها» قال السادن وهو يتوقف عن السير ويرمق زوجته بنظرات شزراء. لكن الريح ارتطمت في تلك اللحظة بالنافذة وطاف معها صليل حاد. فشحب وجه سافلي، ونظف بلعومه، وتهالك على الأرض بقدميه العاريتين.
«لقد ضلّ عامل البريد سبيله في العاصفة» قال السادن حانقاً وهو يرمي زوجه بنظرات تهديد «أسامعة أنت؟ ضلّ عامل البريد طريقه.. أنا.. أنا أعلم.. أفتحسبين أنني.. لا أفهم؟» وتمتم «أنا أعلم كل شيء عن الأمر. عليك اللعنة».
- ماذا تعلم؟
سألت ريزا بهدوء وهي تسمّر عينيها على النافذة.
- أنا أعلم أن هذا كله من صنعك. أنت أيتها الشيطانة. إنه من صنعك، عليك اللعنة. هذه العاصفة، ضلال عامل البريد.. لقد فعلت كل هذا.. أنت.
- إنك مجنون، أنت أيها السخيف.
- كنت أراقبك منذ زمن طويل، وقد أدركت منذ اليوم الأول أن دماء ساحرة تجري في عروقك.
«تفوو» قالت ريزا مدهوشة وهي تهز كتفيها وترسم شارة الصليب على صدرها «ارسم شارة الصليب على صدرك أيها الأحمق».
«الساحرة معناها ساحرة» قال سافلي بصوت أجوف باك وهو يتمخط بسرعة في قميصه «وإن كنت زوجتي، وإن كنت من أسرة دينية، فسأفشي حقيقتك ساعة الاعتراف.. لماذا، رحمتك يا رب. في العام الماضي، عشية النبي دانيال والشباب الثلاثة، حدثت عاصفة أيضاً وماذا جرى فيما بعد؟ أقبل علينا الميكانيكي ليدفئ نفسه. وفي يوم القديس إليكسي تحطم الجليد في النهر فعاد شرطي المنطقة، وظل يتحدث معك طوال الليل.. الوحش اللعين! وحينما نظرت إليه عند خروجه وقت الصباح رأيت خديه غائرين ودوائر تحت عينيه. آه، وخلال شهر آب الماضي حدثت عاصفتان؛ وكان الصياد يعود في كل مرة إلى هنا. لقد رأيت كل شيء، لعنه الله. آه، إنها أشد من الزعرور احمراراً الآن، أها!».
- إنك لم تر شيئاً.
- ألم أر؟ وخلال هذا الشتاء، في يوم ضحايا كريت العشرة، قبل عيد الميلاد، حيث دامت العاصفة نهاراً كاملاً وليلة، الكلبة… تفوو!.. أن تستجيبي لإغراء كاتب! أفكان يستأهل أن تقوّضي طقس الله من أجله؟! كاتب ركيك الخط، مهذار، لا يكاد يعلو قدماً عن الأرض، ملئ الوجه بالدمامل، ملتوي العنق. ولو كان جميلاً. على أية حال، تفو! كان دميماً كالشيطان!
تنفس السادن، ومسح شفتيه، وأصاخ السمع. لم يعد هناك وجود لصوت الأجراس، لكن الريح ارتطمت بالسطح فعاد الصليل مرة أخرى خلال الظلام. واستطرد سافلي يقول: إن الأمر يتكرر الآن. إن عامل البريد لم يضل طريقه عبثاً. فليصبني العمى إن لم يكن مساقاً إليك. أوه، إن الشيطان حاذق في عمله؛ إنه مساعد يعتمد عليه. سيدور به ويدور، ثم يسوقه إلى هنا. إنني أعلم، إنني أرى. ليس في إمكانك إخفاء ذلك عني، أنت يا ألعوبة إبليس، أنت أيتها الفاجرة الكافرة. إنني أحزر ماذا تدبرين حالما تبدأ العاصفة.
«إنه مجنون» قالت زوجه باسمة «لماذا، أفتحسب يا صاحب العقل الثخين أنني أصنع العاصفة؟!
احم.. ! .. اضحكي، أكانت من صنعك أم من صنع غيرك، فهذا غير مهم، وكل ما أعلمه أنه لابد من اكفهرار الجو كلما فارت دماؤك، ساء الجو قدم إلى هنا شخص مخبول. إن ذلك يتكرر دائماً، فلابد أن تكوني إذن مسؤولة عنة.
ولكي يضاعف تأثيره عليها ضغط السادن جبينه بأصابعه، وأغمض عينه اليسرى، وقال بصوت ملول: أوه، الجنون! أوه، جوداس القذرة. إذا كنت إنسانة حقاً ولست ساحرة فعليك أن تفكري بموقفك إن كان الشيطان قد تلبس هيئة الميكانيكي والصياد والكاتب! عليك أن تفكري بهذا.
«لماذا، أنت غبي يا سافلي!» قالت الزوجة وهي تنظر إليه مشفقة «حينما كان أبي حياً، وكان يعيش هنا، كان يقدم إليه جميع الأصناف من الناس ليشفيهم من الحمى؛ من المدينة والقرى الصغيرة والمراكز الأرمينية. كانوا يجيئون كل يوم، ولم يسميهم أحد شياطين. ولكن إذا أقبل إلى هنا أي إنسان أثناء جوّ رديء لكي يدفئ نفسه عجبت لشأنه أيها الأحمق وتصورت أغرب التصورات في الحال».
أثّر منطق زوجته في نفسه، فوقف بقدميه العاريتين المفتوحتين بسعة، وأحنى رأسه وفكر. لم يعد واثقاً بحقيقة شكوكه، وقد شوشت ذهنه لهجتها المخلصة غير العابئة. ومع ذلك مسح رأسه بعد لحظات وقال: لكنهم لم يكونوا شيوخاً ولا معوجي السيقان مصابين بالكساح. إن أولئك الذين يقدمون لقضاء الليلة هنا شبان دائماً. فما معنى ذلك؟ وإذا كانوا يبغون الدفء فقط... كلا، إنهم من نوع لا يؤمن جانبه.. كلا أيتها المرأة، ليس هناك مخلوق في هذا العالم له مثل خداعك الأنثوي. إنك لا تمتلكين أوقية من العقل الحقيقي، أقل من عقل الزرزور، لكنك في الخدع الشيطانية، أوو_ أوو_ ووا، أماناً يا ملكة السماء. هذا هو صوت أجراس عامل البريد. كنت أعلم بما يدور في خلدك حالما بدأت العاصفة. إنه سحرك أيتها الإبليسة!».
«لماذا تلح في هذه السخافة أيها الكافر؟» قالت زوجه وقد نفد صبرها «لماذا تظل لاصقاً بها كالزفت؟».
- إنني أظل لاصقاً بها لأنني سأذهب صباح الغد، إذا حدث أي شيء الليلة لا سمح الله، إلى الأب نيكوديم مباشرة وأفضي إليه بكل شيء. سأقول له: أيها الأب نيكوديم، عفواً يا صاحب الغبطة، ولكنها ساحرة. فيقول: «وكيف ذلك؟». فأقول: «احم.. أتريد أن تعلم لماذا؟». فيقول: «بالتأكيد». وسأخبره بكل شيء. والويل لك أيتها المرأة. ستعاقبين في الحياة الدنيا لا في يوم القيامة فحسب. إن الصلوات ضد أمثالك لم تدرج عبثاً في كتب الصلاة.
وفجأة سمعت طرقة على النافذة، وكانت عالية وغير اعتيادية حتى أن الشحوب عرى وجه سافلي وكاد يسقط إلى الوراء رعباً. وقفزت زوجه على قدميها وقد شحب وجهها أيضاً.
«لخاطر الله، دعنا ندخل ونتدفأ» تناهى إلى سمعها صوت مرتجف خافت عميق «من يسكن هنا؟ الرحمة. نحن ضللنا طريقنا».
سألت ريزا وهي تخشى التطلع إلى النافذة: من أنت؟
أجاب صوت: البريد.
«لقد أفلحت ألاعيبك الشيطانية» قال سافلي وهو يلوح بيده «لست مخطئاً. إنني مصيب. حسناً، افتحي».
انحط السادن في فراشه في قفزتين، وتمدد على الوسائد الريشية. ثم شعر تواً بهواء رطب بارد يهب على ظهره. صرّت الباب، وظهر في المدخل رجل طويل قد غطاه الثلج من رأسه إلى قدمه.
سأل شخص آخر بصوت خشن منخفض: «هل أجلب الحقائب إلى الداخل؟ ليس في وسعك أن تتركها في الخارج» قال الشخص الأول ذلك وشرع يحلُّ غطاء رأسه. ثم كف عن ذلك وسحبه مع قبعته بصبر نافد وألقاه بجواره، ثم انطلق يذرع الكوخ دون أن ينطق بأية تحية.
كان عامل البريد شاباً أشقر الشعر، مرتدياً حلة رثة وجزمة عالية متآكلة سوداء. تهالك أمام المنضدة بعد أن تدفأ بالسير، ومدّ قدميه الموحلتين نحو الأكياس، وأسند ذقنه إلى جمعه. كان وجهه الشاحب الذي ضرّجه البرد في بعض المواضع ما يزال يعكس آثاراً ناطقة من الألم والرعب الذي قاسى منهما قبل قليل. ومع أن السخط والمعاناة النفسية والجسدية كانت تشوه ملامحه إلا أنه مع ذلك بدا جميلاً رغم الثلج الذائب على حاجبيه وشاربه ولحيته القصيرة.
«إنها لحياة كلب» تمتم عامل البريد وهو يتطلع حوالي الجدران كأنه غير مصدق أنه محاط بالدفء «كدنا نضل، ولولا نوركم فلست أدري ماذا كان سيحدث لنا. الله يعلم متى تنتهي. ليس هناك نهاية لهذه الحياة الوضيعة. إلى أين قدمنا؟» سأل وهو يخفض صوته ويرفع عينيه إلى زوجة السادن.
قالت وهي تجفل ويحمر وجهها: إلى كوليفسكي هيل في مقاطعة الجنرال كلينوفسكي.
«أتسمع يا ستبان؟» استدار عامل البريد إلى السائق الذي كان محشوراً في الممر وعلى كتفه حقيبة البريد الضخمة «إننا بلغنا گوليافسكي هيل».
«نعم ابتعدنا كثيراً» قال السائق في صوت كصهيل الخيل وهو يخرج، ثم رجع ثانية وهو يحمل حقيبة أخرى، ثم خرج، وعاد مرة أخرى وهو يحمل سيف عامل البريد. ثم مضى إلى الغرفة الخارجية بعد أن أسند الحقائب إلى الجدران، وجلس هناك وأولع غليونه.
تساءلت ريزا: ربما رغبتما في شيء من الشاي بعد هذه الرحلة.
«كيف نستطيع الجلوس وشرب الشاي؟» قال عامل البريد معبساً «يجب أن نتدفأ بسرعة لننطلق وإلا تأخرنا عن قطار البريد. سنمكث عشرة دقائق ثم نواصل طريقنا ثانية. كوني محسنة جداً ودلّينا على الطريق».
قالت ريزا متأوهة: يا له من بليّة هذا الطقس!
- احم.. نعم.. من تكونين؟
- نحن؟ نحن نعيش هنا بجوار الكنيسة.. نحن من طائفة رجال الدين.. هناك يضطجع زوجي سافلي.. اصح يا سافلي وقل مساء الخير. كانت هذه أبرشية منفصلة لغاية قبل ثمانية عشر شهراً، وعندما كان الأعيان يعيشون هنا كان هناك عدد أكبر من الناس بطبيعة الحال، وكان الأمر يستحق القيام بالخدمات الدينية. لكن الأعيان مضوا الآن، ولست بحاجة إلى إخبارك أن رجل الدين لم يعد يعيش على شيء.. إن أقرب قرية هي مار كوفكا، وهي تبعد عنا ثلاثة أميال. وإن سافلي مدرج في قائمة المتقاعدين الآن، وقد حصل على وظيفة حارس، وعليه أن يحافظ على الكنيسة.
وحدّثت عامل البريد بأن سافلي لو قصد زوجة الجنرال وسألها أن تزوده برسالة إلى الأسقف لمنح مركزاً جيداً، ثم أضافت: لكنه لا يذهب إلى زوجة الجنرال لأنه كسول وخجل من الناس.. لكننا من طائفة رجال الدين على أية حال.
سألها عامل البريد: علام تعيشان؟
«هناك حديقة مطبخ وبستان تعود للكنيسة. لكننا لا ننال شيئاً كثيراً منهما» قالت ريزا وهي تتنهد «إن الأب نيكوديم، العجوز البخيل، من القرية المجاورة، يحتفل هنا في الشتاء بعيد يوم القديس نيكولا، ويحتفل في الصيف بعيد يوم القديس نيكولا، ولهذا السبب يستولي على جميع المحصول تقريباً. وليس هناك من يدافع عنا».
«أنت تكذبين» زمجر سافلي بصوت حانق «إن الأب نيكولا روح قديسة، إنه كوكب الكنيسة. وإذا أخذ المحصول فلأن الأنظمة تنص على ذلك».
«يا لك من شخص عابس» قال عامل البريد ضاحكاً «هل تزوجت منذ زمن طويل؟».
- تم زواجي في الأسبوع الأخير الذي يسبق الصوم الكبير منذ ثلاثة أعوام. كان والدي سادناً في الأيام الماضية، ولما دنا أجله قصد إلى المجمع الكنائسي وسألهم أن يبعثوا شخصاً أعزب ليتزوجني كيما أحتفظ بهذا المكان. وهكذا تزوجته.
«أها..! وهكذا ضربت عصفورين بحجر واحد» قال عامل البريد وهو ينظر إلى ظهر سافلي «حصلت على زوجة وعمل معاً».
قوّس سافلي ساقيه في صبر نافد وتحرك مقترباً من الجدار. ونهض عامل البريد مبتعداً عن المنضدة، وتمطى ثم قعد على حقيبة البريد. وفكر قليلاً ثم ضغط بيديه على حقائب البريد، ونقل سيفه إلى الجانب الآخر، واضطجع وإحدى قدميه تمس الأرض.
«إنها لحياة كلب» تمتم وهو يضع يديه خلف رأسه ويغمض عينيه «لست أتمنى لتتريّ متوحش مثل هذه الحياة».
ثم سكن في الحال كل شيء. لم يعد يسمع سوى شهيق سافلي، وتنفس عامل البريد البطيء، وكان يصدر عنه (هـ هـ هـ) بصوت عميق طويل كلما زفر. وكانت ريزا تسمع، بين حين وآخر، قرقعة في بلعومه، وخشخشة قدمه الملتوية على حقيبة البريد. تململ سافلي تحت اللحاف، وتطلع حواليه ببطء. كانت زوجه جالسة على المقعد وقد أسندت يديها إلى خديها وراحت تحدق في وجه عامل البريد. كان وجهها ساكناً كوجه شخص خائف مدهش.
همس سافلي مغضباً: حسناً، ما الذي يذهلك؟
«وما شأنك بهذا؟ نم» أجابت زوجه دون أن ترفع عينيها عن وجه عامل البريد.
نفخ سافلي الهواء كله خارج صدره في غضب، واستدار في حنق نحو الجدار. وما أن مضت ثلاث دقائق حتى استدار مرة أخرى بقلق، وركع على الفراش، ورمق زوجته بنظرات شزراء وهو يضع يديه على الوسادة. كانت ما تزال جالسة في سكون وهي تحدق في وجه الزائر. كانت وجنتاها شاحبتين، وكانت عيناها تتألقان بنور غريب. نظف السادن بلعومه، وزحف على بطنه خارج الفراش، واتجه إلى عامل البريد، وغطى وجهه بمنديل. سألت زوجه: ولم ذلك؟
- لأحجب النور عن عينيه.
- أطفئ النور إذن.
نظر سافلي إلى زوجته بارتياب، وقرب شفتيه من المصباح، لكنه غيّر رأيه بعد لحظة وشبك يديه. وهتف: أليست هذه خدعة شيطانية؟ آه، أهناك مخلوق أشد مكراً من النساء؟
«آه، أنت أيها الشيطان ذو المسوح الطويلة» غمغمت زوجته وهي تعبس في انزعاج «انتظر قليلاً».
اتخذت جلسة مريحة، ثم عادت تحدق في وجه عامل البريد من جديد. ولم يعنها كثيراً حجب وجهه. لم تكن معنية بوجهه بقدر عنايتها بمظهره كله، بجدّة هذا الرجل. كان صدره عريضاً قوياً، وكانت ساقاه العضليتان الجميلتان أكثر جمالاً من ساقي سافلي. لم يكن ثمة مجال في الواقع للمقارنة بينهما.
«حتى إن كنت شيطاناً طويل المسوح» قال سافلي بعد صمت قصير «فلا مكان لهما هنا... إنه عمل حكومي. قد نستجوب لتأخرهما. إذا حملت الرسائل فلابد أن تحملها.. ليس في إمكانك أن تستسلم للنوم... هاي... أنت» صاح سافلي في الغرفة الخارجية «أنت، أيها السائق.. ما اسمك؟ أأدلك على الطريق؟ اصح؛ يجب ألا ينام عامل البريد».
هرول سافلي نحو عامل البريد وهو شديد الحنق وسحبه من كمه، وهتف: هاي، يا صاحب السعادة، إذا كان لابد من ذهابك فاذهب؛ وإن لم يكن ضرورياً فليس هذا بحل.. النوم لا يؤدي إلى شيء.
قفز عامل البريد جالساً، وتطلع بعينين فارغتين حوالي الكوخ، ثم اضطجع ثانية.
«ولكن متى ستنصرف؟» دمدم سافلي «هذا هو الغرض من البريد... أن يصل إلى مكانه في الوقت المناسب. أسامع أنت؟ سأرافقك».
فتح عامل البريد عينيه. ورأى وكأنه ينظر من خلال ضباب، والنوم لا يزال عالقاً بعينيه، جيد زوجة السادن الأبيض وعينيها الثابتتين المغريتين. فأغمض عينيه وابتسم كأنه يحلم بما رأى.
«هيا، كيف تستطيع الذهاب في مثل هذا الجو؟» تناهى إلى أذنيه صوت أنثوي رقيق «لابد أن تنام نوماً عميقاً، وسيفيدك هذا».
«وماذا عن البريد؟» قال سافلي بقلق «من سيأخذ البريد؟ هل ستأخذه، أرجوك، أنت؟».
فتح عامل البريد عينيه ثانية وراقب حركة الغمازتين على وجنتي ريزا، وتذكر أين هو، وفهم سافلي. وبعثت فكرة خروجه في الظلام البارد رجفة باردة في جسده، وانتفض.
«قد نستطيع الوصول في الوقت المناسب بالضبط» تناهى إليه صوت من الغرفة الخارجية «ليس جميع الأيام سواء، قد يتأخر القطار أحياناً إذا أسعدنا الحظ».
نهض عامل البريد، وتمطى، وشرع يرتدي سترته، وصهل سافلي فرحاً حينما رآه يتأهب للرحيل.
«ساعدنا» صاح السائق وهو يرفع إحدى حقائب البريد، فهرول السادن يعاونه في جر حقائب البريد إلى الساحة. وطفق عامل البريد يحاول فك العقدة في غطاء الرأس. حدقت زوجة السادن في عينيه، وبدت كأنها تحاول رؤية روحه. ثم قالت: لابد أن تحتسي قدح الشاي.
«لم أكن لأرفض ذلك... ولكنك ترينهم يتأهبون للرحيل» قال مؤمناً على كلامها «نحن متأخرين على أية حال».
«أرجوك، ابق» همست وهي تخفي عينيها وتلمس كميه.
أفلح عامل البريد في حل العقدة أخيراً، وألقى غطاء الرأس على مرفقه متردداً. وأحس بارتياح في وقوفه بجوار ريزا.
«يا له من جيد هذا الذي تملكينه!» ولمس جيدها بإصبعين. ولما لم تبدر منها أية مقاومة أخذ يمسد رقبتها وكتفيها «ربما... أنت».
- خير لك أن تبقى.. أن تحتسي شيئاً من الشاي.
«أين تضعها؟» سمع صوت السائق في الخارج «ضعها بصورة متقاطعة».
- خير لك أن تبقى.. اسمع كيف تعوي الريح!
اجتاحت عامل البريد، الذي لم يستطع أن ينحّي عنه سكرة نوم الشباب المتعب، والذي لم يكن قد صحا بعد، رغبة جارفة تنسيه كل حقائب البريد، كل قطارات البريد، كل شيء في العالم. وتطلع إلى الباب في وجل، كما لو أنه يبغي الهرب أو الاختفاء، وأمسك ريزا من خصرها، وأوشك أن ينحني على المصباح ويطفئ النور حينما سمع خطوات في الغرفة الخارجية، ثم ظهر السائق في المدخل. وأطل سافلي من فوق كتفيه. أنزل عامل البريد ذراعيه بسرعة كما لو أنه كان متردداً. قال السائق: أُعدّ كل شيء.
ظل عامل البريد جامداً في سكون لحظة، ثم هز رأسه بعزم كما لو أنه صحا كلياً، وتبع السائق إلى الخارج. وبقيت ريزا وحيدة. ثم سمعته يقول: «تعال، ادخل ودلنا على الطريق».
صلصل أحد الأجراس بضعف، وابتعد الصليل عن الكوخ في سلسلة طويلة رقيقة. وحينما ماتت الأصوات شيئاً فشيئاً نهضت ريزا وانطلقت تذرع الغرفة وهي مهتاجة الأعصاب. كانت شاحبة في البدء، ثم احمر وجهها كلياً ولاح الحقد على صفحته، واضطرب تنفسها، وبرقت عيناها بغضب وحشي حيواني. وبدت كنمرة تهدد بحديدة محميّة. وكانت تذرع الغرفة وكأنها تدور في قفص! وقفت جامدة لحظة، وألقت نظرات فاحصة على مسكنها. كان السرير الممتد على طول الجدار يملأ نصف الغرفة تقريباً. وكان على السرير فراش ريشي قذر، ووسائد رمادية، ولحاف مرقع، وخرق لا أسماء لها من جميع الأنواع. كان السرير كتلة قبيحة بدون شكل، كشعر سافلي الذي يقف كلما دهنه ويتجمع في كتلة كريهة. ويمتد من السرير حتى الباب المؤدية إلى الغرفة الخارجية الباردة موقد مظلم محاط بالأواني والخرق القذرة. كان كل شيء، بضمنه سافلي نفسه، قذراً، مزيّتاً، منحطاً إلى أبعد حد، حتى ليبدو غريباً أن ترى في هذا الوسط امرأة ذات جيد أبيض وبشرة رقيقة.
جرت ريزا إلى الفراش، وبسطت يديها كأنها تروم أن تبعثره حولها، ثم داسته بقدميها ومزقته إلى قطع. ثم قفزت متراجعة إلى الخلف، كأن لمسها القذارة قد أفزعها، وانطلقت تذرع الغرفة ثانية.
حينما رجع سافلي بعد ساعتين، وهو متعب قد غطاه الثلج، كانت هي قد خلعت ملابسها واندست في الفراش. كانت عيناها مغمضتين، لكنه خمن من الارتعاش البسيط الذي لاح على وجهها أنها ليست نائمة. كان قد قرر في أعماقه، وهو في طريقه إلى البيت، ألا يمسها وأن ينتظر إلى اليوم التالي. لكنه لم يستطع أن يقاوم رغبته الملحة في تعنيفها.
«ذهب سحرك كله عبثاً... لقد رحل» قال وهو يضحك في سرور حاقد.
ظلت زوجه ساكنة، لكن ذقنها ارتعش. خلع سافلي لباسه ببطء، وتسلق فوق زوجه واضطجع بجوار الحائط. وتمتم وهو يقوّس جسده: سأخبر الأب نيكوديم أي نوع من الزوجة أنت.
أدارت ريزا وجهها إليه وقد برقت عيناها وقالت: هذا العمل ملائم لطموحك، وفي وسعك أن تبحث عن زوجة في الغابة، عليك اللعنة. أنا لم أعد زوجة لك أيها الجلف الأخرق المكسال، سامحني الله.
- هيا... هيا... نامي.
«ما أعظم شقائي!» قالت الزوجة باكية «لولاك لتزوجت تاجراً، أو سيداً. لولاك لكنت أحب زوجي الآن. ولم يحدث أن تدفن في الثلج! لم يحدث أن تتجمد في الطريق العام يا هيرودس»
ظلت ريزا تبكي وقتاً طويلاً. ثم أطلقت أخيراً آهة عميقة وسكنت. كانت العاصفة لا تزال هائجة في الخارج. وناح شيء ما في الموقد، في المدخنة، في الجدران، وبدا لسافلي أن النواح في أعماقه في أذنيه. لقد تأكدت هذه الليلة شكوكه في زوجه نهائياً. إنه لم يعد يشك بأن زوجه، بمساعدة الشيطان، تسيطر على الرياح وعلى زحافات البريد. لكن هذا الغموض، هذه القسوة السحرية الخارقة، أكسبت المرأة المضطجعة بجواره -على الرغم من حزنه- سحراً خاصاً غير مفهوم لم يكن يعرفه من قبل. وأضفت بلادته سحراً شعرياً على عملها، على مظهرها. وبدت أنصع بياضاً، أشد نعومة، لا يمكن الدنو منها.
«ساحرة» تمتم بحنق «تفوو... مخلوقة مخيفة».
ومع ذلك انتظر حتى هدأت وانتظم تنفسها، ولمس رأسها بإصبعه. وأبقى ضفيرتها الكثيفة بين يديه فلم تشعر بذلك. فتجرأ وأخذ يمسد عنقها.
«دعني» صرخت ولكزته بمرفقها على أنفه بعنف شديد حتى لاحت نجوم أمام عينيه. واختفى الألم من أنفه سريعاً، لكن العذاب بقي في قلبه.

الطبيب
كان الهدوء يخيّم على غرفة الاستقبال، هدوء عميق يمكن فيه سماع أزيز ذبابة دخلت الغرفة وظلت أجنحتها تكنس السقف. وكانت أولجا إيفانوفا، صاحبة المنزل، شاخصة بجوار النافذة، تتأمل أحواض الزهر مفكرة. وكان الدكتور تسفيتكوف، وهو طبيبها الخاص وصديقها القديم، وقد قدم ليعالج ابنها ميشا، جالساً في كرسيّ مريح وهو يتلاعب بقبعته مستسلماً للتفكير. ولم يكن سواهما في غرفة الاستقبال أو الغرف المجاورة. وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، فزحفت ظلال المساء في الزوايا وتحت الأثاث وعلى الأطناف.
حطمت أولجا إيفانوفا الصمت أخيراً فقالت دون أن تتحول عن النافذة: ليس في وسع أحد أن يتصور كارثة أفدح. أنت تعلم أن الحياة مهما كانت لا تساوي عندي شيئاً بدون هذا الطفل.
أجاب الطبيب: أجل، إنني أعلم ذلك.
قالت أولجا إيفانوفا بصوت مرتعش: لا تساوي عندي شيئاً مهما كانت. إنه كل شيء لديّ. إنه سروري، سعادتي، ثروتي. وإذا لم أعد أُمّاً كما تقول، إذا.. مات، فلن يتبقى مني سوى ظل. ليس في قدرتي أن أواصل الحياة.
وصفقت أولجا إيفانوفا كفاً بكف، وعبرت من نافذة إلى أخرى وعادت تقول: أردت أن أرسله إلى ملجأ اللقطاء ساعة ولادته، وأنت تتذكر ذلك. ولكن يا إلهي، كيف يمكن أن يقارن ذلك الوقت بهذا العهد؟! كنت حينذاك امرأة عادية، غبية، ذات رأس كرأس الطير، لكنني الآن أمّ، أتفهمني؟! إنني أمّ، وهذا كل ما يهمني. هناك فجوة عميقة بين الماضي والحاضر.
هيمن الصمت ثانية، وانتقل الطبيب من المقعد إلى الأريكة، وتلاعب بقبعته بصبر وعيناه مثبتتان على أولجا إيفانوفا. كانت تلوح على وجهه رغبة في الكلام، لكنه كان يترقب اللحظة المناسبة. وقالت السيدة وهي تستدير نحوه: إنك صامت، لكنني ما أزال متشبثة بالأمل.. لماذا تستمسك بالصمت؟!
أجاب تسفيتكوف: يسرني كل السرور أن أتعلق بخيط من الأمل لو أمكن ذلك يا أولجا. ولكن لا أمل هناك. أجل، علينا أن نواجه الحقيقة الشنيعة. الولد مصاب بخراج في الدماغ، ولابد أن نهيّئ أنفسنا لموته، فمثل هذه الحالات مستحيلة الشفاء.
- نيكولا، أواثق أنت من صدق ظنك؟
- إن مثل هذه الأسئلة لا تفضي إلى شيء. إنني مستعد أن أجيب على الكثير منها إن شئت، لكن ذلك لن يحسّن الموقف بالنسبة إلينا.
ضغطت أولجا إيفانوفا وجهها بين ستائر النافذة وبدأت تنتحب بمرارة. ونهض الطبيب، وقطع الغرفة ذهاباً وإياباً مراراً عديدة، ثم اتجه إلى المرأة الباكية ومسّ ذراعها برفق. كان يلوح عليه، من حركاته القلقة، من تعبير وجهه الكئيب الذي بدا معتماً في نور الغسق، أنه يريد أن يقول شيئاً. ثم راح يقول: أصغي إليّ يا أولجا. امنحيني لحظة انتباه. هناك شيء أحب أن أسألك عنه. أنا أعلم أنه يتعذر عليك الاهتمام بي الآن. سأعود إلى الموضوع مرة أخرى، بعدئذ..
وترامى على المقعد ثانية وغاص في أفكاره. وتواصل البكاء المرّ الضارع، كبكاء فتاة صغيرة. وأطلق تسفيتكوف حسرة حرّى، ثم غادر غرفة الاستقبال قاصداً غرفة ميشا. كان الطفل راقداً على ظهره محدّقاً في نقطة واحدة كأنه منصت. جلس الطبيب على حافة فراشه وجسّ نبضه ثم سأله: ميشا، أتحسّ بصداع؟
أجاب ميشا بعد قليل: أجل، إنني أحلم.
- بماذا تحلم؟
- بأشياء كثيرة.
مرّ الطبيب الذي لا يحسن الكلام مع النساء الباكيات والأطفال يده على رأس الطفل الملتهب ثم تمتم: لا بأس يا ولدي المسكين.. لا بأس. ليس بوسع الإنسان أن يعيش حياته بدون أمراض. ميشا.. من أنا؟ أتعرفني؟
فلم يجب ميشا.
- أتحس بصداع شديد؟
- جداً. إنني أحلم.
مشى الطبيب ببطء إلى غرفة الاستقبال بعد أن أتم فحص الطفل. وسأل الخادمة المشرفة على تمريضه بعض الأسئلة. كان الظلام قد غمر الحجرة، وكانت أولجا إيفانوفا المنتصبة بإزاء النافذة تلوح كالشبح. سألها تسفيتكوف: أأضيء النور؟
فلم يحظ بجواب. كانت الذبابة ما تزال تكنس السقف بجناحيها. وكان السكون عميقاً، عميقاً، كأن الكون قد انغمر في التفكير، شأن الطبيب، وعجز عن الكلام. كانت أولجا إيفانوفا قد كفت عن البكاء، لكنها لبثت تحدق في أحواض الزهر بصمت. ولما اقترب تسفيتكوف منها، وتفرس في وجهها الشاحب الذي أمضه الحزن، لمح فيه التعبير الغريب الذي يطرأ عليه عندما يهاجمها الصداع الحاد المذهل. خرجت من صمتها قائلة: نيكولا بتروفيتش. ما رأيك في عقد لجنة من الأطباء؟
- حسناً. سأرتب الأمر غداً.
كان يتجلّى في لهجة الطبيب الشك في فائدة عقد تلك اللجنة. وودّت أولجا إيفانوفا أن تسأله أمراً آخر، لكن شهقاتها حالت دون ذلك. وانبرت تضغط وجهها بعنف بين ستائر النافذة. وفي تلك اللحظة طافت في الفضاء أنغام جوقة موسيقية تعزف في النادي المجاور. كان من الممكن سماع موسيقى القيثار والفلوت، بالإضافة إلى الموسيقى الهوائية. تساءلت أولجا إيفانوفا: لماذا يظل مستمسكاً بالصمت إن كان يقاسي الآلام؟ لم ينبعث منه أي صوت طوال اليوم، ولم يشك أبداً. أنا أعلم أن الله سيسترد الولد المسكين منّا لأننا لم نعرف قدره.. إنه كنز نادر!
فرغت الجوقة من عزف المارش، وشرعت بعد دقيقة في عزف فالس لافتتاح الحفلة. وقالت أولجا إيفانوفا بصوت كالأنين: يا إلهي. ألا يمكن أن يعمل شيء لإنقاذه؟ نيكولا، أنت طبيب، وينبغي أن تعرف ماذا يجب أن تصنع. ينبغي أن تفهم أنني لا أحتمل فقده، لا أطيق الحياة بدونه.
أطلق الطبيب الذي لا يحسن الكلام مع النساء الباكيات حسرة حرّى، وخطا ببطء حول غرفة الاستقبال. ثم أعقب ذلك سلسلة من فترات الصمت الخانقة يقطّعها النحيب والأسئلة غير المثمرة. وعزفت الجوقة أثناء ذلك موسيقى لرقصة الكوادريل، ثم لرقصة البولكا، ثم لرقصة الكوادريل مرة أخرى. اشتدت حلكة الظلام، وأضاءت الخادمة المصباح في الغرفة المجاورة. وخلال ذلك ظل الطبيب يمسك قبعته بيده ويحاول أن يقول شيئاً. ومضت أولجا إيفانوفا إلى ولدها عدة مرات، ومكثت بجواره نصف ساعة، ثم عادت ثانية إلى غرفة الاستقبال. كانت تنخرط بين حين وآخر في البكاء والولولة. وزحف الوقت في عذاب، وبدا كأن الأمسية لا نهاية لها.
وحوالي منتصف الليل، حينما عزفت الجوقة موسيقى لرقصة الكوادريل ثم كفت عن العزف، تأهب الطبيب للانصراف. قال وهو يشد على يد الأم الباردة: سأعود غداً مرة ثانية. اذهبي إلى فراشك.
وبعد أن ارتدى معطفه الكبير وتناول عصاه توقف، وفكر دقيقة، ثم عاد ثانية إلى غرفة الاستقبال. قال بصوت مرتعش: سأعود غداً يا أولجا. أتسمعينني؟
فلم ترد عليه. وبدا كأن الحزن سلبها القدرة على الكلام. جلس الطبيب بجوارها غارقاً في معطفه وعصاه في يده. قال بصوت ليّن رقيق يشبه الهمس، ويغاير مظهره الضخم المتزمت: أولجا، أستحلفك بأحزانك التي أشاركك فيها... الآن، حيث يصبح الكذب جريمة، أتوسل إليك أن تقولي الحقيقة. أنت صرحت دائماً أن هذا الطفل ولدي. فهل حقٌ ما تدعين؟!
بقيت أولجا إيفانوفا غارقة في صمتها. وواصل الطبيب قوله: كنت الغرام الوحيد في حياتي، وليس بوسعك أن تتصوري عمق الجرح الذي يخلفه الكذب في مشاعري. هيا، أتوسل إليك يا أولجا أن تقولي الحقيقة ولو مرة في حياتك. قولي أن ميشا ليس ولدي. إنني على استعداد لسماعك.
- إنه ولدك.
لم يكن وجه أولجا إيفانوفا واضحاً، لكن الطبيب تبيّن في صوتها التردد. تنهد ثم قال بصوته الاعتيادي: في وسعك أن تكذبي حتى في مثل هذه اللحظات. لا شيء مقدس لديك. أرجوك أن تصغي إليّ، أن تفهميني. كنت الغرام الوحيد في حياتي. أجل، كنت عادية، محتقرة، لكنني لم أحب أحداً غيرك في حياتي. إن ذلك الحب الحقير هو البقعة الوحيدة المنيرة في ذكرياتي بعد أن تقدم بي العمر. فلماذا تسوّدينها بالخداع؟! ولأجل أي شيء؟!
- لست أفهم ما تعني.
صرخ تسفيتكوف: أوه يا إلهي!
وأردف بصوت أشد عنفاً: أنت تكذبين. أنت تفهمين ما أعنيه جيداً.
وانطلق يذرع غرفة الاستقبال ملوّحاً بعصاه، ثم استأنف يقول: أم هل نسيت؟ سأذكّرك إذن. لقد شاركني بواجبات أبوّة الطفل بتروف وكروفسكي، اللذان ما يزالان يخصصان لك راتباً لتعليمه، كما أفعل أنا تماماً. أجل، إنني أعلم كل هذا جيداً، ومع ذلك غفرت لك كذبك في الماضي، فماذا يهم؟ ولكن الآن، بعد أن تقدم بك السن، في هذه اللحظة والطفل يحتضر. إن أكاذيبك تخنقني. ما أعظم أسفي لأنني غير قادر على الكلام. ما أعظم أسفي!
فكّ الطبيب أزرار معطفه، وقال وهو ما يزال يخطو حول الغرفة: امرأة تعسة. حتى هذه اللحظات لا تؤثر فيها، حتى في هذه اللحظات تكذب ببساطة، كما كذبت قبل تسعة أعوام في (مطعم الصومعة). إنها تخشى أن أنقطع عن مدّها بالنقود إن أقرّت بالحقيقة. إنها تحسب أنني لن أحب الولد إن لم تكذب. إنها لوضاعة، دناءة.
وقرع الطبيب الأرض بعصاه وصرخ: إنها لحقارة. أيتها المخلوقة المعوجة الفاسدة. ينبغي عليّ أن أحتقرك، أن أخجل من مشاعري. أجل، إن أكذوبتك انحشرت في بلعومي هذه الأعوام التسعة، لقد احتملتها طويلاً. ولكن الآن، إنها كثيرة جداً عليّ، كثيرة جداً.
انبعث صوت نحيب من الركن المظلم الذي انزوت فيه أولجا إيفانوفا. وكف الطبيب عن الكلام ونظف بلعومه. وأعقب ذلك صمت ثقيل. ثم زرّر الطبيب ببطء معطفه، وبحث عن قبعته التي أسقطها في مكان ما من الغرفة. تمتم وهو ينحني على الأرض: لقد فقدت صوابي. غاب عن إدراكي أنك لا يمكن أن تعني بأمري الآن. والله يعلم ماذا قلت. لا تلق بالا لما قلت يا أولجا.
عثر على قبعته فاتجه نحو الركن المظلم، وقال بصوت رقيق يشبه الهمس: لقد جرحت مشاعرك، لكنني أتوسل إليك مرة أخرى. قولي الحقيقة. ينبغي أن لا تكون بيننا أكاذيب. أنت تعرفين الآن أن أمر بتروف وكروفسكي غير خاف عليّ. فمن اليسير عليك الآن قول الحقيقة.
فكرت أولجا إيفانوفا لحظة ثم قالت بتردد: نيكولا. أنا لست كاذبة. إن ميشا ابنك.
فزفر الطبيب وقال: يا إلهي. سأخبرك بشيء آخر إذن. إنني أحتفظ برسالتك الموجهة إلى بتروف التي تدعينه فيها والد ميشا. أولجا، أنا أعرف الحقيقة، لكنني أريد سماعها منك. أتفهمين؟
فلم ترد عليه أولجا إيفانوفا، وواصلت نحيبها. انتظر الطبيب جوابها، ثم هزّ كتفيه وخرج. وهتف وهو في الممر: سأعود غداً.
وفي أثناء عودته إلى منزله، وهو منزو في العربة، راح يهز كتفيه ويتمتم: يا للأسف إنني لا أحسن الكلام. إنني مجرد من موهبة الاستدراج والإقناع. من الواضح أنها لا تفهمني ما دامت تكذب عليّ. كيف أستطيع أن أفتح عينيها؟ كيف؟!

الاحتفال
شخصيات المسرحية:
أندريا أندريفتش شيبوتشين : رئيس مجلس إدارة مصرف القرض المتبادل لمدينة ن، شاب بنظارة.
تاتيانا ألكسيفنا : زوجته، عمرها خمس وعشرون سنة.
كوزما نيكولايفيتش هيرين : محاسب المصرف، عجوز.
ناستاسيا فيدوروفنا مرتشوتكين: امرأة عجوز.
أعضاء مجلس الإدارة.
(تجري الحوادث في مصرف القرض المتبادل لمدينة (ن). مكتب المدير العام. على اليسار باب تؤدي إلى قسم الحسابات. منضدتان للكتابة. المكتب مفروش بشكل ينم عن ذوق؛ ستائر مخملية، أزهار، تماثيل، سجاد، تلفون. الوقت منتصف النهار. هيرين وحيداً، وهو يرتدي غطاء حذاء من اللباد).
هـيرين: :





















شيبوتشين :






هيرين :

شيبوتشين :








هيرين :
شيبوتشين :
هيرين :

شيبوتشين :








هيرين :


شيبوتشين :


هيرين :


شيبوتشين :


هيرين :

شيبوتشين :














هيرين :
شيبوتشين :











هيرين :

شيبوتشين :

هيرين :





شيبوتشين :
هيرين :


شيبوتشين :
هيرين :






شيبوتشين :












شيبوتشين :

شيبوتشين :
تاتيانا ألكسيفنا :



شيبوتشين :

تاتيانا ألكسيفنا :




شيبوتشين :

تاتيانا ألكسيفنا :
شيبوشين :


تاتيانا ألكسيفنا :



شيبوتشين :

تاتيانا ألكسيفنا :














شيبوتشين :

تاتيانا ألكسيفنا :




مدام مرتشوتكين:


شيبوتشين :
مدام مرتشوتكين:









شيبوتشين :
تاتيانا ألكسيفنا :




هيرين :

تاتيانا ألكسيفنا: :

شيبوتشين :
تاتيانا ألكسيفنا :شبوتشين :

تاتيانا ألكسيفنا :شيبوين :


مدام مرتشوتكين:



شيبوين :


مدام مرتشوتكين:

شيبوتشين :


شيبوتشين :


مدام مرتشوتكين:
شيبوتشين :

مدام مرتشوتكين:

شيبوتشين :
هيرين :
شيبوتشين :





شيبوتشين :



مدام مرتشوتكين:


شيبوتشين :




هيرين :
مدام مرتشوتكين:


هيرين :
مدام مرتشوتكين:
هيرين :
مدام متشوتكي
هيرين :
مدام مرتشوتكين:
هيرين :


م مرتشوتكين:

هيرين :
:
مدام مرتشوتكين:
هيرين :
مرتشوشكين:
هيرين :

مرتشوتكين:
هيرين :



مدام مرتشوتكين:

هيرين :


مدام مرتشوتكين:


تاتيانا ألكسيفنا :



شيبوتشين :

مرتشوتكين:
شيبوتشين :
مدام مرتشوتكين:


شيبوتشين :


هيرين :

شيبوتشين :

مرتشوتكين:
هيرين :

مرتشوتكين:
شيبوتشين :


مدام مرتشوتكين:

شيبوتشين :
تاتيانا ألكسيفنا :
مدام مرتشوتكين:
شيبوتشين :
مرتشوتكين:
شيبوتشين :


مرتشوتكين:
تاتيانا ألكسيفنا :











شيبوتشين :
تاتيانا ألكسيفنا :
شيبوتشين :

مرتشوتكين:
تاتيانا ألكسيفنا :


مرتشوتكين:
شيبوتشين :

هيرين :
شيبوتشين :

هيرين :

تاتيانا ألكسيفنا: :شيبوتشين :هيرين :
تاتيانا ألكسيفنا :
شيبوتشين :

هيرين :

شيبوتشين :
مرتشوتكين:

تات يانا ألكسيفنا :
هيرين :
مرتشوتكين:


شيبوتشين :
هيرين :





أحد المفوضين :








م مرتشوتكين:
تاتيانا ألكسيفنا :المفوض :

شيبوتشين :


المفوض :
(يصيح عند الباب) ابعث شخصاً إلى الصيدلي ليحضر الدواء، واسألهم أن يجلبوا ماء نظيفاً لمكتب المدير. أمن الواجب أن أخبرك مائة مرة؟ (يتجه إلى المنضدة). إنني استهلكت كلياً. مضت عليّ ثلاثة أيام بلياليها وأنا أكتب دون أن يغمض لي جفن... منكباً على العمل هنا من الصباح حتى المساء، ثم أواصل العمل في البيت من المساء حتى الصباح. (يسعل) إنني فريسة للأمراض. أرتجف، أسعل، درجة حرارتي مرتفعة، وساقاي تؤلمانني. وهناك كل نوع من... النقط والخطوط أمام عيني. (يجلس) إن هذا الحال ليؤثر حتى في الحمار. سيقرأ مديرنا المحتال تقريراً اليوم في الاجتماع العام... مصرفنا في حاضره ومستقبله... (يكتب) اثنان... واحد... واحد... ستة... صفر... ستة... إنه يريد أن يملأ الفراغ، وعليّ أن أجلس هنا وأعمل كما يعمل الخادم في مطبخ السفينة. إنه لم يساهم في هذا التقرير إلا باللمسات الشعرية، وتركني أعمل فيه وحيداً لأيام عديدة، أجمع وأطرح الأرقام. فليأخذ الشيطان روحه. (يعدّ في لوحة الحسابات). لا أستطيع احتمال الرجل. (يكتب) واحد... ثلاثة... سبعة... اثنان... واحد... صفر... إنه وعد بمكافأتي على عملي. إذا سار كل شيء اليوم على ما يرام، وأفلح في خدع الجمهور فسيقدّم لي مدالية ذهبية ومكافأة مالية قدرها ثلاثمائة روبل كما وعد... سنرى (يكتب). وإذا لم أنل شيئاً لقاء أتعابي فعليه أن يحتاط لنفسه... إنني رجل نزق. قد أقدم على ارتكاب أية فعلة إذا أثرت... نعم (يسمع وراء المسرح ضوضاء تصفيق. صوت شيبوتشين: «شكراً، شكراً. لقد هززتم مشاعري». يدخل شيبوتشين وهو مرتد سترة رسمية ورباطاً أبيض وبين يديه «ألبوم» أهدي إليه قبل دقائق).
(يقف عند الباب وينظر إلى قسم الحسابات) سأحتفظ بهديتكم هذه أيها الزملاء الأعزاء حتى يوم مماتي، ذكرى للأيام السعيدة في حياتي. أجل أيها السادة. إنني أقدم لكم شكري مرة أخرى (يطير إليهم قبلة، ويتجه نحو هيرين) يا عزيزي كوزما نيكولايفيتش الطيب...
(يقدم الموظفون إلى المسرح بين حين وآخر وبيدهم أوراق يوقعها شيبوتشين ثم يخرجون).
(ينهض) أتشرف بتقديم تهنئتي إليكم بمناسبة العيد السنوي الخامس عشر لمصرفنا، وآمل أن...
(يضغط على يديه بحرارة) أشكرك أيها الزميل القديم المحبوب. أحسب أن في وسعنا بهذه المناسبة المجيدة، بمناسبة هذا العيد، أن نتبادل القبل. (يتبادلان القبل) إنني مسرور جداً، جداً. شكراً على عملك الممتاز، على كل شيء. وإذا كنت قد أنجزت أي شيء مفيد خلال هذه الفترة التي تقلدت فيها وظيفة رئيس مجلس الإدارة فالفضل يعود إليك أولاً وإلى زملائي الآخرين ثانياً. (يتنهد) أجل أيها الزميل القديم، خمسة عشرة عاماً، خمسة عشرة عاماً بالتأكيد كما لا شك في أن اسمي شيبوتشين. (في شوق) وماذا عن تقريري؟ أهو سائر على ما يرام؟
نعم، لم يتبق سوى خمس صفحات.
إذن سيكون معداً حتى الساعة الثالثة؟
إذا لم يؤخرني أي شخص فسأفرغ منه. لم يتبق منه سوى شيء قليل.
عظيم، عظيم، كما لا شك في أن اسمي شيبوتشين. سيكون الاجتماع العام في الساعة الرابعة. اسمع يا زميلي العزيز، دعني آخذ النصف الأول، سألقي عليه نظرة.. أسرع، ناولني إياه... (يأخذ التقرير).. إنني أتوقع أموراً عظيمة من وراء هذا التقرير... إنه قنبلتي في الاجتماع... قنبلتي كما لا شك في أن اسمي شيبوتشين... (يجلس ويقرأ في التقرير) ومع ذلك فأنا أشعر بإرهاق شيطاني... هاجمني داء المفاصل في الليلة الماضية. وأمضيت ساعات الصباح في الجري من مكان إلى آخر لقضاء بعض الأعمال. ثم هذا الانفعال.. هذا الاحتفال... إنه لأمر مزعج للغاية. إنني متعب.
(يكتب) اثنان... صفر... صفر... ثلاثة... تسعة... اثنان... صفر... الأرقام تصيب عيني بالدوار... ثلاثة... واحد... ستة... أربعة... واحد... خمسة (يخشخش في لوحة الحسابات).
وهناك مسألة مزعجة أخرى. جاءت زوجتك هذا الصباح وشكتك إليّ مرة أخرى. قالت إنك جريت وراءها ووراء أختها أمس وأنت تحمل سكيناً. كوزما نيكولافيتش، ماذا بعد؟! أي... أي!
(بانزعاج) سأخاطر يا أندريا أندريفيتش، بمناسبة هذا الاحتفال، وأسألك أداء خدمة لي، ولو جزاء عملي هنا كالعبد، وهي ألا تتدخل في شؤون العائلة. أرجوك..
إن لك مزاجاً لا يطاق يا كوزما نيكولافيتش. أنت إنسان عظيم لا سبيل إلى تقديره، لكنك تتصرف كجاك الحرامي مع النساء. أنت تفعل كذلك حقاً؛ لست أستطيع أن أفهم لماذا تكرهن إلى هذا الحد.
ولست أستطيع أن أفهم لماذا تحبهن أنت إلى هذا الحد. (فترة صمت).
قدّم إليّ الكتّاب الآن «ألبوما» وقد سمعت أن أعضاء مجلس الإدارة سيحيونني بخطاب ويقدمون إليّ كأساً فضية. (يداعب نظارته) إن هذا شيء جميل كما لاشك في أن اسمي شيبوتشين. لابد أن يعمل الإنسان في سبيل الخير. لابد أن تنالنا بعض المتاعب من أجل المصرف. فليأخذه الشيطان. إنك واحد منا، وأنت تعرف عن الأمر كل شيء. لقد كتبت الخطاب بنفسي، واشتريت الكأس الفضية على حسابي الخاص. ولقد كلفني رباط الخطاب وحده خمسة وأربعين روبلاً. ولكن لابد من هذا، فهم لا يتذكرون هذه الأمور من تلقاء أنفسهم. (يتطلع حواليه) تأمل هذه الاستعدادات التي أجريناها على المكان. ألا يبدو جميلاً؟ إنهم يقولون لي إن فكرة صقل الأقفال وارتداء الموظفين أربطة جديدة ووقوف بواب ضخم في المدخل فكرة بديعة جداً. لا شيء في ذلك يا سيدي العزيز. ليس ثمة أي شيء بديع في صقل الأقفال أو وقوف البواب في المدخل. قد أكون في البيت شديد الخشونة، وقد آكل وأنام كالخنزير، وأشرب حتى أسكر، لكنني...
دع التلميحات من فضلك.
ليس هناك تلميحات. يا لها من طباع لا تطاق هذه التي تتحلى بها! حسناً، ربما كنت شديدة الخشونة في البيت كما قلت، ربما كنت محدث النعمة متخلياً عن عاداتي، لكنني أبذل هنا أقصى جهودي لخلق شيء جليل. هذا هو المصرف. لابد أن تكتسب أية مسألة هنا مهما كانت تفاهتها صفة خطيرة مؤثرة، وأن يكون لها جو خطير. (يلتقط قصاصة من الورق ويلقيها في النار). لقد تحملت على عاتقي رفع سمعة المصرف... السمعة شيء عظيم... شيء عظيم كما لاشك في أن اسمي... (يدقق النظر في هيرين) يا عزيزي، قد يحضر المفوضون من قبل أصحاب الأسهم في أية لحظة وأنت جالس في هذه السترة التي لا لون لها، مرتدياً غطاء حذاء من اللباد... كان ينبغي عليك على الأقل أن ترتدي سترة رسمية... أو سترة «فراك» سوداء.
صحتي أهم عندي من أصحاب الأسهم. إنني أقاسي من الالتهابات في جميع أجزاء جسدي.
(يزداد انفعاله) لكن هذا الوضع لا يناسب المقام! أنت تفسد انسجام الحفل.
إذا حضر المفوضون فسأختفي عن الأنظار. إنها ليست مسألة هامة. (يكتب) سبعة... واحد... سبعة... اثنان... واحد... خمسة... صفر... أنا لا أحب أي شيء لا يناسب المقام... سبعة... اثنان... تسعة... (يخشخش في لوحة الحسابات) لا أستطيع أن أهضم أي شيء لا يناسب المقام. فمثلاً كان الأفضل ألاّ تدعو السيدات إلى حفلة العشاء التي تقام بمناسبة هذا الاحتفال...
يا له من هذر!
أنا أعلم أنك ستملأ بهن غرفة الاستقبال، لتعمل منهن معرضاً بديعاً، ولكن تذكر أنهن سيفسدن لك الحفلة. إنهن مصدر كل إزعاج وكارثة.
الحقيقة عكس ما تقول كلياً. إن مجتمع النساء يهذب النفوس.
أحسب أن زوجتك ذات ثقافة راقية، ومع ذلك فقد قالت شيئاً يوم الاثنين الماضي لم أستطع أن أنساه خلال اليومين التاليين لشدة غرابته. فقد هتفت فجأة أمام الغرباء: «أصحيح أن زوجي ابتاع أسهم دريازخور بريازخي التي هبطت في البورصة؟ أوه، إنه شديد القلق عليها». تصور أنها تقول هذا الكلام أمام الغرباء! إنني لم أستطع أن أفهم السبب الذي دعاها إلى أن تكون صريحة أمامهم إلى هذا الحد! أكانت ترغب في جرّك إلى المتاعب؟!
هيا، يكفي هذا، يكفي هذا. هذا الحديث كئيب جداً في مثل هذا الاحتفال. وبهذه المناسبة، لقد ذكرتني. (ينظر في ساعته) سيحضر نصفي الأفضل إلى هنا مباشرة. كان ينبغي عليّ أن أستقبلها في المحطة، لكن وقتي لا يتسع لذلك... وأنا... منهوك القوى... والحقيقة أنني لست مرتاحاً لحضورها، أعني أنني مسرور، لكنني كنت سأزداد سروراً لو أنها أطالت المكث يومين آخرين لدى أمها. لاشك أنها تتوقع أن أمضي الليلة كلها بصحبتها، بينما هيأنا هنا نزهات لطيفة بعد العشاء. (يرتجف) تأمل، الارتجافات العصبية تهز جسدي منذ الآن. أعصابي شديدة التوتر، حتى أنني موشك على البكاء لأدنى إثارة. كلا، ينبغي أن أكون صلباً كما لاشك في أن اسمي شيبوتشين.
(تدخل تاتيانا ألكسيفنا وهي مرتدية رداء مطر، وقد تدلت من أحد كتفيها حقيبة سفر).
ياه! ونحن نتحدث عن الملائكة!
(تهرع إلى زوجها؛ قبلة طويلة).
وكنا قبل لحظات نتحدث عنك.
(مبهورة الأنفاس) هل اشتقت إليّ؟ أأنت بصحة تامة؟ أنا لم أذهب إلى البيت بعد. جئت من المحطة إلى هنا مباشرة. عندي أشياء كثيرة أحب أن أحدثك عنها... أشياء كثيرة. حضرت لأمكث دقيقة واحدة فقط (إلى هيرين) كيف حالك يا كوزما نيكولافيتش؟ هل كل شيء على ما يرام في البيت؟
على ما يرام. لماذا. لقد سمنت وازداد جمالك أثناء هذا الأسبوع. كيف وجدت الرحلة؟
رائعة. ماما وكاتيا ترسلان إليك تحياتهما. وقد بعثت إليك العمة جرة من المربى. والجميع غاضبون عليك لانقطاعك عن الكتابة إليهم. وقد سألتني ندينا أن أقبلك بالنيابة عنها. (تقبله). آه، لو كنت تعلم فقط ماذا حدث! ماذا حدث! لكنني أخشى إخبارك بالتأكيد. أوه، حدث شيء فظيع... ولكن يبدو على وجهك أنك لست مسروراً برؤيتي...
بالعكس... يا عزيزتي (يقبلها).
(يسعل هيرين في حنق).
(تتنهد) آه، كاتيا المسكينة، كاتيا المسكينة! إنني شديدة الأسف لها، عظيمة الأسف لها.
إننا نحتفل اليوم بمرور خمسة عشر عاماً على مصرفنا، وقد يحضر المفوضون من قبل أصحاب الأسهم في أية دقيقة. وأنت لا ترتدين لباساً لائقاً للحفلة.
حقاً؟ أتقيمون احتفالاً اليوم؟ أهنئكم أيها السادة.. أتمنى لكم... وهكذا فستقام حفلة هنا اليوم... عشاء؟ أنا أحب هذا... وهل تتذكر ذلك الخطاب الذي صرفت وقتاً طويلاً في إعداده عن المساهمين؟ هل سيقرؤونه اليوم؟
(يسعل هيرين بحنق).
(في ارتباك) لا داعي للحديث عن هذا يا عزيزتي، حقاً، الأفضل لك أن تمضي إلى البيت.
سأنصرف بعد دقيقة... بعد دقيقة... سأخبرك بكل شيء عن المسألة في لحظة واحدة ثم أذهب... سأحدثك بكل شيء منذ البداية. حسناً، عندما أوصلتني إلى المحطة، هل تتذكر، جلست بجوار تلك السيدة البدينة. وشغلت نفسي بالقراءة. أنا لا أحب التحدث في القطار. وواصلت القراءة خلال ثلاث محطات، ولم أقل كلمة واحدة لأي شخص... حسناً؛ ثم أقبل المساء، وبدأت تراود ذهني أفكار مزعجة جداً، أنت تعلم. وكان هناك شاب يجلس قبالتي ويبدو لطيفاً للغاية، ذو شكل مقبول، ميال إلى السمرة. حسناً، تبادلنا الحديث، ثم جاء ضابط بحري، ثم تلميذ.. (تضحك) وأخبرتهم أنني لست متزوجة... وكم غازلوني... وتحدثنا حتى منتصف الليل، وقد قص علينا الشاب الأسمر بعض القصص الممتعة جداً.. وظل يغني الضابط البحري حتى آلمني صدري لفرط ما ضحكت. وحينما عرف الضابط -آه من أولئك البحارة- وحينما عرف الضابط مصادفة أن اسمي تاتيانا، أتدري ماذا غنى؟ (تغني في صوت منخفض) أونيجين؛ لن أخفي الحقيقة، إنني أحب تاتيانا بجنون! (تضحك).
(يسعل هيرين بحنق).
ولكن يا تاتنيوشا، إننا نعطل كوزما نيكولافيتش. اذهبي إلى البيت يا عزيزتي وحدثيني عن هذه الأشياء فيما بعد.
لا بأس.. لا بأس... فليصغي هو أيضاً... إنها قصة ممتعة... سأفرغ منها حالاً. جاء سريوشا إلى المحطة ليصحبني، كذلك جاء شاب آخر، أحسب أنه كان مفتش ضرائب، جميل جداً، ولاسيما عيناه، وقد قدمه سريوشا إليّ فرجع معنا. كان الجو رائعاً.
(أصوات وراء المسرح «لا يمكنك... لا تستطيعين... ماذاتريدين؟» تدخل مدام مرتشوتكين).
(عند الباب وهي تبعد عنها الموظفين) لماذا يمسكونني؟ وماذا بعد؟ أريد مواجهة المدير. (تتجه نحو شيبوتشين) أتشرف يا صاحب السعادة. اسمي ناستاسيا فيدوروفنا مرتشوتكين، زوجة كاتب ريفي...
بماذا أستطيع أن أخدمك؟
مرض يا صاحب السعادة زوجي الموظف الريفي منذ خمسة شهور، وإذ كان يعالجه الأطباء في البيت فصل من وظيفته بدون سبب واضح. وحينما ذهبت لاستلام راتبه قطعوا منه، عفواً يا صاحب السعادة، أربعة وعشرين روبلاً وستة وثلاثين كوبكا، وسألتهم: ما سبب هذا القطع؟ فأجابوني: اقترض هذا المبلغ من مصرف القرض المتبادل وتكفله الموظفون. كيف حدث هذا؟ كيف اقترض بدون موافقتي؟ تلك ليست الطريقة الصحيحة التي تسيّر بها الأمور يا صاحب السعادة.. إني امرأة فقيرة. إنني أكسب عيشي من تأجير غرف منزلي للغرباء... إنني امرأة ضعيفة بلا سند.. لابد أن أصبر على استغلال كل إنسان، ولا يتفضل علي أي شخص بكلمة عطف.
معذرة... (يأخذ عريضتها منها ويقرأها وهو واقف).
(إلى هيرين) ولكن ينبغي أن أخبرك بالقصة منذ بدايتها. في الأسبوع الماضي تلقيت فجأة رسالة من ماما. وأنبأتني فيها أن شخصاً يدعى گرانديلفسكي قد خطب أختي كاتيا. إنه شاب عظيم مثالي لكنه بدون مال ولا مركز ثابت. ولسوء الحظ، تصور هذا، إن كاتيا أغرمت به كلياً. ما العمل؟ وكتبت إليّ ماما تسألني السفر إليها حالاً لأستخدم تأثيري وأحاول تغيير رأي كاتيا.
(بخشونة) معذرة. إنك تعطلينني عن العمل. إنك تتحدثين عن ماما وكاتيا فتربكينني، وقد أضعت الحساب ولم أعد أدري ما أصنع.
كما لو أنك مشغول بأمر مهم. ينبغي عليك أن تحسن الإصغاء إذا ما تحدثت إليك سيدة. ما الذي يثير غضبك إلى هذا الحد اليوم؟ أوقعت في الغرام؟ (تضحك).
(إلى مدام مرتشوتكين) معذرة، ما هذه؟ إنني لم أخرج منها بشيء.
أنت مغرم. أها.. إن وجهه يحمر!
(إلى زوجته) تانيوشا، اذهبي إلى قسم الحسابات وانتظري دقيقة يا عزيزتي. لن أتأخر عليك.
حسناً. (تخرج).
لست أستطيع أن أفهم شيئاً من عريضتك. من الواضح أنك أخطأت المكان الذي ينبغي أن تقصديه يا سيدتي. يجب أن تقدمي العريضة إلى القسم الذي كان زوجك يشتغل فيه.
لماذا، إنني ذهبت يا سيدي العزيز إلى خمسة أماكن ولم يرض أي منها باستلام عريضتي. كدت أفقد صوابي. لكن زوج ابنتي بوريس ماتيفتش -بارك الله فيه على هذا- نصحني بالتوجه إليكم. قال لي: «اذهبي إلى السيد شيبوتشين يا أماه... إنه رجل ذو نفوذ، وبقدرته أن يحقق لك أي طلب». ساعدني يا صاحب السعادة.
ليس في وسعنا أن نعمل لك شيئاً يا مدام مرتشوتكين. يجب أن تفهمي. يبدو أن زوجك كان يعمل في القسم الطبي للجيش. ومؤسستنا هذه عمل تجاري خاص، مصرف، لاشك أنك تفهمين هذا.
إنني أحمل معي يا صاحب السعادة شهادة الطبيب التي تثبت بأن زوجي كان مريضاً. ها هي ذي إذا تفضلت برؤيتها.
(بانزعاج) حسناً، إنني أصدقك، لكنني أكرر أن الأمر لا يتعلق بنا.
(يسمع وراء المسرح ضحكة تاتيانا ألكسيفنا، ثم تتلوها ضحكة رجل).
(ناظراً إلى الباب) إنها تعطل الكتّاب هناك. (إلى مدام مرتشوتكين) إنها مسألة شاذة وسخيفة حقاً. لابد أن زوجك يعلم إلى أية جهة ينبغي أن يوجه العريضة.
إنه لا يعلم شيئاً يا صاحب السعادة. إنه يردد: «هذا ليس من شأنك... ابتعدي» هذا كل ما أستطيع استخلاصه منه.
إنني أكرر يا سيدتي؛ إن زوجك كان موظفاً في القسم الطبي للجيش، وهذا مصرف، عمل تجاري خاص.
نعم، نعم، نعم... أنا أفهم يا سيدي. في هذه الحالة قل لهم أن يدفعوا لي خمسة عشرة روبلاً على الأقل. إنني أوافق على استلام جزء منها على الحساب.
(يتنهد) أوف!
أندريه أندريفتش، لن أستطيع إكمال التقرير بهذا المعدل.
دقيقة واحدة (إلى مدام مرتشوتكين) ليس هناك وسيلة تريك الصواب. افهمي أن أمر تقديم عريضة كهذه إلينا غريب، كما لو أنك قدمت عريضة بطلب الطلاق إلى صيدلي مثلاً أو إلى مجلس فحص المعادن.
(قرع على الباب، صوت تاتيانا ألكسيفنا: أندريه، أأستطيع الدخول؟).
(يهتف) انتظري دقيقة واحدة يا عزيزتي (إلى مدام مرتشوتكين) إنك لم تدفعي دينك. ولكن ما العمل؟ وبالإضافة إلى هذا فلدينا اليوم احتفال يا سيدتي... نحن مشغولون، وقد يقدم أحدهم في أية دقيقة.. معذرة..
كن رحيماً مع امرأة وحيدة مهجورة يا صاحب السعادة... إنني امرأة ضعيفة بدون سند. لدي قضية مع أحد المستأجرين، وعليّ أن أرعى شؤون زوجي، وأجري هنا وهناك لتدبير أمور المنزل، وإن زوج ابنتي عاطل عن العمل...
مدام مرتشوتكين، أنا... كلا، معذرة، لا أستطيع أن أتحدث إليك... رأسي يدور... أنت تؤخريننا وتضيعين وقتنا... (يتنهد على حدة) إنها حمقاء كما لاشك في أن اسمي شيبوتشين. (إلى هيرين) كوزما نيكولافيتش، من فضلك؛ ألا توضح الأمر لمدام مرتشوتكين... (يغادر المكتب وهو يلوح بيده دلالة على اليأس).
(متجهاً إلى مدام مرتشوتكين، بخشونة) ماذا أستطيع أن أعمل لك؟
إنني امرأة ضعيفة بدون سند... ربما أبدو قوية، لكنك لو جذبتني بقوة لما وجدت فيّ عضواً سليماً. إنني لا أكاد أستوي على قدمي إلا بجهد، وقد فقدت شهيتي.. شربت كوب القهوة هذا الصباح بدون شهية..
إنني أسألك؛ ماذا أستطيع أن أعمل لك؟
مرهم أن يدفعوا لي خمسة عشر روبلاً يا سيدي، وسآخذ البقية في غضون شهر.
لكنك أخبرت بكلمات واضحة أن هذا المكان مصرف.
نعم، نعم، وإذا كان الأمر ضرورياً فبوسعي أن أقدم شهادة مرضية.
ألك رأس على كتفيك، أم ماذا؟
إنني لا أطالب يا رجلي العزيز إلا بحقي. إنني لا أطالب بنقود الآخرين.
إنني أسألك؛ ألك رأس على كتفيك، أم ماذا يا سيدتي؟ سيلعنونني إن ضيعت وقتي في الحديث معك. إنني مشغول (يشير إلى الباب) أرجوك أن تنصرفي.
(مدهشة) وماذا عن النقود؟!

الحقيقة أن ما تحملينه على كتفيك ليس رأساً، بل هذا (ينقر على المنضدة ثم على جبينه).
(غاضبة) ماذا؟ هيا... هيا... خاطب زوجتك هكذا... زوجي كاتب ريفي... افتح عينيك جيداً...
(حانقاً، في صوت منخفض) اخرجي.
هيا... هيا... افتح عينيك.
(في صوت منخفض) إن لم تغادري الغرفة هذه الدقيقة فسأنادي البواب. اخرجي.
إنني لست خائفة منك... رأيت الكثير من أمثالك أيها البخيل...
لا أظن أنني رأيت في حياتي امرأة أقذر منك... أوف... إنها تشعرني بالدوار... (يتنفس بصعوبة) أكرر عليك مرة أخرى... أسامعة أنت؟ إن لم تتركي الغرفة أيتها الخرّاعة العجوز فسأحولك إلى مرق. إن لي مزاجاً قد يؤدي بي إلى حرمانك من الحياة... إلى ارتكاب جريمة...
نباح أكثر مما هو عض... إنني لست خائفة منك... رأيت الكثير من أمثالك...
لا أستطيع احتمال منظرها... إنني أشعر بالمرض... لا أستطيع أن أفهم هذا. (يتجه نحو المنضدة ويتهافت على مقعد) إنهم يسمحون لأسراب من النساء بدخول المصرف... لا أستطيع إكمال التقرير.
أنا لا أطالب بنقود الآخرين بل بنقودي... أطالب بديني القانوني.. آه، الرجل المجرد من الحياء.. إنه يجلس في مكتب عام وهو مرتد غطاء حذائه الجلف...
(يدخل شيبوتشين وتاتيانا ألكسيفنا).
(تدخل وراء زوجها) ذهبنا إلى حفلة مسائية لدى برزنتسكي. وكانت كاتيا ترتدي فستاناً فاتح الزرقة، ذا شريط زاه وعنق منخفض... ويناسب كاتيا التسريحة التي يرتفع فيها الشعر إلى أعلى، وقد عملتها لها بنفسي، ولما أتمت لباسها ورتبت شعرها بدت ساحرة جداً.
(إنه الآن يحس بصداع) نعم، نعم، ساحرة. قد يقدمون إلى هنا في أية دقيقة.
يا صاحب السعادة.
(بيأس) ماذا الآن؟ ماذا أستطيع أن أعمل لك؟
يا صاحب السعادة (مشيرة إلى هيرين) هنا... هذا الرجل... هو... هذا الرجل نقر على جبينه ثم نقر على المنضدة.. أمرته أن يحل قضيتي بينما هو يسخر بي ويقول كل شيء مزر.. إنني امرأة ضعيفة بدون سند.
حسناً جداً يا سيدتي. سأحل القضية.. سأتخذ خطوات فيها... انصرفي الآن... فيما بعد... (على حدة) الالتهابات توشك أن تهاجمني...
(يتجه بهدوء إلى شيبوتشين) أندريه أندريفتش، نادي البواب، دعه يخرجها ركلاً بالأقدام... إنه لعمل عظيم لو فعل...
(في انزعاج) لا... لا... إنها ستنطلق في عويل مثير، وفي هذه البناية بيوت كثيرة.
يا صاحب السعادة.
(في صوت باك) ولكن لابد لي من إكمال التقرير... لن أفرغ منه في الوقت المعين. (يعود إلى المنضدة) لا أستطيع العمل فيه.
يا صاحب السعادة؛ متى سأتسلم النقود؟ أنا في حاجة إليها اليوم.
(على حدة، في حنق) امرأة قذرة بشكل لا يدانى! (إلى مدام مرتشوتكين، في رقة) سيدتي، سبق لي أن أخبرتك أن هذا مصرف، مؤسسة تجارية خالصة.. تجارية خالصة...
اعمل لي معروفاً يا صاحب السعادة... كن أباً لي... إذا لم تكن الشهادة الطبية كافية فبوسعي أن أقدم شهادة كتابية من الشرطة. مرهم أن يعطوني النقود.
(يتنهد تنهداً عميقاً) أوف!
(إلى مدام مرتشوتكين) گراني، أخبروك أنك تعطلينهم عن العمل... هذا عمل سيء منك حقاً.
يا سيدتي الجملية، ليس لي من يحل محلي. قد لا أتناول طعاماً أو شراباً بعد. احتسيت قهوتي هذا الصباح بدون أدنى شهية...
(متعب، إلى مدام مرتشوتكين) كم تريدين؟
أربعة وعشرين روبلاً وستة وثلاثين كوبكا.
حسناً جداً. (يخرج من جيبه ورقة ذات خمسة وعشرين روبلاً ويعطيها إليها) خذيها وانصرفي.
(يسعل هيرين بحنق).
شكراً يا صاحب السعادة. (تخبئ النقود).
(تجلس بجوار زوجها) حان أوان عودتي إلى الدار. (تنظر في ساعتها) لكنني لم أفرغ من قصتي بعد. لن أستغرق أكثر من دقيقة في حكاية بقيتها، ثم أنصرف. شيء فظيع جداً حدث. وهكذا ذهبنا إلى حفلة مسائية لدى برزنتسكي.. كانت الحفلة مرضية.. بديعة جداً، ولكن لم يكن فيها شيء غير اعتيادي. وكان هناك بالطبع گراندلفسكي المعجب بكاتيا... حسناً، لقد تحدثت في الأمر مع كاتيا... بكيت... استخدمت تأثيري. فواجهت گراندلفسكي تلك الليلة بجوابها، ورفضته. حسناً، وظننت أن كل شيء رتب على خير وجه. أرحت ذهن ماما، وأنقذت كاتيا، وباستطاعتي أن أشعر بالراحة أنا أيضاً.. وماذا تظن؟ كنا نتمشى أنا وكاتيا قبل الغداء في أحد مسالك الحديقة... وفجأة (منفعلة) وفجأة سمعنا صوت طلق ناري.. كلا... لا أستطيع أن أتحدث عن الأمر. (تروح بمنديلها على وجهها) كلا، لا أستطيع.
(يتنهد) أوف!
(باكية) وجرينا إلى الظلة، وهناك... وهناك كان يرقد گراندلفسكي المسكين... وهو ممسك بمسدس.
كلا، لا أستطيع احتمال هذا. (إلى مدام مرتشوتكين) مذا تريدين بعد؟
يا صاحب السعادة، ألا تتمكن من إيجاد عمل آخر لزوجي؟
(باكية) إنه صوب المسدس بدقة إلى رأسه... هنا... وسقطت كاتيا فاقدة الوعي... أيتها العزيزة المسكينة... ورقد في مكانه وقد امتلكه رعب فظيع... وسألنا أن نسرع بطلب الطبيب... ووصل الطبيب، وأنقذ الشاب المسكين.
يا صاحب السعادة، ألا تتمكن من إيجاد عمل آخر لزوجي؟
لا أستطيع احتمال هذا. (باكياً) لا أستطيع احتمال هذا. (يرفع كلتا يديه إلى هيرين بيأس) أخرجها. أخرجها. أتوسل إليك.
(متجهاً إلى تاتيانا ألكسيفنا) اخرجي.
ليست هي... بل هذه... هذه المرأة الفظيعة. (يشير إلى مدام مرتشوتكين) هذه المرأة.
(غير فاهم، إلى تاتيانا ألكسيفنا) اخرجي. (يخبط الأرض بقدمه) اخرجي.
ماذا؟ ماذا تعني؟ أفقدت رشدك؟
هذا فظيع. لقد أنهكت. أخرجها. أخرجها.
(إلى تاتيانا ألكسيفنا) اخرجي. سألطمك... سأعمل منك لحماً مقدداً... سأرتكب جريمة هائلة.
(تجري هاربة فيجري وراءها) كيف تجرأ؟! أنت أيها المخلوق الحقير... أندريه، أنقذني. أندريه (تصرخ).
(يجري وراءهما) اخرجوا... أتوسل إليكم... اخرجوا... هسّ... دعوني...
(يطارد مدام مرتشوتكين) اخرجي... أمسكها... اضربها... اقطع رقبتها.
(يصرخ) اخرجوا.. أتوسل إليكم.. اخرجوا..
أيها القديسين الأطهار... أيها القديسين الأطهار... (تصرخ) أيها القديسين الأطهار...
(تصرخ) أنقذني... آه... أوه... سيغمى علي... (تقفز على كرسي ثم تسقط على الأريكة وتئن كأنها مغمى عليها).
(يطارد مدام مرتشوتكين) اضربها... اضربها بقسوة... اقتلها.
أوه... أوه... أيها القديسين الأطهار... إنني أشعر بدوار... أوه... (تسقط مغمى عليها بين ذراعي شيبوتشين).
(قرع على الباب وصوت وراء الستار: «المفوضون»).
المفوضون... السمعة... العمل...
(يخبط الأرض بقدمه) اخرجي. فلتلعن روحي. (يرفع أكمامه) دعني أمسكها... سأعرف شغلي معها... (يدخل المفوضون وهم خمسة أشخاص، وكلهم في ملابس الاحتفال، ويمسك أحدهم الخطاب بشريط مخملي، بينما يمسك شخص آخر بالكأس الفضي، ويظهر الموظفون في الباب. تاتيانا ألكسيفنا على الأريكة، مدام مرتشوتكين بين ذراعي شيبوتشين، وكلاهما يئن أنيناً خافتاً).
(يقرأ بصوت مرتفع) أيها العزيز المحترم صاحب الرفعة أندريه أندريفتش... إذا ألقينا نظرة على ماضي مؤسستنا المالية، وحاولنا تلمس تقدمها، تكوّن لدينا انطباع ممتاز. حقاً إن رأس المال كان محدوداً في السنوات الأولى لمؤسستنا، ولم يكن هناك أية تقارير علمية ذات قيمة، كذلك قادتنا سياستنا غير الثابتة إلى مشكلة هاملتية... هي أنحتفظ بكياننا أم لا نحتفظ؟! بل إن الأصوات تعالت في وقت من الأوقات مطالبة بغلق مصرفنا... ثم تسلمت أنت مهام الإدارة... ولقد نتج عن درايتك، ونشاطك، وأسلوبنا المميز، ونجاحنا غير الاعتيادي، وتوفيقنا الذي لا يبارى، أن أصبحت سمعة المصرف... (يسعل) أن أصبحت سمعة المصرف...
(تئن) أوه... أوه....
(تقول في أنين) ماء... ماء.
(يكمل) سمعة... أن أصبحت سمعة المصرف رفيعة جداً بفضلك... حتى أصبح بوسع مصرفنا أن ينافس المؤسسات المالية القديمة في الأقطار الأجنبية.
المفوضون... السمعة... العمل... كان صديقان يتمشيان في أمسية من أمسيات الصيف.. وكانا يتحدثان في شؤون عميقة... لا تقل لي أن الشباب تلف.. وسممت الغيرة حبي...
(يستمر في ارتباك) وبعد أن ألقينا نظرة موضوعية على الأحوال الحاضرة قررنا أيها العزيز المحترم أندريه أندريفتش (يخفض صوته) ربما فيما بعد... الأفضل أن نرجع فيما بعد... (يخرجون في ارتباك).
«ســـتار»



فتاة الكورس
ذات مرة، حينما كانت أصغر سناً، وأجمل صوتاً وشكلاً، حدث أن كان نيكولا كولباكوف، الذي أحبها بجنون، جالساً في غرفة السطح في الفيلا التي كانت تمضي فيها فصل الصيف. كان الجو حاراً خانقاً بدرجة لا تطاق، وكان كولباكوف قد فرغ لتوه من تناول طعام الغداء وأجهز على زجاجة نبيذ كاملة؛ كان منحرف المزاج، لا يشعر بارتياح أبداً. كانا ضجرين كليهما، وكانا يستحثان الوقت لتخف وطأة الحر فيستطيعان الخروج في نزهة على الأقدام.
وفجأة، وبدون توقع، قرع أحدهم جرس الباب الخارجي. قفز كولباكوف الذي كان في قميص طويل وحذاء بيتي، وتطلع إلى پاشا متسائلاً.
قالت المغنية: ربما كان الطارق موزع البريد، وربما كانت إحدى صديقاتي.
ولم يكن يضايق كولباكوف الظهور أمام موزع البريد، أو أية صديقة من صديقات پاشا، لكنه جمع ملابسه في حزمة بين ذراعيه ومضى إلى غرفة مجاورة احتياطاً للأمر، بينما أسرعت پاشا لتفتح الباب. ودهشت حينما وجدت أن الطارق لم يكن موزع البريد، ولا إحدى صديقاتها، بل امرأة مجهولة.. شابة جميلة ترتدي لباس سيدة رفيعة، ولها مظهر محترم كلياً. كانت المرأة الغريبة شاحبة الوجه، تتنفس بصعوبة، كما لو كانت قد ارتقت سلماً طويلاً. سألتها پاشا: ماذا تريدين؟
لم تجب السيدة فوراً. ودخلت المنزل، وتفحصت الغرفة على مهل، ثم تهافتت على مقعد قريب كأنها لا تستطيع الوقوف على قدميها لمرض أو تعب. وظلت شفتاها المبيضتان تتحركان وقتاً طويلاً بدون صوت كأنها تحاول عبثاً أن تقول شيئاً.
«هل زوجي معك؟» سألتها أخيراً وهي ترفع عينيها الواسعتين بأجفانها الحمر المبقعة بالدموع وتسمّرهما عليها.
«أي زوج؟» قالت پاشا هامسة، ثم انتابها فجأة رعب شديد، حتى أحست بقدميها ويديها تبردان وتصبحان كالثلج.
«أي زوج؟» أعادت سؤالها وقد بدأت ترتجف.
- زوجي نيكولا كولباكوف.
- لـ... لا... لا يا سيدتي. أنا... أنا لا أعرف شيئاً عن أي زوج.
انقضت دقيقة في صمت. وأمرّت الغريبة مراراً عديدة منديلاً على شفتيها الشاحبتين، وتحكمت في تنفسها لتسيطر على اضطراب داخلي، بينما استوت پاشا حيالها جامدة كأنها تسمرت في مكانها. وانطلقت تحدق فيها وهي فريسة للذعر والارتباك.
«أتقولين إنه غير موجود هنا إذن؟» سألتها السيدة بلهجة ثابتة هذه المرة وقد طافت ابتسامة غريبة على شفتيها.
- أنا... أنا لا أدري عم تسألين.
همست الغريبة وهي ترمق پاشا في حقد وازدراء: إنك سافلة، منحطة، كريهة... أجل، أجل.. أنت سافلة، وأنا مسرورة جداً جداً لاستطاعتي أن أقول لك هذا في وجهك أخيراً.
تصورت پاشا أنها تثير انطباعاً لشيء سافل، حقير، في نفس هذه السيدة ذات اللباس الأسود بعينيها الحانقتين وأصابعها الرشيقة البيضاء. وشعرت بالخجل من وجنتيها الحمراوين، من النمش الذي ينتشر فوق أنفها، من الخصلة المدلاة على جبينها. إن هذه الخصلة لا تريد البقاء في موضعها مهما مشطتها. وتراءى لها أنها لو كانت شيئاً نحيفاً صغيراً، بدون هذا (البودر) الكثير على أنفها، بدون هذه الخصلة النافرة، لاستطاعت أن تخفي حقيقة مظهرها غير المحترم. وأثار وقوفها أمام هذه السيدة الغريبة الغامضة انزعاجها وخجلها الشديدين.
عادت السيدة تقول: أين زوجي؟ وعلى أية حال فلا أهمية للأمر إن كان موجوداً هنا أو لم يكن، لكنني أحب أن أخبرك أنهم كشفوا عن اختلاس وأن الشرطة جادة في البحث عنه... إنهم يبغون القبض عليه. هاك... هذا من صنع يديك.
انتصبت السيدة، وعبرت الغرفة في انزعاج شديد. فتعلقت عينا پاشا بها دون أن تستطيع فهم شيء لذعرها الشديد.
«سيعثرون عليه هذا اليوم ويعتقلونه» قالت السيدة هذا، وانبعث منها صوت بين الشهيق والنشيج ينم عن الألم والغيظ. ثم استمرت تقول: أنا أعلم من الذي ساقه إلى هذا المسلك المريع. إنك سافلة، كريهة، أنت أيتها المخلوقة الخداعة الشنيعة (والتوت شفتا السيدة وتغضن أنفها في اشمئزاز وحقد). إنني عاجزة... أصغ إليّ أيتها المرأة المنحطة... إنني عاجزة، وأنت مسلحة بقوة تفوق قوتي كثيراً، ومع ذلك فهناك من يشفع لي ولأطفالي. إن الله بصير بكل شيء. إنه عادل. وسيناقشك الحساب عن كل دمعة من دموعي، عن كل ليلة من ليالي المؤرقة. سيحين الوقت الذي تتذكرينني فيه.
حلت فترة صمت أخرى. وتخطت السيدة في الغرفة وصفقت كفاً بكف، بينما ظلت پاشا تتأملها في بلادة وهي عاجزة عن إدراك أي شيء، متوقعة أن تقدم على ارتكاب شيء فظيع.
«أنا لا أعلم شيئاً يا سيدتي» قالت پاشا ذلك، وانهمرت الدموع فجأة من عينيها. صرخت السيدة وهي ترمقها بعينين متوقدتين: أنت تكذبين. إنني أعرف كل شيء. لقد اكتشفت أمرك منذ زمن طويل. أنا أعلم أنه يقضي كل يوم من الشهر المنصرم في هذا المكان.
- حسناً جداً. وماذا في ذلك؟ لي كثير من الأصدقاء يسألون عني، لكنني لا أرغمهم على البقاء معي. إنه حر في القدوم إلي هنا من تلقاء نفسه.
- قلت لك إنهم كشفوا عن اختلاس. إنه اختلس نقوداً من المكان الذي يعمل فيه، من أجل... من أجل امرأة مثلك. إنه تجرأ على اقتراف هذه الجريمة من أجلك.
ثم وقفت السيدة وجهاً لوجه أمام پاشا وقالت في لهجة حازمة: أصغ إليّ، ليس من المعقول أن تكوني مجردة عن الخلق كلياً. صحيح أنك تعيشين لتنشري الشر، ولكن من غير المتصور أنك هويت إلى أحط الدركات فتجردت من كل شعور إنساني... إن لنيكولا زوجة، إن له أطفالاً... إذا اتهم في هذه الجريمة وصدر عليه الحكم فسأموت وأطفاله جوعاً. افهمي هذا. ومع ذلك فهناك وسيله لإنقاذه وإنقاذنا من الفقر والعار. إذا أحضرت هذا اليوم تسعمائة روبل فلن يحدث له شيء. تسعمائة روبل لا أكثر!
هتفت پاشا في صوت مخنوق: أي تسعمائة روبل؟ أنا لا أعرف شيئاً عن مثل هذا المبلغ... إنني لم آخذ منه أي شيء أبداً.
- إنني لا أسألك إعطائي تسعمائة روبل، فليس لديك نقود، وأنا لست بحاجة إلى نقودك. إنني أسألك إعطائي شيئاً آخر... إن الرجال يقدمون عادة هدايا قيمة إلى... إلى أمثالك. دعيني أسترجع تلك الأشياء التي أهداها إليك زوجي فقط.
«لماذا يا سيدتي؟ إنه لم يقدم إليّ أية هدية من أي نوع» قالت پاشا ذلك محتجة في انزعاج وقد بدأت تفهم الأمر.
- أين المال في هذه الحالة إذن؟ إن زوجي لم يبذر ماله فقط بل مالي وأموال الآخرين. أين اختفى كل ذلك المال إذن؟ أصغ إليّ.. إنني أتوسل إليك... لقد تملكني الغضب فتفوهت بعبارات نابية كثيرة... حسناً، إنني أعتذر. لابد أنك تكرهينني الآن، أنا أعلم ذلك، ولكن أرجوك أن تضعي نفسك في موضعي إن كنت قادرة على الرأفة. أعيدي تلك الأشياء إليّ، إنني أتوسل إليك.
قالت پاشا وهي تهز كتفيها: احم.. بودي لو فعلت ذلك بكل سرور، ولكن فليعاقبني الله إن كنت أكذب عليك.. إنه لم يهد إليّ شيئاً... يجب أن تصدقيني... ولكن انتظري... إنك محقة.
انتاب المغنية الانزعاج واستطردت تقول: إنه أهدى إلي قرطاً أو قرطين. سأعطيك إياهما إن شئت.
وسحبت پاشا أحد أدراج منضدة الزينة وأخرجت منه سواراً من الذهب المقلد وخاتماً مطعماً بياقوت كاذب.
- خذي.
قالت ذلك وهي تقدم تلك الأشياء إلى زائرتها. وأثار هذا غضب السيدة، فاحمر وجهها وتقلصت عضلاته، وسألتها: ماذا تقدمين إليّ؟ إنني لا أسألك إحساناً، بل أشياء لا تعود إليك، أشياء سلبتها من زوجي، ذلك المخلوق الضعيف التعس، مستغلة ظرفك. كنت ترتدين أساور وحلي غالية حينما رأيتك يوم الثلاثاء الماضي على ظهر المركب. وهكذا فلا جدوى من القيام بدور حمل بريء أمامي. إنني أتوسل إليك للمرة الأخيرة؛ هل ستعيدين إليّ تلك الأشياء أم لا؟
هتفت پاشا وقد بدأ الغضب يتملكها بدورها: حقاً، إنني أقسم لك بالله... يا لك من شخص غريب! أقسم لك أن عيني لم تقعا على أي شيء من نيكولا فيما عدا هذا السوار والخاتم الصغير. كل ما جلبه إليّ هي فطائر فرنسية.
«فطائر فرنسية» وابتسمت السيدة المجهولة ابتسامة كئيبة، «لا يوجد شيء في البيت يأكله الأطفال، ولكن توجد فطائر فرنسية هنا. أترفضين نهائياً إعادة تلك الأشياء إليّ؟».
تهافتت السيدة على مقعد وهي شاردة الفكر، وراحت تحدق بثبات في بقعة معينة. وسألت نفسها: ما العمل؟ إذا أخفقت في الحصول على التسعمائة روبل فقد تحطم نيكولا وتحطم أطفالي معه. أأقتل هذه المخلوقة الكريهة أم أركع أمامها على ركبتي؟
ضغطت السيدة الارستقراطية منديلاً على وجهها وانفجرت في بكاء أليم. وسمعتها فتاة الكورس تقول خلال نحيبها: أتوسل إليك.. لماذا، إنك أفلست زوجي وسقته إلى الدمار. أنقذيه إذن. ربما لم تكوني تشعرين برأفة عليه، ولكن فكري بالأطفال... الأطفال... أي ذنب جناه الأطفال؟!
تصورت پاشا في الحال عدداً لا يحصى من الأطفال الصغار يتزاحمون على قارعة الطريق ويصرخون من الجوع، وأجهشت في البكاء بدورها. وسألتها: ولكن ماذا في وسعي أن أفعل؟ إنك تقولين إنني مخلوقة كريهة وتزعمين أنني أفلست زوجك، لكنني أقسم لك، كما أقسم أمام الله الواحد، أنني لم أنل أي شيء ذا قيمة منه. إن سونيا هي الوحيدة بيننا التي ينفق عليها شخص ثري، أما بقيتنا فيكفيهن فنجان من القهوة. وقد اعتقدت أن نيكولا سيد مثقف مهذب، فسمحت له بالقدوم إلى هنا بدون مقابل. نحن الفتيات مضطرات إلى هذا... ليس ثمة مخرج آخر.
- إنني أتوسل إليك أن تعيدي إليّ تلك الأشياء. تلك الأشياء، أعيديها إليّ. إنني أبكي أمامك. أذل نفسي. سأركع على ركبتي إذا شئت. ها أنذا.
فبكت پاشا في جزع ولوحت ذراعها محتجة. وشعرت أن هذه السيدة الشاحبة التي تتكلم بعظمة كأنها على المسرح قادرة حقاً على الركوع أمامها على ركبتيها، معتزة بكبريائها ونبلها، لتعظم نفسها وتذلها.
«حسناً، سأعطيك أشيائي» قالت پاشا وشرعت تبحث حواليها، «لكنني أخبرك أنني لم أحصل عليها من نيكولا. إنني حصلت عليها من أصدقائي السادة الآخرين. اجلسي يا سيدتي».
سحبت پاشا درج المكتب الأعلى وأخرجت منه سواراً مطعماً بالماس، وسلسلة من المرجان، وبضعة خواتم وسوارات، وقدمتها جميعاً إلى السيدة.
- خذيها إن شئت، ولكن اعلمي أنني لم أنل شيئاً من زوجك، خذيها، جرديني من ثروتي.
قالت پاشا وقد آلمها تهديد السيدة بالركوع أمامها. ثم استتبعت تقول: ولكنك إذا كنت سامية ونبيلة جداً، زوجته الشرعية الآن، فعليك أن تسيطري عليه سيطرة أقوى. هذا هو واجبك. إنني لم أغره على القدوم إلي... إنه جاء من تلقاء نفسه.
تأملت السيدة من خلال دموعها الأشياء المقدمة إليها، ثم هتفت محتجة: ليست هذه كل الأشياء... إنها لا تساوي خمسمائة روبل.
فاستخرجت پاشا من درج المكتب بعنف ساعة ذهبية وعلبة سجائر وزوجين من أزرار ذهبية لقميص رجالي. قالت وهي تنفض يديها: خذي. لم يبق عندي أي شيء حتى لو فتشت المكان.
تنهدت الزائرة بارتياح، ولفت الأشياء في منديل صغير بيدين مرتجفتين، وبدون كلمة واحدة، بدون انحناءة بسيطة من رأسها، غادرت المكان.
وفتح باب الغرفة المجاورة وظهر كولباكوف. كان شاحباً. وكان يهز رأسه إلى الوراء بعصبية بين حين وآخر كأنه قد شرب لتوه جرعة دواء مر. كانت الدموع تلتمع في عينيه. وانقضّت عليه پاشا صائحة: ماذا أهديت إليّ من أشياء؟ ومتى فعلت إذا سمح لي بالسؤال؟
قال وهو يهز رأسه إل الوراء: أشياء! حقاً. وماذا تهم تلك الأشياء؟! يا إلهي، إنها بكت أمامك. إنها أذلت نفسها.
صرخت پاشا: إنني أسألك؛ أية أشياء تلك التي جلبتها إليّ؟!
- يا إلهي... هي... تلك المرأة السامقة الشرف، ذات الأنفة والطهر العظيم... بل إنها أرادت أن تركع على ركبتيها أمام هذه... هذه الحقيرة! وأنا الذي أسلمتها إلى هذا الدرك. أنا الذي سببت هذا!
وعصر رأسه بين يديه ثم هتف: كلا... إنني لن أسامح نفسي على هذا... لن أسامح نفسي أبداً... ابتعدي عني أنت... أنت أيتها الساقطة.
صرخ بلهجة نادمة وهو يتراجع إلى الوراء ويهدد پاشا بيدين مرتعشتين.
- أرادت أن تركع على ركبتيها. وأمام من؟ أمامك! أوه، يا إلهي!
ارتدى ملابسه سريعاً، وابتعد عن پاشا، ثم خرج بسرعة وقد لاح الاشمئزاز على وجهه.
ارتمت پاشا على السرير وانفجرت في البكاء. وشعرت في تلك اللحظة بالأسف على أشيائها التي تنازلت عنها، وأحست بجرح عميق. وتذكرت كيف ضربها، قبل ثلاث سنوات، أحد أصدقائها الرجال بدون سبب واضح، فاشتدت حرقة بكائها.

الزوجة
«سألتك مراراً ألاّ ترتبي منضدتي» قال نيكولا يفگرافيتش، «ليس في الإمكان العثور على أي شيء حينما ترتبينها. أين البرقية؟ أين رميتها؟ كوني طيبة وابحثي عنها. إنها من كازان، بعنوان أمس».
وجدت الخادمة -وهي فتاة شاحبة، شديدة النحول، ذات تعبير لا أبالي- بضعة برقيات في السلة الموضوعة تحت المنضدة، وناولتها الطبيب بدون كلمة، لكنها كانت كلها من مرضى. ثم فتشا في غرفة الاستقبال، ثم في غرفة أولگا ديمتريفنا.
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. وكان نيكولايفگرافيتش يعلم أن زوجته لن تعود سريعاً، ليس قبل الساعة الخامسة على الأقل. ولم يكن يثق بها، ولا يطاوعه النوم حينما يطول غيابها، وينتابه القلق. وفي الوقت نفسه فهو يحتقر زوجته، وفراشها، ومرآتها، وصناديق حلواها، وورد الياقوت الزعفراني، وزهور الوادي التي ترسل إليها كل يوم من شخص أو آخر فتشيع في أبهاء المنزل رائحة متعبة كرائحة حانوت زهور. وفي مثل هذه الليالي يحس نيكولا يفگرافيتش بضعة، يصبح حانقاً، معكر المزاج، ويخيل إليه أن من الضروري جداً الحصول على البرقية التي تسلمها من أخيه، وإن لم تكن تشتمل على شيء سوى تحيات عيد رأس السنة.
عثر على برقية فوق منضدة في غرفة زوجته تحت صندوق القرطاسية، وتأملها في غير اهتمام. كانت معنونة إلى زوجته بواسطة أمها، مرسلة من مونت كارلو، وموقعة بتوقيع (ميشيل). ولم يفهم الطبيب منها كلمة واحدة لأنها مكتوبة باللغة الأجنبية، ويبدو بوضوح أنها اللغة الإنجليزية.
«من ميشيل هذا؟ لماذا مونت كارلو؟ لماذا أرسلت بواسطة أمها؟».
وخلال السنوات السبع اعتاد أن يكون ظنوناً، شكاكاً، يتشبث بالتلميحات. وقد خطر له مراراً عديدة أن تجاربه في المنزل تؤهله لأن يكون بوليساً سرياً عظيماً. وحينما رجع إلى مكتبه تذكر حالاً كيف كان في بطرسبورغ قبل عام ونصف، وتعشى يوماً مع زميل له في المدرسة يشتغل مهندساً مدنياً، وكيف قدم ذلك المهندس إليه وإلى زوجته شاباً في الثانية أو الثالثة والعشرين من عمره اسمه ميشيل إيفانوفيتش، وله اسم مجرد غريب نوعاً ما هو (ريس). ثم رأى بعد شهرين صورة ذلك الشاب في ألبوم زوجته وقد كتب عليها بالفرنسية: «في ذكرى الحاضر، وأمل المستقبل». ثم التقى بالشاب بعدئذ في منزل والدة زوجته. حدث هذا في الوقت الذي بدأ غياب زوجته يطول عن البيت، فلا ترجع إلا في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحاً. وكانت تلح عليه باستمرار أن يحصل لها على جواز سفر إلى الخارج؛ لكنه ظل مصراً على الرفض. فكان ذلك مصدر شجار دائم بينهما حتى أصبح خجلاً من مواجهة الخدم.
ولقد قرر زملاؤه الأطباء أنه مصاب بالتدرن الرئوي، ونصحوه بالتخلي عن كل شيء والسفر إلى القرم. فلما سمعت أولگا ديمتريفنا بذلك تظاهرت بالانزعاج الشديد، وأصبحت عاطفية تجاهه، وظلت تؤكد له أن الجو سيكون بارداً وكئيباً في القرم، وأن الأفضل له أن يقصد إلى نيس، وأنها ستصحبه، وستمرضه هناك وتعتني به. والآن فهم لماذا كانت تلح في الذهاب إلى نيس بصورة خاصة؛ إن صاحبها ميشيل يعيش في مونت كارلو.
أحضر قاموساً إنجليزياً وترجم الكلمات، وخمن معانيها، ثم استطاع بالتدرج أن يركب العبارة التالية: «إنني أشرب نخب حبيبتي المعبودة، وأقبل قدمها الصغيرة آلاف المرات، وأنتظر وصولها بفارغ الصبر».
رسم في ذهنه الدور المهين الحقير الذي كان سيمثله لو أنه وافق على السفر إلى نيس مع زوجته. وشعر بكآبة عظيمة حتى أوشك على البكاء. وانطلق يذرع غرف المنزل جميعاً في انزعاج عظيم. كان قد استثير غضبه الكامن، وجرحت كرامته. وعجب، وهو يعبس اشمئزازاً ويضم قبضته، كيف أنه وهو ابن كاهن قروي قد تربى في مدرسة دينية -رجل بسيط مستقيم- يسمح لنفسه أن يرسف في هذه القيود المخجلة، أن يستعبد لهذه المخلوقة الضعيفة، التافهة، الجشعة، الوضيعة.
«قدم صغيرة» قال لنفسه وهو يدعك البرقية «قدم صغيرة».
ولم يتبق في ذهنه منذ أن أحبها وخطبها، وخلال السنوات السبع التي أعقبت ذلك، سوى شعرها الطويل المعطر، كتلة من الدنتلا الناعمة، وقدمها الصغيرة التي كانت صغيرة حقاً. «قدم صغيرة» وإنه ما يزال يحس حتى الآن -من أثر العناقات القديمة- بنعومة الحرير والدنتلا على يديه ووجهه، ولا شيء أكثر من ذلك. لا شيء أكثر من ذلك؛ بدون حساب للمواقف العصبية، للصرخات، لتبادل الشتائم، للتهديدات، للأكاذيب -الأكاذيب الوقحة الدنيئة. وتذكر كيف كان يحدث أحياناً في بيت أبيه في القرية أن يطير عصفور من الهواء الطلق إلى داخل المنزل، ثم يناضل بيأس ضد زجاج النوافذ، ويشوش الأشياء؛ وهكذا كان حال هذه المرأة المنبثقة من طبقة مغايرة كلياً لطبقته، فقد دخلت حياته وجعلت منها حطاماً تاماً. ولقد أمضى أفضل سني حياته كأنه يعيش في الجحيم، وتحطمت آماله في السعادة واستحالت إلى سخرية، وتبددت صحته. وليس هناك أي مظهر محترم في غرق المنزل. وهو لا يستطيع أن يدخر من العشرة آلاف روبل التي يكسبها كل عام عشرة روبلات يبعثها إلى أمه العجوز في القرية. وقد بلغت ديونه حوالي خمسة آلاف روبل. وبدا له أنه لو عاشت فرقة من المشاة في منزله لما أصبحت حياته محطمة بشكل لا أمل فيه، مدمرة بصورة لا تصلح، كما جرى لها في وجود هذه المرأة.
بدأ يسعل ويحاول التنفس في جهد. كان ينبغي عليه أن يلجأ إلى الفراش ويتدفأ، لكنه لا يستطع. لبث يسير حوالي الغرف، أو يجلس إلى المنضدة، وهو يعبث بقلم الرصاص في عصبية.
«تجربة قلم... قدم صغيرة».
وحوالي الساعة الثالثة انفثأ غضبه، وألقى اللوم كله على نفسه. وبدا له الآن أنه لو كانت أولگا ديمتريفنا قد تزوجت من شخص آخر، فلربما أثر عليها تأثيراً طيباً -من يدري؟ ولربما أصبحت بعد هذا امرأة صالحة مستقيمة. إنه لا يفهم شيئاً كثيراً في النفسيات، ولا يعرف شيئاً عن القلب الأنثوي، وبالإضافة إلى هذا فهو رجل كنسيّ، غير جذاب...
فكّر: «إنني لن أعيش طويلاً... إنني رجل ميت وينبغي ألا أقف في طريق الأحياء. إنه لأمر غريب وسخيف أن يصر الإنسان على حقوقه الآن. سأنتهي منها؛ سأدعها تذهب إلى الرجل الذي تحبه... سأمنحها الطلاق... سألقي اللوم على عاتقي».
جاءت أولگا ديمتريفنا أخيراً، ودخلت المكتب، وغاصت في مقعد وهي في ردائها الأبيض وقبعتها وعطاء حذائها.
«الصبي القذر السمين» قالت وهي تجهش بالبكاء وتتنفس بصعوبة «إنها لخيانة في الحقيقة... إنها لحقارة» وخبطت الأرض بقدمها «لا أستطيع احتمالها؛ لا أستطيع، لا أستطيع».
سألها نيكولا يفگرافيتش وهو ينهض متجهاً نحوها: ما الأمر؟
- ذلك التلميذ أزاربكوف، كان يوصلني إلى البيت فأضاع حقيبتي، وكان فيها خمسة عشر روبلاً. اقترضتها من ماما. راحت تبكي بكاءً صادقاً، كطفلة صغيرة، ولم يكن منديلها فقط مبللاً بالدموع، بل كان قفازها مبللاً أيضاً.
قال الطبيب: إذا أضاعها فقد أضاعها. ولا فائدة من إزعاج نفسك من أجلها. هدئي نفسك؛ أريد أن أتحدث إليك.
- إنني لست مليونيرة لأضيع النقود بتلك الطريقة. إنه يزعم أنه سيعيدها، لكنني لا أصدقه؛ إنه فقير...
رجاها زوجها أن تهدئ نفسها وتصغي إليه، لكنها ظلت تتحدث عن التلميذ والخمسة عشر روبلاً التي فقدتها.
قال في غضب: آخ، سأعطيك خمسة وعشرين روبلاً غداً إذا سيطرت على لسانك فقط.
«ينبغي أن أخلع أشيائي» قالت باكية «لا أستطيع التحدث في الأشياء الخطيرة وأنا في سترة الفراء. ما أغربك!».
ساعدها في خلع ردائها وغطاء حذائها وهو يلاحظ رائحة الخمر الأبيض الذي تحب احتساءه مع المحار. ومضت إلى غرفتها ثم عادت سريعاً وقد غيرت لباسها وتزينت، وإن كانت آثار الدموع ما تزال عالقة بعينيها. جلست وهي تخب في فستان نومها الشفاف المصنوع من الدنتلا. ولم يستطع زوجها أن يرى في كتلة الأمواج الحمراء سوى شعرها وقدمها الصغيرة بخفّها البيتي.
«عمّ تحب أن تتكلم؟» قالت وهي تؤرجح نفسها على كرسي هزاز.
«لقد حدث أن وجدت هذه» قال وهو يناولها البرقية. فقرأتها ثم هزت كتفيها.
«حسناً» قالت وهي تسرع في هز نفسها «تلك هي تحيات العام الجديد، ولا شيء أكثر من ذلك. ليس فيها أسرار».
«إنك تعتمدين على جهلي باللغة الإنجليزية. كلا، لست أعرف هذه اللغة؛ لكنني أمتلك قاموساً. هذه البرقية من (ريس)، إنه يشرب نخب محبوبته، ويبعث إليك بآلاف القبلات. ولكن دعينا نترك هذا» مضى الطبيب يقول بسرعة «لا أريد مطلقاً أن أعنفك أو أخلق شجاراً. لقد حدث بيننا عراك وشتائم كافية؛ حان الوقت لإنهاء هذا... هذا ما أحب قوله لك: أنت حرة، في وسعك أن تعيشي كما تحبين».
حل الصمت. وطفقت الزوجة تبكي بهدوء.
«إنني أحررك من ضرورة الكذب» استمر نيكولا يفگرافيتش يقول: «إذا كنت تحبين ذلك الشاب فأحبيه؛ إذا أحببت أن تسافري إلى الخارج إليه فسافري. أنت شابة، صحيحة الجسم، وأنا محطم، ولن أعيش طويلاً... وباختصار... أنت تفهمينني».
كان قد بلغ به الانزعاج أقصاه، وعجز عن الاستمرار في الكلام. واعترفت أولگا ديمتريفنا، وهي تبكي وتتحدث بصوت ينم عن الرثاء لنفسها، بأنها تحب (ريس) وأنها اعتادت أن تصحبه في سفرات خارج المدينة، وأن تزوره في غرفته، وأنها في شوق الآن للسفر إلى الخارج.
«أنت ترى أنني لم أخف عنك شيئاً» أضافت وهي تتأوه «إنني فتحت لك أبواب روحي على مصاريعها. وأتوسل إليك ثانية، كن كريماً، احصل لي على جواز سفر».
- أكرر لك أنت حرة.
انتقلت إلى كرسي قريب منه لتحدق في تعبير وجهه. لم تصدقه، وودت الآن أن تكشف عن غرضه المكتوم. لم تكن تثق بأي إنسان، وقد كانت ترتاب على الدوام بمقاصد الناس مهما كانت نبيلة وتعتقد أن وراءها محركاً حقيراً لئيماً، أو أنها تهدف إلى غرض أناني. ولاح له بريق أخضر في عينيها حينما حدقت في وجهه عن قرب، يشبه بريق عيني القطط.
سألته برقة: متى سأحصل على الجواز؟
اجتاحته فجأة ثورة عصبية، وكاد يصرخ «أبداً»، لكنه كبح جماح نفسه وقال: متى تشائين.
- سأغيب شهراً فقط.
- ستذهبين إلى (ريس) نهائياً. سأحصل لك على الطلاق وألقي اللوم على عاتقي، وبإمكان (ريس) أن يتزوجك.
«لكنني لا أريد الطلاق» قالت أولگا ديمتريفنا بسرعة وهي مدهشة الوجه «إني لا أسألك الطلاق، احصل لي على جواز سفر، ذلك كل ما في الأمر».
«ولكن لماذا لا تريدين الطلاق؟» سألها الطبيب وقد بدأ يحس بالغضب «إنك امرأة غريبة! ما أغربك! إذا كنت تحبينه حقيقة، وهو يبادلك الحب، فليس هناك حل لامرأة في موضعك أفضل من الزواج. هل تترددين حقاً بين الطلاق والزنى؟».
«لقد فهمتك» قالت وهي تنأى عنه وقد لاح على وجهها تعبير مزيج من الاحتقار والحقد «إنني أفهمك تماماً. أنت مللتني. شكراً جزيلاً؛ إنني لست بدرجة من الحماقة كما تحسب. إنني لن أقبل الطلاق، ولن أتركك، لا أريد. ولنبدأ بالقول إنني لا أود أن أخسر مركزي في المجتمع» وواصلت كلامها بسرعة كأنها تخشى أن تمنع من إتمامه «وثانياً، إنني في السابعة والعشرين و(ريس) في الثالثة والعشرين فقط؛ سيسأم مني في غضون عام واحد ويلقيني بعيداً. وفوق هذا كله، إذا شئت أن تعلم، فأنا غير واثقة أن عواطفي نحوه ستدوم طويلاً. وهكذا، فلن أتركك».
«سأطردك خارج المنزل إذن» صرخ نيكولا يفگرافيتش وهو يخبط الأرض بقدمه «سأطردك من المنزل أيتها المرأة الكريهة الحقيرة».
- سنرى.
قالت ذلك وخرجت.
كانت أنوار الصباح قد انتشرت في الخارج، لكن الطبيب كان ما يزال جالساً عند المنضدة وهو يعبث بقلم الرصاص على ورقة بيضاء ويكتب بصورة آلية: «سيدي العزيز… قدم صغيرة».
طاف حوالي المنزل، ووقف في غرفة الاستقبال أمام صورة أخذت قبل تسعة أعوام، عقب زواجه تواً، وتأملها وقتاً طويلاً. كانت تمثل مجموعة عائلية: والد زوجته، أمها، زوجته أولگا ديمتريفنا وهي في العشرين من عمرها، وهو في هيئة زوج سعيد. وكان والد زوجته -وهو رجل حليق موظف في البلاط- بخيلاً مكاراً. وكانت أمها -وهي امرأة ضخمة ذات ملامح صغيرة مفترسة كملامح ابن عرس- تحب ابنتها إلى حد الدمار، وتؤازرها في كل شيء؛ وإذا ناضلت ابنتها ضد أي إنسان، فلا تحتج الأم، بل تداريها وتدافع عنها. أما أولگا ديمتريفنا فهي ذات ملامح صغيرة مفترسة أيضاً، لكنها أقوى تعبيراً وأعظم جرأة من ملامح أمها؛ وليست كملامح ابن عرس، بل تشبه ملامح حيوان على نطاق أكبر. وبدا نيكولا يفگرافيتش في الصورة روحاً طاهرة، شاباً طيباً ممتازاً، حسن النية سليم القلب، وكان وجهه كلّه يعبر عن بسمة ساذجة، صادرة عن قلب صاف لتلميذ يدرس اللاهوت. كان بسيطاً بدرجة حملته على الاعتقاد أنهذه المجموعة من الحيوانات المفترسة التي أوقعه القدر بينها ستمنحه الحب والسعادة وكل ما حلم به حينما كان يغني وهو تلميذ: «ليس للشباب والحياة قيمة إذا كان القلب بارداً لا يدفئه الحب».
ومرة أخرى سـأل نفسه في حيرة كيف حدث، وهو ابن كـاهن قروي، ذو تربية ديمقراطية -رجل بسيط، ساذج، مستقيم- أن يستسلم بدون مقاومة إلى سطوة هذه المخلوقة التافهة، الكذابة، الوضيعة، التي تتميز بطبيعة مغايرة كلياً لطبيعته!
وحينما ارتدى سترته في الساعة الحادية عشرة ليقصد إلى المستشفى، أقبل الخادم إلى مكتبه، فسأله: ماذا هناك؟
أجابه: السيدة صحت وهي تسألك أن تعطيها الخمسة وعشرين روبلاً التي وعدتها بها أمس.

بعد المسرح
عادت ناديا زلنينا مع أمها من المسرح بعد أن شاهدا رواية (يفجيني أونيجين). وبادرت بخلع فستانها حالما دخلت الغرفة، وحلت شعرها، ثم جلست في عجلة بتنورتها وقميصها الأبيض لتكتب رسالة بأسلوب (تاتيانا). وشرعت تكتب: «إنني أحبك، لكنك لا تحبني. أجل. لا تحبني».
ابتسمت وهي تفرغ من كتابة العبارة. كان لها من العمر ستة عشر عاماً. ولم تكن قد ذاقت طعم الحب بعد. وكانت على ثقة أن الضابط غورني والطالب غرونسدوف أسرى غرامها، لكنها رغبت، بعد عودتها من المسرح، أن تشك في حبهما. ما أمتع أن يكون الإنسان تعيساً غير محبوب! ثمة شيء جميل، مؤثر، رومانتيكي، في كون الإنسان عاشقاً مدنفاً لا يعبأ به حبيبه! لقد أثرت شخصية أونيجين في النفس لأنه لم يكن عاشقاً. وكانت شخصية (تاتيانا) رائعة لأنها أحبته حباً جارفاً. ولو بادل كل منهما الآخر الحب لصارت الرواية عادية مملة.
واصلت ناديا الكتابة وهي تفكر بالضابط غورني: «لا تحتج عليّ وتزعم أنك تحبني، فليس بوسعي تصديقك. إنك شاب ممتاز، مثقف، مجدّ، ذو موهبة عظيمة ومستقبل لامع، لكنني فتاة خاملة، عديمة الجاذبية. وأنت تعلم جيداً أنني سأكون عقبة في حياتك. حقاً أنني بهرتك منذ النظرة الأولى فاعتقدت أنك عثرت على الفتاة المثالية. لكنك مخطئ. ولعلك تسألك نفسك الآن في يأس: لماذا قابلت هذه الفتاة؟ ولعل شفقتك هي التي تمنعك من الاعتراف بهذه الحقيقة».
وأحست ناديا برثاء عميق لحالها. وانهمرت الدموع من عينيها. ثم استمرت تكتب: «لو كان يسيراً عليّ هجر أمي وأخي لارتديت مسوح راهبة وانطلقت إلى حيث تقودني عيناي. فبذلك تصبح حراً في حب فتاة أخرى. آه لو كان موتي ممكناً!».
ولم تستطع ناديا أن تميز من بين دموعها ما كتبت. وارتعشت أمام عينيها ألوان قوس قزح على المنضدة والأرض والسقف كأنها تنظر خلال منشور زجاجي. وتعذر عليها أن تواصل الكتابة، فغاصت في مقعدها وراحت تفكر في غورني.
أوه، ما أشد سحر الرجال! تذكرت ناديا تعبير وجه غورني المستغيث، المذنب، الرقيق، عندما يتناقش في الموسيقى، محاولاً ألا ينم صوته عن عواطفه. فلابد أن تكتم العاطفة في مجتمع يؤمن بأن التحفظ وعدم الاهتمام بشيء دليل التربية الراقية. لكنه لا يفلح في إخفاء عاطفته. فكل امرئ يعلم ولعه بالموسيقى، ويعلم كم تثيره الأشياء المغلوطة التي يقولها بعض الجهلاء. إنه مرتاع، صموت، يعزف ببراعة كعازف موهوب، ولو لم يكن ضابطاً لأضحى موسيقاراً شهيراً.
جفت الدموع في عينيها. تذكرت كيف باح لها غورني بحبه في قاعة الموسيقى، ثم في غرفة الملابس، ومضت في رسالتها: «إنني مسرورة جداً لمعرفتك أخيراً بالطالب غرونسدوف، فهو شاب رائع وستحبه بالتأكيد. وقد بقي معنا بالأمس حتى الساعة الثانية صباحاً. وكنا سعداء جميعاً. وقد أسفت لغيابك. وقد حدثنا بأشياء عظيمة».
وضعت ناديا يديها على المنضدة وأطرقت، وغطى شعرها الرسالة. وتذكرت أن غرونسدوف يحبها أيضاً، وأن له الحق نفسه في رسالتها. ربما كان من الأفضل أن تكتب إلى غرونسدوف. وخفق صدرها بسعادة غامرة بدون سبب ظاهر. وكانت في البدء سعادة ضئيلة تتدحرج في صدرها ككرة صغيرة من المطاط، ثم كبرت وكبرت وانفجرت كموجة عظيمة. نسيت ناديا كل ما يتعلق بغورني وغرونسدوف. وتتابعت الأفكار في رأسها. واشتد تدفق السعادة في صدرها، ثم سرت إلى ذراعيها وساقيها. وخيل إليها أن نسمة خفيفة تهب على رأسها محركة شعرها. وارتعشت كتفاها بضحكة هادئة. وارتجفت المنضدة والمصباح الزجاجي. وتساقطت دموعها على الرسالة فبقعتها. كانت عاجزة عن الكف عن الضحك. حاولت أن تتذكر أمراً مضحكاً لتقنع نفسها بسبب معقول. وهتفت أخيراً: ما أبدع ذلك الكلب الصغير! ما أبدعه!
تذكرت كيف كان غرونسدوف ليلة البارحة يلاعب ذلك الكلب بعد الشاي. وكيف قص بعدئذ قصة كلب ذكي كان يطارد غراباً في الفناء. ونظر إليه الغراب ثم قال: آه أيها الغشاش.
ولم يكن الكلب يحسن الرد على غراب متعلم. فانتابه ارتباك شديد، ثم جرى هارباً كالمصعوق، وأخذ ينبح. قالت ناديا بلهجة جازمة وهي تمزق الرسالة: كلا خير لي أن أحب غرونسدوف.
وراحت تفكر في الطالب، في حبه، في حبها. وفي الوقت نفسه سبحت الأفكار في رأسها ودارت حول كل شيء؛ حول أمها، حول الشارع، حول قلم الرصاص، حول البيانو. كانت سعيدة في تفكيرها. وتراءى لها كل شيء بديعاً. وأوحت لها سعادتها أن المستقبل يدخر لها سعادة أعظم. سيقدم الربيع سريعاً ثم يعقبه الصيف، وسيذهبون مع الأم إلى غوربيكي في الريف. وسيصحبهم غورني أثناء عطلته، وسيسير معها في البستان ويغازلها. وسيأتي غرونسدوف أيضاً، وسيلعب معها الكرة. وسيقص حكايات مضحكة وقصصاً مدهشة. وأحست بشوق عظيم إلى البستان، إلى الظلمة، إلى السماء الصافية، إلى النجوم، وارتعشت كتفاها مرة أخرى بالضحك. وخيل إليها أن رائحة الزهور توقظ مشاعرها. وكان الغصن ينقر برفق على النافذة.
اتجهت إلى سريرها واستلقت عليه. ولم تدر ماذا تصنع بسعادتها الغامرة. لقد أغرقتها. وحدقت في الصليب المعلق فوق رأس السرير، وطفقت تردد: يا إلهي... يا إلهي... يا إلهي.

- تمّ الكتاب -

كتابات الدكتور شاكر خصباك
الكتابات الإبداعية
1- حكايات من بلدنا رواية
2- الدكتاتور مسرحية
3- كتابات مبكرة كتابات أدبية
4- عهد جديد مجموعة قصصية
5- صراع مجموعة قصصية
6- السؤال رواية
7- حياة قاسية مجموعة قصصية
8- ذكريات أدبية سيرة حياة
9- التركة والجدار مسرحيتان
10- هيلة رواية
11- الغرباء واللص مسرحيتان
12- القهقهة مجموعة مسرحيات
13- العنكبوت والغائب مسرحيتان
14- الهوية رواية
15- بيت الزوجية مسرحية
16- الشيء مسرحية
17- تساؤلات خواطر فلسفية
18- القضية مسرحية
19- امرأة ضائعة رواية
20- البهلوان مجموعة مسرحيات
21- قصة حب والطائر روايتان
22- الخاطئة رواية
23- موت نذير العدل رواية
24- أوراق رئيس رواية
25- نهاية إنسان يفكر رواية
26- خواطر فتاة عاقلة رواية
27- الرجل الذي فقد النطق مجموعة مسرحيات
28- عالم مليكة رواية
29- الفصول الأربعة رواية
30- الأصدقاء الثلاثة رواية
31- ابن الحقيقة والواعظ مسرحيتان

الكتابات العلمية
أولاً المؤلفات:
1- الكرد والمسألة الكردية - دراسة في الجغرافية السياسية 1959
2- ابن بطوطة ورحلته - دراسة في الرحلات العربية 1971
3- الأكراد - دراسة جغرافية أثنوغرافية 1972
4- العراق الشمالي - دراسة لنواحيه الطبيعية والبشرية 1973
5- في الجغرافة العربية - دراسة للتراث الجغرافي العربي 1974
6- دولة الإمارات العربية المتحدة - دراسة في الجغرافية الاجتماعية 1977
7- كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي 1982
8- تطور الفكر الجغرافي - دراسة في تاريخ ومناهج الفكر الجغرافي 1987
9- الجغرافية عند العرب 1988
ثانياً المترجمات:
10- أعلام الجغرافية الحديثة - تأليف كرون 1963
11- دراسة الجغرافية - تأليف موجي 1964
12- الارتياد والكشف الجغرافي - تأليف وورد 1966
13- قرن من التطور الجغرافي - تأليف فريمان 1975
14- جغرافية الرفاه الاجتماعي - تأليف سميث 1981
15- أصول الجغرافية البشرية - تأليف بلاش 1982
16- طبيعة الجغرافية (الجزء الأول) - تأليف هارتشورن 1985
17- مستقبل الجغرافية - تأليف مجموعة من الأساتذة 2005
18- التحليل الموقعي في الجغرافية البشرية - تأليف هاغيت 2006
19- الجغرافية تاريخها ومفاهيمها - تأليف جنسن 2007
20 الجغرافية والجغرافيون - تأليف جونستون 2007


















#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول


المزيد.....




- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-