أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا لاغة - المشهد السابع ، رواية ريح من داعش















المزيد.....



المشهد السابع ، رواية ريح من داعش


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 5788 - 2018 / 2 / 15 - 16:47
المحور: الادب والفن
    


لم يكن مصعب بحاجة إلى من يحثه للإعداد للمرحلة الراهنة عبر تنظيم حملة تجنيد سرية للائحة من الشباب المتمرسين بالقتال على الحدود التونسية و من بينهم شخص يدعى القط حكم عليه بالسجن المؤبد في تونس على جرائم اقترفها ، على الأرجح كان ذلك على خلفية التحقيقات التي أدرجت اسمه على لائحة مدبري هجوم سليمان في 2006. و ما كادت تشهد البلاد هبة في شهر ديسمبر من 2010 و ما صاحبها من حوادث أليمة في السجون من قبيل نشوب حرائق تسببت في مقتل البعض و فرار البعض الآخر حتى فقدت السلطات التونسية ، أو هكذا روّج للأمر، أيّ صلة به. لقد كان يعوّل على شجاعته و ليس بخاف أيضا وفق المحللين السياسيين في الدولة التونسية أن هذه الواقعة تستحق الذكر بنوع خاص فتبعا لتقارير أمنية يعتبر القط مسؤولا على تجنيد متشددين إسلاميين نظموا صفوفهم و تمركزوا بجبل سمامة بالقصرين. هو الآن. يتردد على الحدود الليبية و التونسية و الجزائرية . وقد قاد بنفسه تخطيط أكبر عملية تهريب للسلاح من التراب التونسي إلى ليبيا للإطاحة بنظام معمر القذافي . و تشير بعض الإرشادات التي سرّبتها سي أي أي أنه من أخطر المهربين للأسلحة في المنطقة العربية غير أنها في الآونة الأخيرة باتت تتحاشى الحديث عنه . و تفيد الأنباء أنه بعد انتهاء حكم الترويكا استقر في الجزائر و أكد للسلطات الجزائرية أن مشاكله ليست مع الدولة التونسية بقدر ما هي مع الصحافة المأجورة التي شوّهت سمعته . و قد طمأن الدرك الجزائري بأنه يحب الجزائر و مستعد ليموت لأجل عزّتها .
إن منحه حق اللجوء السياسي يمثّل حالة زاخرة بالإيحاءات ، فالرجل حقق لنفسه سجلا مرعبا في مجال الإرهاب و مع ذلك فهو مرحب به في الجزائر بل إنه بدا محاطا بمراسم التشريف .
و وفق ما جاء على لسان حمد أحد المجاهدين التونسيين ممن انتقلوا إلى العراق سنة 2001 بأنه يعمل لصالح المخابرات الفرنسية و التونسية و الجزائرية . فقد علّق ذات مرة على ذلك قائلا: >.
الآن تأكدت بشهادة بعض المعتقلين الذين نجوا من الكمائن التي دبرت لهم ، أن القط زرعته المخابرات داخل تنظيم الدولة الإسلامية و قد استخدم طوال هذه الفترة أسلوب التمويه و دأب دوما على كشف معاقل التنظيم .
و قد دبّر له مصعب مكيدة للإطاحة به . لقد كانت من البراعة و الدهاء بحيث لم تدر المخابرات الجزائرية ولا حتى الفرنسية شيئا عنها . كان هناك احتمال ضئيل في أن يشن التنظيم عملية واسعة في مدينة الحديثة بالأنبار . و أعربت قيادة التنظيم عن خشيتها من نقص الأسلحة و الذخائر. و ليس هناك من سبب يحمله على رفض صفقة الأسلحة التي عرضت عليه في الرسالة المشفرة التي أرسلها له مصعب و مختومة بختم أبي بكر البغدادي الذي يبدو مصرا على إدارة أمور الصفقة بنفسه. كانت الخطة تشجع على اجتذابه للدخول ضمن روابط تنظيمية واسعة الحدود ستسهم لاحقا وفق ما يراه القط ، في كشف بنية التنظيم.
في ساعة مبكرة من يوم الأحد 27 من شهر آذار 2013 بعد ثلاثة أسابيع تقريبا من سقوط الرقة بالكامل و بمساعدة من جبهة النصرة التي انسحبت إلى مدينة الطبقة بعد أن أعلن أبو بكر البغدادي عن توحّد تنظيمي داعش و النصرة و من ثمة اتخاذ المدينة كعاصمة لداعش ، تم استدراج القط في كمين و سعى المخططون تحت إشراف مصعب إلى تشكيل محور اتصال يمتد من قلب تركيا إلى سوريا . على الرغم من عدد عمليات التهريب التي قام بها إلا أن علامات القلق بدت واضحة من ملامحه. ربما كان باعثها بالدرجة الأولى أنه لأول مرة يشرف على عملية تهريب من الحدود الشمالية مع تركية .
كان يقود سيارة شحن وهو يعبر قرية قمر الدين التركية. لم يبق ما يفصله عن بوابة "تل أبيض" الحدودية سوى 25 مترا .لقد أدى إغلاق السلطات التركية لمعبري باب الســلامة و باب الهوى منذ أسابيع إلى ازدياد حالات هروب السوريين الفارين من لهيب الحرب ، وازداد معها استغلال المهربين . لقد كانت عشرات النقل الجماعي المعروفة في تركيا بـ" الدلمش" تقف على بعد أمتار من الحدود. تبدأ رحلة الفارين من القصف العشوائي في الداخل السوري و الاعتقال التعسفي بالوصول إلى تركيا لتأخذ رحلة الهروب إلى أوروبا منحى أكثر إثارة و ترتفع نسب المخاطرة في ظل ظروف مناخية صعبة.كان المعبر يعمل بشكل طبيعي فتنظيم الدولة قد سيطر على المدينة قبل أن يتم إغلاقه فيما بعد نهائيا عند سيطرة القوات الكردية عليه.
ولإحكام قبضته على مدينة الرقة دأب على استصدار بلاغات، أخذت تشمل كل مناحي حياة سكان المدينة. فمن إغلاق المدارس، ريثما تصدر مناهجها التعليمية الجديدة، إلى التدخل في لباس الرجال والنساء،فالحياة هنا يغلب عليها اللون الأسود فالنســوة يســـــرن في الطرقات و هن موشحات بالسواد الذي فرض عليهن بالترهيب ، فقد كان قوات التنظيم تسير بخطى واثقة فقد أصبحوا أصحاب الأرض حتى أنهم عملوا على إعادة تشكيل المنطقة ديموغرافياً فاستولوا على الملكيات العامة والخاصة وصادروا المساكن لتوطين "دواعش" قادمين من كل أصقاع المعمورة.
كان التنظيم قد أرسل تعزيزات عسكرية من مدينة الرقّة إلى بلدة الراعي الحدودية المتاخمة للأراضي التركية ،على إثر المواجهات المسلحة التي اندلعت مع الجيش التركي، فقتل خلال المعارك ضابطين مقابل تدمير أربعة سيارات رباعية الدفع للتنظيم دون أن تسجل إصابات تذكر . و وفقا للمعلومات الشحيحة التي يكشف عنها بعض المهاجرين عبر مسالك التهريب ، فإن الحدود من الجانب السوري تقع تحت سلطة داعش و هم من يقومون باستقبال الوافدين ليلا عن طريق مكتب أمني . فقد كانت عملية الدخول تبدأ من الساعة منتصف الليل حتى الثالثة و النصف صباحا و يكون ذلك من جهة شرق تل أبيض عن طريق قرية المنبطح و قنيطرة و بئر عاشق أو غربي تل أبيض عن طريق قرية قمر الدين أو أبو جمعة . وهي كلها تحت سيطرة داعش و تعتبر خط تماس مباشر مع الحدود التركية التي تزيد عن 800 كلم. ما أن انطلقت الشاحنة باتجاه الرقّة حتى بدأت الحواجز. توقف القط في بلدة " عين العروس" التي لا تبعد سوى ثلاث كلم عن تل أبيض و بعد حوالي ساعة التقى بكشاف يعرف الطريق . كان يبدو يافعا له شعر طويل و لحية صغيرة . تكلم الشاب بلهجة عامية: >.
قال القط و هو يتصبب عرقا : <<مليح و لكنها رحلة صعبة ،ليس بعدها مشقّة>>.
الشاب بعد أن صعد إلى الشاحنة : << فوت فوت >>.ثم أردف قائلا: << يجب أن تشعر بالسعادة و أنت تمضي في بلاد الدولة الإسلامية>>.
القط: <<أكيد>>
سارت الشاحنة بين التلال في الطريق إلى الرقّة و قد اكتمل نصاب الحواجز الستة قبل الوصول إلى المدينة عبر تحويلات و طرق فرعية . كانت هناك مشاهد متناثرة لأبنية مهدمة . قال الشاب : << انظر إلى هذه البنايات ، لقد دمرتها صواريخ العدو>>.
استغرب القط من الشاب وهو يهمّ بالنزول ،لتعمّده عدم الخوض في حمولة الشاحنة . قال له: << نأكل يا شيخ ثم نتحدث و نتناقش في التفاصيل>>.منذ ذلك الحين لم يعد أحد يعرف مصير القط إلى أن شوهد ذات مرة في تسجيل مصور رفقة عشرات من المعتقلين متّهمين بالعمالة و الردة. لقد تم عرضهم و هم معصوبي الأعين و مكبلين و يرتدون اللباس البرتقالي. كانوا تقريبا يزحفون حذو مجموعة مسلحين ذوي أجساد ضخمة و طويلة . منهم من يلبس الأسود و آخرون يظهرون بلباس صحراوي . و اللافت في هذا التسجيل قيام حمد بتطبيق عقوبة الإعدام بحق القط بتهمة العمالة ليطلق عليه رصاصة في الرأس. و في بلاغ أمني وجيز أصدره تنظيم الدولة الإسلامية المكلف بملاحقة الجواسيس قال إنه أعدم مجموعة من الجواسيس يعملون لصالح أجهزة استخباراتية لدول معادية.



تتميز محافظة الرقة بمواقعها السياحية الجذابة حيث نهر الفرات و ســـــدّه الكــــــبير و بحيرتها الضخمة و قلعة جعبر في وسطها . عرفت باسم الرشيد لكونها تشكّل العاصمة الثانية للدولة العباسية . كما عرفت بسهولها الزراعية الخصبة . و أهم ما يميّزها أنها كانت تاريخيا مركزا عسكريا غنيّا بطرقه البرية و البحرية . لعل ذلك ما يبرر اتخاذها من قبل داعش عاصمة للتنظيم . و هي أول مدينة تخرج عن سلطة النظام السوري و قد باتت اليوم تعرف بعاصمة الخوف. ففيها تعرض الرؤوس مقطوعة فوق قضبان معدنية على محيط ساحة المدينة . وقد أكد شاهد عيان يتخفّى تحت اسم مستعار متحدثا إلى وكالة أنباء فرنسية أن الرقة تذبح بصمت. كانت الشوارع مليئة بالرجال الوافدين من كل الجنسيات حتى أنك ترى في اليوم الواحد من يحدّثك بنبرة خليجية و انجليزية و فرنســـية و ماليزية و مغربية ...
اتّكأ حمد على جدار مبنى المحافظة الذي سارع التنظيم إلى السيطرة عليه و اتخاذه المقر الرسمي له.كانت حركاته سريعة وهو يحدّث الشاب الذي كان قد التقاه القط قبل تصفيته.كان يبدو عليه أنه عضو بارز في التنظيم. و إلى وقت قريب جدا شوهد في تركيا.
كان الحديث منصبّا على وضع خطة للإيقاع بالقط الذي بات يخشى من نفوذه حتى أن حمد جازف بنفسه و تغلّب على مخاطر السفر لأنه كان يرى أنه من المهم أن يعرف كل خطوة سيقوم بها هذا المخرّب. وهذه نقطة ذات مغزى ، فقد كانت علاقات التنظيم بحـــزب العدالة و التنمية وثيقة جدا لا تفوقها حميمية سوى الروابط الصهيونية و الأمريكية.
استقبله مصعب بنشوة حماسية عارمة: << حياك الله ، على مدى هذه السنوات العشر الماضية لم يجل بخاطري أننا سنلتقي مجددا>>.
حمد مبتسما: <<أنت رجل رائع ، كنت أخشى ألا أتعرّف عليك>>.
مصعب: << أوه طبعا يجب الاعتراف أن سنوات التعديلات الجذرية بالنظر إلى ما كنت عليه أيام الجامعة كفيلة بأن تنسيك صورتي القديمة>>.
قال حمد و قد كشفت ابتسامته عن أسنان بيضاء: <<أنا أمزح أخي ، مشاريعك الاقتصادية جلبت لك مكانة عريضة و مرموقة دوليا و لكن أنت كما أنت فلذة من الفؤاد>>.
لا بد و أن ساعات قد انقضت وهما يفحصان الخطة خطوة بخطوة . كان حمد يقول : <<اسمع ،هناك شبكة متعاظمة من الحواجز و الطرقات الالتفافية في خريطة الطريق. الخطوة الأولى في الطريق بيّنة لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح. عليك إخباره بأن كل شيء على ما يرام .و الخطة تدخل حيز التنفيذ بعد غد إن شاء الله عندما ينسحب الجيش التركي تدريجيا من المنطقة المتركز فيها و تقع في قرية قمر الدين . من المفترض أن يجد في الغرفة عدد 23 جواز سفر سوري>>. و قد أحسن حمد بذلك صنعا عندما نهض متوجّها إلى سيارة كانت مشروخة بالخدوش. قام بإيماءة تنم عن تقدير عميق: << سيكون عليه أن ينزل في نزل فريزر بليس الكائن في حي بومونتي . خمسة دقائق كافية لسيارة أجرة أن تقلّه من ميدان تقسيم إلى هناك. سينتظر قدوم أحدهم صباح الغد و يخبره عن مكان انطلاق الشاحنة>>.
لم تتبدل لمحته المفاجئة حين أدرك القط و هو يتأمل البيوت المهدمة و الشوارع المعفرة،أن عودته مستحيلة. فلم يمض وقت كبير منذ دخل الشاب إلى مبنى يبدو كما لو كان وكالة شحن بري للبنزين حتى خرج خمسة عناصر من التنظيم ، صعد أحدهم فوق الشاحنة و ثبّت علما أسودا بات يرفرف من أعلى ، صوبوا رشاشاتهم إلي القط الذي أنزل عنوة من الشاحنة البيضاء و هم يكبّرون . كانت وجوههم داكنة . هز أحدهم كتفه و هو يشهر رشاشه في وجه القط قائلا: <<إنها لعبة الدسائس أيها العلج ، كنا متأكدين أنك ستلقى حتفك هنا .طبعا تريد أن تعرف أيها الوغد لكم من شهر و نحن نطاردك. كنت محصّنا و أنت ترتع في بلاد المغرب. بزق على وجهه بعد أن قاموا بتفتيش الجيوب الداخلية لسترته>>.
بدأت مخاوف القط تكشف عن نفسها ، لم يكن قلقا من احتمال تعرضه للاعتقال . كان الخوف الشديد الذي ما زال يلحّ عليه هو أن يذبح كما تذبح الشاة. أخبر الحارس الذي كان يأتيه بوجبته اليومية أن يترجّى حمد ليعدم رميا بالرصاص.
ضحك حمد قائلا: << حقا هذا مثير للشفقة، لا بأس سمعت ذلك>> .
في البداية لم يكن لدى القط أي رأي إزاء نظام بن علي حتى شرع النظام في اعتقال أخيه إبراهيم و صديقيه منصور و فتحي بتهمة الانتماء إلى الاتجاه الإسلامي. كان ذلك هو الوقت الذي بدأت تتشكل فيه مشاعر الكراهية للنظام. يقول وهو يصف تلك الأيام : توقفت سيارة الفرق المختصة بجانب منزلنا الكائن في معتمدية دوار هيشر . كنا نجلس في المقهي نلعب طرح رمي ، فهمت أنهم يقومون بحملة تفتيش روتينية فإذا بهم يعتقلون أخي و صديقاي فبدأت الأمور بالاشتعال في داخلي عندما علمت أمي التي لم تتحمل نبأ اعتقال ابنها المدلل فأصيبت بوعكة قلبية مميتة. كنت أشعر بالمرارة فانقطعت عن الدراسة .أقمت وقتا طويلا في ليبيا و أنا أعمل في مخبزة. و ذات مرة تعرفت على شيخ كان ذا علاقة جيدة بتنظيم القاعدة . لم يكن مهما بالنسبة لهم إلمامي بالعلوم الشرعية و لكنهم أوكلوا إلي مهمة تهريب السلاح . كان أكثر شيء استمتعت به هو التحضير لعملية سليمان من أجل إلحاق الهزيمة بالنظام التونسي . لقد تعرفت على مقاتلين يقاسمونني نفس الكره و بعضهم كان يعرفني في الحي . أدركت أن تهريب السلاح إلى تونس يتطلّب وضع خطة مفصلة تتدبر أمر الحواجز الأمنية الحدودية. و قد تمكنت في النهاية من تجنيد كادر في الجيش عرف بطمعه و شراهته لقبض الرشاوى. غادرت الشاحنة الحدود الجزائرية إلى التراب التونسي من حزوة بالجنوب و بالنظر إلى العرض السخي الذي منح للعسكري عبرت الحافلة نقاط التفتيش بأمان. كان النداء إلى محاربة نظام بن علي القمعي و الفاسد قد حرّض عشرات المئات من المقاتلين. إن المعركة الدامية بدأت بمواجهات عنيفة عند الليلة الفاصلة بين 23 و 24 ديسمبر 2006 . كان المدعو لسعد ساسي الذي قتل في المواجهات التي جدّت في جانفي من العام نفسه قائدا للمجموعة. أذكر أنه قال لي في حديث عارض: << أنه كان عنصرا سابقا في الحرس الوطني و سافر إلى افغانستان و البوسنة و الجزائر للتدرّب على القتال و حروب العصابات الخاطفة>>. عملنا وفق أهداف محددة تنشد تكوين تنظيم مسلح للإطاحة بحكم بن علي بالقوة. لقد بايعنا لسعد ساسي على ذلك في مخيّم كنا قد أقمناه بقرنبالية و اخترنا " جيش أسد بن الفرات" كاسم للتنظيم.إن التفجير الذي وقع و المواجهات الضارية التي اندلعت تؤكد أن أسامة حاجي الذي اعتقل في سوسة قد كشف عن تفاصيل العملية.إلى هنا بدأت ألعب دورا داعما للمخابرات فرض عليّ كضمانة لحريتي. قال لي الملازم الأول بعد أيام مؤلمة من التعذيب ما فحواه: << لن أشرح لك ما يمكن أن تضمنه بانحيازك لنا>> .
قال القط ساخرا و تملأ وجهه ابتسامة خوض المجازفة : << تريدون مكافأتي أم استغلالي؟>>
الملازم:<< الأمر في غاية البساطة ، تغافل عن حقيقة أنك سجين و انظر فقط إلى الهبة السخية التي سنمنحها لك. أنت تعرف أكثر مني ،التهريب عمل مربح خصوصا عندما تعمل في الظل>>.
القط: <<ماذا تقصد بالظل؟>>
الملازم: << نقترح عليك أن تعود إلى سالف نشاطك و لكن بنصيحتنا كمتمرّس لتواجه الإرهابيين و ليس لك من خيار ثالث: المؤبد كوشمة عار أو الحرية فداء للوطن. أنت تعرف أكثر مني أن اعتناق الوطنية دليل على صلاح إيمانك. أعرف أنه من الصعب عليك أن تشي بمن كنت لهم عضدا و منتسبا و لكن هل تستطيع أن تخبرني ماذا فعلوا سوى القتل؟ أؤكد لك أنك ستجد عزاء التوبة في وطنيتك. أنظر إلى نفسك أنت الآن في هذا السجن المهجور و هذا الباب الحديدي المقفل الذي يغطيه الصدأ>>.
استسلم القط للتفكير وهو ينظر إلى زنزانته المتسخة، عاد بذاكرته إلى شوارع دوار هيشر الضيقة و أقنية الصرف الصحي التي تصدر روائح كريهة. كان الملازم تقريبا يعرف ما يفكر فيه ، هو الآن يقول لنفسه : ترعرعت في البؤس و هذا العرض سيؤمّن لي الفرصة لمغادرة هذا الوكر العفن.
سأله عن قراره فأجاب: <<ما هي الخطة؟>>
الملازم: << لا تقلق بشأن ذلك، سيبدو الأمر كما لو كان هروبا. ستمضي عبر الصحراء إلى الجزائر و ستجد أحد رجالنا هناك و لكن لا تنسى: اجعل كل همك وطنك، مفهوم؟>>
القط: <<مفهوم>>.
في تلك المرحلة نشأت صداقة بين القط و مصعب المكنى أبا حذيفة. على أي حال الشيء الوحيد الذي سمعناه من مصعب هذا الرجل المتمرّس بالأسفار أنه قال: << لقد أصبح القطّ معروفا عند التنظيم بمظهر وهمي وهو مجرد خنزير ماكر و منافق . من الواضح أنها إرادة الله التي شاءت أن يولد بيننا مرتد. لقد أعجبت بشجاعته و حذقه. من المحتمل أن نبأ خيانته قد حطّ من عزيمة المجاهدين. لقد أردنا دائما أن نشكّل مجتمعا مثاليا ، أردنا أن نوجد جميعا من أجل بعضنا بعضا . ما الذي تستطيع أن تفعله حين تطعن من الخلف ؟ لا شيء سوى الانتقام.لقد كان غرضه أن يتغلغل في التنظيم لذلك كان كل يوم يبرهن على الولاء. لقد حكمت علي الأقدار أن ألتقي الرجل الخطأ. كان يجلس بجانبي في الطائرة التي أقلتنا من اسطنبول إلى اليمن. كان يقول و نحن نتكلم عن اليمن: << لقد أحببت هذا البلد. لقد كاد أن يكون لي وطنا ثانيا>>. سألته عن الفور: <<و ما هو موطنك الأول؟>>
القط: <<تونس>>
مصعب: <<تشرّفت ، أنا من الجزائر>>، ثم استطرد قائلا : << نحن على العموم إخوة في الله ،غير أن بعضنا يستمتع بطريقة مخالفة فيمضي مستعجلا بعشقه لعصبية الانتماء القطري>>.
القط: << و هل لهذه المشاعر مصدر شر؟>>
مصعب: << الشيء الأكيد أن جيشان العواطف الذي نلمسه اليوم باسم الوطــــنية و النقابية و الطبقية يسخط الرب>>
القط: << عصرنا يا أخي يبدو كما لو كان مخالفا للتوحيد ، لقد نفينا الربوبية لصالح توابيت أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تختلف في جوهرها عن الوثنية. إنها وثنية مغوية تتغنّى بحقوق الإنسان و القومية و العالمية ...>>
مصعب: << إن أفعى الغرور تشحذ في طباعنا الردّة>>.
و فيما نزلا من الطائرة مبتعدين عن مدرجها بدا القط كما لو كان يريد التودد إلى مصعب الذي ظنّ أنه ربما يكون مكروبا لخطب ما، فالرجل يبدو في غاية التواضع و ربما لم يجسر على مصارحته بأنه في ذائقة. قال في نفسه على كل حال ، هو مجرد ظن.
كان الوقت قد اقترب من منتصف النهار،مضت ساعتان تقريبا لكي تفرغ الطائرة حمولتها ، فالأمور ليست سهلة هنا و قد بدت معاملة شرطة المطار التي كانت في شكل مجموعات مسلّحة، قاسية .اقتربت ساعة الافتراق ، لم يكن مصعب يعلم أية تفاصيل عن خط سير الرحلة . عند وصوله إلى تعز. تلقى رسالة نصية من هاتفه الجوال مفادها: << الحمد الله على سلامتك . ستقطع إقامتك بالنزل، أنت الآن قريب منا . اذهب إلى نزل اليمامة. اطمئن ، سيقلّك أحد الإخوة غدا صباحا و سيرتّب كل شيء. اعتمد عليه>>.
كانت الرحلة مكللة بالمصاعب؛ و لكنها حسب رأيه تستحق المغامرة . الشرط الأول الذي فرضه الحاج مختار على مصعب هو أن يغلق هاتفه.
يروي له الحاج مختار وهو يتلافى منعطفات حرجة كادت تقلب الشاحنة المهترئة : << من أكثر الأشياء المقلقة خلال الأيام القليلة الماضية انتشار قوات الحوثي .وهو ما وضعنا تحت ضغوط شديدة>>. أعطاه تفاصيل عن الحوادث المميتة التي جرت خلال اليومين الماضيين بسبب ارتفاع وتيرة القصف لمليشيات الحوثي و قوات صالح.قال أبو مجاهد الذي كان يجلس في الخلف و هو منهمك في تنظيف قطعة سلاح من نوع كلاشينكوف :<< أودّ أن تعلم أن الوضع العسكري مشتعل على طول السلسلة الشرقية>>.
بعد مسيرة نصف يوم استدارت الشاحنة إلى طريق ترابي في شكل منخفض. سريعا ما لاح أمامه رجال يحملون بنادق. لوّح المسلحون لثلاثتهم بالتحية . ضمّ المـــــكان مدرعات و جرّافات استخدمت لحفر الأنفاق. أعلن أبو مغيرة ذو الوجه العريض : <<أين أنت أيها الرجل؟ هل يجب عليّ أن أنتظر كل هذا الوقت لأظفر برؤيتك؟>>
ضحك مصعب وهو يركض نحوه: << لو تركت الكلمات تمضي مع الريح لباحت لكم بحكاية شوقي لكم>>.
أبو مغيرة:<< يا رجل الجماعة بحاجة إلى خبراء لمساعدتهم في بناء التنظيم على غرار ما فعلتم في سوريا و العراق>>. قال مصعب و هو لا يزال يعانقه، ضاحكا: << مع تزايد طموحات الجماعة ستزداد الحاجة للنساء أيضا>>.
أبو مغيرة: << النساء أهداف سهلة يا أبا حذيفة ، أخشى أن أقحم نفسي في طريقك ، لم أنت هنا؟>>
مصعب:<< لماذا ؟ طبعا تدرك لماذا ؟ هل سننتظر إلى أن تتم تصفية كل كوادرنا النشطة. التنظيم يتعرّض إلى الاختراق يا أبا مغيرة. إلى متى و نحن هكذا و وضعنا بات غير آمن بشكل كامل. و تعرف أيضا أننا بذلنا جهودا لإيواء المجاهدين الجدد الوافدين من كل بقاع الأرض من لحظة دخولهم إلى سوريا. ولكن الطواقم التنظيمية المتقدمة تتحرّك بتوجيهات مباشرة من قيادتنا و هذا ما يملي علينا تقنيات عالية للرقابة بالإضافة إلى تفعيل قوة الرد السريع>>.
أبا مغيرة:<<ما الأمر، لقد أقلقتني>>.
مصعب: << إن مصادر معلوماتية للتنظيم تؤكد أن هناك مجموعة داخل مخيّمكم تعمل لحساب حزب الله الرافضي خصوصا بعد سلسلة حوادث الاقتحام في الجبهة الجنوبية ضمن العمق السوري امتدادا إلى الحدود الشرقية للبنان. و الوثائق السرّية المسرّبة عن تحركات التنظيم لم تعد سرّا ؛ و حزب الله يعمل منذ مدة على خطوط الجبهة الجنوبية.جلبت لك تعليمات على غاية من الأهمية حول إعادة انتشار قواتنا هنا>>.
أبو مغيرة:<< و هل لديكم فكرة عن الخونة الذين يقدمون لهم دعما لوجستيا ؟>>
مصعب: << تجري عمليات تحرّي واسعة و معقدة ، من الصعب تحديدهم حاليا، نحتاج إلى فترة من الزمن . في انتظار ذلك سأقود هذه المهمة بنفسي. و سنبدأ بالعملاء لتهريب السلاح من جيبوتي و الذين يشتغلون مع القيادي في المؤتمر الشعبي العام حليف الحوثيين>>.
أبو مغيرة: << إن لم أكن مخطئا أنت تقصد فارس مانع>>
مصعب: << بشحمه و لحمه>>.
هذا و قد بيّنت المعلومات و التحقيقات ،بعد المداهمات التي شـــنّها التنـــــظيم و أسفرت عن اعتقال باسم زروق، تاجر سلاح بدأ العمل ببيع الأسلحة بعد نشوب الحرب بين الحوثيين و القوات الحكومية. و يحكى أنه كان يقاتل مع تنظيم القاعدة و قرر الدخول في سوق تجارة السلاح بعد تكوينه لعلاقات مع شخصيات نافذة في الجماعات المسلحة التي يعمل لصالحها.و بخلاف ما يشاع ها هو تنظيم الدولة يصنفه كأخطر جاسوس ينشط في سواحل محافظات تعز و لحج الواقعة غرب اليمن لصالح الروافض. كان ممتلء الجسم و يبلغ من العمر 37 عاما .لم تكن المخابرات الإيرانية تعلم حقيقة الذين ألقوا القبض عليه. وهي حتى الآن و بعد مرور أربعة أشهر من تصفيته، ما تزال تبحث عنه.
قبل مغيب الشمس بدأ عناصر التنظيم يتزاحمون ليتجمّعوا في ساحتين متقابلتين فيما اقتيد زروق مكبلا بالسلاسل والأغلال ،كان يسير ببطء . لقد بات من الواضح أنه يعمل لحساب التحالف الشيعي السوري ، اللبناني ، الإيراني و اليمني.وهو من مافيات السلاح الذين يخوضون مقاولات قذرة في جحيم الحرب التي تضرب منطقة الشرق الأوسط. لقد تم القبض عليه وهو يحاول الهرب بهوية مزورة . لقد بقي متواريا عن الأنظار لعدة أيام.لقد سرد قصته كاملة عند الاستجواب. تحدّث عن مرحلة ما قبل تجنيده من قبل حزب الله . كان يعمل ممرّضا لتنظيم الدولة حين هاجمهم مسلحوا حزب الله و تم اختطافه ، هكذا دبّرت المسرحية فيما بقي مصير الآخرين مجهولا. لقد حدث ذلك غرب العاصمة اللبنانية وقد استخدموا مختلف أنواع الأسلحة الرشاشة و القاذفات . مما أدى إلى إبادة المخيم و أسر البعض المتبقي و من بينهم باسم زروق. لقد كانت مهمته بعد أشهر من الأسر المزيف أن يفرّ من المعتقل و يسافر إلى مسقط رأسه في تعز باليمن ليعمل كسمسار للأسلحة .لقد جرى ذلك بتخطيط محكم لضابط يدعى الحج حسين كان يقاتل ضمن صفوف أحد تشكيلات الحزب منذ أعوام. وفي حديثه أضاف زروق و هو محاط من كل الاتجاهات: << قد يبدو اعترافا صعبا و لكنها الحقيقة>>.و حين سئل عن نوعية التسريبات السرّية التي أفشى بها آنذاك قال:<< كنت مسؤولا بشكل مباشر على تجميع معلومات للقيام بعملية هدم الأسوار. و تعني تصفية قيادات الصف الثاني من التنظيم >>.كما حدّثهم عن صقور الصحراء و تمثّل عصب القوات السورية ؛ وقد أسسها الأخوان أيمن و محمد جابر الذين حصلا على مبالغ كبيرة من خلال استغلال برنامج النفط مقابل الغذاء في التسعينات في العراق و استثمرا هذه الأموال في زرع مليشيات أصبحت بعد فرض العقوبات على سوريا الذراع العسكري على الأرض لنظام الأسد بعد قوات النمر ، وهي تنتشر على طول الساحل السوري . وضعوا عصابة سوداء على عينيه فأدرك أن فصل القتل غير المعهود قد بدأ. سمع صوت أحذية عناصر التنظيم الثقيلة ، فقال في نفسه: << هذا الأمر حدث للكثيرين>> ثم صاح: << أيها القاتل نفّذ عشقك فليس ثمة داع للهلع>>، فكانت مائدة الموت سريعة. هذا تماما ما كان يبحث عنه.
كان مصعب واحدا من أهم أعضاء التنظيم و قد قاده دوره إلى تولي منصب رفيع في مكتب أمن الدولة الإسلامية و قد عهدت إليه مسألة ضمان أمنها و قيادتها. كان أكثر شيء يستمتع به صداقة المقاتلين . فقد كانت هناك مجموعات من الفرنسيين و الأمريكيين و العرب . وكان كل من يعرفه من المقاتلين يشعر بأنه في صحبة شخص مهم. لقد استطاع في هذه المدة الوجيزة التي قضاها في اليمن متابعة جميع التطورات الجديدة التي تحدث في حرب التنظيم ضد الحوثيين . لقد قام بتدمير شبكات التجسس التي زرعوها. عندما قابل القط للمرة الثانية، كان منكبا على مراجعة نسخ من التسجيلات لاجتماع سري عقده في صعدة. قال له أبو مغيرة في آخر محادثة جمعتهما قبل عودته للرقّة: <<سنخطط لأمر كبير و ستسافر غدا إلى أنقرة لتقابل شخصا يدعى القط أحد كبار تجار السلاح التابع للتنظيم>>. استطرد مصعب قائلا: << لقد استهنت بذكاء الرجل ، أظنك تقصد من سافر معي في نفس الطائرة>>. يستطيع مصعب أن يتكلّم الآن عن الشهور السبعة التي قضاها مع هذا الخائن. ففي كل مرة كان يلاحظ بأنه يخفي شيئا ما . هناك جانب مظلم لم يرد أن يظهره للآخرين. لقد كان بعيدا و نائيا عن الجميع. الحوار الذي دار بينهما كان ودّيا. نظر إليّ بمرح. قائلا: << سلام الله عليك، لم أتوقع البتة أن تكون صلب التنظيم>>.
القط: << أما أنا فقد كنت أعرف عنك الكثير>>.
مصعب :<< لعلك بحثت عني>>
القط : << أوه لا مؤاخذة ، كنت أقصد شيئا آخر ، لقد سمعت عنك>>.
مصعب: <<فهمت>>
على الرغم من أنه ليس هناك ما يوحي بالقلق فقد تغيّر وجهه فجأة. إنه يذكر ذلك اللقاء بأدق تفاصيله . لقد نظر إليه مصعب طويلا ثم نهض من مكانه و أعلن له جازما: <<هناك قاعدة رائعة في عملنا: لا تطلق العنان لفضولك و تقيّد بالتعليمات. ذلك هو القانون و لا شيء غير ذلك>>.
إن أشد ما يحيّره و لا يعرف له جوابا ،لم عرّض نفسه للخطر لكي يفلت من كمين الجمارك الجزائرية في منطقة الصحراء الكبرى شمال عين صالح. لقد كان على وشك الاعتقال أثناء تهريب شحنة السلاح القادمة من ليبيا. لقد فرضوا عليهم طوقا أمنيا اعتمد على إستراتيجية الصدمة فوقعت اشتباكات عنيفة أسفرت عن تصفية ما يزيد عن خمسة عشر مجاهدا و إصابة القط بشظايا خطيرة في قدمه. لقد تحرّك على عجل و واجه رجال الأمن لكسر طوق الكمين.و ما كان أشد ارتياح مصعب و انتعاشه بشجاعة القط.لقد كان واسع الحيلة و يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل عند الكوارث.إنه لا يطيق أن يصدّق خيانته للتنظيم حتى أنه رفض التعليق ذات مرة على أمر كهذا. إنه الآن مكدود متدثر برشاشه في هذه الصحراء الواسعة وهذه المغاور التي تغوص في الأرض و تمضي إلى النهاية.
دعونا نتحدث عن هذا الجانب الخفي في شخصية القط لم فعل ما فعل وفوّت على الجمارك الجزائرية مثل هذا الصيد الثمين. لقد تحدث مع مصعب بلا مواربة. كان صريحا هذه المرة. قال له: << لا بد أنك تعرف كيف بدأ هذا الأمر كله. أنا في تلك اللحظة التي أبليت فيها لكي ننجو ، كنت أنتقم من نفسي ، لقد أدركت أنه ممنوع أن تهدر كرامتي ، أجل شعرت بالحياء عندما حدقت في عينيك و رأيتك مصمما على المواجهة و أنت تتلو القرآن . آوه من فرط خشيتي عليك عرفت أنه ليس بوسعي أن أتراجع. لقد دغدغني كــبرياء الوفاء و الاحترام الذي تكنّه لي. كان يمكن أن أشهر في وجهك رشاشي لينتهي كل شيء>>. ظل مصعب صامتا ، رمقه القط بنظرة مستطلعة ثم قال: << تريد أن تعرف لماذا عبثت معكم كل هذا العبث؟ مهما يكن من أمر لا حاجة لأن يقال عني الكثير، أنا لست ملاكا.انظر لديّ ذهن بليد بالفطرة و يخشى السجون و التعذيب و الشرطة... أجل لقد قبلت المقايضة ، أنا نفسي انخدعت من الدهاء الذي أظهره لي ملازم الشرطة الذي رآني لقمة سائغة التقطها ببراعة . أنا الآن رجل طواه النسيان و فيما عدا ذلك ماذا يهمني ؟ ألست كائنا إنسانيا هزيلا تعلّم مزيدا من الأشياء في أعماق هذه التجربة الواقعية ؟ أنا لا أكـــاد أحـــــل معضلة ذاتي و لكنني انتفعت بصداقتك التي سافرت في أعماقي لأصل إلى خاتمة الطريق>>.
يدير مصعب ظهره للقط و ذلك بحركة لطيفة من رأسه ثم قال: << يهمني على الدوام أن أتذكر أنك لم تخدعني ،لأن كل واحد منا يحمل نقيضه في ذاته>>.
يهمس القط إلى مصعب: << يا حذيفة لقد أقسمت على الولاء مذ تعرفت عليك. لقد كانت صداقتك بمثابة النور الذي أضاء لي الظلمة . اسمع يستطيع المرء أن يكون واضحا حين يسمع نداء على الأغلب هو نقطة النهاية. هذا يعني ختاما، لكي لا تظل معذب النفس ، أن هناك تمييزا تافها قد لا يعني لك شيئا .أجل لقد أنجزت المهمة ، هاجمت التنظيم من الخلف كقطة سوداء ، لكن هذه اللعبة التافهة افتضحت على صخرة صداقتنا.يمكن أن يقال أي شيء عني، بل إنه لا يمكن أن يكون الأمر إلا كذلك، هذا كله مفهوم و لكن يجب ألا تضللك هذه النعوت التي تلسعني و إلا كيف لي أن أرحل مرتاح البال. فلتتذكر ذلك يا صاحبي ، أجل كنت رخيصا ، دنيئا و إبليسا حتى ، لا يهم هم أحرار فيما يقولون عنّي و لا أنتظر منهم أن يحزنوا ربما هناك فيهم من يرغب في طقطقة عظامي لكن بما أنه قد بات واضحا لي فاعلم أنني لم ألطّخ صداقتنا لأنك جدير بذلك. يا لها من حماقة أيها الصديق الطيب، لو أنني عرفت أنني سوف ألتقي بك لما عرّضت نفسي لسخرية القدر. لو أن ... لو أن ...تذكّر هذه الحكمة الرخيصة لصعلوك باع نفسه ، و حيث لهيب الصداقة غمره؛ جفّ منه الوجود.
لم تمض دقائق حتى كان رجال التنظيم قد زحفوا داخل الغرفة . مدّ مصعب يده قائلا: <<لا حاجة لتوثيقه>>.قال القط: << يجب ألا تحزن يا صديقي ، كل امرئ مسؤول في صنع سعادته أو شقوته . وداعا...>>
كان مصعب ينظر إليه و يكتم في أعماقه بكاء طفوليا ، ينفجر أخيرا قائلا:<<لا تثريب عليك. سأظل أذكرك كصديق. أعدك بذلك>>.
أصبحت قضايا مصعب تتزايد بشكل لافت فلم تسلم منه حتى الدول التي عرفت بتقاليدها الراسخة في مقاومة الجريمة العالمية و العابرة للحدود مثل فرنسا و بلجيكا و اسبانيا . كان معروفا بمهارته في التخفي و استطاع في أكثر من مناسبة اختراق الحواجز الأمنية بجوازات سفر مزيفة . وفي أكثر من مناسبة كان يتجول في شوارع تركيا بهيــــــئة قديس و وجهه مملوءا بالتسامح . كان يستفيد من قدرته على التنكر و تمرير المعلومة بشكل فوري لتجنب الأحداث قبل وقوعها. كان يضع احتياطات أمنية لشل أي عملية اعتقال تحاك ضده. فعيون خلايا الاستطلاع تحرسه في كل وجهة هو مولّيها. كانت له علاقات مع دول تساعده و تدعمه. عرف مصعب بلياقته البدنية و حسن التدريب. ذات مرة أوشكت يد النظام السوري أن تمتد إليه. فقد تسابق الجيش لقطع الطريق عليه بعد تسريب معلومات تفيد أن هناك اجتماعا سريا لقيادات التنظيم. و رغم كون الضربة جاءت استباقية ، فقد أمسك بمدفع رشاش اجتاز الطوق كالريح بقامته الممشوقة و المرنة. كم كان ذلك عجيبا ، لقد رشق القوات النظامية من كل الجهات كما لو كان كتيبة بأسرها.كانت القنابل تتناثر عبر السماء المتدثرة بضباب كثيف.كانت تشع من عينيه بسمة خفيفة وهو لا يكفّ عن مراقبة حمد. لم يسبق له أبدا أن رآه بهذه الصورة. ربما أصابته شظية ما. كان حمد من بين المجاهدين جميعهم الذي يعتمد عليه خصوصا بعد انسلاخ حازم عن التنظيم.مضت سنة تقريبا ولم يعد يعلم عنه شيئا . كانت آخر نظرة ألقاها عليه قبل يومين من مهاجمة السجن. لقد أدهشته اللهجة القوية التي يتكلم بها .كان يصيح: << لقد أخطأنا، كلنا يتحمّل مسئولية ذلك و لم يبق لدينا أمل في التوبة>> .كان طوق السلاسل الملفوف حول قدميه يحدث طقطقة وهو يصرخ:<<كنت دوما تشحذ السكين >>. لقد ثارت ثائرة قائد الجيش السوري حين رأى جنوده يتزاحمون لنقل جرحاهم و الإصابات البليغة التي تكبّدوها. بعد ذلك حدثت ضجة كبيرة في الرقّة و شوهد مصعب و هو محاط بقادة التنظيم . كان يسير في مقدمتهم و هم يفتخرون بشجاعته و ولائه. بادلته رباب بعض الكلمات أثناء مروره حذو النسوة اللاتي كن يرفعن رايات سوداء و يعددن موائد الطعام . في هذه المرة لاحظ أن نظراتها كانت ناعمة و تعابيرها تكاد تلتهم وجهه. تظاهر أنه لم يفطن إليها رغم أنه لا يدري لم شعر بأن تلك النظرات اخترقته كخنجر من الشوق غرز في قلبه.تذكر خصلات شعرها الذهبية قبل أن ترتدي النقاب وهي في الجامعة ؛ و طعم ضحكاتها الحلوة ، حين كانا يسيران جنبا إلى جنب لملاقاة حازم بعد أن أفرجت عنه السلطات الفرنسيـــة و من ثمة سلمته إلى الجزائر.كان وقتها مرغما أن يقمع خواطره الخبيثة وفاء لتوأم روحه حازم.قال لهاخلسة : <<ألا تخافين ، هذا جنون؟>>.



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشهد السادس ، رواية ريح من داعش
- المشهد الخامس ، رواية ريح من داعش
- المشهد الرابع، رواية ريح من داعش
- المشهد الثالث ، رواية ريح من داعش
- المشهد الثاني من رواية ريح من داعش
- المشهد الأول - رواية ريح من داعش-
- في مئوية عبد الناصر، هل الناصرية ماض نبكي على أطلاله أم مشرو ...
- ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا
- العولمة و انشطار مفهوم السيادة
- مكانة عصمت سيف الدولة في بلورة فهم تقدمي للفكر القومي
- حين تكون قوميا تقدميا
- استقالة محسن مرزوق : صناعة التحولات و كسر النموذج المقفل لحز ...
- رمال القحط
- معقولية خطاب غير خلاّق
- رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية التونسية
- القمع الفتّاك للفكر
- صرخة في مشهد
- ناخب فطن يبوح بأسرار عميقة
- صراعات مكشوفة
- عقاب مكرور


المزيد.....




- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا لاغة - المشهد السابع ، رواية ريح من داعش