أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رامي أبو شهاب - غياب كل الأسماء - قراءة في رحلة دون جوزيه -















المزيد.....

غياب كل الأسماء - قراءة في رحلة دون جوزيه -


رامي أبو شهاب

الحوار المتمدن-العدد: 2206 - 2008 / 2 / 29 - 10:30
المحور: الادب والفن
    


لا غلو إذا قلنا أن أعمال الروائي البرتغالي "جوزيه ساراماغو" ذات امتياز خاص على مستوى التناول والعرض،كونها محصلة إبداع كاتب جدلي،نهض ذات صباح وهو في الخامسة والخمسين من عمره متجهاً إلى مكتبه طارحا قلق الكتابة معلقا على ذلك بقوله :" جلّ ما في الأمر إني نهضت في أحد الصباحات وقلت لنفسي: لقد حان الوقت لكي تكتشف ما إذا كنتَ قادرا على أن تكون ما تزعم أنه حقيقتك، أي كاتبا". انتهى به التساؤل كأفضل كتاب زمننا المعاصر ولينال جائزة نوبل للآداب بعد رائعته الشهيرة " سنة موت ريكاردو ريس " رواية أفاضت بشعرية سردية اتخذت من مدينة لشبونة موقعا وفضاء ليبتكر من خلالها تموجات حسية تنتقل عبر الورق إلى حواس القارئ فتدهشه رائحة المكان، وحساسية أطياف الشخصيات وطعم الأمكنة،كما هي في سائر أعماله الأخرى ومنها " الإنجيل يتلوه المسيح و الرؤية و العمى وغيرها.
وفي رواية " كل الأسماء " ننساق وراء عمل هش ظاهريا في زخمه السردي،حيث تبدو الشخصيات نادرة التواجد في المتن إلا من شخصية محورية ومركزية هي شخصية "دون جوزيه" الذي تجاوز الخمسين من عمره والموظف بدائرة الإحصاءات، فلا نملك في المتن البيانات المتعلقة به،فنحن لا نعرف له ماضيا أو حيثيات باستثناء ما يخبرنا به السارد كونه - دون جوزيه - أعزبا و موظفا في دائرة المحفوظات العامة،هذه الدائرة والتي يصفها لنا الكاتب ضمن مشاهد تتخذ من الصورة البصرية محاولة متخيلة لنقل التأثير المكاني على المتلقي الذي يسقط في هذا الحيز كما هو (دون جوزيه).
غياب الاسم / غياب الوجود
" دون جوزيه" المختزل في اسم يحمله بمثابة علامة لغوية،ولعل هذا الاختزال المتصل في سياق صفة الوجود؛إذ أن الاسم دليل الوجود المتحقق فلسفيا، فالاسم: "ما وضع لشيء من الأشياء ودل على معنى من المعاني جوهرا كان أو عرضا، وهو ما يكون علامة للشيء يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات " ولذا فان غياب الاسم يعني غياب الوجود،ومن هنا فقد كان الاختزال المقنن لاسم جوزيه دلالة على الوجود المقنن والطارئ لقلة توافر الأسماء المدعمة لهذا الوجود، أو لضآلة قيمته – أي الأسماء- في مستوى كينونة الإنسان.
وعلى هذا فان (دون جوزيه) منتقص القيمة إنسانيا،وهذا نابع من القيمة التي تمثلها هذه الشخصية في محيط بنية العمل الروائي التي تقصد إلى إصابة عمق بعيد في بعث التساؤلات حول حيز الإنسان في محيطه، فهو أقل ما يمكن بحيث يكتفى للتعبير عنه بعلامة لغوية تحيل عليه: " عندما يُسأل دون جوزيه عن اسمه، أو عندما تتطلب الظروف أن يقدم نفسه،أنا فلان الفلاني، فلن يفيده في شيء النطق بالاسم كاملاً لأن محادثيه لن يحتفظوا في ذاكرتهم إلاّ بالكلمة الأولى، جوزيه، والتي يضيفون بعد ذلك كلمة ـ دون".
هذا الاسم لا يعني شيئا في حقيقة قيمة الأثر والأهمية من منطلق أن الإنسان هو مجاز متبدد في سديم غرائبي لا يعير لم كان عليه أو ما سيكون،وخاصة إذا كانت حتمية توافره على سطح هذه الأرض سيختزل إلى ورقة محفوظة في سجل ،و" دون جوزيه" مع كل ذلك حريص على أن يكون موظفا مثاليا في المستوى السطحي والعميق على حد سواء،ولكن في مسافة خاصة مغلقة ومظلمة يتم من خلالها انتهاك هذا التكوين في الخفاء،ولعل في هذه الجزئية البسيطة يهدف ساماراغو إلى تحميل مقولة فلسفية إيصال محتواه إلى المتلقي مفادها أن الكون ليس نسقا واحدا قارا مسيطرا،فعلى الإنسان أن يخترق النسق الذي اعتاد عليه حيث الانحياز لحالة المقاطعة لكل ما هو بحكم المنتهي، وهكذا ينخرط "دون جوزيه" في مغامرة تساق له عبر الصدفة،حين يكتشف بطاقة امرأة لم تكتمل أوراقها أو المعلومات عنها، وهنا تتخذ الصدفة موقعها في إشارة إلى ضآلة مصير الإنسان في مواجهة المصائر المصطنعة من قبل الصدفة في دائرة الحدث، فهذه البطاقة يتم اكتشافها حين تكون ملتصقة ببطاقة أحد الشخصيات الشهيرة التي يعمل على دون جوزيه على جمع المعلومات عنها لأرشفتها،وهي هواية بريئة تبدو كنسق خارق لبنية الكون الصلد لعالم دون جوزيه.
العشق في شكل الغياب
تتخذ الهواية بعدا خطيرا-فيما بعد- حين يصر "دون جوزيه" على استكمال المعلومات عن هذه المرأة على الرغم من هاشميتها وابتعادها عن مركزية الضوء،إنها نموذج لاغتراب الإنسان في عصره، هذه الغربة تحمل قراءة في مستوى آخر، حيث يتخلص "دون جوزيه" من سطوة المشاهير لينحاز إلى الكائن البسيط المتماثل والمتشابه في أي مكان وزمان،كما هي هذه المرأة المجهولة.وهنا نعود لجزئية الاسم حيث يتم الالتقاء بين مستويي الحضور الغياب، حضور "دون جوزيه" المنتقص وغياب المرأة (المتوفاة) – المكتمل فيزيائيا ،ولكن " دون جوزيه" يبني على بعض هذا الحضور ليكون ضمن عملية حلول جديدة في ذات دون جوزيه العقيمة، فيبدأ رحلة شاقة وخطرة ضمن إحداثيات عالم "دون جوزيه" في اكتناه عوالم هذه المرأة وأسرارها،والتي يبدو أن الكاتب قد تورط معها بعلاقة حب سريالية على الرغم من غيابها،هذا الغياب المبرر بالموت ولكن الحاضر كفكرة سكنت دون جوزيه،وهنا توق إلى تجاوز الحدود الثابتة في قراءة معنى حياة الإنسان، وانطلاقا من ثيمة البحث ولا شيء سوى البحث عن معنى وجوده( دون جوزيه)،فتقوده رحلته الشاذة والمريبة إلى المقبرة و أجوائها،لينسج ساراماغو مقاطع قادرة على أن تشي بجمالية التناسق الحركي واللغوي في حركة الشخصية،يتخللها لذة قرائية يتذوقها المتلقي مقاربا نمطا أسطوريا كما في رواية" سنة موت ريكاردو ريس ".
رحلة المرأة المجهولة مجسدة ومستعادة برحلة البحث التي يقودها دون جوزيه مرة أخرى،فتعاد مرة أخرى إلى الحياة،و في إدراك حقيقة هذه المرأة المجهولة والمعشوقة ضمن تصورات حالة سريالية شهية تبعث إغواء لذيذا، فهذا الغياب للمرأة مفتعل وشهي للقارئ في إثارة اللعبة التشويقية حول التساؤل عن ظهور هذه المرأة في المتن الروائي، ومحاولة بناء صورة متخيلة لواقع هذه المرأة المعشوقة، التي عمل "دون جوزيه" على وضع أركانها وأشكالها ورائحتها.هذه الفيض في التعاطي مع الغياب،وجعله متجسدا على مستوى الحضور،هو رؤية فلسفية تكمن في الواقع الأيدلوجي لأفكار ساراماغو المنبعثة من إلحادية حقيقية فيما وراء الموت،وممارسة عنيفة في البنية اللغوية والفكرية وإستراتجيتها.
لا مناص من الغياب
هذا السحر للكاتب البرتغالي شديد التمكن في عمق عمليين روائيين،كان فيها لحضور الغياب مبرر كاف في البنية الروائية كما في رواية " سنة موت ريكاردو ريس " و "كل الأسماء". فالكاتب شديد الصلة بهذه العوالم لشخوصه المنتهية على صعيد تواجدها كلحم ودم، ولكن في بنية الكلام فهناك الكثير من التماثلات بين رواية " كل الأسماء " و "سنة موت ريكاردو ريس"، فكلا الروايتين تشهدان حضورا لشخصية غائبة بفعل الموت، ولكن حاضرة الأثر وغالبا ما يتبدى هذه الحضور على انعكاس سافر في الشخصيات الأخرى التي تعمل على خلق تواجدها عبر تماه منعكس في الشخصية الحاضرة وإن كان في رواية " كل الأسماء أكثر عنفا حيث تتطابق الشخصية الغائبة بتمظهرها في وعي " دون جوزيه " ورؤيته للحياة والقيمة المتحصلة لوجود الإنسان في هذا العالم الذي يعمل على بناء آلية للتعاطي مع ثيمة الوجود والعدم،كما في رواية كل الأسماء في وصف بسيط ولكن شديد العمق لفكرة الإنسان، حيث تقسم دائرة المحفوظات بطاقات الأحياء في المقدمة بينما تضع بطاقات المتوفين في الخلف،وتمتد المسافة يوما بعد يوم ليصبح البحث في الأبعد وفاة أكثر صعوبة وخطرا و مشقة،وهنا قراءة حذقة لمعطى الإنسان حين يتحول إلى كيانه إلى خانة أو حيز مكاني ينتهي به ضمن مجموعة من الأوراق تشرف عليها دائرة بيروقراطية، فلا يبق من معطياته الحياتية سوى مجموعة من البيانات،وتختفي متون وهوامش الإنسان ورحلته بماضيها وأحلامها وحتى فيزيائيتها التي تكون الأقل تضررا من جراء الموت:" المرأة ماتت ولم يعد بالإمكان عمل شيء،سأحتفظ بالملف والبطاقة إذا ما أردت الإبقاء على ذكرى ملموسة من هذه المغامرة،وسيكون ذلك بالنسبة للمحفوظات العامة كما لو أن المرأة لم تولد في الأصل،وربما لن يحتاج أحد إلى هذه الأوراق،ويمكن لي أن أتركها كذلك في أي مكان من أرشيف الموتى،عند المدخل،إلى جانب أقدام الأموات،فسيان تركها هنا أو هناك،والقصة متشابهة بالنسبة للجميع ولدت وماتت ومن ذا الذي سيهتم بها الآن بمن كانت ".
حقيقة تكتسي طبيعتها وحيويتها في الإقرار من لعبة سردية نسجها " ساراماغو " وسلم بها " دون جوزيه " ببساطة.إن دون جوزيه" نموذج التأملات الفسلفية المتصدرة المتراكبة المبسطة ضمن حبكة روائية مثقلة- على صعيد المقولات الفلسفية والفكرية- وهشة رقيقة على صعيد البنية السردية، ولعل هذا السر في جاذبية أعمال ساراماغو وحيويتها.



#رامي_أبو_شهاب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذباب والمدينة
- أمر بالدم
- الانتاج والاستهلاك المعرفي
- وطن طارئ للغريب
- نعبر كلانا في الظلال
- أمنية
- استعارات في العشق
- أربعون عاما
- في حضرتك ِأرتجلُ الغزل
- المزود الرسمي لإحصاءات التاريخ
- نفحتني سمرة لحمها
- امرأة أخيرة للموت
- رؤيا تعبر النساء
- قطرة ماء في النهر الفارغ
- لك شكل الإغواء
- جدار1
- دم جديد
- الفلسطيني يبحث في شكل الجدار
- عتمة تتعرى
- اكتظت لغتي فيكِ


المزيد.....




- أعظم فنان نفايات في العالم أعطى للقمامة قيمتها وحوّلها إلى م ...
- “أحداث مشوقة في انتظارك” موعد عرض المؤسس عثمان الحلقة 195 ال ...
- نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس فور ظهورها عبر nateg ...
- صدر حديثا : محطات ديوان شعر للشاعر موسى حلف
- قرنان من نهب الآثار التونسية على يد دبلوماسيين برتبة لصوص
- صراع الحب والمال يحسمه الصمت في فيلم -الماديون-
- كيف يبدو واقع السينما ومنصات البث في روسيا تحت سيف العقوبات؟ ...
- الممثل عادل درويش ضيف حكايتي مع السويد
- صاحب موسيقى فيلم -مهمة مستحيلة- لالو شيفرين : جسد يغيب وإبدا ...
- دينيس فيلنوف يُخرج فيلم -جيمس بوند- القادم


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رامي أبو شهاب - غياب كل الأسماء - قراءة في رحلة دون جوزيه -