اختطاف العقل صنيعة اختطاف الدولة


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 5408 - 2017 / 1 / 21 - 03:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

اختطاف العقل
صنيعة اختطاف الدولة

من الأحكام الرزينة القول أن اختطاف العقل لا يمكن فصله عن اختطاف الدولة؛ أو قل أن هيمنة وسيطرة العقل الأمريكي ونظيره الأوربي، يرجع ، وبالكاد، إلى اختطاف الدولة كجهاز تتحدد صلاحياتها منطقيا في كونها الجهاز المؤسسة الساهرة على التنفيذ لا الوصية والمشرعة؛ أو قل أن اختطاف الدولة تلك حوله من وظيفة السهر على تنفيذ أشكال العقد الاجتماعي الذي "يكون " مصدره أصلا شراكة مكونات المجتمع، شراكة مشروطة بقاعدة الحوار حيث أن الرأي رأي ناطقه لا الوصي عليه منا تدعي وتمارس الدولة المخطوفة. لقد أصبحت الدولة تلك دولة القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية مع الهيمنة للأمركة والسيطرة للأروبة والتالية للأروسة والأصينة؛ علما بأن الأخيرات الثلاث، حاولت وتحاول الأمركة، بل تدعي القدرة على اختطافهما، وهو واقع الحال في نظرها، وفق قاعدة الهرمية. والعلة، بطبيعة الحال،مناعة وطبيعة العقل الأمريكي بامتلاكه القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية وبالتالي النووية. فالراهن يسجل محاولات تمرد الدول الثلاث على الأمركة، إلا أن هذه الأخيرة تبقى، في نهاية المطاف، المهيمنة وهو ما يعني مصداقية قولها امتلاكها القدرة على اختطاف الدول الثلاث: الأوربية والروسية والصينية وإن بدرجات.
ولا يمكننا الكلام عن اختطاف أمريكا باقي الدول دون القول باختطافها، وبالمثل، العقل للدول تلك – وغيرها – وبدرجات كذلك.إنه الاختطاف الذي فرضته المصلحة الاقتصادية الأمريكية باعتبار ذلك شرط استمرار اختطاف تلك الدول أو قل شرط استمرار الهيمنة عليها. ومن هنا لابد من استحضار مفهوم الجيوسياسة الذي هو شكلا ومضمونا، في جزء كبير منه، جيوسياسة أمريكية تعتمد التركيز على التشكيل الدائم للعقل بما يتناسب ومصالحها؛ تشكيل حددت له مسلمته التي يشتغل ويمارس وينتج من خلالها واستحضارها الدائم وتتمثل في مبدأ الربح، ولا شئ غير الربح وهو ما يؤدي إلى القول أن العقل، وفق المبدأ ذاك، هو بالكاد الإنتاج الذي هو بدوره الواقع. لذا، فالعقل ،في مختلف المجالات، وفق هذا التصور، هو البحث الدائم عن الربح الذي يلغي كل أشكال حقوق وكرامة الإنسان. إنه دلالة مختلف مكونات العقل كما تريده الأمركة. مكونات مضمونها ومحتوى تصوراتها وأهدافها الرفع من وتيرة الإنتاج ضمانا للرفع من وتيرة الزيادة في الأرباح. وهذه الإنتاجية لا تحصل إلا بالتنكر لكل أشكال الأخلاق الإنسانية وهو ما يتطلب ،وباللزوم، التوسع في الهيمنة على الموارد الطبيعية والمواقع الجيواستراتيجية. إنه، بالنسبة للأمركة،طبيعة عقلها الذي لا يمكن لباقي الحضارات نكران فعاليته التي هي الإنتاج والتطور ومراقبة غيره من الأنماط العقلية المهددة للحضارة التي هي حضارة الإنسان الأبيض الأمريكي. وقد تمكن العقل الأمريكي، كما ترى الأمركة تلك،بنجاح وفعالية، من الهيمنة على باقي العقول المنافسة له والتي هي الأوربية والروسية والصينية،بفعل تفوق تشكيله الطبيعي والعرقي الذي من مسئولياته توجيه وتدبير ومراقبة وردع غيره من العقول التي تفكر بأساليب دنيا ونقيضة لحاجيات ومتطلبات الحضارة.
وعليه، فأوربا- وكذا روسيا والصين- الواعية بما يمثله العقل مشكلا ومحددا وفق الإستراتيجية الأمريكية من تهديد لمصالحها ومستقبلها تعمل، بدورها، في اتجاه بناء العقل الأوروبي- وكذا الروسي والصيني- بالشكل الذي تكون له القدرة على مواجهة نظيره الأمريكي. ومن هنا رفضها المسلمة الأمريكية القائلة بالتفوق الطبيعي والعرقي للعقل الأمريكي الذي وفقه تمت الهيمنة، حسب ادعاء الأمركة تلك، على غيره الذي منه العقل الأوروبي- الذي يليه العقل الروسي والصيني-. وكتفنيد للتصور العرقي الأمريكي، حددت أوروبا مسلمتها وفق تصور آخر يرى أن العقل الأوروبي هو العقل الأنقى والأرقى طبيعيا وعرقيا لا العقل الأمريكي. إنه العقل الذي أسس لهذه الحضارة بناء واكتشافا واستجابة لحاجيات الإنسان الأبيض الأوروبي وذلك بتبنيه فكرة أن مبدأ تطور الحضارة لن يحصل إلا وفق العقل الأوروبي الذي هو الإنتاج بحثا عن الزيادة القصوى من الأرباح، لكن باحترام الإنسان لا إلغاؤه المجازي كما يرى العقل الأمريكي. ولهذا، وكرد عن هذه المؤاخذة، حاول النظام الأمريكي، من داخل مفكريه، دحض هذا المأخذ بظهور تصور راولز بنظريته الجديدة حول العدالة حيث أعطى فيها لعامل الأخلاق الأهمية التي يقتضيها تجاوز سلبيات العقل الأمريكي. ومعلوم أن منطق العقل الأوروبي مبني أساسا، للتغني بحضارته، على قاعدة القياس التصاعدي للأرباح الذي اقتضى ويقتضي حصوله التوسع الاستعماري. إنه العقل الذي يتميز في نظر القارة الأوروبية بالتفوق البيولوجي والإثني والديني الذي يبرر مشروعية التدخل في شؤون باقي الدول لنشر الحضارة ومحاصرة غيرها باعتبارها بربرية ومتوحشة وهو ما وجب ويجب عقلا، في نظر القارة تلك، محاصرتها واستعمارها. إنه الاستعمار الذي تمكن، بفعل قوته المادية والعسكرية، من استغلال الموارد الطبيعية للدول المسماة بالمتخلفة عقلا باسم الشرعية وحقوق الإنسان.
هذه هي المسلمة التي بها تفاخر وتفتخر أوروبا في كونها أساس بناء العقل الأوروبي كاختراعات وقدرات وإمكانات بها تم بناء الحضارة الإنسانية؛ أو قل تميزه، في نظرها،بالتفوق والإبداع وهي الميزة الطبيعية والبيولوجية التي يفتقر إليها، كما سبق القول، العقل كما هو في مختلف باقي الدول.
هكذا، ومن خلال تحليلنا،أننا، بصدد موضوع اختطاف العقل،أمام التقاطع والاختلاف بين التصورين: الأمريكي والأوروبي؛ التقاطع من حيث أن للعقل المتفوق الأسس البيولوجية والدينية التي تحمله مسئولية ممارسة الوصاية على كل أشكال العقل الدوني؛ كما أنه من صلاحياته المشروعة وضعيا ودينيا استعمار الدول ذات الحضارات المهددة لحضارة الإنسان الأبيض. وبطبيعة الحال، هي ادعاءات زائفة تفهم(بضم التاء) وتوضح كلما استدعينا عامل الاقتصاد المتمثل في الطلب الدائم للزيادة في الأرباح الذي هو أساسا الإلغاء المجازي للإنسان. هذا العامل هو ما يبرز لنا جيدا لماذا الاختلاف والصراع بين العقل الأمريكي والعقل الأوروبي؛ إنه الاختلاف الذي أبرز ويبرز أن ما يطرح كتفوق عرقي ليس سوى اللعبة السياسية التي بها تم ويتم تبرير مشروعية السيطرة على السوق الاقتصادي؛ أو قل ان الاقتصاد هو المحرك الأساسي لهذه الادعاءات متخذا أوجها غير وجهه الحقيقي. إنه العامل الذي يفسر الصراع القوي، وبالأشكال المختلفة، سواء منها العسكرية أو السياسية، بين مصداقية العقل كأمريكي أو مصداقيته كأوروبي واللذين يواجههما راهنا على المستويات المعرفية والعسكرية والتواجد على أرض الواقع، كلا من العقل الروسي ونظيره الصيني.
بناء على ما سبق ،رأينا أن اختطاف الدولة هو أساسا اختطاف العقل الذي يتلخص منطقه النبيل في البناء والإبداع والإنتاجية تلبية لحاجيات الإنسانية؛ أو قل أنه الطاقة الفاعلة والفعالة، لا فرق في ذلك بين كونه أمريكيا أو أوروبيا أو آسيويا أو إفريقيا، أسودا أو أبيضا، ذكرا أو أنثى، مسلما أو مسيحيا، يهوديا أو بوذيا. إلا أن تشكيل ومناعة الفئة المهيمنة والأخرى المسيطرة ارتأت أن العقل محددا كذلك، هو بمثابة تهديد لمصالحها واعتبار مكانتها؛ لذا، اقتضت مصلحتها تلك اختطاف العقل ذاك لتطويعه وتشكيله بفعل هيمنتها وسيطرتها على مختلف المجالات من أسرة، وتعليم، ودين، وأخلاق، وإعلام، وفن، وسياسة، واقتصاد، وسلاح. وبلغة أخرى،،لقد أصبحنا أمام العقل النقيض لذاته أو قل المعرقل لذاته؛ وعليه، فالحضارة التي بناها هي الحضارة المعرقلة لذاتها؛ وهو التحديد والتجسيد المتمثل في خوض العقل ذاك الحروب المدمرة الكثيرة غير عابئ بتدمير المجتمعات وقتل المدنيين: أطفالا ورجالا ونساء وشيوخا، ناهيك عن نشر الفقر والأمراض والأوبئة وتلويث البيئة. ولنا ، كأهم مثال، راهن كيف أن العقل الأمريكي والأوروبي دمرا المجتمعات العربية – بعدما قسموها سابقا:سايكس- بيكو- خاصة منها العراق ومصر وليبيا وسوريا واليمن لأجل الموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي وحماية العقل الإسرائيلي معتبرين إياه العقل التحضر لكن المهدد بالعقل البربري الذي هو العقل العربي الإسلامي.
لقد قلنا سابقا أنه تم اختطاف الدولة لتتحول من وظيفتها الأصلية التي هي السهر على تنفيذ إستراتيجية العقد الاجتماعي لا أحادية بنائها وامتلاكها وممارسة الوصاية عليها؛ نقول، وبالمثل،أنه تم اختطاف العقل ليتحول من كونه أصلا سيد ذاته إبداعا وحرية وإنتاجا وعدالة، إلى كونه أصبح، وبفعل اختطاف الدولة المخطوفة، مصدر العنصرية والاستعمار والحروب وتدمير المجتمعات وانحراف التاريخ وهو الحاصل سابقا واليوم. فهل ستبقى صيرورة وسيرورة الإنسانية رهينة اختطاف هذا العقل وتشكيله كما أرادته وتريده القوى العالمية المهيمنة منها والمسيطرة على السواء؟ إنه السؤال البعبع بالنسبة لتلك القوى لأن في ماضي وراهن التاريخ يوجد النقيض الكامن الذي لم تتوفر شروط انفجاره بعد.