مراجعات وأفكار-٩


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7282 - 2022 / 6 / 17 - 00:33
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

١بالرغم من ‏كل ما يقال عن أهمية العقلانية إلى أننا بحاجة إلى مساحة من اللاعقلانية في حياتنا خاصة في ايام الشباب ويجب أن نفهم هذا جيدا عند تعاملنا مع أولادنا واحفادنا وشبابنا في الجامعات. وأكثر ما أتذكره أنا شخصيا أيام شبابي في مصر وفي خارجها هو لحظات المغامرات والمرح مع الأصدقاء، ولكن بشكل متوازن بين المعقول وأللامعقول، ولي قصة في هذا الموقع عن هذا بعنوان "هل نستطيع أن نضع عواطفنا في جيوبنا". ولو أننا راجعنا كل ميراث البشرية من ثقافة وفنون وحتى الأديان سوف نجد أن ما يغلب عليها هو اللامعقول، ولك أنت تنظر مثلا إلى أعمال بيكاسو أو سلفادور دالي في متاحف أوروبا وإلى القصص التي تحتوي عليها الأديان سوف تجد غلبة أللامعقول عليها ومع هذا فإن الناس تعتنقها ولا زالت. ويكفيني أن أقول هنا إن الناس تؤمن وتصلي لآلهة لم تراها، ولكنها سعيدة بهذا ولا تبالي. وبالرغم من مجيء العلم بمنهج تجريبي يقول باختصار إننا لم نعد بحاجة إلى تفسيرات الأديان الخرافية لما في الكون لأن العلم أصبح قادرا على تفسير وإثبات كل شيء وما لم يثبت بعد بحاجة فقط إلى بعض الوقت.
ونلاحظ أيضا أن الأخبار الكاذبة والحقائق المغلوطة والتفكير الأسطوري الذي لا يمت للعقلانية بصلة ينتشر على نطاق واسع وبسرعة غير عادية عكس الحقائق. وفي دراسة لجامعة MIT العريقة قامت بها على عينة كبيرة من التغريدات التي يبثها موقع تويتر تبين أن الأخبار الكاذبة يعاد إرسالها بنسبة تصل إلى 70% اكثر من إعادة إرسال الأخبار الحقيقية .وهذه الدراسة تتسق مع حقيقة مهمة نلاحظها في علم الاقتصاد السلوكي الذي تستخدمه شركات الإعلانات والسوشيال ميديا في تسويق السلع والمنتجات المختلفة وهي أن العقل البشري يميل إلى الحكم على أي ظاهرة أو أي شيء بحسب مظهره وليس مخبره وذلك لأن المظاهر اهم لدينا بسبب طبيعة تكوين عقولنا التي تميل إلى التسرع في إصدار الأحكام على أي شيء ولذلك تتورط الناس كثيرا في شراء أشياء لجمال منظرها ليكتشفوا لاحقا أنها كانت مقلبًا كبيرا. وللتعامل مع هذا الخلل الخلقي في العقل الإنساني فإننا ندرب تلاميذنا في الجامعات على اتباع المنهج التشكيكي النقدي عند دراسة أي ظاهرة، ولكن هذا أيضا ليس سهلا لأن هناك دائما ما يعطل عمل هذه المنهجية في التفكير مثل الثقافة الدينية أو العادات الاجتماعية المتوارثه وكلها عوامل تعمل كحواجز وكوابح لعمل العقل النقدي وتقف بينه وبين الحقيقة المجردة. إنه الماضي الذي يسيطر على معظم أفكارنا وخواطرنا، إنه التراث عندما يتحول من مساحة حرة للفكر والنقد والإبداع إلى سجن كبير للعقول.

٢‏ كلنا مولدون بجينات سيئة وهذا واضح من سلوكنا بدءًا من مرحلة الطفولة حيث نلاحظ غرائز العناد والطمع والعدوانية في أطفالنا حتى قبل أن يبدأوا في المشي، ولكن حبنا لهم من خلال غريزة أخرى أقوى هي الأبوة والأمومة تجعلنا نتسامح مع سلوكهم وأيضًا لمعرفتنا بأننا كنا مثلهم ونحن صغار وإننا هكذا خلقنا. كما نلاحظ أنه كلما كبروا يزدادوا مطالبًا من كل نوع في أنانية واضحة خاصة مع كثرة الإعلانات المصممة بعناية فائقة والتي تعرض لنا في كل مكان حتى في غرف نومنا. ولكن هذه السلوكيات تعتبر صغيرة بالمقارنة بمشكلة أخطر كثيرا وهي رغبتنا المريضة في الاستهلاك والاستمتاع بالحياة بشكل بدأ يمثل تهديدا لحياتنا وحياة كافة الكائنات على هذا الكوكب الصغير ولا يوجد من يحاول بجدية وقوة منعنا من هذا ألنهم في الإنتاج الضخم والاستهلاك المبالغ فيه وغير ضروري لما له من آثار ملوثة لكل شيء حولنا ومدمرة للموارد الطبيعية المحدودة للأرض. نعم لا توجد أي حكومة على وجه الأرض تحذر شعبها من أن هذا السلوكيات المستهترة سوف يكون لها تبعات خطيرة على اجيال المستقبل وحياة كافة الكائنات، والأهم من التحذير أنه لا توجد أي سلطة سياسية أو دينية تفكر في أن تبدأ بنفسها كقدوة حسنة ومثل أعلى للناس في العقلانية فيما يتعلق بالاستهلاك ونمط الحياة، انظر إلى شيخ الأزهر أو بابا روما عندما يتنقلون في طائرات خاصة ومواكب طويلة من السيارات والحراسات ونمط الحياة الفخم الذي ينعمون به، وانظر إلى صناعة الأسلحة المدمرة والتي ورأها شركات لا تهدف إلا للربح ولذلك تتفنن في تطوير الأسلحة وصناعة الحروب من أجل دفع الحكومات إلى شراء المزيد من الأسلحة مع أنه واضح للغاية أن الوظيفة الوحيدة لها هي القتل والتدمير لكل شيء، وهذا يعود بنا إلى غريزة الطمع بلا حدود والتي بدأنا بها هذه المراجعة. والخلاصة أنه لا أمل في تغيير الطبيعة البشرية وأننا نمضي مسرعي الخطى إلى مصيرنا المحتوم.

٣ ‏شباب هذه الأيام متعجلون في كل شيء ولا يعرفون شيئا أسمه الصبر ولذلك أقول عليهم أنهم المتعجلون بلا قضية، حيث نجد على سبيل المثال شابا يقود سيارته بسرعة وبشكل خطير لتكتشف في النهاية أنه متجه إلى الكفيتيريا للجلوس مع أصدقائه. والأسوأ من هذا أنه ما أن تنخرط معهم في أي حوار إلا وتجدهم يقاطعونك لأنهم يتعجلون للكلام ولا يعرفون فضيلة السمع حتى أنني تعلمت منهم أن عكس كلمة الكلام هذه الأيام ليس "السمع" كما نعتقد، ولكن "الانتظار" أو المقاطعة إذا ما طال بهم الانتظار. أنهم لا يسمعون شيئا. وفي هذا تذكرت أساتذتي الألمان الذين تعلمت منهم أدب الاستماع إلى الصغير والكبير لأنهم كانوا يسمعوننا بصبر كبير وأدب جم حتى عندما نخرف.
أفكار سريعة:
٤‏ عالمنا العربي لا يعاني من نقص في الأموال، ولكن من كثرة اللصوص.
٥‏ ليس هناك أخطاء او فشل أبدي في الحياة الأكاديمية، ولكن هناك دروسًا نتعلمها.
٦‏قد يفتقر الجمال إلى الفضيلة، ولكن الفضيلة لا تفتقر إلى الجمال أبدا.

‏‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي