مراجعات وأفكار -٤

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6877 - 2021 / 4 / 23 - 02:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

1، أنا واحد من المعجبين بالمفكر الكبير د. حسن حنفي ولا يمنع هذا أن نختلف معه في بعض أفكاره خاصة تلك التي تأخذ شكل الاحكام المطلقة ومنها مقولته المشهورة بإن الإسلام دين عقلاني ولا يحتاج لعقلانية مستوردة. وبما أنني لا أستطيع أن أفصل الإسلام عن المسلمين وإلا انعدمت قيمته في حياتهم. وبالنتيجة يكون المسلمون عقلانيين أيضا، ويكون سؤالي البسيط هو كيف سيكون حال المسلمين لو أنهم بلا عقلانية؟ وهل يمكن أن تكون أحوالهم أسوأ مما هي عليه الان؟ وعلى ما يبدو فإن هذا ما قصده د. حنفي بمعنى أننا كعرب مسلمين لا زلنا بخير ومن ثم فإنه يتعين علينا أن نقول الحمد لله أننا لم نصل بعد لمحطة باكستان وأفغانستان مثلا. وبالطبع فأن هذا نوع من الهزل حيث يمكنني أن أذكر آلاف الأمثلة عبر تاريخنا الطويل لبيان ما وصلنا إليه من انعدام العقلانية، ولكني سأكتفي بمثال واحد لا يحب الكثيرون التعرض له نظرا لظروفه التاريخية شديدة الحساسية لدى عامةً المسلمين. والسؤال هل ‏هناك أي منطق أو عقلانية في تحريم التبني في الإسلام؟ ألم يكن هذا التحريم ولازال هو السبب في عذاب وضياع ملايين الأطفال في العالم الإسلامي ‏ما بين التشرد والإجرام والاغتصاب؟ بإلإضافة إلى حرمان الكثير من الآباء والامهات من نعمة البنون و تربية هؤلاء اليتامى كي يصبحوا أولادًا صالحين يحملون اسمهم ويأخذون بأيديهم في كبرهم، إنها علاقة حب ومصلحة متبادلة فما العيب فيها كي تحرم؟ لقد حرم التبني في نزوة أو هفوة قديمة ولا زال ثمنها الباهظ يدفع حتى اليوم. أعتقد أن د. حنفي بحاجة لمراجعة رأيه.
٢، ‏الأديان بدأت كحركات ثورية بدعم من العبيد والفقراء خلف الأنبياء لتحسين أحوالهم، ونشر العدل ونصرة المظلومين والمستضعفين. ولكن عبر السنين تم نسيان كل هذا ‏لتنتهي الأديان إلى صروح ومؤسسات ضخمة وطقوس وزخارف وبزخ لا معنى له وبعيدا عن تطلعات الجماهير العريضة المهمشة والرواد الأوائل لهذه الثورات، هؤلاء ‏لم يحصلوا على أي معطيات أرضية نظير تضحياتهم سوى وعود بنعيم أبدي وقصور في عوالم أخرى لم يرها إحد. والأسوأ من كل هذا أن المؤسسات الدينية اليوم أصبحت لاعبا أساسيا في تكريس الاستبداد والفقر والجهل والتغاضي عن كل ما حولها من مظالم وفساد. ألم يحن الأوان بعد كي يراجع المؤمنون ‏أنفسهم ويستيقظون من غفلتهم الطويلة؟

٣، ‏هل المبادئ والأفكار نسبية أم أنها قيم إنسانية أصيلة؟ أعتقد أن المسألة أكثر تعقيدا مما نتصور فمثلا نناضل كمفكرين من أجل حق حرية الرأي والتعبير ونعتبره من أهم الحقوق، ولكن رجل الشارع أو الإنسان العادي ينظر إلى المسألة بشكل مختلف تماما فهو يرى أن لديه حقوقا أهم من هذا ‏الحق مثل حق العيش في أمان واستقرار وحق التعليم الجيد. وبعبارة أخرى، ما معنى أن يتمتع الإنسان بحق حرية الرأي والتعبير وهو غير متعلم أو عاطل ولا يجد مأوى مناسب؟ أليس هذا هو السبب في انخفاض الطلب على حق حرية التعبير والرأي في عالمنا العربي؟ وبالتأكيد فإن السبب الحقيقي في هذا هو انعدام إحساس الناس بالأمان ‏وغياب دولة القانون ومن ثم فقد أيقنت الجماهير العربية ان حق حرية الرأي والتعبير في بلادنا يعرضهم للمتاعب ولا يوجد من يحميهم، ‏وفي مثل هذه الأجواء لا نستطيع أن نلوم هؤلاء عندما يتبعون مبدأ إيثار السلامة الشخصية والبعد عن المشاكل.
‏وتتضح الصورة أكثر عندما ننظر إلى الغرب فنجد أن نفس مبدأ حرية الرأي والتعبير يتمتع باحترام وقدسية عالية لدى الناس هنا ‏والسبب هو استقلال السلطات القضائية والتشريعية والأعلام عن السلطة التنفيذية وهو ما يعطي المواطن العادي الأحساس بالأمان وعدم الخوف من التعبير عن رأيه. ‏وهكذا نرى أن الظروف المحيطة هي المسؤولة عن سلوكيات الناس تجاه المبادئ وتباينها من مكان لآخر. ‏وبهذا يكون رجل الشارع لدينا والذي نقلل من شأنه دائما هو رجل عملي وواقعي ويعرف أين مصلحته ولا يعرض نفسه للمخاطر تماهيا مع الشعارات والاحلام وسط ظروف خطرة وغير مواتية. ‏ومن باب الفكاهة فإن نفس هذا الرجل لو قال له أحدهم إن ماركس تنبا بأن الجنة سوف تتحقق على الأرض عند تطبيق الشيوعية فإنه بالتأكيد سوف يطلب له سيارة إسعاف لنقله إلى مستشفى الامراض العقلية لان هذا الرجل البسيط يدرك بفطرته انه لا يوجد أي مذهب أو نظام يستطيع أن يحول هذا العالم المتوحش إلى جنة.
وتتعقد ‏مسألة تعاطي الناس مع الأفكار والمبادئ أكثر وأكثر من خلال ما نلاحظه عندما تترسخ فكرة غير واقعية أو يستحيل تطبيقها في الحياة في ذهن البعض. هنا نلاحظ أنه يكون من الأسهل بكثير أن ينخدع بعض الناس بمثل هذه الأفكار عن أن يحاول أحد إقناعهم بأنهم تعرضوا لعملية خداع فكري. بمعنى أن زرع الأفكار الحالمة في العقول أسهل بمراحل من نزعها، والسبب أن العقل الانساني بعد فترة معينة من تبنيه لقناعة أو فكرة معينة يفضل أن يظل يحلم ‏بأن هذه الفكرة سوف تتحقق، وإن لم تتحقق اليوم فإنها سوف تتحقق مستقبلا بطريقة ما، وهذا الحلم بالنسبة له أفضل من ألم الإفاقة على واقع قاس ومؤلم. ونسبية تعقل الأفكارهنا بين عقل وآخر تأتي من ظروف النشأة وطبيعة الثقافة وهي عملية مركبة خاصة في بعدها الاقتصادي.

الأفكار

١، ‏بحسب قناعاتي الشخصية فإن الأفكار والمعتقدات وألتنبؤات لا يمكن ألبسها ثوب العلم عنوة ويطلق عليها قوانين دون أن تختبر في معمل الحياة أو تثبت رياضيا وعلى سبيل المثال لدينا في الاقتصاد قوانين عديدة بدأت كأفكار ولم تتحول إلى قوانين الا بعد اختبارها وثبوت صحتها ومع هذا فإنها ليست مثل قوانين العلوم الطبيعية ‏التي تتعامل مع معطيات جامدة وأجسام ليس بها روح أو عواطف أو عقول تفكر. وهي قوانين عملية ومفيدة جدا. ومن أمثلة هذه القوانين ما يعرف بقانون باركنسون. ‏والقانون ينص باختصار شديد على أن العمل البشري أي كان حجمه يمكن أن يمتد ليملأ أي وقت يحدد له، بمعنى أن نفس العمل أو المهمة التي تحتاج إلى ساعتين للانتهاء منها يمكن أن تمتد إلى عدة ايام إذا ما كانت المدة المحددة مفتوحة. وهذا قانون صحيح وقد تم اختباره في شركات عامة وخاصة وفي دول عديدة ‏وثبتت فاعليته وجدواه. ‏وتطبيقا على هذا فلو إنك طلبت من موظف لديك أن يعد تقريرا عن جزئية محددة في العمل بحيث ينتهي منه خلال يومين فإنه سوف ينجز المهمة في يومين، ولكن إذا ما تركت المهمة مفتوحة له فإن التقرير قد ينتهي في شهر. ‏ونفس القانون له تطبيق آخر يتعلق بالمصروفات التي لوحظ أنها تزيد باستمرار لمجرد أن الإيرادات تزيد. فإذا ما كان هناك مخصص صرف معين وكان دائما كافيًا لشراء شي أو إنجاز مهمة محددة، فأن المصروفات هذه سوف تزيد بشكل ما عندما يزيد الدخل المقابل لها. ويحدث هذا سواء على مستوى الشركات أو الأفراد، وعادة ما تزيد المصروفات هنا من خلال بنود جديدة غير ضرورية. وفي تطبييق ‏آخر اشتركت في بحثه منذ سنوات عديدة مع وحدة الابحاث التابعة لمجلة الإكونومست كانت النتائج مدهشة حيث لاحظنا انه لو كان هناك عمل مكتمل وبدون مشاكل يقوم به 10 أفراد ولكننا قمنا بتعيين شخص إضافي دون زيادة حجم العمل، بمعنى انه لا يوجد عمل محدد لهذا الموظف الجديد، وجدنا أن هذا الأخير سوف يخلق لنفسه شيئا عمله كي يبرر وجوده كأن يعرض خدماته على موظف آخر من باب مساعدته وهكذا يزيد عدد الموظفين دون داعي القيام بنفس، العمل وهذا ما نجده واضحا في المؤسسات الحكومية حيث تنتشر البيروقراطية بشكل مخيف و ‏وتزيد مدة إنجاز العمل و تزيد المصروفات دون مبرر. وكما ترون فإن قانون باركنسون قانون مفيد جدا ويستخدم في بطرق مختلفة لزيادة الكفاءة الإنتاجية. وهناك قوانين أخرى عديدة في الاقتصاد ‏وكلها مثبتة إما تطبيقيا أومن خلال التحليل الرياضي مثل منحنى لافير في تحديد علاقة الضرائب بالإنتاج.

٢، ‏وفكرتي هنا عن حق السؤال وما ينتج عنه من حث العقل على التفكير والبحث عن إجابة. وهنا يكون حق السؤال هو أساس التقدم والتحضر. ولكن الأخوة الأيديولوجيين والمتدينين ينكرون علينا هذا الحق لأنهم يرون أن التاريخ قد توقف منذ عصر الأنبياء وبعض المفكرين مثل ماركس، ‏وبناءًا عليه لم يعد مطلوب منا اكثر من حفظ النصوص الدينية القديمة والمداومة على استرجع الماضي وأبطاله ومواعظهم واقتفاء آثارهم، ونفس الحال مع ماركس فما علينا إلا أن نعيد نشر أفكاره وحفظ قوانينه المقدسة وغير المثبتة دون أي نقاش أو طرح أسئلة ‏وأن نتظر تحقيقها بشكل ما دون أن نفعل أي شيء لأن الديالكتيك قادر على هذا وسوف يقوم بتحقيق كل أحلامنا لا محالة ،صحيح انه مر قرنين على تنبؤات ماركس دون أن يتحقق منها شي ولكن قرنين في عمر الكون لا شيء ‏فما هي المشكلة أن ننتظر عشرة قرون أخرى وربنا يعطينا ويعطيكم طولة العمر. ولا أدرى ما هو سر الخوف من حق السؤال وسبب التعامل معه بعصبية وهجوم وشتائم، فهل يمكن للسؤال أن يهدم منظومة أيديولوجية أو دينية؟ فإذا كان هذا هو سبب الخوف فإن السؤال المنطقي ‏يكون أي منظومة فكرية هذه التي يمكن أن تنهار عندما يسمح بحق طرح أسئلة حولها؟ أليس هذا دليل على أننا أمام منظمات وأفكار هشة وبالية؟
٣، ‏وبمناسبة أيام شهر رمضان الذي أصبح شهرا للمأكولات الشهية والحلويات والمسابقات والمسلسلات التلفزيونية التي ينفق عليها مئات الملايين نكاية في الفقراء، فقد رأيت من باب الفكاهة أن أشارك ببعض الفوازير الصعبة الموجهة فقط للإخوة الستالينيين البولشفيين لأنهم وحدهم يعرفون الإجابة على كل الأسئلة الصعبة كي أثبت أنهم أفضل بكثير مما يصورهم البعض:
• ‏في أي شهر يحتفل الروس بثورة أكتوبر؟
• ‏كم المدة التي استغرقتها حرب المائة عام؟
• ‏ما هو لون النمر الأصفر؟
فلنضحك قليلًا وكل عام وأنتم بخير.

مستشار اقتصادي