تدجين الشعوب العربية


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 5973 - 2018 / 8 / 24 - 00:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو البحث عن أنجع الطرق لتحرير الشعوب العربية ليس اقتصاديا فحسب، بل وبشريا وهو الأهم؛ أي إعادة هيكلة البناء الداخلي للإنسان العربي مع استحضار الإمكانيات والغلاف الزمني أو قل اعتماد التراكم بدلالاته التعاقبية التي تأخذ شكل القطائع وفق درجات التطور التي تكون مرجعيتها البنية المجتمعية العربية؛ وهو عمل متواصل لخلق شروط ظهور العناصر الكامنة كلما حصل نضجها. وهذا يقتضي، بطبيعة الحال، النقد الذي له قدرة تخليص هذه الشعوب من العراقيل التي تمنع تطورها مع التوضيح إلى أنه نقد يجب أن يبدأ بتشريح وتحليل الموجود العربي.إنه النهج الذي سيمكننا من التخلص من المناهج المعادية للشعوب العربية وبالتالي بناء المنهج الكفيل والملائم أو قل المتوفر على قابلية التصديق. وبلغة أخرى، فالمطلوب هو تعرية سوء بناء وتدبير أشكال الأنظمة السلبية العربية التي طالما تباهت مكرا بفعاليتها ونجاح مشاريعها؛ ولا يمكن لهذا المنهج الاقتصار على اعتماد ما سبق، بل لا بد له من اعتماد مكونات أخرى أهمها الأخلاق لسبب بسيط وهو أن هذه الأخيرة تم اعتمادها بشكل كبير لتبرير الاستبداد والتسلط والاقتتال والطائفية والقبلية والتخلف أو قل أخلاق غزت عقلية الشعوب العربية معلنة صوابها وصدقها؛ خاصة وأن أهمية العامل الأخلاقي تتمثل في كون أ أشكال الأنظمة السلبية العربية هي أشكال تتميز بالظلم ومعاداة العدالة على المستويين المادي المتعلق بتوزيع الثروات الطبيعية، والمعنوي حيث التسلط والقمع والترويض وهو دوس استبدادي على كرامته الطبيعية والاجتماعية أو قل العمل على إخفاء اللامساواة تحت شعار: المساواة بين الجميع ملبسين الشعار ذاك لباس الكذب الأخلاقي لما للأخير من مصداقية متجدرة داخل الشعوب. وهكذا، فقد خضعت هذه الشعوب، على مر التاريخ، ووفق درجات ومستويات لعملية التدمير والترويض الذاتي بالرفع من درجات التكثيف من التسلط والقمع والسجن وتعطيل العقل أو تعريضه للإصابات بالأمراض العقلية كلما تبين أنه حريص على مواجهة تلك الأشكال من الأنظمة السلبية العربية دون أن ننسى حرصها على تدمير العلاقات بين مكوناتها كشعوب. وعليه،فأشكال الأنظمة السلبية العربية هذه هي أشكال لا تؤمن بقيمة وحقوق الشعوب العربية الطبيعية والاجتماعية بقدر ما أن الذي تؤمن به هو قيمة الرأسمال النقدي وارتفاع الأرباح وهو تهميش يطال كل الجسم الاجتماعي لهذه الشعوب لتبقى في مستوى الضعف والاستسلام الذي لأجله يتم نشر وانتشار الجيوش ورجال الأمن بالمؤسسات والشوارع والجامعات والمستشفيات وغيرها دفاعا عن قيمة الرأسمال الذي مرجعيته ومكان حركيته السوق. إنها أنظمة تسرق حياة الشعوب وتمنعها من ملكية عملها وإنتاجها وزمانها ورفاهيتها وإبداعها وإنسانيتها وكرامتها.
ومما هو ثابت أن أشكال الأنظمة السلبية العربية قد عودت شعوبها على العيش تحت سقف التسلط والفقر على أنه الوضع السليم الذي مرجعيته الدين الإسلامي؛ وبلغة أخرى،تعويد الشعوب العربية تلك على العيش في الأزمات مطعما بالخوف والتخويف وادعاء اعتباره النمو والتنمية والازدهار والرفاهية. هذا الوضع المتراكم من التسلط واللامساواة والفقر أفرز انفجارات في شكل تظاهرات واحتجاجات سموها بالربيع العربي وظفها الأب الرأسمالي كثيرا لتدمير دول على الأقل تتبنى فكرة القومية كالعراق وليبيا وسوريا.إلا أنه على الرغم من كل هذا التسلط والاستبداد والفقر وأشكال الاحتجاج، يبدو أن ظهور شروط تجاوز الشعوب العربية هذا الوضع ما زال بعيدا أو قل في حاجة لتراكمات أكثر وبنوعيات أفضل.
نستخلص من السابق أن مجمل المؤسسات هي مؤسسات قمعية مهما أوحت بعض مظاهرها الماكرة بالليونة. فالمطالبة باستقلال المؤسسات تلك هو العدو الأساسي لتلك الأنظمة؛ مؤسسات تتميز بالتراتبية من حيث السلطوية والقمع وفرض النظام كوزارات الداخلية وإدارات الأمن والجيش خدمة لمجال الاقتصاد الذي تمتلكه الطبقة والنخب الريعية والذي هو المجال المغلف بالصمت كأن توزيع ثرواته تم ويتم بشكل عادل؛ في حين، وللتغطية عن المجال ذاك يتم توجيه اهتمام الرأي العام للشعوب العربية نحو شكل والممارسات السياسية للحكومات وفشل البرلمانات وتسلط وزارات الداخلية وتعسف القضاء؛ هذا علما بأن هذا التوجيه لاهتمام الرأي العام ، في نسبته الكبيرة، لا يتجاوز الحد الأدنى من الوعي، بل ومنه من هو أقرب إلى درجة الصفر من الوعي؛ ةبلغة أخرى، فوراء كل هذه المجالات هناك حيوية وأهمية الاقتصاد كعصب قوة أشكال الأنظمة السلبية العربية ونخبه. والهدف، بطبيعة الحال، هو بناء وتطوير بناء قوة سلطة تلك الأنظمة وكذا نخبها؛ وهذا جعل بعضها، الأنظمة الخليجية والنفطية تسعى إلى توسيع استثمار اقتصادها من السوق المحلي إلى الإقليمي والدولي نظرا لأهمية المجال ذاك أو قل أن أساس قوة الأنظمة هو الاستثمار والاستغلال الاقتصادي لقوى عمل الشعوب. ومعلوم أن هذا النجاح في استغلال ثروات الشعوب العربيىة اقتضى، كما سبق القول، السهر على خلق شروط استمرار تشكيل سلوك هذه الشعوب تنميطا وترويضا أو قل القتل المجازي للشعوب العربية حيث تخضع الشعوب لرقابتين: رقابة الأجهزة والأمكنة التسلطية والقمعية من جهة، والرقابة الذاتية للشعوب نفسها من جهة أخرى؛ بل وللزيادة من القمع اعتمدت أشكال الأنظمة السلبية العربية مؤخرا ، مدعمة من طرف الأب الرأسمالي، خلق شروط الطائفية والمذهبية والاقتتال لتفتيت المفتت وتجزيء المجزأ شعوبا وبشرا وأرضا وهو ما يعني ،كما سبق القول، قتلها المجازي لاتقاء شر التهديدات التي لا يمكن، في نظر الأنظمة تلك، أن يكون مصدرها سوى تلك الشعوب. وبهذا التصور تم الانقضاض على الحراك العربي ‘ن لم نقل تم التأسيس له لهذا الغرض؛ فتم تدمير العراق ومصر وليبيا وسوريا واليمن وفلسطين لما لهم ، في نظر الأب الرأسمالي وتابعيه الاقليميين من قدرة على تعبئة الشعوب؛ وفي ذلك كله دعم للتوسع الاسرائيلي؛ وبالتالي، ولنفس الأسباب تم استنزاف قدرات الشعوب العربية واحتواؤها بادعائها الاستعداد للإستجابة لمطالبها التي ليست سوى التمويهات والمراوغات تلو المراوغات لتبقى دار الاستبداد والتسلط والظلم والفساد والبطالة والفقر على حالها وبطرق ذات مظاهر أخرى سماها البعض بإعادة هيكلة الدساتير استجابة للمطالب؛ وسماها البعض الآخر، وهذه قمة التفاهة،بالتأسيس لمرحلة الديمقراطية. وعموما، فنفس المعادلة مستمرة: استبداد أشكال الأنظمة السلبية العربية ونخبها من جهة، والقتل المجازي للشعوب العربية من جهة أخرى؛ فلا دساتير ولا ديمقراطية. فالشعوب، كما نراها أمامنا تقوم، كما أريد لها، بإعادة إنتاج نفسها باعتبارها كائنات لا ترقى إلى درجة الإنسانية بقدر ما أنها ليست سوى سلعة من السلع.