مصر عبد الناصر وعراق صدام


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7714 - 2023 / 8 / 25 - 00:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هنآك خلاف كبير على تقييم فترة حكم جمال عبد الناصر لمصر وصدام حسين للعراق. وفي هذا فإن لدينا في الاقتصاد السياسي مقياسًا موضوعيًا جدا ولا يحتمل الكثير من الجدل لتقييم الآثار الناتجة عن تطبيق إي سياسة نقدية أومالية جديدة على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس. والمقياس الذي نتكلم عنه يشتمل عادة على مؤشرات كمية ونوعية وقياسية مثل حجم الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط نصيب الفرد منه ومعدل التضخم وقيمة العملة وحجم العجز أو الفائض في كل من الموازنة العامة وميزان المدفوعات…إلخ على أساس أن نقيس هذه المؤشرات قبل وبعد تطبيق أي سياسة جديدة وعادة ما نتوصل إلى نتائج جيدة للحكم على نجاح أوفشل هذه السياسة. وقد وجدت أنه من الممكن أن نطبق هذه المنهجية وبشكلٍ مبسط للحكم على هذه الشخصيات التاريخية من خلال قياس تأثيرها على حياة شعوبها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ولأن كل من عبد الناصر وصدام لعبا دورا سياسيًا كبيرا محليًا وإقليميا وعالميا فقد رأيت أن أركز عليهما.
وبالطبع فإن هذا موضوع كبير ويحتاج إلى كتب وليس إلى مقال ولكنني أنوي فقط التوقف عند لحظات تاريخية معينة وبشكلٍ مختصر جدًا لأبين أسلوبهما في الحكم وأهم انجازاتهم وإخفاقاتهم لنحكم عما إذا كانت فترة قيادتهما إيجالبية أم سلبية على شعوبهم والدروس المستفادة من هذا.
أولا- جمال عبد الناصر
استلم عبد الناصر حكم مصر والسودان التي كانت جزءا من المملكة المصرية بعد انقلابه على الملك فاروق الذي اتهم بإنه كان ملكا فاسدًا ومتعاونا مع المحتل البريطاني هذا بالرغم من أن الملك فاروق بالذات لم يكن منشغلا كثيرا بالحكم.والحقيقة أنني لم أعايش هذه الفترة لإنني ولدت بعد انقلاب عبد الناصر بعدة أعوام ولذلك فإنني أحكم على هذه الفترة من خلال قرأتي لتاريخ مصر قبل حكم عبد الناصر حيث كانت مصر بلدًا ديموقراطيًا وبها برلمان منتخب وأحزاب معارضة شرسة وصحافة حرة وجامعات مستقلة ذات حركات طلابية واعية ومنخرطة في الشأن العام وكانت تخرج في مظاهرات إحتجاجا على أي أوضاع لا ترضيها، والأهم من كل هذا وجود سلطة قضائية مستقلة وليست خاضعة للسلطة التنفيذية. وبالطبع لم تكن الأوضاع مثالية تمامًا حيث كان هناك الكثير من الفساد المستتر، ولكنه لم يكن بالتوحش الذي نراه اليوم في مصر والذي تجاوز كل حدود الحياء والحذر وأصبح نمط حياة اعتادت عليه الناس حتى أصبحت الأمانة والصدق استثناءات ومثارًا للاندهاش والتعجب. وقبل عبد الناصر كان هناك فقر، ولكنه لم يكن بالشمول الذي نراه اليوم حيث كانت هناك طبقة متوسطة وهي ذات الطبقة التي بدأت في الانكماش بعد نكسة حرب يونيو ١٩٦٧ وفي طريقها الآن للانقراض. وباختصار شديد كان لعهد عبد الناصر إيجابيات وسلبيات، ومن أهم الإيجابيات إخراج الإنجليز من مصر وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي وإنشاء قواعد صناعية كبيرة، كما شارك عبد الناصر في تكوين حركة عدم الانحياز مع كل من نهرو وتيتو، وكان أجمل ما في هذه الحركة هو إنحيازها الإيجابي بمعنى الابقاء على علاقات جيدة بكل من حلفي وارسو والاطلنتي مع الاحتفاظ بحق إدانة إي أفعال عدوانية من الجانبين. أما الآن فإن تجمع بريكس والذي يضم خمس دول من ضمنها روسيا والصين فإنه يقول على نفسه إنه تجمع غير منحاز بينما هو يضم هذه الدول التي تمثل أحد قطبي الصراع! كما عمل عبد الناصر على دعم حركة المقاومة الفلسطينية ما وسعه هذا. كما جعل التعليم مجانيا وعمل على إعادة توزيع الأراضي الزراعية وبالطبع لم يكن في تصوره أن يؤدي تفتيت الملكيات الزراعية إلى التأثير على الإنتاجية، كما نجح في إثارة مشاعر القوميين العرب وإحياء مبدأ الوحدة العربية الذي دعى إليه ميشيل عفلق. ولكن عداء عبد الناصر الصريح للممالك العربية أدى إلى عدم نمو هذه الوحدة كي تكون وحدة عملية وليس شعارات فقط. وكان لهزيمة عبد الناصر في حربي اليمن وحرب الستة أيام مع إسرائيل، وفشل مشروع الوحدة مع سوريا والذي انتهى بفضيحة، أثر بالغ في وأد أحلامه بزعامة الأمة العربية وتوحيدها. أما عن أبرز سلبيات نظام عبد الناصر فكانت أنه خلع ملكا فاسدا كما قيل ليأتي لنا بدستة من الملوك كانوا يسمون أنفسهم بالضباط الأحرار ولكن أغلبهم كانوا لصوصا أحرارًا ولا يغضعون لأي مسآلة بعد أن أغلق عبد الناصر البرلمان بشكل عملي ليحل محله الاتحاد الاشتراكي واللجنة المركزية. كما ألغي الأحزاب السياسية وقضى على الصحافة الحرة ليحل محلها الأهرام والأخبار والجمهورية وهي ثلاث صحف كانت تنشر نفس الإخبار ونفس الصور، كما قوض استقلال الجامعات وقام باخضاع السلطة القضائية له بعد أن اضطهد بعضا من رموزها وعلى رأسهم العلامة السنهوري باشا وبهذا قضى على الديموقراطية وحرية الرأي وأسس لدولة الاستبداد المستمرة معنا حتى اليوم. ومن أهم أخطاء عبد الناصر التي لن تغفر له أبدًا هو تفريطه بسهولة شديدة في السودان بسبب عدم إدراكه لأهميتها كبلد بكل هذه الموارد الضخمة وأهمية مصر للسودان كحصن أمان ضد الدول الكثيرة المجاورة للسودان. الآن يدفع البلدان ثمنا باهظا لخطأ عبد الناصر في انفصال البلدين عن بعضهما البعض. ومن الناحية الاقتصادية قام بعمليات تأميم عشوائية نتج عنها سؤ أدارة في معظم الشركات الخاصة التي تم تأميمها وامتناع القطاع الخاص والأجنبي عن الاستثمار في مصر بعد أن تحولت بسرعة شديدة من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي القائم على النفاق والمحسوبية وأهل الثقة وتحييد الكفاءات وسيطرة الجيش على كل مفاصل الدولة بما فيها وللعجب إتحاد كرة القدم والذي كان يرأسه المشير عبد الحكيم عامر, وأغلب رؤساء الأندية الرياضية كانوا من قيادات الجيش. وكما هو معروف فقد أدى إنشغال الجميع بالكوره والفنانات من النساء إلى هزيمة يونيو ١٩٦٧وتدمير الجيش المصري. وكل هذا كان بعلم عبد الناصر الذي آثر السلامة والسكوت لسببين، خوفه من حدوث انقلاب من قيادات الجيش ضده. وأمله في أن تؤدي هذه الفضائح إلى تلطيخ سمعة المشير ورجاله الأقوياء وهو ما قد يمكنه من سرعة التخلص منهم. ولا أحد كان يعرف بالضبط ما حدث ولكن الصراع المستمر بين عبد الناصر والمشير وكيدهما لبعضهما البعض، بالإضافة إلى غرورهما الشديد الذي أعمى بصيرتهما عن تقدير قدرة العدو الإسرائيلي، بل والتهوين من قوته أدى الى الهزيمة للمرة الثانية بعد هزيمة الجيش الأولى أمام نظيره الإسرائيلي واحتلال سيناء في عام .١٩٥٦بعد أن فشل عبد الناصر وقياداته في تعلم إي شيءٍ من أخطأ عام ٥٦ لتتكرر المأساة ثانية وبنفس السيناريو هذا بالرغم من وعود عبد الناصر بإنه سوف يلقي بإسرائيل في البحر. وكانت هزيمة ٦٧ بداية لزيادة معدلات الفقر في مصر ومعاناة الناس في صمت بعد رفع عبد الناصر لشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
نعم كان لعبد الناصر إيجابيات كثيرة، ولكن سلبياته كانت قاتلة حيث جلب نظامه الاستبدادي الفساد وسؤ الإدارة والهزائم والعار في كل الحروب التي خاضها وتوج هذا بإفقار المصريين، ولازلت أتذكر وأنا صغير وقفة أمي في الطوابير الطويلة أمام الجمعية التعاونية لساعات حتى تشتري لنا بعض السلع الإساسية غير المتاحة في الأسواق. إن أسوأ ما فعله عبد الناصر بالمصريين هو إهدار كرامة الإنسان وامتهانه وحرمانه من حقه الطبيعي في الحرية والمشاركة في حكم بلده. لازلت أتذكر سلاطة لسانه عندما قال في أحد خطاباته لحشد من المصريين بعد مسرحية محاولة اغتياله : "علمتكم الكرامة وعزة النفس" بينما الناس تعاني من الفقر والخوف من بطش زبانيته. وتوج حكمه الاستبدادي بإلغاء اسم مصر ليسمها بالجمهورية العربية المتحدة دون أن يكون هنالك من تتحد معه مصر!

ثانيا- صدام حسين
١بالرغم من أن العراق كان مهدا للكثير من الحضارات إلا أن تاريخه مثل مصر كان حافلا بالصراعات وعدم الاستقرار ويصعب إختصار تاريخ العراق وبالذات في الفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والتي شهدت انتهاء الحكم العثماني وخضوع العراق للنفوذ البريطاني وتولي الملك فيصل الأول الحكم. وفي ظروف مشابهة لما حدث في مصر لعب صدام دورًا رئيسيًا في انقلاب عام 1968 والذي سمي بعد ذلك بثورة 17 يوليو، وفي البداية كان نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر، وبعد فترة قصيرة استغل خلالها مرض البكر ليسيطر على القوات المسلحة والمخابرات إلى أن أعلن نفسه في عام ١٩٧٩ رئيسًا للعراق وليبدأ حملة دموية من القمع والتصفيات لكل خصومه خاصة الحركات الشيعية والكردية. وعلى ما يبدو فإن صدام كان من المعجبين بالسفاح ستالين ولو لاحظنا فإن هناك تشابه في سحنة الوجه بين الرجلين وصفات التوحش وانعدام الرحمة والمشاعر الإنسانية. وقد ورث أبناؤه عدي وقصي هذه الصفات من أبيهم، وفي هذا أتذكر واقعة قام خلالها قصي بقتل واحد من مساعديه لسبب تافه، وعندما علم صدام بانتشار الخبر قام في مشهد مسرحي بالقبض على ابنه وأودعه في السجن وتم نشر الخبر في كل الصحف من باب الدعاية لصدام بأنه صحيح سفاح ولكنه من النوع العادل! وشهدت المسرحية العبثية ظهور والد الشاب القتيل في قصر الرئاسة وهو يستعطف صدام للافراج عن قصي حتى لا يحرم السفاح من حنان إبنه وفي النهاية وأمام دموع أبو القتيل وافق صدام على الافراج عن السفاح الصغيرقصي! واعتقد ان الكثير من الزملاء العراقيين لازالوا يتذكرون هذه المسرحية الهابطة. والمهم أن صدام بدأ مسيرته الرئاسية مثلما بدأها عبد الناصر بالشعارات الرنانة وتبني الأفكار القومية
وفي ظل هذه الشعارات تمكن صدام من إحكام قبضته على السلطة من خلال تعيين أقاربه من تكريت وحلفائه في المناصب الحكومية المهمة. وتقتضي الأمانة أن نذكر أنه في بداية سيطرة صدام على مقاليد الحكم فإن الاقتصاد العراقي نمى بشكل سريع، ولكن لم يكن هذا إلا بسبب الزيادة الكبيرة التي حدثت في أسعار النفط بعد حرب عام ١٩٧٣ بين مصر وسوريا ضد إسرائيل وتخفيض دول الخليج لانتاجها من النفط للضغط على أمريكا.
ولكن صدام استمر في مذابحه "ومنها مجزرة الرفاق الشهيرة" ضد كل من يشتبه فيهم لأنه كان يتجسس على كل من حوله، وفي هذا أتذكر قيامه بمحاكمة علنية بثت على التلفزيون لمجموعة كبيرة من المسؤولين العراقيين المشتبه فيهم وجميعهم كانوا يجلسون أمامه في ساحة كبيرة محاطة بالجنود، كان اسم المتهم ينادى فيقف وهو يرتعد ويظل صدام ينظر له لدقيقة أو نحوها إمعانا في إخافته، ثم يصدر الحكم بنفسه وفي كلمة واحدة خائن أو بريء، ليأتي عدد من الجنود لجر الخائن المسكين لإعدامه دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه، وكانت سعادة صدام واضحة وهو يقرر مصير المتهمين المرعوبين بكلمة واحدة تفصل بين الحياة والموت دون ادنى اكتراث من جانبه وبمنتهى الأريحية وهذا يدل على أننا أمام رجل لا يخاف الموت ومتبلد الأحاسيس، وهذا يذكرني بيوم إعدام صدام حسين حيث خرج علينا وقتها السيد موفق الربيعي الذي حضر مشهد الإعدام بتصريح قال فيه إن صدام كان يرتعد وفي حالة انهيار. ولكن الفيديو الذي تم تسريبه لمشهد الإعدام ظهر فيه صدام وهو في غاية الثبات وحتى عندما حاول السجان تغطية وجهه وهو إجراء يتم مع كل المحكوم عليهم بالشنق كنوع من التخفيف عليهم عندما يقتادون لحبل المشنقة، رفض صدام مفضلا أن يواجه الموت دون أي غطاء، بل إنه ظل يتبادل الشتائم مع من كانوا حاضرين وظل يردد الشهادة وكلمة يعيش العراق وحبل المشنقة حول رقبته حتى شنقه. وهذا يبين لنا أن الرجل لم يكن فقط رحيما بمئات الإلوف من الذين قتلهم ولكنه لم يكن أيضا رحيما بنفسه، وكان الأجدر بالسيد الربيعي أن يلتزم الصمت بدلا من بث هذه الكذبة السخيفة بحق رجل يموت.
وكما كان عبد الناصر سليط اللسان مع كل من يختلف معهم فقد كان صدام أيضا حاد اللسان. ومن مواقف الرجلين نتذكر أنه عندما اختلف عبد الناصر مع الملك فيصل بن سعود قال عبد الناصر إنه سوف يحضره للقاهرة لينتف له ذقنه! وكان يسمي ملك الأردن حسين إبن زين بمعنى أنه كان ينسبه لأمه، أما صدام فإنه هدد زعماء دول الخليج عندما تأخروا في الدعم الذي كانوا يقدمونه له أثناء حربه التي قام فيها بغزو إيران دون سبب واضح، فإنه هددهم بنقل المعارك إلى غرف النوم! وما أن أطلق هذا الإنذار حتى جاءه الدعم فورا. ولأن صدام كان مغامرا بطبعه فإنه بعد أنتهاء غزوة إيران والتي استمرت ثمانية سنوات دون طائل سارع بالقيام بغزوة جديدة للكويت بعد حوالي عامين من غزوة إيران ودون أدنى مبالاة بشعبه الذي عانى الأمرين أثناء حرب إيران.
الخلاصة
١ كما رحل عبد الناصر عن مصر وهي أكثرفقرا ومهزومة وسيناء محتلة وقناة السويس مغلقة لسنوات طويلة، رحل صدام عن العراق وهي تعاني اقتصاديا ومهزومة ومدمرة ومحتلة بالكامل من قبل الأمريكان.
٢ وكما رحل عبد الناصر عن مصر بعد إن أضاع السودان وكان ضباطه سببًا في خلق حالة من الحساسية بين البلدين بسبب النظرة الفوقية للبعض تجاه السودانين، رحل صدام عن العراق وهي تعاني من حالة من الصراع الطائفي والانقسام لم يعرفها العراق قبله.
٣أضاع الرجلان حياتهما وشعوبهم في الجري وراء وهم القومية العربية والدخول في حروب دون التحسب لعواقبها ورفع الشعارات البعيدة عن الواقع من عينة أم المعارك ورمي إسرائيل في البحر والتي انتهت بأم الهزائم ورمي إسرائيل لتا في الوحل.
٤ لم يدرك الزعيمان أن التنمية الحقيقية والمستدامة للدول ينبغي أن يكون محورها الإنسان ومراعة حقوقه الأساسية ومن أهمها حقه في الحياة الكريمة وفي الحرية بكل أنواعها وحقه في التعلم الجيد وحقه في المشاركة في إدارة بلده ونقد الحاكم عندما يخطئ.
٥ بدلا من كل ما سبق تفنن الزعيمان في سياسات القمع وتكميم الأفواه وإشعارنا بأنهم أصحاب العزبة وما نحن إلا ضيوف عليهم وهو ما أدى إلى فقدان العراق ومصر لعدد ضخم من خيرة عقولهم الذين فضلوا الهجرة للخارج ولازالت عمليات الفرار والنزوح الى الخارج مستمرة بكل أسف.

‏‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي