اختطاف الدولة علة انتصار الأمركة


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 5378 - 2016 / 12 / 21 - 10:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



للدولة مهامها ووظائفها المتمثلة في السهر على مراقبة حسن سير وتدبير العقد الاجتماعي الذي أسست له وبنته مكونات المجتمع الذي لا بد أن يكون في أعلى صحة قواه العقلية والجسمية وبالتالي مستوى وعي أعلى لإمكان تحمله المسئولية. فهذه الأخيرة تحترم إراديا جدلية الأنطولوجي والسياسي، الكوني والتاريخاني وذلك بالتعاقد حول التأسيس لمؤسسة تتحدد حدودها في عدم المس بمحتوى مؤسسات التعاقد؛ إنها الحقبة التي يصبح فيها للمجتمع المدني حضوره المشروع والمسئول. إلا أن الجانب التنظيمي، كما يكون حاصلا وفق جدلية الأنطولوجي والسياسي ترفضه القوى المسيطرة التي قامت وتقوم باختطاف الدولة من المجال الذي كان عليها أن تشرف على تدبيره وفق قاعدة احترام مؤسسات المجتمع المدني، إلى المجال الذي يلغي مجازيا أو بشكل مؤذب في الغرب، واستبداديا في الدول المتخلفة، المجتمع المدني. فاختطاف الدولة هذه جعلها تتميز بالاستبداد والتسلط والإلغاء المجازي للدول الأضعف وبالتالي الإلغاء المجازي لنسبة كبيرة من مكونات الإنسانية باعتماد مختلف المؤسسات التي حرفتها عن مهامها كما أرادتها وتريدها جدلية الأنطولوجي والسياسي أو قل الكوني والتاريخاني.
هكذا، فاختطاف الدولة غير وجهة التاريخ من حقيقته كتاريخ تحكمه مبادئ جدلية الأنطولوجي والسياسي إلى تاريخ تحكمه مبادئ الاستبداد والتسلط واستعمار الدول والشعوب والثروات بما يخدم مصالح القلة القليلة التي اختطفت الدولة وحرفتها عن مسارها التاريخاني الصحيح. ودون الدخول في تاريخ المساوئ التي ألحقتها الفئة تلك بالإنسانية عبر التاريخ والتي تدخل في سجل ما يسمى بالجرائم ضد الإنسانية، نطرح اختطاف الدولة كما هو حاصل اليوم، وممسرح بشكل جلي وواضح على مستوى الحروب في مناطق عدة أهمها العالم العربي. وهنا يطرح اختطاف الدولة الأمريكية من طرف القلة القليلة صاحبة صناعة واتخاذ القرارات لحماية مصالحها وأمنها بذرائع ومسوغات عدة. ونجاحها في ذلك يقتضي مواجهة منافسيها الذين أهمهم الدول الأروبية والدولة الروسية وكذا الصينية.
إن حماية مصالح هذه القلة القليلة مرهون باستمرار اختطاف الدولة أو قل بناء الامبراطورية بما لها من قوة ومناعة؛ وترى تلك القلة القليلة الأمريكية بأن البناء ذاك والسيطرة على الغير يقتضي حتما بناء القوة العسكرية. لذلك نقول أن القوى المهيمنة الأمريكية تلك اختطفت مؤسسة الدولة بفعل قوتها السياسية والعسكرية والتكنولوجية؛ فحولتها بذلك إلى قوة أحادية، ليكون ويبقى غيرها تحت الوصاية ووفق قاعدة الترتيب. ومعلوم أن هذه السيطرة ذات المرجعية المذكورة سابقا تتعدى الممارسات السياسية المباشرة، إلى عرقلة مجمل وأنواع المبادلات الدولية التي تطمح بناء الذات واحترام السيادة والاستقلال في اتخاذ القرارات على مختلف المستويات. وبلغة أخرى، فدولة الولايات المتحدة الأمريكية تفرض اليوم ما يمكن تسميته بالدكتاتورية الكونية معتبرا إياها أمرا واقعيا طرفاها : أحادية سيطرة الدولة الأمريكية من جهة، وخضوع غيرها وفق قاعدة التراتبية والمصلحة من جهة أخرى؛ أو قل أنها دكتاتورية انتقلت من دول أروبا الاستعمارية المتمثلة في فرض التبعية على الدول المتخلفة إلى شكلها الجديد المتمثل في الانتقال من سياسة التبعية إلى سياسة التدمير المجازي أو الفعلي أو قل التدمير الأليكتروني للآخر بسرعة ودقة فائقتين.. ولنا العراق كمختبر للتمرين والتجريب والتقييم لنجاعة هذه السياسة حيث قذف المؤسسات والمدن والساكنة بالأسلحة المتطورة والسريعة المفعول دون اعتبار لإنسانية وكرامة الإنسان؛ وبلغة أخرى، لم يعد الهدف إخضاع الإنسان العراقي واستغلاله كما كان سائدا مرحلة دولة الاستعمار البريطاني، بقدر ما أصبح الإنسان العراقي مضافا سلبيا إلى الإنسانية يجب التخلص منه وفق قاعدة التدمير بالأسلحة المتطورة. إنها السياسة الجديدة التي تفرضها دولة الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك في ليبيا وسوريا واليمن: فلا يهمها تدمير المدن وقتل المدنيين بقدر ما أن الذي يهمها هو إعطاء الدليل على أنها الدولة الأقوى في العالم سياسيا وعسكريا وتكنولوجيا. والخطاب هنا موجه لأروبا وروسيا والصين.
هكذا، فاختطاف دولة الولايات المتحدة الأمريكية من طرف هذه القلة من القوى المسيطرة حولها من الدولة التي كان يجب أن تكون مدنية إلى الدولة التي أصبحت، بفعل تسلطها، تدعي أنها تمثل نهاية التاريخ. لذا، فالأمركة اليوم هي أيديولوجيا عولمية جديدة، تعتمد، إضافة إلى القوة العسكرية والتكنولوجية، القوة المعرفية حيث عملت ، في بناء نسقها السياسي، على الدمج بين العقيدتين اليهودية والمسيحية وكذا مع النظرية البيولوجية العنصرية القائلة بتفوق العنصر الأبيض الأمريكي. وفي هذا، نجد سهولة تبريرها تسلطها باعتماد الغيبيات والعلم اللذان مكناها من ممارسة التسلط على بقية العالم وخاصة منه العالم العربي. إنها أيديولوجيا، تعتمد، لتأمين مصالحها على إعادة توجيه الديني لما لذلك من نجاح سريع لإغراق العالم العربي في زمن الفوضى والاحتراب والاقتتال أو قل إجباره على الرجوع القهقرى إلى زمن انطلاقه الذي هو زمن الطبيعة تمهيدا لإخراجه من دائرة الحضارة؛ وهي في كل ذلك تعتمد أدواتها التكنولوجية المدمرة وحيل التاريخ كما حصل في العراق وليبيا وسوريا واليمن، والبقية مؤجلة إلى حين ؛ هذا دون نسيان تراكم تجاربها في ممارسة التسلط.
إنها الأمركة كأيديولوجيا جديدة تعمل ،وبإصرار على واجهتين: من جهة اعتماد القوة العسكرية والتطور التكنولوجي والنووي، ومن جهة أخرى عرقلة تطور القوة العسكرية الأروبية والروسية،- مع ما بين هاتين الأخيرتين من صراع- على عدم مسايرة قدراتها لتبقى الأمركة تلك عسكريا وسياسيا وأيديولوجيا الدولة الأقوى في العالم. وبلغة أخرى، يمكن تلخيص استراتيجية وأيديولوجية الأمركة اليوم في التالي : تدمير البشر عوض الاحتفاظ به وفق قاعدة التبعية كما فعلت الدول الاستعمارية الأروبية سابقا، باعتماد القوة العسكرية من جهة، والتركيب السياسي بين الديانتين اليهودية والمسيحية والانجازات العلمية.