المثالية والواقعية في السياسة الأمريكية


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 6113 - 2019 / 1 / 13 - 15:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



السياسة مفهوم غير مبني للمجهول ولا هي منحة ميتافيزقية، بل هي بناء بشريا يتحدد في الزمان والمكان؛ ومعلوم أنه عندما تكون السياسة نقول سيطرة طبقة على أخرى أو دولة على أخرى باعتماد التغطية والمبررات التي قد تكون دينية أو حقوقية أو إنسانية أو كل هذا. وبناء السياسة بهذا المعنى يعني التوفر المسبق على القوى والشروط اللازمة لهيكلتها بالشكل ذاك وهو ما يعني كذلك بناء التراكم كأرضية صلبة للتأسيس والامتلاك الفعلي للقوة أساس وضمان السيطرة الطبقية أو الإقليمية أو الدولية. ومن هنا يتم فهم طبيعة الصراع الذي عرفه التاريخ على امتلاك آليات القوة من ثروات اقتصادية وبناء عسكري وتنمية ونمو فكري؛ إذ بدون التوفر على هذه الأرضية ستكون من القوى الطبقية أو الدولية َالمكرَهة. وفي هذا الاتجاه تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من التوفر على هذه الشروط فأسست لسياسة لها تتميز بالوفرة الاقتصادية والقوة العسكرية والقدرات الإبداعية والإبتكارية، فشكلت بذلك نظاما وجيشا وشعبا ونخبا تقاطعت حول فكرة مشروعية السيطرة على العالم وهي مشروعية وهبتها لها الذات الإلهية والتفوق البيولوجي.لذا، ولفهم غطرسة السياسة الأمريكية وتلوناتها وتدخلاتها وانسحاباتها وسر غموض مواقفها ودلالات تحالفاتها لا بد من استحضار الفكرة المركز التي تتقاطع حولها النخب السياسية بديمقراطييها وجمهورييها، والعسكرية وأغلبية الشعب والنخب الفكرية وهي فكرة:"المصلحة الأمريكية أولا"؛ وفي كل هذا يتم تقديم المسودات والمقترحات للمناقشات قصد التوافق حول الهدف وآليات التحقيق وفق المرجعية المثالية المتمثلة في قبلية قدرات الرجل الأبيض الأمريكي من جهة،، والواقعية المتمثلة في الاستحضار الدائم لمكونات المجتمع الأمريكي وقضاياه المادية والمعنوية بما في ذلك المحيط الإقليمي والدولي. ولا شك أن من أهم المشاكل. ولا شك أن من أهم المشاكل التي تصطدم بها السياسات الأمريكية المثالية والواقعية هي دوما العجز عن إثبات هذه القبلية التي تقوم بالتغطية عنها باستدعاء الأيديولوجيا والقوة العسكرية. إنه الوضع الذي يتم فيه استحضار القبلية لتبرير والسيطرة الإمبريالية من جهة، والواقعية التي تقتضي ربط النظام السياسي بالمنفعة المادية من جهة أخرى وبالتالي استحضار المجتمع الأمريكي، والموقف من غير الأمريكيين وكذا الوضع الدولي بما فيه خاصة القوى المنافسة. فهذا الطرح المثالي والواقعي مكن الولايات المتحدة الأمريكية من بناء التوافق بين مكوناتها ضدا، وبأشكال مختلفة، على خصومها أو قل على باقي ساكنة العالم. فمثلا خلال الحرب الباردة،على الرغم من شراسة الخصم(الاتحادالسوفياتي)، ومشكل الأسلحة النووية، وتناقضاتها كأمريكا داخليا كعدائها للشيوعية وهزيمتها في حرب الفيتنام، فقد تمكنت من إنجاز حصول التوافق أو قل أنه،على الرغم من حصول الصدامات، فقد تمكنت من تحقيق التوافق بين الأهداف والمبادئ والاحتياط في تقديم المساعدات العسكرية كلما كان ذلك في غير صالح الولايات المتحدة الأمريكية؛ إنها الواقعية التي لا تعترف إلا بمصلحة الدولة، فكان مثلا سحب قواتها من لبنان مرحلة رونالد ريغن؛ ومن الصومال مرحلة بيل كلينتون .
أما حاضرا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعطي الأولوية للحرب ضد الإرهاب، كما تعرفه، حرصا على عدم ترك الفرصة سانحة لإفساد المجتمع الأمريكي. وعلى هذا الأساس والتوجه حددت سياستها الامبريالية على ضوء ثنائية متناقضة شكلا: المثالية والواقعية، الانعزالية (التفوق القبلي) والتوسعية التي تم التركيب بينها بشكل أو بآخر بما يخدم المصلحة الأمريكية أو الوطنية. وقد كان وراء ذلك فاعلين؛ التركيب بين المثالية والواقعية قاده منظرون قدموا من دول أوربية كمثلا بريجنسكي وهنري كيسنجر ومادلين أولبرايت وغيرها. والتركيب بين الانعزالية (التفوق القبلي= المثالية) والتوسعية (=الواقعية) قام ونادى به الرئيس ثيودور روزفيلت وتودوروف ويلسن وفرونكلين روزفيلت. وقد تميزت هذه المرحلة التاريخية بالحروب على الدول باستعمارها أو قلب الأنظمة بها وهي حروب كانت تراعي فيها التمييز بين الأهداف والآليات، وبين الدبلوماسية والاستراتيجية، وكذا درجة تطور المجتمعين الأمريكي والدولي. وفي هذا الإطار أمدنا المؤرخ والت رماك دوغال بتصورين في فهم الوضع الداخلي لممارسة الاحتكار والحروب والانقلابات: مرحلة العهد-القديم ومرحلة العهد-الجديد المؤطرين بطبيعة الحال بالتصورين المثالي والواقعي؛ فمؤدى العهد-القديم أن أمريكا أرضا موعودة وخصبة وهو ما يفرض، وفق طبيعة تصورها،ضرورة الدفاع عنها كما هي وكما ستكون لأنها النظام النموذجي المبني على قيم المثالية والحرية في المقارنة بالحروب المستمرة بالقارة العجوز؛ أما مؤدى مرحلة العهد-الجديد (ما بعد 1898) فمؤداه التركيز على ما تصنعه عمليا الولايات المتحدة الأمريكية والأسلوب الذي به تريد تغيير العالم وهو ما يعني التركيز على الممارسات الامبريالية التي انطلقت خاصة مع ثيودور روزفيلت والولسنية أي التركيز على التوسع اللبرالي على نشر وتوسيع التصور المثالي والواقعي الذي هو ،في نظرها،" الخير " أو قل التصور والنظام الكفيل ب " علاج أمراض الإنسانية "؛ وهو ما يعني،وبالكاد،أننا أمام سياسة أمريكية تركب بين أخلاقها العنصرية المثالية والواقعية لما فيه أولوية مصالحها وسمو مبادئها وبالتالي قوة توازنها داخليا والسيطرة المحكمة على غيرها دوليا.وهكذا، نجد تصورين داخل الولايات المتحدة الأمريكية: الأول يدعو إلى، ويتبنى فكرة التركيب بين أمريكا كاستثناء والنظام الأمريكي الرسمي والانغلاق على الغير دفاعا عن النقاء الجنسي والمناعة الذاتية؛ وهناك التصور الثاني الداعي إلى الدفاع عن الحرية ضد الأنظمة الشمولية معتبرا أمريكا النظام الأرقى وغيرها لا يتعدى كونه أنظمة تتميز بالاستعداد العدواني البيولوجي للتدمير أو قل تدمير الحضارة الأمريكية. ومن هنا الحذر المستمر للسياسة الأمريكية حيث تكرس سيطرتها على مجمل المنظمات والتحالفات؛ إضافة إلى التدخل المباشر وغير المباشر بنسب معينة كلما اقتضى الوضع ذلك أو قل التدخل ذو البعد الواحد الذي تمليه الواقعية التي هي المصلحة الداخلية والامبريالية؛بل والحذر هذا يشمل حتى المنظمات الدولية كهيئة الأمم المتحدة وغيرها حيث تحتفظ لنفسها بمحدودية العلاقة معها كلما كان ذلك في غير مصلحتها الوطنية الأمريكية أو قل أنها ترفض كل ما لم يتضمن مضمونه مصلحة الوطن الأمريكي بما في ذلك مواقف وقرارات المنظمات الدولية الكبرى الحكومية منها وغير الحكومية؛ وهذا معناه أنها تملك من القوة ما يمكنها من فرض مصلحتها الأمريكية أولا وأخيرا.لذا، نجدها، بصدد تدخلاتها الخارجية، سواء بهدف الاستعمار،أو الاستنزاف المادي والمالي،أو الانقلابات العسكرية أو التغطي بدعاوى الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان،تتمتع أو تملك حرية شكل وطبيعة التدخل إذ ليس هناك من مذهب يفوق أو يوازي مذهبها يلزمها بالردع أو التأجيل أو التنازل؛مذهب سبق أن لخصناه في المثالية والواقعية اللتان يقتضي توضيح وحشيتهما أكثر استدعاء واستحضار تشبع مجمل مكونات المجتمع الأمريكي بمشروعيتهما ونجاعتهما وهو ما سنقوم به لاحقا.