كيف سيتعامل الماركسيون مع هذه القضايا (١)

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6987 - 2021 / 8 / 13 - 00:34
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

من الملاحظ أن ‏الأبحاث التنظيرية في الماركسية تفوق بمراحل الأبحاث التطبيقية والعملية ‏وبلغة الاقتصاد فإن المعروض من الكتابات الماركسية النظرية يعاني من فائض كبير يفوق الطلب عليه ولذلك فإن قيمة هذا المعروض آخذة في الانخفاض. والسؤال ألم يكف بعد مائتي عام من التنظير ليبدأ التطبيق من أجل تحقيق حلم عالم المساواة الكاملة بين البشر وإقامة الجنة الماركسية على الأرض؟ وماذا ينتظر الماركسيون؟ ولماذا هم مشغلون الآن بتضييع الوقت في نقد الرأسمالية أكثر من انشغالهم بأسباب حالة الفرار الجماعي لكل دول المعسكر الشرقي سابقا إلى الغرب وخفوت ضوء الماركسية على مستوى العالم ؟ أليس الاشتغال على هذه القضايا أفضل من الانشغال بعيوب الرأسمالية التي يقر بها وبدون أدنى جدل الأكاديميون وصناع القرار الرأسماليون أنفسهم؟ والحق يقال هنا أن مؤيدي الرأسمالية لم يحولونها إلى دين مقدس أو نظرية علمية غير قابلة للنقد أو أدعوا أنها صالحة لكل مكان وزمان كما يفعل الماركسيون، بل إنهم يجمعون على ان الرأسمالية الحالية بها عيوب خطيرة وبحاجة ماسة إلي إصلاح وإعادة ضبط Reset كما أقروا بهذا في تجمع دافوس الأخير وما قبله. ‏وحتى أكون منصفا فإن بعض الزملاء الماركسيين ومن ضمنهم الزميل العزيز الأستاذ عبد الحسين سلمان ضد هذا التوجه الأيديولوجي لتقديس الماركسية. وهو وآخرون يسبحون ضد التيار الغالب في موقع الحوار، ورغم تعرضهم للشتائم ظلوا ملتزمين بالمنهج العلمي في النقد وتفنيد الحقائق. وكما قلنا مرارا فإننا نعلم أولادنا في الجامعة أنه لا يوجد شيءٍ مقدس في العلم وإنه لا يتقدم إلا من خلال النقد والبحث عن الأخطاء والتعديل والتطوير، كما نعلمهم أن الأيديولوجيات وكل ما هو مقدس هي أشياء ميتة لانها ببساطة فقدت صلاحيتها وأصابها التحجر ولم تعد قابلة للتطور ولذا فإنها تخشى النقد وتتستر على الأخطاء. الانسان ومنذ طفولته كأئن مفكر ومطور ويحب التجربة والمغامرة والبحث عن الجديد، ولكن إلى جانب هذه الخصال الحميدة فإنه أيضا يتسم بالطمع والانانية والعاطفة القوية التي تجعله غيرعقلاني في الكثير من سلوكياته، وبالنتيجة فإن الانسان متعدد الأبعاد وظاهرة معقدة ولذا يصعب تصور أن تنجح الماركسية أو أي أيديولوجيا في السيطرة على كل هذه الخصال في الانسان وأن تحوله إلى ملاك يمشي على الأرض. ولعل عدم الواقعية الواضح في الماركسية كما سوف نوضح كان أحد الأسباب الرئيسية في اكتساح الرأسمالية لها بالرغم من كل مساؤها وذلك لأن الأخيرة أقرب إلى طبيعتنا البشرية التي تسعى منذ الأزل إلى أمتلاك المال ليس بالضرورة للاستمتاع به، ولكن كمصدر للاستقلال والاحساس بالأمان في هذا العالم المتوحش.
وباعتبار أن أي نظرية أو تجربة كبيرة يراد لها النجاح لابد أن تبدأ بالذات من خلال القناعة الشخصية لأصحابها بما يروجون له، فإننا نتساءل هل الأخوة الماركسيون مستعدين ومتقبلين فعلا لمبدأ المساواة الكاملة؟ بمعنى إن يتساوى المهندس بالعامل والطبيب بالتمرجي والعالم بالجاهل والنشيط بالكسول؟ ولعلي أضرب مثالًا تطبيقيا بسيطا في شكل سؤال مباشر وهو: هل يقبل أي ماركسي غني ومقيم بفيلا سكنية مثلا أن يتساوى معه الخدم ويتشاركون معه في الاستمتاع بكل أوجه الراحة في الفيلا بحيث لا يكون هناك أي تمايز بينهم وبينه؟ وإذا كان مالكا لعقار إو قطعة أرض زراعية أو مصنع أو حتى سيارة هل يقبل أن تصادر هذه الأصول وأن يشاركه فيها عمال لا يعرفهم؟ وأن يحصل فقط على ما يحتاج كما يرون هم؟ أليست هذه الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا؟ إذا كانت الإجابة بنعم فلماذا لا يضرب الماركسيون مثلًا يحتذى به بأن يبدأوا بأنفسهم لاثبات أن مجتمع المساواة الكاملة والملكية العامة ممكن؟ وماذا ينتظرون؟ أما إذا ما تهربوا من هذا الاستحقاق بأي حجج واهية وفضلوا المضي في منهجية رفع الشعارات والكلام الكبير دون أفعال فإننا نكون أمام نوع من النفاق والعبث يصل إلى حد المهزلة.
وبحسب قناعتنا الشخصية فإن كل الأنظمة السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية التي عرفها الانسان منذ وجوده على الأرض فشلت في تحقيق أي نوع من المساواة الحقيقية وتحويل الأرض إلى جنة. الرأسمالية والشيوعية والقبلية والعشائرية والأديان كلها فشلت في تغيير طبيعة الانسان والسيطرة على غريزة الطمع والانانية وحب التميز والتملك والتحكم في الآخر وتفضيل صحبة الأغنياء على الفقراء. ومع هذا فإن الاخوة الماركسيين لازالوا يحلمون بأنهم قادرين على تغيير الطبيعة الإنسانية دون أن يفعلوا أي شيءٍ سوى التنظير مثلهم مثل المتدين الذي يصلي ويدعوا ربه ليل نهار أن يحقق أمانيه وينسى أنه لم يفعل أكثر من تحريك لسانه وأنه لم يبرح مكانه ومع هذا يتصور أن أمانيه سوف تتحقق بشكل ما طالما أنه يدعوا ربه! وهو ما يذكرني بأحد أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
ماركس إجتهد وحاول بإخلاص مساعدة العمال المظلومين وفق معطيات عصره كما رآها. ولو أنه بعث بيننا اليوم لقام بمراجعة كل أفكاره القديمة لتوفيقها مع واقع عالمنا المعاصر والذي يختلف تماما عن العالم الذي عايشه منذ قرنين كما سوف نبين في الجزء الثاني من هذا المقال. ومرة أخرى نقول ان ماركس أجتهد في حياته القصيرة والصعبة، ولكن تابعيه لم يفعلوا طوال قرنين أكثر من إعادة نشر أفكاره كما هي بل وتشويهها كما يفعل بعضهم. ومرة أخرى نقول لمن ينادون بالمساواة الكاملة في جنة الشيوعية إن مجتمع المساواة الكاملة بين المجتهد والكسول والمبتكر والتقليدي والعالم والجاهل تعني أن كل شخص سوف يحصل على فرصة عادلة كي يكون كسولا وعديم الفائدة في مجتمع فاشل كمًا حدث في كل الدول التي تبنت الشيوعيية لفترة قصيرة عانت فيها شعوب تلك الدول الأمرين.
والآن هذه محاولة نطرحها في شكل أسئلة لفتح باب الاجتهاد والحوار الصريح والبناء ودون شتائم للخروج من مأزق التنظير إلى بعض ‏المسائل التطبيقية الهامة التي يتعين على الأخوة الماركسيين التفكير فيها والاعداد لها من أجل تحقيق حلمهم في عالم المساواة الكاملة:
1- هل يمكن ‏أن يتحد عمال العالم فعلا لاسقاط النظام الرأسمالي؟ أعتقد أن الفكرة غير عملية بالمرة وتبدو خيالية لانه كيف يمكن أن يتحد العامل الأمريكي مع العامل الباكستاني او الصينى مع الصومالي او الفرنسي مع اليمني أو البرازيلي مع المصري، وما الإنجاز الذي يمكن أن يحققه مثل هذا الاتحاد؟ أليس من الأفضل أن نهتم بأن يتحد عمال كل دولة على حدة لتحقيق مطالبهم العادلة بدلا من تشتيتهم واستهلاك قواهم في المطالبة بمصالح العمال في بلاد لا يعرفونها؟ وأتذكر هنا أن أحد الكتاب في الموقع كتب مرة مطالبا بضرورة تدريب العمال لرفع وعيهم استعدادا للثورة لأن المسألة أصبحت حياة او موت! ولكنه لم يقل لنا تدريبهم على ماذا ومن سيدربهم وأين وكيف سيتم تجميعهم ومن أين ستأتي ميزانية هذا التدريب وهل هو يسعى لتدريبهم لضمان أن يحكموه بشكل جيد؟ ويمكنك أن تضع عشرات الأسئلة الأخرى ومنها أن العمال ليسوا صنفًا واحدا بمعنى أن العمال المهرة ونصف المهرة منعمين ومستقرين في حياتهم وليسوا بحاجة إلى ثورة ة، المشكلة تكمن في العمال غير المهرة وهم أقلية. وما نقصده هنا هو أن التفاصيل مهمة في أي شيء والقائد الناجح في أيي مجال هو من يعرف التفاصيل ولايكتفي بالعموميات والشعارات التي لم تحقق لنا أي شيء. وفي عالم البنوك والتعليم الجامعي لا نكتفي بوضع التشريعات والسياسات والأهداف، ولكن لابد أيضا من إعداد ما يسمى باللوائح التنفيذية لبيان خطوات التنفيذ والميزانيات التفصيلية المطلوبة وسياسات المتابعة والرقابة على الأداء. ولذلك يقولون أن الشيطان يأتي في التفاصيل وليس في الشعارات.
2- الثورات الناجحة ضد الظلم والاستبداد والفساد ‏تأتي عادة من أعلى إلى أسفل بمعنى أنها تأتي من قيادات منظمة ولديها خطط ورؤية واضحة وواقعية للبدائل المتاحة وردود الفعل المتوقعة من القوى المعادية سواء في الداخل أم الخارج وكيفية التعامل معها لحماية الثورة، أما الثورات التي تأتي من أسفل لأعلى فإنها عادة ما تنتهي إلى فوضى وخلافات وصراعات داخلية لغياب القيادة والتنظيم. وبناءً عليه فإذا ما كان المفكرون الماركسيون بانتظار أن يثور العمال وأن ينجحوا في ثورتهم فلنا في ثورات الربيع العربي لعبرة والتي فشلت بكل أسف لغياب القيادة الحكيمة والمنظمة والواعية بدورها ومسؤولياتها وانتهت إلى أوضاع أسوأ بمراحل من الأوضاع التي كانت سائدة قبل الثورة. ولا ندري شيئًا عن أسباب أختفاء أي دور للماركسيين في ثورات الربيع العربي وإين كانوا وهل يمكن أن تسنح لهم فرصة أفض مما حدث وماذا ينتظرون؟ ألا يدركون أن شعوبنا ليست ثورية بطبيعتها بسب جغرافية منطقتنا وما تفرضه من سلوكيات معينة على الناس عكس جغرافية أمريكا اللاتينية مثلا. أضف إلى ذلك الموروث الديني الذي لا يحبذ الثورة على السلطان ويدعوا إلى مواجهة الفساد والظلم بالصبر والدعاء، وهذا يعني أن على الماركسيين أن ينتظروا خمسين سنة أخرى عل الأقل حتى تنتفض الشعوب مرة ثانية بينما الماركسيون غارقون في التنظير وما كتبه ماركس وإنجلز منذ قرنين وكان الله في عونهم.
3- كيف سيتم تطبق مبدأ من كل بحسب قدرته ولكل بحسب حاجته؟ فمثلا هل ستقاس القدرة بالاسهام العضلي أم الفكري في العمليات الإنتاجية؟ وأيهما سيكون أهم في هذا النظام؟ وكيف سيتم تحديد حجم احتياجات كل أنسان بشكل عادل لتجنب النزاعات والمشاكل. ومن خلال خبرتنا في الآقتصاد فإننا كبشر نميل إلى تحقيق أكبر منفعة بأقل جهد ممكن، وهذه الغريزة من أهم أسباب المشاكل في أماكن العمل وبالتأكيد فإن أصحاب الاسهام الفكري ومنهم الكتاب الماركسيين سوف يعانون داخل هذا المجتمع الذي سيحكمه عمال متواضعي المهارة من الأرجح ألا يقبلوا أن يقتصر دور الماركسيين على التنظير فقط؟ ومن ثم فعلى الماركسيين أن يستعدوا لكل هذه التعقيدات.
4- في اقتصاديات الميكنة الحديثة والذكاء الصناعي الحالي أصبح العامل تابع للروبوتات والآلات المبرمجة حتى أن خطوط الإنتاج في صناعات الإليكترونيات والأدوية والسيارات وغيرها لم تعد تتطلب سوى تدخل إنساني محدود وعملية إحلال الآلات محل العامل متسارعة بشكلٍ مذهل. وهذا التطور ينسف نظرية فائض القيمة من أساسها لأن إسهام الآلات ورأس المال الممول لهذه الأصول أصبح أكبر بمراحل من مساهمة العمال بمعنى أن العامل لم يعد هو المساهم الرئيس في فائض القيمة ومن ثم فإن الماركسيين بحاجة ماسة لإعادة النظر في معتقداتهم القديمة ‏لأن الواقع الاقتصادي المعاصر مختلف تماما عن الواقع الاقتصادي الذي دعا ماركس وإنجلز إلى إدانة الرأسمالية قبل نحو قرنين وقتها كانت الصناعات الثقيلة تتميز بكثافة عنصر العمل اما الآن وكما اوضحنا فإنها تتميز بكثافة عنصر رأس المال والتقنية و الميكنة الحديثة التي تسيطر عليها الآلة مع انخفاض واضح لعنصر العمل.
وحتى لو افترضنا أن نظرية ‏فائض القيمة القديمة لا زالت سارية وقلنا أن العمال هم مصدرها ا الأساسي ‏وأن لهم الحق في السطوعلى كل ما يمتلكه الراسماليون من أصول، والسؤال هنا هل سيتم تعويض هؤلاء؟ في الأرجح لا بحسب ماركس لأنهم مصاصي دماء كما وصفهم، ولكن ماذا لو ذهب مصاصوا الدماء هؤلاء إلى القضاء المحلي والدولي وصدرت أحكام بحقهم في التعويض، هل سيتم تجاهل هذه الأحكام؟ ‏وهل سيتم إلغاء القضاء من ضمن الإجراءات الثورية والتي ستسعى إلى إلغاء الدولة نفسها؟ وماذا عن العقوبات الدولية في هذه الحالة والتي من شأنها إفشال الثورة، بل وتدمير هذه الديكتاتوريات الوليدة. هل أستعد الماركسيون لكل هذا؟
وخلاصة هذا الجزء من المقال ‏أنه إذا أراد العامل أن يحصل على فائض القيمة بالكامل فإن أحدا لن يمنعه، ولكن سيتعين عليه في هذه الحالة تدبير كل متطلبات العملية الإنتاجية من أرض وآلات ومعدات ورأس المال والتنظيم بالإضافة إلى النظم المحاسبية والقانونية والمالية المطلوبة لأي عملية إنتاجية، لأنه ليس من المنطق والعدل أن يساهم الراسماليون وآخرون بكل هذه العناصر لوجه الله وأن يستمتع العامل وحده بالفائض الناتج عنها.
في الجزء الثاني سوف نطرح المزيد من التساؤلات كما سنعرض لملامح النظام الرأسمالي الحالي وتحدياته ومخاطره على كوكبنا وحياة كل المخلوقات وما ننشده من إصلاحات.

مستشار اقتصادي