مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 01:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ تظلّ حياة الإنسان ومصيرها ، وحقيقة الموت وعلاقته بها ، أحد أعقد الأسئلة التىّ تعصف بالعقل والوجدان معاً ، في هذا المقال ، نتأمل في صراع الإنسان الأزلي بين الرغبة في البقاء والهوس بالانتهاء ، بين نشر الحياة وبين احتكار الموت ، لنكتشف أنّ الحضارات الكبرى ، حتى الأكثر تقدّماً ، ما زالت تغرق في صراعاتها الداخلية ، وأنّ السلطة والقرار ليسا مجرد أدوات ، بل مرايا تعكس عمق الفراغ الوجودي في المجتمعات ، لم تكن الحياة يوماً عائقاً أمام الموت ، ولا الموت خصماً للحياة ، بل هما في صراعٍ سرمديّ لا غالب فيه إلا للدهشة ، غير أنّ الإنسان غرق في لذّة الحياة حتى أختنق بها ، لأنه وجد فيها وهماً جميلاً يستحق التمسّك به ، بينما الموت ، رغم مجهوله وسواده ، يظلّ عاشقاً لها على طريقته ، وفي المسائل التىّ تجمع الحياة والموت ، تبدو البشرية عارية من حكمتها ، تتأرجح بين السخرية الثقيلة والمأساة القاسية ، فلا الحكاية تُروى ببراءة ، ولا النهاية تُختار بوعي ، فإنّ الفارق بين من يزرع الحياة ومن يزرع الموت هائل ، لكنه يضيع حين يقرّر الإنسان – بإرادته المطلقة – أن يكون مربياً أو قاتلاً ، فهو يلد الأطفال للحياة بقدر ما يصنع القبور بيده ذاتها ، والأدهى من ذلك ، أن نزعة الفناء أسهل عليه من نزعة البقاء ، لأنه يستطيع أن يُبيد ملايين البشر في لحظة واحدة بسلاح نووي ، لكنه لم يجد وسيلة واحدة يبث بها الحياة بذات السرعة والقدرة ، " ألبير كامو، أسطورة سيزيف، دار الآداب، 1955 .
لم تصل الولايات المتحدة 🇺🇸 إلى ما بلغتْه من تعقيدٍ في هندسة الحياة إلا بعد أن خاضت بحار الدماء والتمزق ، فقبل الحرب الأهلية وأثناءها وبعدها ، كانت أمريكا رحماً يعصره الألم ، تتصارع فيه الأخلاق والمصالح ، والحرية تُباع وتُشترى بين الشمال والجنوب ، وقد اندلعت الحرب – كما يروى – لأسبابٍ واهية ، كهروب عبدٍ أسود نحو الشمال ورفض إعادته ، هكذا اشتعلت نيرانٌ كان وقودها الإنسان ذاته ، ورغم أنّ الصراع بدا ظاهرياً بين الأسود والأبيض ، إلا أنّ الحقيقة كانت أعمق ؛ فالمجتمع الأمريكي هو مسرحٌ دائم للتناحر بين الطبقات والأيديولوجيات ، وبين سلالات المال والسلطة ، وكلّ منها متمسّك بمكان ولادته كأنّ الأرض ميراث دم ،" هاورد زن ، تاريخ الشعب الأمريكي ، نيويورك: هاربر كولينز، 1980 " ، وما زال هذا المجتمع – رغم بريقه – يعاني من خواءٍ داخليّ ينهش قلبه ، خواءٍ عائليّ وعاطفيّ ، جعل الإنسان الأمريكي يفتعل المغامرة ليتخلص من فراغه ، ويصنع الأكشن في حياته اليومية كي لا يشعر بالعدم ، فإنّ العنف هناك 👉ليس نتيجة الغضب ، بل نتيجة الفراغ ؛ ليس ثورة على الظلم ، بل محاولة للهروب من اللاشيء ، ومن هذا المنبت ذاته ، يمكن قراءة اغتيال الناشط السياسي المقرب من الرئيس ترمب ، تشارلي كيرك ، كصراعٍ داخليّ بين إرادات متوحشة ، لا تبحث عن العدالة ، بل عن السيادة على مؤسسات القرار ، فالموت في هذه الحالة لم يكن نهاية ، بل رسالة : أنّ من يملك مفاتيح الحياة هو ذاته من يحتكر الموت ، " كريستوفر لاش، ثقافة النرجسية، جامعة هارفارد، 1979 ، "جون مييرشايمر، السياسة بين الأمم: صراع القوة والهيمنة، مطبعة جامعة شيكاغو، 2001 …
كان الرجل ، أي تشارلي كيرك ، خطيباً مفوّهاً وفائق البلاغة ، يمتلك قدرة استثنائية على لمس القواعد الفطرية الأكثر انقساماً لدى الإنسان الأمريكي ، حماسة كلماته ودقة ألفاظه جعلته شخصية لافتة ، ودفعت إلى الهلاك في الوقت ذاته ، ذاع صيته عبر مواجهته المباشرة للتيار اليساري الليبرالي ، لا سيما ما أنتجه من مجتمع شاذ من المثليين ، كما تحدّى قوانين تقنين شراء وحمل السلاح ، وفي المرحلة الأخيرة من حياته ، أبدى انتقاداً شديداً لتنفيذ الإسرائيليين لما أعتبره إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة ،شخصيته المليئة بالحماسة والوصول المباشر إلى الناس جعلت من يتربص به يخشى وقع كلماته في كل مكان ،
[Washington Post, 2024 CNN Report ، رغم جرأته وصراحته ، لم تكن شهرته نتيجة أفكاره وحدها ، بل بسبب حاجة قاعدته الجماهيرية إلى أسلوبه الاندفاعي في مواجهة خصومه ، يمكن تحديد ثلاث جهات محتملة وراء تصفيته : جهة داخلية أمريكية ترى في قتله تطهيراً نفسياً أو التخلص من شعور سلبي تجاهه ، جماعات متضررة من النظام الليبرالي الذي يتيح للمثليين العيش بحرية ، وما يرتبط بذلك من منظومة دعارة واسعة بين الأثرياء ، الحركة الصهيونية ، التىّ ربما شعرت بالقلق من تأثير موقف تشارلي تجاه إسرائيل على قرارات الرئيس الأمريكي ترمب " The Atlantic, 2025 New York Times Analysis, 2025 " ، فتاريخ الولايات المتحدة مليء بالاغتيالات التي زادت الانقسام السياسي والاجتماعي ، اغتيال مارتن لوثر كينغ وجون كينيدي ومالكوم إكس عمّق الانقسامات ، كما شهدت البلاد محاولات فاشلة لاغتيال رؤساء مثل أبراهام لينكولن وجيمس جارفيلد وويليام ماكينلي وجيرالد فورد وروزفلت ورونالد ريغان ، وآخرها محاولة اغتيال الرئيس الحالي ترمب.
[U.S. Historical Archives, 2023 BBC History, 2024 " .
ساهم خطاب ترمب في تقويض الثقة التقليدية بالمؤسسة السياسية ، ونقل المواطن من إنتقاد المرشح أو السيناتور إلى إنتقاد الحزب بأكمله ، ولم يقتصر انتقاداته على الديمقراطيين ، بل شملت أعضاء حزبه الجمهوري ، وفي مقدمتهم الرئيس الأسبق جورج بوش ، ما جعله يشكّل ضربة عميقة لمؤسسات الدولة في نظر الناخبين ، وهكذا ، أصبح يُنظر إليه كرجل إصلاحي ، تماماً كما كان تشارلي كيرك في الانتخابات الأخيرة ، رمزاً للحماسة والجدلية في قلب الانقسام الأمريكي ، على الرغم اختلافي معه في بداية العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة بسبب تأيد حكومة تل ابيب المتطرفة ، " Politico, 2025 The Guardian, 2025 …
في ظاهرة قد تكون فريدة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، غادر دونالد ترمب ولايته الأولى بعد موجة من الانتقادات الحادة من الصحافة والإعلاميين ، ورغم قدرته الكبيرة على تجاوز الضغوط الإعلامية ، إلا أن جو بايدن حالفه الحظ بكونه نائب الرئيس السابق باراك أوباما ، وهو ما ساهم في وصوله إلى البيت الأبيض ، ومع ذلك ، سرعان ما عادت التوترات السياسية إلى الساحة ، إذ شهدت ولاية بايدن سخطاً شعبياً كبيراً على الحزب الديمقراطي ، وقد تجلى ذلك في فارق الأصوات بين ترمب وبايدن ، والذي يعكس استياء شريحة واسعة من الناخبين ، ويلاحظ أن هذا الاستياء الشعبي لم يتطلب تجنيد الإعلام ضده ، سواء من الجانب السياسي أو الإداري أو الحزبي ، في المقابل ، كانت زلات بايدن وتخبطاته مادة خصبة للسخرية في البرامج الكوميدية ، إذ لم يتمكن الحزب الديمقراطي من تلميع صورته أو خطاباته بما يتجاوز الانتقادات ، على غرار الأدوات التجميلية التىّ تخفي علامات الشيخوخة ، ويطرح هذا تساؤلًا جوهرياً حول نزاهة وشفافية الإعلام الأمريكي ، إذ أن التغطية الإعلامية لم تتعامل مع ترمب في اغلب الأحيان بموضوعية ، بينما يبدو أنها قدمت بايدن بصورة مخففة ، متجاهلة بعض السياسات الدولية المثيرة للجدل التىّ اتخذها ، خصوصاً فيما يتعلق بالسياسات تجاه النزاعات الدولية .
الإعلام الأمريكي ، بتركيزه على الصورة الرمزية للرئيس ، لم يولِ اهتماماً كافياً للسياق التاريخي للرؤساء السابقين ، كشخصيات سياسية تمثل دولة تتمتع بالقيادة العالمية ، ومن ثم ، يتحمل بايدن جزئياً مسؤولية إهتزاز صورة الولايات المتحدة داخلياً ودولياً ، ومع ذلك ، لا يمكن إنكار أن النظام الأمريكي ، رغم الأخطاء التىّ قد يرتكبها السياسيون ، يمتلك مؤسسات تعليمية قوية ، وشركات متعددة الجنسيات ، وجيشاً واستخبارات واسعة الانتشار ، جميعها قادرة على توفير حماية نسبية من الإنهيار السياسي أو الاقتصادي ، حتى في حالات العنف السياسي المحدودة، مثل اغتيال شخصيات سياسية معينة ، تبقى هذه الأفعال محصورة بأفراد محددين دون وجود تنظيم منظم ، إلا أنهم قد يشكلون تهديداً جزئياً لحرية التعبير ، وهكذا ، تتلاقى في الولايات المتحدة عناصر متعددة ، بما فيها العنصرية واستخدام السلاح والديمقراطية ، دون أن يتمكن النظام بشكل كامل من ضبط التوازن بين العشوائيين والملتزمين بالقانون ، مما يعكس تحديات مستمرة في ممارسة الحرية العامة …
الاغتيالات السياسية تُعد ظاهرة متكررة عبر التاريخ ، ولا تقتصر على ثقافة أو عصر معين ، في الولايات المتحدة ، ارتبطت هذه الظاهرة بالنظام الديمقراطي ، حيث تعكس صراعات السلطة والتنافس بين النخب السياسية ، وتُبرز الانقسامات الاجتماعية العميقة ، فقد شهد القرن الـ20 اغتيالات بارزة مثل جون كينيدي وروبرت كينيدي ، والتىّ أبرزت هشاشة الاستقرار السياسي حتى في أنظمة ديمقراطية قوية (Hofstadter, 1948) ، أما في التاريخ الإسلامي المبكر ، فقد رصدت حالات مماثلة خلال عهد الخلافة الراشدة ، قبل أن يتحول النظام لاحقاً إلى شكل ديكتاتوري في العهدين الأموي والعباسي ، ما يوضح أن هذه الظاهرة مرتبطة أكثر بالتحولات السياسية والاجتماعية من إرتباطها بثقافة محددة (Cook, 2000).
تتفاقم الاغتيالات في المجتمعات التىّ تمتلك مشاريع إمبراطورية متجددة وقوة نفوذ ، خصوصاً حين يفقد المجتمع شخصيته الجامعة ويصبح الانقسام الاجتماعي والسياسي أكثر وضوحاً ، ومع صعود الفضاء الإعلامي الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي ، أصبح الأفراد قادرين على تبادل الآراء والاتهامات بشكل أسرع ، ما يزيد من حدة الانقسامات ، وقد برز ذلك بوضوح في الانتخابات الأمريكية الأخيرة ، حيث ساهمت الحملات الرقمية في تعميق الانقسامات ، وأحياناً في التحريض على العنف أو تهديد الشخصيات السياسية (Skowronek, 1982) ، ومع ذلك ، يظل النظام الدستوري أداة فعالة لضبط الصراعات ومنع الإنزلاق نحو الفوضى أو الانقلابات ، إذ يمثل الخط الفاصل بين الفوضى الفردية والفوضى المجتمعية (Locke, 1689) ، حتى في ظل وجود ميليشيات وأطراف مسلحة ذات أجندات أيديولوجية ودينية ، فإن إستمرار النظام الدستوري يمكن أن يحد من احتمالات الحروب الأهلية ، فميليشيات مثل “حماة القسم” أو “أفعى أريزونا” ليست جديدة ، بل هي امتداد لصراعات تاريخية ، وقد لعبت أدواراً مهمة في مراحل تأسيس الدولة الأمريكية ، واستمرت في الوجود ضمن حدود القانون والدستور (Cook, 2000) ، وعلى المستوى المعاصر ، شهدت بعض الولايات الأمريكية حالات تهديد لسياسيين بارزين من قبل جماعات متطرفة ، وهو ما يبرز إستمرار المخاطر المرتبطة بالانقسامات الداخلية ، رغم قوة المؤسسات الديمقراطية ، وتظهر الاغتيالات السياسية في القرن ال21أيضاً في السياق الدولي ، سواء في الدول الإسلامية أو الديمقراطيات الغربية ، إذ غالباً ما ترتبط بالانقسامات السياسية الحادة أو النزاعات الأيديولوجية ، فاستهداف شخصيات سياسية بارزة في الشرق الأوسط ، أو محاولات الاغتيال المزعومة عبر الهجمات الإلكترونية والتجسس الرقمي ، يؤكد أن التحديات الأمنية لم تعد محصورة في الفعل المادي المباشر ، بل تشمل أيضاً أبعاداً رقمية وإعلامية تؤثر على الرأي العام والإستقرار السياسي (Hofstadter, 1948 Skowronek, 1982).
يبقى الإستقرار السياسي والاجتماعي في أي مجتمع ديمقراطي رهيناً بقدرته على إدارة الانقسامات والصراعات ضمن إطار قانوني ودستوري واضح وتحديداً ، إذا كان ساكن البيت الأبيض يتمتع بنفوذ سياسي على مستوى الجمهورية وخارجها ، تماماً كتأثر الرئيس ترمب على العالم ، مع مراقبة تأثير التكنولوجيا ووسائل الإعلام الرقمية على انتشار الفوضى السياسية والاجتماعية ، لضمان حماية المؤسسات والديمقراطية من التآكل أو الانهيار (Locke, 1689 Cook, 2000) …والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟