مراجعات وأفكار -٨


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7213 - 2022 / 4 / 8 - 00:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

1- يكتسب الدولار قوته ‏من عدة عوامل من أهمها ضخامة الأسواق الأمريكي والسهولة النسبية في الوصول إليها من جانب الدول المصدرة وعلى رأسها الصين ودول جنوب شرق آسيا واليابان وأوروبا وباقي قارات العالم. ومعظم هذه الدول تحقق فائضًا تجاريا مع أمريكا وهم يستثمرون هذا الفائض في أسواقها المالية بمختلف أنواعها وهي عن تجربة شخصية من الأسواق المتقدمة جدا. وأمريكا تستفيد من هذا وعادة ما تمنح امتيازات تجارية لمن يستثمر في أذون الخزانة الأمريكية التي يتم إصدارها لتمويل العجز في الموازنة الفيدرالية. ولضخامة التعاملات العالمية بالدولار في التجارة والتسعير والاستثمارات والمدخرات أصبح الدولار عملة الاحتياطي الأجنبي الأولى لدى كل دول العالم، كما أن نظام التحويلات الدولي المسمى ب Swift هو نظام أمريكي تسيطر عليه أمريكا وكذلك كل عمليات المقاصة التي تتم بين البنوك الدولية تسيطر عليها أمريكا. وقد سبق أن كتبنا في كل هذا وقلنا إن العالم بحاجة إلى نظام مدفوعات آخر إلى جانب Swift لتفادي ما تفرضه أمريكا من عقوبات غير عادلة أحيانا بحق بعض الدول والشركات والأفراد. وكتبنا عن محاولات الدول الأوروبية لتقديم نظام جديد للتحويلات وقد تم استخدامه بالفعل وإن كان بشكل محدود من قبل بعض الشركات الأوروبية مع إيران للالتفاف حول العقوبات الامريكية لمن يتعامل مع إيران ولكنه لم يكتمل بعد ونتمنى إن تنجح هذه المحاولة حتى لا يكون العالم رهينة لنظام واحد. ولكن العملية ليست سهلة بسبب تعقيدات فنية وسياسية وبسبب إدمان العالم سواء الدول أوالشركات أوالافراد أوالبنوك وأسواق السلع للتعامل بالدولار منذ الحرب العالمية الثانية. كانت هذه المقدمة ضرورية لتوضيح المشهد المعقد لبعض الزملاء الكتاب الذين يرددون بشكل متواصل أن الدولار ومن بعده أمريكا نفسها والنظام الرأسمالي برمته على وشك الانهيار، والبعض كتب أن الانهيار سيحدث خلال أشهر قليلة وفي الحقيقة فإن هذا الكلام غير واقعي بالمرة وعلى الإخوة الذين يرددون هذه الادعاءات مراجعة أنفسهم والتعمق قليلا في النظام النقدي العالمي. ونحن هنا لا ندافع عن أي نظام، ولكننا نوضح الحقائق من واقع خبرتنا، ونود هنا أن نوضح أن معنى أن ينهار الدولار في ظل المعطيات المالية والنقدية الحالية فإن هذا يعني بالضرورة حدوث انهيار للنظام الاقتصادي العالمي بالكامل وانتهاء عصر العولمة وذلك لعدم وجود عملة بديلة يمكن ان تملأ الفراغ الكبير الذي سيتركه الدولار، هذا بالإضافة لخسارة كل دول العالم لاحتياطياتها الضخمة بالدولار وخسارة مئات الملايين من الناس لمدخراتهم بالدولار. بالطبع هذا لن يحدث لإنه ليس من مصلحة العالم كله علما بإن أمريكا ستكون أقل المتضررين. وأود أن أؤكد هنا أنه ليست هناك أي مخاطر تحيط بالدولار حاليا. ولعلي أختم هذه المراجعة بسؤال بسيط للإخوة الذين يتمنون أو يتوقعون انهيار الدولار قريبا جدا كما يقولون عما إذا كانوا قد استعدوا لهذا الانهيار بتحويل مدخراتهم بالدولار إلى اليوان الصيني أو الروبل الروسي مثلا؟
٢ الطريقة الوحيدة والفعالة للتحوط ضد المخاطر والاستعداد لأي أزمات مستقبلية متوقعة أوغير متوقعة في أي مجال هي التنوع في وسائل الاستعداد والدفاع وهو مبدأ نتبعه في إدارة المخاطر الإتمانية في البنوك وفي إدارة المحافظ الاستثمارية في الأسهم والسندات والمشتقات المالية بكل إنواعها من إجل حماية أموال المستثمرين. وهي أستراتيجية ننصح بها منذ العام الماضي حين توقعنا في مقال لنا وقتها أن العالم مقبل على نوع من التضخم الجامح بسسب السياسات النقدية والمالية التي اتبعتها البنوك المركزية وادارات الخزانة العامة في العالم خلال عامي الجائحة. وبالفعل تشهد كل دول العالم الآن نوبة تضخم غير عادية بسبب أن المحفزات المالية الضخمة التي تم ضخها في الأسواق لم تستخدم في التنمية، ولكنها ذهبت للشركات والبنوك الكبرى وانتهت في البورصات لدرجة أن بعض الشركات قامت بإعادة شراء أسهمها لرفع أسعارها ولذلك زادت قيمة مؤشرات البورصات على مستوى العالم كله بمعدلات كبيرة في انفصال تام عن الواقع الاقتصادي المزرى الذي عاشه العالم طوال هذه الأزمة وبالنتيجة زاد الأغنياء غنى وزاد الفقراء فقرا. كما ساهمت حرب أوكرانيا في زيادة معدلات التضخم. ولأن أول من يتضرر من التضخم هو قيمة العملات المحلية في الدول النامية ومنها الدول العربية لذلك فإننا ننصح دائما بألا نحتفظ بمدخراتنا في وعاء إدخاري واحد لتفادي خسارة شقى عمرنا وعلينا بالتنوع بين العملات المختلفة إذا أمكن حتى ولو كان بكميات صغيرة، ويمكن أيضا استثمار بعض مدخراتنا في صناديق الاستثمار المحلية ولو بكميات صغيرة وهذه الصناديق تستثمر في كل شيء بما فيها العقارات والذهب ومختلف إنواع الأسهم والسندات، وربنا يسترها مع الناس هذه الأيام.
٣ ‏كانت أول فرضيات علم الاقتصاد حتى قريب هي أن الإنسان رشيد في افعاله وقراراته، والإنسان فعلا يفكر بشكل رشيد، ولكنه لا يستطيع في مواقف كثيرة أن يتخذ القرار الرشيد بسبب أننا مشحونين بالعواطف والميول والتي تلعب دورا كبيرا في عملية اتخاذ القرار وليس فقط العقل. ولي قصة قصيرة جدا في هذا الموضوع من واقع حياتي تبين أن الناجحين في الحياة هم من يستطيعون تغليب العقل على العاطفة، ولكن هل نستطيع أن نفعل هذا دائما؟ هذا ما تعرضت له في هذه القصة القصيرة وهي موجودة على هذا الرابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=636042

وإذا ‏ما أردنا أن نخضع أزمة أوكرانيا المشتعلة حاليا لهذا التحليل لوجدنا أنه بمنطق العقلانية والرشد لا يصح أن ندخل في قتال وعمليات تدمير وحشية يرجع السبب الرئيسي من ورائها إلى عوامل تأريخية قديمة وعواطف الكراهية والرغبة في الاستفزاز والانتقام السائدة بين جميع الأطراف المشاركة في هذه الحرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .ولأننا لا نستطيع دائما أن نسيطر على هذه العواطف العنيفة والغبية فإنه يستحيل تخيل أن تتحول الحياة على الأرض إلى جنة أو أن تتوقف الصراعات العنيفة بين البشر وبالنتيجة فإن الإنسان هو الذي سيضع نهاية للحياة على هذا الكوكب الجميل، بمعنى أن يوم القيامة سوف يكون من صنع الإنسان وليس من صنع الرب، وسيحدث هذا إن عاجلا أم اجلا.
٤ ‏بالرغم من كل ما تشتمل عليه الأديان من خرافات وأخطاء إلا أنها تمثل دعما كبيرا للبعد الروحاني والوجداني في حياة الإنسان خاصة في أوقات الأزمات الصعبة التي نتعرض لها جميعا. وبالرغم من إنني علماني التوجه وأرى بوضوح كيف يتقدم المنهج العلمي في الإدراك والوعي على المنهج الديني الذي لم يبرح مكانه منذ نشأته، إلا إنني أجدني في وقت الأزمات الكبيرة في حياتي أشعر بالراحة عند اللجؤ إلى الدعاء وإلى نصوص دينية معينة. وأتساءل هنا من منا لا يلجأ إلى نوع من الدعاء بالتوفيق والسلامة لابنائنا وأحفادنا وشريكة العمر؟ ومن منا لا يدعو بالرحمة لإماهتنا ولآبائنا؟ ومن منا لا يدعو لأحبائه بالشفاء ورفع الألم عنهم عندما يعانون من أمراض خطيرة؟ والسؤال هنا لمن نلجأ كعلمانيين بالدعاء وقت الشدائد؟ ولمن ندعو عندما نتعرض للظلم والامتهان ممن هم أقوى منا فقط لأن السلطة بايديهم؟

‏‏‏ د. محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي