وداعاً للنظام الدولي القديم ومرحبا بالفوضى


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7902 - 2024 / 2 / 29 - 22:34
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية     

1- لو كان للفلسطينيين نصف ما لدي إسرائيل من أسلحة لكانت المشكلة الفلسطينية حلت منذ زمن ودون الحاجة لأي تدخل من الشرق أو الغرب.
٢ حرب غزة تؤسس لنظام دولي جديد يعيد العالم إلى نظام ما قبل الحرب العالمية الأولى والذي كان قائما على القوة وغزو الدول الضعيفة واحتلالها ونهبها واذلال شعوبها وسط حالة من اللامبالاة من المجتمع الدولي وقتها. العدوان الإسرائيلي الحالي على سكان غزة والقتل الجماعي والعشوائي وتدمير كل مقومات الحياة حيث يقوم الإسرائيليون بتدمير كل المناطق الصناعية والمخازن والمزارع وقطع الأشجار، ناهيك عن المنازل والمستشفيات والمدارس وحتى دور العبادة بشكل متعمد وبلا رحمة وكراهية لا تجدها حتى في الكلاب المسعورة. وبالرغم من هذا لازال الغرب يرى أن العدوان الإسرائيلي لا يرقى لمستوي القتل الجماعي وجرائم الحرب، فهل المطلوب مثلا هو قتل الفلسطينيين جميعا وتدمير قطاع غزة بالكامل حتى يتفق الغرب معنا في الرأي بأن ما يحدث هو مذابح وقتل جماعي بلا تمييز وجرائم حرب؟! وفي هذا الصدد فقد قامت ال BBC البريطانية بمقارنة بين مجموع ما قتل في حروب غزة والعراق وأوكرانيا منسوبا لعدد السكان وفي نفس الإطار الزمني فوجدت أن ضحايا غزة أكبر بكثير.إسرائيل بهذا العدوان الوحشي الذي لم يشهد العالم مثيلا له منذ الحرب العالميّة الثانية وبدعم غربي مشين تقوض أركان النظام الدولي الذي أرسى دعائمه الرئيس الأمريكي روزفلت بعد الحرب العالمية الثانية بهدف إعادة بناء عالم ما بعد الحرب وتجنب المزيد من الحروب من خلال إنشاء منظمات دولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ولاحقا منظمة التجارة الدولية ومحكمة العدل الدولية وغيرها من منظمات أممية تهدف إلى تعزيز السلام والاستقرار والعدل والتعاون الدولي واحترام حق تقرير المصير للشعوب وفض المنازعات بشكل سلمي. كما رأى روزفلت أنه لا ينبغي أن تنعزل الولايات المتحدة عن العالم، بل على العكس فقد رأي أنه ينبغي عليها أن تكون الراعي الأساسي لهذا النظام الجديد. ولكن مع مرور الوقت بدأ الغرب يستغل تقدمه وقوته في تقديم مصالحه على حساب الدول الفقيرة والآخذة في النمو، كما بدأ في فرض ثقافته وقيمه مثل الديمقراطية وحرية التعبير والعولمة واقتصاد السوق …. الخ على الدول الأخرى. وللتوضيح فإنني شخصيا لست ضد هذه القيم بل إنني أرى أن أكثرها أصبح مطلبا ملحا ولا بديل عنه لإخراج أمتنا العربية من كبوتها وتحرير شعوبها من الاستبداد والفساد والظلم والثقافات البالية تمهيدا لانطلاق هذه الشعوب نحو التقدم الذي ننشده منذ الأزل. ولكنني في نفس الوقت ضد الإجبار والقهرواحتقار الآخر والاستثمار في ضعفه وقلة حيلته. وبمعنى آخر فإن الغرب يحتاج لتعلم الصبر واحترم الآخر وعليه أن يفهم أن التغيير قادم وسوف يتحقق بسرعة لو إن الغرب توقف عن استغلال الدول الضعيفة وكف عن تإييد ودعم الأنظمة الديكتاتورية والانحياز الأعمى لإسرائيل. نحن من المؤمنين بأن حل الدولتين ممكن من خلال إعطاء إسرائيل ضمانات أمنية كافية تشارك بها الدول العربية، وليس هناك بديل لهذا الحل سوى حرق منطقة الشرق الأوسط برمتها وأولها إسرائيل. كما يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية بالذات أن تتحلى بالعقلانيّة في تعاملها مع إسرائيل حيث وصل تدليل أمريكا لها إلى حد المهزلة لأنها أصبحت تؤيدها حتى في سياسات تضر بمصالح ومصداقية أمريكا بل وبمصالح إسرائيل نفسها في غياب تام للعقلانية والمنطق جعل أمريكا من أكثر الدول انتهاكاً للنظام الدولي الذي أرست معالمه ودعائمه بنفسها كما أسلفنا، والسبب في هذا إسرائيل واللوبي الصهيوني القوي المؤيد لها داخل أمريكا بفضل سيطرته علي مقاليد الحكم من خلال المال والإعلام وحتى الجامعات.
حتى الان استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو أربع مرات للاعتراض على قرارت الأمم المتحدة التي تطالب بوقف الحرب لإنقاذ المدنيين العزل من الموت جوعا وبفعل الغارات الجوية والقصف الصاروخي الإسرائيلي الذي لا يتوقف بينما القوى الدولية والمحلية تكتفي بالمشاهدة وإصدار التصريحات الديبلوماسية التي تتسم بالحذر، وهو ما يعنى الموافقة ضمنياً على ما يحدث من مذابح. الفيتو الأمريكي محير وغريب لأنني لا أتذكر أنني رأيت دولة كبرى داخل مجلس الأمن تعترض على قرار بوقف القتال في أي حرب وبدلا من هذآ تدعو لاستمرار الحرب؟! إليس هذا نوع من العبث يفوق رويات بيكيت.
إسرائيل وأمريكا الآن يقدمان للعالم نظاما دوليا جديدا على أنقاض غزة يقوم على القوة والنفوذ والأهواء والازدواجية في المعايير والقرارات، وبالفعل فقد أصبحت هذه المبادئ هي التي تحكم سياسات الدول الكبري وطريقة عمل معظم المنظمات الدولية. وعلى سبيل المثال فإنه بمجرد أن اتهمت إسرائيل خمسة موظفين من مجموع أكثر من عشرة ألاف موظف في منظمة الأنروا التابعة للأمم المتحدة بالتعاطف مع حماس، قامت وعلى الفورأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان وبدون إي تحقيق بوقف الدعم المالي الذي كانت هذه الدول تقدمه للأنروا والتي أنشئت خصيصا منذ عدة عقود لدعم اللاجئين الفلسطينين داخل وخارج فلسطين، ولم تبالي هذه الدول بتبعات قرارها هذا على حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين خاصةً في ظل هذه الظروف الصعبة التي يتعرضون فيها للقصف والحصار والجوع.
أين هي مبادئ حقوق الإنسان وأين هي المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق المدنيين في وقت الحرب؟ ولنا أن نتخيل رد فعل الغرب لو عكسنا الوضع بحيث تكون إسرائيل هي الطرف المعتدى عليه والفلسطينيون هم المعتدين، فهل كان الغرب سيتجاهل إسرائيل وهي تتعرض للإبادة والتصفية؟ نحن بالتإكيد أمام عنصرية بغيضة لم تترك للغرب بزعامة أمريكا أي صواب. ومن الآن فصاعدا لن يكون للغرب أي مصداقية أخلاقية ولا الحق في إدانة الصين لو أنها هاجمت تايوان لإعادة ضمها للصين ولا بإدانة روسيا في احتلالها لأوكرانيا ولا عزاء للسيد زلينسكي الذي صدق الغرب ودمر بلده. أهلا بالفوضى القادمة لا محالة وتهنئة خاصة للصين حيث سنراها قريبا في تايوان دون أن ينبث الغرب بشفة.
٣ لعل أكبر درس تعلمه العرب من المذابح التي تقوم بها إسرائيل حاليا في غزة هو ألا يعول أحد فيما هو آتي من أزمات على أي دعم يتجاوز بيانات الشجب والإدانة والتي تجيدها ما يسمى مجازا بالأمة العربية أو الإسلامية، إنها أمة الكلام الكثير والفعل القليل.
٤أصبت بحالة من الصدمة والذهول وأنا أرى أرون بوشنل الجندي الإمريكي الشاب وهو يحرق نفسه منذ عدة أيام أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجاً على القتل الجماعي الذي تقوم به إسرائيل في غزة وتأييد بلده أمريكا لها واكتفاء العالم بالمشاهدة. أراد الشاب أن يبصق في وجه إسرائيل والعالم كله وأن يفضح بلده، أو لعله أراد أن يحيي ضمير العالم ويبعث أروحنا الميتة كمخلوقات كانت يوما تتسم بالإنسانية، ولكنها عادت إلى أصلها المتوحش. بوشنل فعل كل هذا بطريقته وبإخلاص وشجاعة نادرة ورحل عن عالمنا البائس وهو غير نادم. ترى ماذا كان إحساس الرئيس بادين وهو يرى أحد جنوده يحرق نفسه بسبب تأييده الأعمى لإسرائيل وكيف سيعامله الرئيس روزفلت لو عاد للحياة والتقاه اليوم على أطلال النظام العالمي الذي بذل روزفلت وهو مريض ويحتضر جهدا كبيرا لإرساء قواعده لإعادة السلام للعالم بشكل دائم؟. وترى ماذا كان إحساس شيخونا الأفاضل الذين يصمتون صمت القبور إزاء ما يحدث للفلسطينيين وهم يرون هذا الشاب يصرخ فلسطين حرة ويحرق نفسه من أجل مدنيين أبرياء لا صلة له بهم. النار التي أشعلها أرون في نفسه تحمل رسالة لنا جميعا فإما أنها نار تضيء النور للإنسانية الضائعة في نفوسنا المتوحشة وإما إنها نار الغضب التي تقترب منا كل يوم وتهدد بحرقنا جميعا كأسوأ مخلوقات هذا العالم. أتمنى على الأخوة الفلسطينيين بعد انتهاء محنتهم في غزة والضفة أن يطلقوا إسم أرون بوشنل على أحد شوارعهم الرئيسية حتى يتذكره الجميع، هذا أقل ما يمكن أن نفعله تخليدا لذكراه ولروحه الطاهرة وعزاءا لأسرته في مصابها الأليم.
مستشار اقتصادي