التقدم والتخلف في قصة قصيرة

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6054 - 2018 / 11 / 15 - 23:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الإحساس بعدم الأمان والاستقرار في أي مجتمع يغير سلوكيات الناس بشكل خطير، وقد ثبت في تاريخ الفكر الاقتصادي انه عندما يعاني أي شعب اقتصاديا فإن هذه المعاناة تعبر عن نفسها في أنماط حياة الناس الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية والأخلاقية......الخ حيث تتجه منحنيات كل هذه المعطيات إلى أسفل.
وتزداد الأمور سؤا عندما يركز النظام الحاكم جهوده على بناء البنية التحتية ولا تحظى البنية الفوقية وهي الانسان بالاهتمام الكافي في خططه التنموية، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى انتشار أساليب الخلاص الفردي والانانية واللامبالاة وتلاشي روح الانتماء للمكان والزمان وتسود الفوضى وتنحدر سمات التحضر وتنتشر مظاهر التلوث الاخلاقي والبيئي والسمعي والبصري في كل مكان ويزداد إحباط الناس من كل ما حولهم وندخل في حلقة جهنمية من البؤس والشقاء لا نهاية لها.

وفي هذا فقد ذهبت إلى مدينة مولدي القاهرة الحبيبة في إجازة قصيرة في أكتوبر المنصرم. لاحظت كيف يزداد شعور الناس بالخوف وعدم الأمان نتيجة الظروف المعيشية الصعبة والارتفاع غير المعتاد في معدلات التضخم والتي وصلت في بداية العام إلى ٣٢% ثم انخفضت لتبلغ الآن حوالي ٢٠% وهي نسبة لازالت مرتفعة جدا تجعل معدلات الفائدة الحقيقية على مدخرات الناس بالجنيه المصري سالبة كما نقول في الاقتصاد. وتنعكس نسبة التضخم العالية على أسعار كل شيء ومن أهمها بالطبع المواد والسلع الغذائية.

ومن أكثر ما أحزنني في هذه الزيارة هو السلبية الشديدة المنتشرة بين الشباب والهزل في موضع الجد أو ما نسميه في مصر بالتريقة وتسفيه كل شيء من خلال تحويل القضايا الهامة مثل تفشي الفساد والإهمال والظلم المجتمعي إلى مادة للضحك والتندر. ومع الوقت تتحول هذه القضايا إلى مسخ وتصبح جهود القلة الخجولة لمقاومة هذه الأمراض وتقديم بعض الاصلاحات مادة للتريقة والتنكيت أيضا حتى أصبح سلاحنا الوحيد في مواجهة كل الفساد الذي يرتع في كل مكان بأمان ودون أي حياء أو حذر هو النكت والضحك.

وأثناء زيارتي أرسل صديق لي فيديو كليب لشاب مصري يقول فيه أنه أهم شخص في مصر كونه حرامي ومفيد جدا للمجتمع لأنه على سبيل المثال عندما يهاجم سيدة للسطو عليها فإنه تصاب بصدمة عصبية تنقل على أثرها للمستشفى فيعمل الاطباء والممرضات على علاجها والجميع يربح، وعندما يعترضه الشرطي ويذهب إلى قسم الشرطة فإن الجميع هناك سوف ينشغلون به حتى يذهب إلى المحاكمة حيث يتم تعيين محام له.....الخ ثم يقول الحرامي انه بهذا العمل يعالج اكبر مشكلة في مصر وهي البطالة وبالرغم من هذا فإن الناس تشتكي من أمثاله من اللصوص!

ورغم فجاجة وخطورة الرسالة التي يبثها الفيديو على الأجيال الصغيرة إلا أنه يحوز على إقبال الأكثرية في مصر حسب ما ذكره صديقي. وقد ذكرني هذا الفيديو بالآثار المدمرة التي أحدثتها بعض أعمال الممثلين الكوميديان هذه الايام بقيادة زعيمهم عادل امام على المراهقين في مصر، ولعلنا نتذكر مسرحية مدرسة المشاغبين التي تسببت في انحدار أخلاق التلاميذ وضياع احترام المدرس والمدرسة وتدهور التعليم، ويقال انها لازلت تبث حتى الآن.

وعند مغادرتي القاهرة على متن طائرة مصر للطيران شرعت في قراءة جريدة الأهرام ولفت نظري أن الجريدة العريقة ليس بها أي أخبار أو مقالات سياسية وهذا يؤكد مقولة أصدقائي بأن السيسي نجح بامتياز في وأد الحياة السياسية في مصر. ولكن شد انتباهي مقالة صغيرة في الجريدة بعنوان " أسرار حياة مدينة ألمانية للكفار فقط" يتحدث فيها الكاتب عن رحلته القصيرة لمدينة ألمانية صغيرة أقام خلالها في شقة في منزل يملكه رجل ألماني كبير في السن. وحدث أن طرق المالك الألماني بابه ليبلغه وهو في غاية الحرج بأن المياه سوف تنقطع بعد قليل عن الشارع لمدة أربع ساعات بسبب انفجار عارض في أنبوب التغذية. فرد عليه كاتب المقال بأنه سيقوم في الحال بملء البانيو بالماء. فرد عليه الالماني بانزعاج شديد بانه لا داع لهذا لأنه لو ملأ كل شخص في المنطقة البانيو فلن تكفي المياه للحالات العاجلة ولا من يحتاجون المياه للشرب أو تشغيل المدافئ، ثم كرر انها أربع ساعات فقط يا سيدي وملء زجاجة مياه واحدة تكفي. واستدرك الكاتب قائلا بالحرف " لم املأ البانيو ولكنني بخبث شديد ملأت زجاجتين بالإضافة إلى حلة ضخمة وفتحت سرسوب مياه ضعيف ليملأ طبقا كبيرا من البلاستيك" ثم ذهب لأداء صلاة الجمعة في مسجد تركي. وعند عودته للمنزل وجد الألماني في انتظاره ليبلغه وهو سعيد بعودة المياه، ثم يقول الكاتب " وضعتني فرحة الرجل امام مشكلة وهي ماذا أفعل بكمية المياه الضخمة التي حوشتها" ولم يجب عن السؤال وتحول إلى موضوع أخر وهو استنكاره لإمام المسجد التركي وهو يصف بعد الصلاة أهل هذه المدينة التي تأويه بالكفار!

هذا المقال الصغير يوضح كيف يفكر ويتصرف الانسان الذي يعيش في مجتمع تسوده الأزمات والخوف وانعدام الثقة في المسؤولين وانسان أخر يعيش في ظروف مواتية، الأول لا يفكر إلا في ذاته وتسيطر عليه غريزة الخلاص الفردي وعدم الاكتراث بالآخر التي تسود عادة في الغابة، أما الآخر وهو "الألماني الكافر" فإنه لم يكن بحاجة للذهاب للمسجد التركي حتى يفكر في الآخرين من حوله وتفادي الحاق الضرر بهم حتى وإن لم يروه.

عاد بي هذا المقال إلى الوراء لعام ١٩٨٢ عندما ذهبت كشاب مبتعث إلى ألمانيا الغربية "وقتها" وكانت أول رحلة لي خارج مصر وتذكرت الصدمة الحضارية التي سيطرت علي لفترة طويلة كنت أنظر خلالها بعمق لكل مظاهر التحضر والعمران المتناسق والناس المنضبطة والتي تعمل بجد ولا تحتاج لمن يعلمها النظام والولاء والانتماء من خلال رفع الشعارات وترديد الاغاني الوطنية ليل نهار لإعادة بناء بلادهم التي تعرضت للتدمير الشامل خلال الحرب العالمية الثانية.
واتذكر أنني سألت مرة أحد استاذتي الألمان عن السر في نجاحهم المعجز في اعادة بناء بلادهم بهذه السرعة والتفوق وأسباب تعثر منطقتنا رغم ما انعم الله عليها به من ثروات البترول والغاز، فأجابني وهو يضحك بأنهم في ألمانيا الغربية بدأوا مسيرتهم التنموية بعد الحرب بركوب سيارة الشعب "فولكس فاجن" حتى وصلوا إلى المرسيديس، أما نحن في الشرق الأوسط فقد بدأناها بركوب المرسيديس وباعتبار نوعية المسؤولين لدينا فإنه يرجوا ألا تنتهي المسيرة بركوب الجمال.
والآن يبدو أن الرجل كان محقا لأن أموال العرب من البترول والغاز تذهب الى لص اسمه ترامب لشراء أسلحة لضمان السيطرة على الشعوب وما تبقى يستثمر في أمريكا لخلق وظائف هناك ولا عزاء لأبنائنا الجالسين على المقاهي.
والخلاصة أن مشكلتنا مع التقدم هي قناعتنا -خاصة النخبة المثقفة- بأن التقدم لن يأتي إلا من ثورة الشعوب على التخلف والظلم والاستبداد، بمعنى أن التقدم لن يأتي إلا من أسفل إلى أعلى وهذا لن يحدث في رأينا المتواضع لان شعوبنا المنهكة تحتاج إلى القدوة والإلهام والمثل الأعلى وهذه معطيات لا تأتي إلا من أعلى أي من النخبة المفصولة في غالبيتها حاليا عن الشعوب وتنتظر أن تتحرك الشعوب بينما الشعوب تبحث عنها وتنتظرها أيضا ولذلك فإن لعبة الانتظار حتما ستطول.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي