كيف سيتعامل الماركسيون مع هذه القضايا (٣)

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7041 - 2021 / 10 / 8 - 00:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بينا في الجزء الأول والثاني من هذا المقال ‏كيف أن الماركسية تعاني من فائض كبير في التنظير وعجز أكبر في وجود أي أبحاث في كيفية تطبيقها في العالم المعاصر، وبينا كيف أن المروجين لها غير مستعدين لتطبيقها على أنفسهم ،كما عرضنا لبعض معضلات التطبيق العملية والمنطقية و تحدثنا عن أهم ملامح النظام الاقتصادي العالمي القائم الآن والتحديات الكبيرة التي ‏يواجهها وتبعات هذا على العالم بشكل عام و الفكر الاقتصادي الماركسي بشكل خاص نتيجة للتقلص المتواصل في نسبة مساهمة عنصر العمل في خلق القيمة الاقتصادية في العملية الإنتاجية والسبب في هذا التقدم التكنولوجي الهائل في مدخلات الصناعة وعمليات إحلال الميكنة المتزايدة مكان الانسان.
وفي ‏هذا الجزء سوف نعرض لأهم أوجه التطور والمراجعات التي تتم في علم الاقتصاد من أجل زيادة كفاءة أدواته المالية والنقدية وجعلها مرنة وقادرة على الاستجابة بشكل فاعل في مواجهة التحديات الاقتصادية الجديدة والتي تتغير بشكل مستمر نتيجة التطورات العلمية والتكنولوجية وتغير أنماط الاستهلاك والإنتاج. والأهم من كل هذا ما يشهده كوكبنا حاليا من تغيرات مناخيه وبيئة ‏سلبية بفعل السلوك الإنساني المستهتر وغير ألعقلاني واستمرار تجاهل الواقع المؤلم والخطير الذي آلت إليه أحوال الأرض. وسوف نحاول أن نعرض لهذه التطورات بشكل مختصر قدر الإمكان وفي نقاط محددة وأرجو أن يهتم القارئ بالفقرات رقم 1 و2 بشكل خاص والتي تتحدث عن التوازن الجديد لجانبي العرض والطلب والقياس الجديد لمعيار النجاح الاقتصادي لفهم خلاصة الموضوع:
أولا ، بالرغم من أن الاقتصاد الرأسمالي أدى على مدار الخمسين عاما الماضية على الأقل إلى تحسن كبير في مستويات المعيشة وانخفاض معدلات الفقر وارتفاع متوسط الأعمار نتيجة تقدم خدمات الرعاية الصحية وصناعة الدواء وتقدم العلوم و الاختراعات إلا أن علم الاقتصاد لم ينتبه كثيرا إلى حقيقة أن التكلفة غير المباشرة لهذا التقدم كانت فادحة وكارثية على الطبيعة ‏وكل مكوناتها مثل الانهار والبحار والمحيطات والغلاف الجوي، وحتى قشرة الأرض التي لم تنجو من عمليات التنقيب المبالغ فيه عن كل شيء في باطن الأرض مثل البترول والفحم والغاز الطبيعي والمعادن بكل أنواعها، ‏وحتى مملكة الحيوان تتعرض الآن فصائل عديدة منها للانقراض نتيجة التلوث والتضيق عليها من جانب البشر والمبالغة في استهلاكها. وباختصار شديد فإن التلوث أصاب كل شيء خاصة بسبب الوقود الأحفوري المستخدم في الملايين من وسائل النقل والمواصلات المنتشرة على الأرض وفي السماء وفي البحار والأنهار والمحيطات وهو التلوث الذي أدى إلى زيادة انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون وارتفاع درجة حرارة ‏الأرض والإخلال بنظام التوازن البيئي لها حتى أصبح على شفى الانهيار والذي ظهرت ملامحه بالفعل في القطب الشمالي حيث بدأت الكثير من جبال الجليد في الذوبان بمعدلات سريعة.
ثانيًا ، هذه التطورات السلبية أدت إلى توجه فكري حديث في علم الاقتصاد زاد زخمه بدعم لم يكن متوقعا من جائحة الكورونا خلال العامين الماضيين وهو يتمثل في أهمية إدراك وأخذ عنصر الطبيعة في حساباتنا الاقتصادية لأول مرة في تاريخ الفكر الاقتصادي. ومن خلال النقاشات الجارية في الأوساط الأكاديمية حاليا يمكن حصر ثلاثة إتجاهات هامة هي:
١‏محاولة تطوير نظرية العرض والطلب لتحقيق التوازن الاقتصادي الأمثل عند التعامل مع الطبيعة بشكل أفضل مما هو حاصل الآن، بمعنى أن نحرص أن يكون طلبنا على الموارد الطبيعية يتسم بالعقلانية وفي حدود إمكانياتها ودون استنزاف لهذه الموارد لضمان استمراريتها لأجيال المستقبل. وكذلك هناك تحرك من جانب الأمم المتحدة مدعوم من الولايات المتحدة والصين للتوقف ‏عن الاستمرار في استهلاك بعض الثروات الطبيعية متل الفحم والبلاستيك بسبب ما يسببانه من أضرار بيئية فادحة وكذلك على صحة الانسان. وقد ثبت أن انخفاض استهلاك هذه المواد خلال مرحلة الاغلاق التي تمت خلال عام ٢٠٢٠ كانت ذات آثار جيدة على الطبيعة وهو ما سمح لها باسترجاع بعض عافيتها. والتوازن الجديد الذي نتحدث عنه يتطلب أن يخضع كل من جانبي الطلب والعرض لتغيرات جوهرية في انماط الإنتاج والاستهلاك، ويمكن أن يتحقق هذا من خلال تغيير نمط التوازن المعتاد الذي يتحقق بين الطلب والعرض على السلع التقليدية والذي يتحدد فيه السعر لاحقا وفقا للنظرية الاقتصادية بعد اتفاق العارضين مع الطالبين. ما نتكلم عنه هنا هو نوع جديد من التوازن الذي يتحدد فيه السعر مسبقا بالنسبة للموارد الطبيعة النادرة وتلك الضارة بالبيئة عند مستوى يحد من الطلب غير الضروري أو المبالغ فيه بما يحافظ على البيئة وصحة الانسان ومملكة الحيوان، ويمكننا كاقتصاديين أن نضع السياسات التسعيرية والضريبية الملائمة لتحقيق هذا الهدف بفرض نقطة التوازن المرغوب فيها اقتصاديا.
وبالإضافة إلى هذا يمكن وضع معايير جديدة للحجم الذي يمكن استهلاكه وما يمكن إعادة استخدامه وما يمكن إعادة تدويره وما يمكن إخضاعه لنظام الحصص وهذا كله ممكن اقتصاديا. ‏ونقول هذا بثقة عالية لانه ثبت لدينا في الاقتصاد الرياضي أن نظام التسعير يمكن أن يحقق نقطة التوازن الاقتصادي المطلوبة بدلا من التوازن المالي المعتاد.
٢‏إعادة النظر في معايير النجاح الاقتصادي ومن خلال استخدام الحسابات الخاصة بهذه المعاييرعلى المدى الطويل وليس القصير كما هو حاصل حاليا خاصة فيما يتعلق بالموارد الطبيعية، وهناك توجه قوي الآن نحو استخدام معيار جديد يسمى Gross Ecosystem Product طويل المدى بدلا من الناتج القومي الإجمالي GDP قصير المدى، الأول يقيس حالة الموارد الطبيعية بشكل مستمر ‏خلال العملية الإنتاجية عكس الثاني الذي لا يهتم سوى بقياس الإنتاج في فترة معينة وفي لحظة محددة ودون اعتبار لآثاره على الموارد الطبيعية على المدى الطويل. ولعلي أضرب مثلا واضحا على هذا وهو ما ألاحظه دائما من أن معظم عمليات التنقيب عن البترول والمعادن تجري بشكل أساسي في الدول الإفريقية والعربية واللاتينية، وفي اعتقادي فإن هذه سياسات متعمدة من الدول الغنية لاستهلاك موارد الدول الفقيرة أولا، ‏والحجة التي تستخدمها الدول الغنية في هذا هي أن تكلفة الإنتاج في الدول الفقيرة والمتوسطة أقل منها في الدول الغنية، ولكن لو أننا حسبنا التكلفة الاقتصادية وليس المالية فقط بحيث نأخذ تكلفة تدمير البيئة التي تحدثها عمليات التنقيب والإنتاج في الاعتبار لوجدنا أن التكلفة عالية جدا في الدول الفقيرة. وقد يرد البعض بأن الدول الفقيرة بحاجة لصناعات التنقيب والاستخراج وتصديرها لتلبية احتياجات شعوبها، ‏والرد على هذا يتمثل في أنه يتوجب على الدول الفقيرة على الاقل أن تطالب الدول والشركات الغربية باستثمار جزء من أرباحها في الدول الفقيرة لتنمية والحفاظ على الموارد الطبيعية للدول الأخيرة وعدم المبالغة في استغلالها.

٣‏حتى يتحقق كل ما سبق فإنه يلزم تطوير مؤسسات الدولة بما يسمح بالتغييرات السابقة لانه من الصعب تصور إمكانية تحقيق هذه التغييرات الكبيرة في وجود نفس العقليات والمعطيات القائمة في المؤسسات الحالية التي لا يتوقع من المسؤولين فيها الاستجابة الإيجابية خاصة مع ما نلاحظه في الدول الفقيرة من توجه لمكافأة مواطنيها ومؤسساتها بشكل سخي ‏عندما يقومون باستغلال الموارد الطبيعية، ولكنها لا تدفع لهم شيئا تقريبا بكل أسف عندما يحاولون حماية أو صيانة هذه الموارد.

ثالثا ، ‏هناك تطور واضح وسريع في اعتماد الاقتصاديات القومية عبر العالم على الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية و الخدمية ذات الصلة بالتقنيات الرقمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والانترنت و الذكاء الاصطناعي وهو ما يسمى بالاقتصاد الرقمي الجديد والذي يتمدد بسرعة كبيرة بين مختلف الأنشطة الاقتصادية إبتداءً بالخدمات المالية والمصرفية والتجارة الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية والسوشيال ميديا وانتهاءا بخطوط الإنتاج الصناعي والتعليم والعمل عن بعد وإنترنت الأشياء والخدمات الطبية الرقمية والنقود الرقمية والنقود المشفرة التي تستخدم تطبيقات البلوكتشين التي كتبنا عنها من قبل…الخ وإزاء هذه التطورات الضخمة بدأ علم الاقتصاد يأخذ توجه إرتقائي إذا جاز التعبير مثلما يحدث في علم البيولوجي بمعنى أن الماضي وخبراته يساهم في تطور الحاضر ويدفعه إلى الأمام وليس إلى السكون والشلل كما يحدث الآن في التوجهات الأيديولوجية مثل الماركسية والأديان. ومن ثم فإن علم الاقتصاد بكافة فروعه تحول بشكل تدريجي من علم اجتماعي إلى علم رياضي إحصائي وتحليلي يأخذ في اعتباره العوامل السلوكية والتاريخية والثقافية والسياسية باعتبار أن محصلة هذه التفاعلات هي التي تحدد في النهاية المخرجات الاقتصادية في أي مجتمع. ونلاحظ هنا كاقتصاديين أن أي مجتمع مغلق وبلا نظام حوافز تحث الناس على الإبداع في كافة القطاعات وأولها التعليم يكون بالضرورة مجتمعا متخلفا.
وتطبيقا لما سبق بدأت الجامعات هنا في الغرب تضيف إلى مناهجها مواد جديدة لمواكبة الاقتصاد الرقمي والتطورات التي أشرنا لها في الأسطر السابقة وذلك للمحافظة على قدرتها التنافسية في الاقتصاد والتعليم ومن هذه المواد:
Artificial Intelligence – Cloud Computing – Cyber Security- Data Analysis – Design Thinking – Internet of things – Robotic processing Automation – Engineering automation – Systems development – e-waste…. etc.

وأخيرا ‏فقد كان هدفنا من هذه السلسلة من المقالات هو إظهار هشاشة الفكر الماركسي الحالي وحالة الجمود وعدم الواقعية التي يعاني منها على مدار قرنين واكتفائه باجترار الماضي وعدم وجود توجه واضح له نحو المستقبل آملين أن يعيد المؤمنون بالماركسية النظر في موقفهم المتحجر من خلال فهم معطيات الاقتصاد العالمي المعاصر وأن يكفوا عن الشتائم والعصبية غير المبررة مع من يختلف معهم في الرأي، وأن يشاركوا معنا في البحث والمحاولة لتصويب مسار الاقتصاد العالمي ومعالجة مشاكله بما يحفظ هذا الكوكب الجميل من مساوئ الرأسمالية ويضمن حق أجيال المستقبل في حياة آمنة وكريمة وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية لمن يعنانون اليوم وهم في الحقيقة الخريجين الجدد والعاطلين عن العمل والبنات العوانس وهؤلاء بعشرات الملايين وليس العمال الذين يتمتع أغلبهم بدخول جيدة ويعيشون حياة مستقرة ولا يعرفون أي شيئ عن الماركسية ولا ديكتاتورية البروليتاريا ولا يفكرون في أي ثورة لتدمير العالم.

‏‏‏ محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي