الثقافة السائدة من أخطر مشاكلنا


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7560 - 2023 / 3 / 24 - 00:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يهدف المقال إلى الكشف عن أحد المكونات الثقافية السلبية والآخذة في الانتشار في معظم الدول العربية وأصبحت تهدد مستقبل هذه الأمة، وعلى ما يبدو فإن أولي الأمر يعيشون في عالم آخر ولا يرون ما يحيط بدولهم من أخطار لا حصر لها بينما هم يتنافسون بين بعضهم البعض على من يبني أعلى ناطحة سحاب وأسرع قطار وأكبر جامع في العالم العربي. كما سيعرض المقال في عجالة لما حدث في آسيا ولجدوى البحث عن حل لمشاكلنا.
وبداية نقول بإننا كما لا نختار جنسنا، أو ملامحنا أو لون بشرتنا أو أسرتنا أو وطننا…الخ فإننا أيضا نرث الكثير من المعطيات الثقافية التي تستمر معنا حتى رحيلنا عن هذا العالم. وهذه المعطيات تشمل المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية والقيم الأخلاقية وطريقة الملبس والمأكل والحس الثقافي والفني….الخ وكل ما سبق يشكل الوعي والوجدان الإنساني.وكما نعلم جميعًا فأن للثقافة أثر بالغ على سلوكيات الانسان وردود أفعاله والطريقة التي يتعامل بها مع كل ما حوله من ظروف وتحديات، وهو ما يعني بالضرورة أن للثقافة الجمعية تأثيرمباشر وكبير على المجتمع كلل وعلى العملية التنموية ومستوى التحضر والتقدم به سواء سلبًيا أم إيجابيا ، فقد تؤدي الثقافة السائدة إلى تشكيل مجتمع خلاق ومتحرك وينظر دائما إلى الأمام، كما قد تؤدي إلى نشأة مجتمع مقلد وساكن وينظر دائما الى الخلف. وعلى سبيل المثال فإن الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين لديها إرث ثقافي ميتافيزيقي وتراثي ضخم كان لهم دائما دور كبير في تشكيل الوعي المجتمعي والنشاط الفكري للنظم الحاكمة ولشعوب المنطقة عبر قرون طويلة. ولذلك لم يكن متصورا أن ينجح النظام الرأسمالي في اختراق المنطقة الأسيوية من خلال مستوييه الفكري أو التنويري، والمادي أو الإنتاجي ولكن هذا ما حدث وجعل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية من أكبر اقتصاديات العالم خلال فترة قصيرة، وهذا دليل على المرونة الثقافية والبراجماتية للمنطقة ألآسيوية كما رأيناها. أما في أفريقيا والعالم العربي فإن ميراثها الثقافي والديني لا يتسم بالمرونة الكافية على أقل تقدير وهو غير قابل للتطور لأنه محاط بسياج من التقديس الذي لا يقبل أي نقاش من قبل مؤسسات دينية كبيرة وذات نفوذ كبير وما يتم من تغبير حاليا لا يزيد عن كونه تغييرا ماديا وليس فكريا أو ثقافيًا. ففي أسيا كان التوافق "ولا أقول الانتصار" واضحا بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى، أما لدينا فإن هذا التوافق يواجه مقاومة كبيرة من جانب العقل الجمعي للجماهير العريضة الواقعة تحت سيطرة رجال الدين، وهؤلاء هم أحد الأسباب الرئيسية وراء انتشار ثقافة القبول التي سوف نتحدث عنها حالا، كما أن لهم دور كبير في تشجيع عقلية الخلاص الفردي أو أنا ومن بعدي الطوفان.
أضف إلى ما سبق أن الخلافات والانقسامات الثقافية والعقائدية في المنطقة العربية أدت إلى حالة من عدم الاستقرار والصراعات المريرة والتي تحول بعضها إلى حروب أهلية مدمرة كان السبب الرئيس لها ضعف قيم حرية الاعتقاد وتقبل الآخر والعيش المشترك، بالإضافة إلى حالة الهزال التي تعاني منها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في العالم العربي، ولهذه الأحزاب والمنظمات دور هام وكبير في توعية الجماهير وحمياتها من تغول السلطات التنفيذية والدينية من خلال تحقيق نوع من التوازن معها بغرض أساسي وهو حماية الأقليات والضعفاء ومن لا صوت لهم من أجل خلق مجتمع أفضل للجميع كما هو الحال في المجتمعات الغربية.
غير أن أخطر ما في ثقافتنا العربية هو ما أسميه "بثقافة القبول" وأعني بهذا تقبل المجتمع لما حوله من ظلم وفساد واستبداد وهدر للموارد المحدودة التي هي إصلا ملك للشعوب وغياب دولة القانون وانعدام العدالة …إلخ دون تبرم أو أدنى احتجاج وكأن هذه الآفات المجتمعية شيء حتمي وقدر لا يمكن الفرار منه، ومع الوقت تصبح هذه القيم منهج حياة ويبدأ الناس في سرقة وظلم بعضهم البعض بدعوى أن تعميم الظلم هو نوع من العدل، كما يزيد الطلب على الغش في كل شيءٍ وحتى طلاب العلم لدينا في الجامعات والمدارس أصبحوا يتفننون في الغش حتى قبل مجيء تطبيق Chat GPT الذي سيزيد الأمور سؤا في مجال الدراسات العليا. وفي هذا ومنذ عدة أشهر قرأت خبرا على النت يتحدث عن معلمة في أحد المدارس بالقاهرة قامت بمنع أحد التلميذات من الغش في الامتحانات، فما كان من بعض افراد أسرتها أن قاموا في اليوم التالي بالاعتداء على المدرسة وهي في طريقها لمنزلها! وهكذا لم يعد للتعليم أو المعلم أي قيمة أو احترام. ولازلت أتذكر وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية في القاهرة كيف كنت أنا وزملائي نختبئ من المدرس إذا ما مر صدفة في الشارع الذي نلعب فيه الكرة.
وتتمثل الخطورة في انتشار ثقافة القبول لأمراض المجتمع والاعتياد عليها في انتشار روح اللامبالاة وضياع الشعور بالانتماء وإعلاء مبدأ الخلاص الفردي والعزلة وعدم الاهتمام بقضايا الشأن العام. ومما يساعد على سرعة انتشار هذه السلوكيات السلبية وسط الجميع خاصةً الشباب والمفترض فيهم أنهم صناع المستقبل، هو وجود العديد من وسائل تشتيت أهتمام الشباب واستهلاك وقتهم مثل شبكات التواصل الاجتماعي التي لا حصر لها وانتشار التطبيقات الإباحية دون إي قيود والتي جلعت شباب المراهقين من الجنسين مدمنين وغير محبين للقرأة. وفي تناقض صارخ مع هذا الوضع نجد وبحسب ما أسمع من إصدقائي في الدول العربية وجود العديد من المحطات والبرامج الدينية التي تساهم في تغييب وعي الشباب من خلال بث مواد دينية لا علاقة لها بالواقع الحياتي للشباب ولا بمشاكلهم ومشاكل أوطانهم. وعادة ما يتواكب مع هذا النوع من الضياع حالة من الاستهزاء بالقيم والإزمات التي تعيشها دولهم، بل وجعلها مادة للضحك والتريقة. وكل هذه مؤشرات على ضياع هوية المجتمع وأن مستقبله على المحك وأنه في طريقه للمجهول. وللأسف فإن هذا يحدث في وقت حرج في تاريخ هذه الأمة البائسة التي يجري العمل بهمة في الغرب على مسح هويتها كما نلاحظ هنا، بل وإخراجها من التاريخ تماما.
وللتعامل مع ثقافة القبول فإنه يلزم أولا البحث عن جزور المشكلة وليس التعامل مع أعراضها، فمثلا لا يمكن أن نطالب الناس بعدم الخوف والتعبير عن آرائهم بشكل علني وهم يعانون من الاستبداد والقهر ويعرفون عاقبة معارضة النظام؟ وكيف يمكن أن ندعو الناس إلى التخلص من التسلط الديني والتسامح مع الآخر وشيوخهم وأئمتهم يرفضون أن يعلمونهم أن هناك نصوصًا صريحة في القرأن تقول: أن لا إكراه في الدين، وأن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وكيف ندعو الشباب إلى الكف عن الهروب إلى الواقع الافتراضي والسوشيال ميديا والعودة إلى الواقع الحقيقي والقراءة والإبداع وهم يعانون من البطالة والعنوسة وما ينتظرهم من مستقبل غامض وغير مبشر بإي أمل وهم لا يجرؤن على التعبير عن مشاكلهم وأحلامهم وأصبح كل ما يتمنونه هو الهجرة من أوطانهم التي تحولت إلى سجون كبيرة.
في نقاشي مع الزملاء في الجامعات العربية، دائما مع أطالبهم بالاهتمام بتحفيز الشباب وبزيادة وعيهم بقضايا أوطانهم، ولكن رد الزملاء دائمآ ما يكون نحن كمن يحرث في الماء والشباب لهم كل العذر لكل ما يحيطهم من استبداد وظروف قاسية وغياب القدوة.
والخلاصة أن الطريق الوحيد لحل كل مشاكلنا هو القضاء على جذور الاستبداد واسترداد الناس لحرياتهم وكرامتهم وأمنهم، عندها سيعود للناس الإحساس بانتمائهم وتلقائيا سوف يهتمون بقضايا الشأن العام والبحث الجاد عن الحلول لكل ما يواجهون من تحديات، ولكن هل هذا ممكن أم أننا نحلم ونرفع شعارات جوفاء؟
مستشار اقتصادي