أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رضا لاغة - ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا















المزيد.....


ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 5255 - 2016 / 8 / 15 - 18:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هل هناك ما يمنع لكي نلوّح بإن سؤالنا ، ضمن هذا الطرح الإشكالي ، لا يتعلق بشكل أساسي بالكوسموبوليتية بقدر ما يتعلق بالديمقراطية في عصر الكوسموبوليتية القانونية.؟
من هذه النقطة يبدأ التصور الكوسموبوليتي ليورغن هابرماس الذي يرى أنه في عصرنا الحالي ، كل تصور فلسفي يشرّع للسياسة العالمية لا بد أن يأخذ بالاعتبار الأفراد والدول، بوصفهما العنصرين المكونين للذوات المؤسسة لدستور عالمي" لذلك فهو يقرّ في البداية أن (خصومته) مع رولز هي مجرد خلاف عائلي، فهو يوافقه في منطلقه الكانطي الذي هو (أخلاقية الاستقلال والرشد) القائم على الاستغلال العمومي للعقل. بيد أنه يتعرض بالنقد لمفهوم (الوضعية الأصلية) الذي يراه عاجزاً عن تفسير وضمان الموقف غير المتحيز الذي ينبع منه مبدأ العدالة من حيث طابعهما الإجرائي. كما يرى هابرماس أن رولز لم يكن واضحا في تصوره للحياد الإيديولوجي حول معنى العدالة ، لأن الإجماع التوفيقي الذي يتحدث عنه رولز يتطلب مسبقاً جهداً اقناعياً ودفاعاً عن خيار معياري. فالإجماع لا يمكن أن يحصل إلا على أساس علاقة معرفية بين صلاحية النظرية والبرهان على حيادها الإيديولوجي كما يتجلى من النقاشات العمومية ؛ لذلك نعتبر أن الإستراتيجية النظرية التي اعتمدها رولز أدت إلى إخضاع مبدأ الشرعية الديمقراطية للمبادئ الأساسية لليبرالية. ومن هنا أخفق في مشروعه الأصلي الذي هو التوفيق بين المفهوم الحديث للحرية (حرية الوعي والتعبير والملكية…) والمفهوم القديم لها(حقوق المشاركة والانتماء). " فالمواطن ليس له دور محوري في التأسيس الديمقراطي باعتبار أن المبادئ الرئيسية الضابطة للحريات العامة وللتعددية تتشكل في لحظة الوضعية الأصلية. ومن هنا فإن فعل إنشاء دولة القانون الديمقراطية ليس بحاجة إلى أن يستعاد في الظروف الدستورية لمجتمع عادل تشكل من قبل، كما أنه ليس من الضروري إعطاء شكل دائم لمسار إنجاز الحقوق. وهكذا يؤول هذا التصور إلى إضعاف المقاربة الديمقراطية التي تعني مساراً دائماً ومفتوحاً للحصول على الحقوق والحفاظ عليها".
يمكن أن نفهم من هذا المنطلق الفوارق التي تفصل بين مفهوم العدالة عند هابرماس بوصفها مفهوم أخلاقي عام. إنه بعبارة أوضح حد معياري رئيس في نظرية أخلاقية عامة وشاملة ؛ و مفهوم العدالة عند رولز، لا بوصفه نظرية عامة؛ و إنما نظرية مقيدة المجال ومحددة الهدف. فقد فُصلت أساسا وفي المقام الأول والأخير لكي تعالج ما سماه رولز (1971) بـ بنية المجتمع القاعدية . فإذا كان هابرماس يفهم أخلاقيات التخاطب التي طورها من حيث إنها نظرية أخلاقية عامة – أي نظرية تتناول السلوك القويم على جهة التعميم – فإن رولز ينفي صراحة أن تكون نظريته أخلاقية بهذا المعنى العام الذي يقصده هابرماس. لهذا السبب يتعين علينا، كما يقول فينلايسن، "ألا نستدل من استعمالهما اصطلاح العدالة على أنهما يعرضان نظريتين متنافستين لرصد الإشكال نفسه. نحن في حقيقة الأمر أمام إشكالين: أحدهما خاص (رولز)، والثاني عام (هابرماس). نظرية العدالة تتناول المشكل الخاص، و أخلاقيات التخاطب تتناول المشكل العام. وكل مقارنة بين النظريتين تتغافل عن هذا الفرق الجوهري بين المشروعين ، لن تخلص على الأرجح إلى استنتاجات ذات معنى" .

المقارنة إذن بين رولز و هابرماس مفيدة لكنها في الوقت عينه تغدو مضللة عندما تتجرد من سياق المشروعات الفلسفية لكل منهما ؛ فأطروحة رولز ترتبط بمفهومه الميتافيزيقي عما هو سياسي . فهو يهدف إلى وضع مفهوم مستقل لكل ما هو سياسي يدعم مفهومه للعدالة كإنصاف ؛ أما مشروع هابرماس فهو شامل ، لأنه معني بجميع نواحي النظام الاجتماعي ، بما في ذلك أبعاده الإيتيقية و السياسية القانونية.
استنادا إلى هذه الخلفية ، القانونية و بقطع النظر عن الفوارق القائمة عند رولز بين الشعوب يجب حسب كارل شميت إعادة إنتاج تصور جديد لمفهوم القانون نفسه . إن مهمة كهذه تعيدنا إلى تلك اللحظة الشيّقة التي امتلك فيها الإنسان للأرض. إنها تعيدنا إلى نوموس العالم الأرضي الذي تكوّنت منه الإرهاصات الأولى للحياة السياسية. يقول:" إن حيازة الأرض أسّس القانون ضمن وجهتين متلازمتين : نحو الداخل ، بمعنى في صلب المجموعة التي حازت الأرض لأن أول جهد بذل لاستصلاح الأرض هو الذي انبثق عنه النظام الأول لمجمل أشكال الملكية ... نحو الخارج ، بمعنى أن الجماعة التي حازت أرض ما ستجد نفسها في مواجهة مع جماعات أخرى تستحوذ بدورها على قطعة من الأرض" .
إن أهمية هذا الطرح الذي يعرضه كال شميت تكمن في تلويحه أنه لا سبيل لبناء مقاربة واقعية في السياسة دون أن نستعيد أطوار النزاع الذي ولد من صميم الحياة العملية للإنسان. " ففي كل الأحوال ، إن حيازة الأرض سواء في علاقة بالخارج أو بالداخل هي العنوان الحقوقي الأصلي الذي تأسس عليه القانون لاحقا".
على ضوء ما تقدم يأتي التحليل الجيوبوليتيي كأحد المداخل النظرية لفهم سلوك الدولة" الأرض " النزاعي . و تختص النظرية الجيوبوليتية بدراسة الدولة من وجهة النظر السياسية في إطار واقعها الجغرافي، وترى أن تطور الدولة ونموها وارتقائها يرتبط ارتباطا وثيقا بالعوامل الجغرافية، مضافا إليها قدراتها المادية والمعنوية، والمهم هنا أن الدراسات الجيوبوليتيكية –حسب كارل شميت - تهتم بالدولة لا على أساس مفهوم جامد، بل باعتبارها كائنا حيا ينمو ويتحرك، يرتبط بأهداف ومقاصد سياسية معلومة ومحددة، وتأتي في مقدمة هذه الأهداف ما يعرف بـالمجال الحيوي، بوصفه ،وفق التصور الجيوبوليتيكي، الإطار المكاني أو الحيز الجغرافي الذي تعتقد الدولة أن التحرك باتجاهه يعد ضروريا لتحقيق أهداف سياستها العليا.
ومن هنا تنطلق النظرية الجيوبوليتيكية عند كارل شميت التي ذاع صيتها في أمريكا كأحد الركائز في علم الجيوبوليتيكا وهي أن الدولة-ككائن حي- له أهداف يتطلع إلى تحقيقها، وذلك من خلال توظيف الحتمية الجغرافية التي تحكم وجودها.
يتساءل كارل شميت: لماذا تسلك الدول –الدول الكبرى بالأخص- سلوكا توسعيا نزاعيا؟ وكيف يؤثر التفاعل المتبادل بين المعطيات الجغرافية والعمليات السياسية على توجه الدول في مسار التوسع والبحث عن مناطق نفوذ جديدة "مجال حيوي".

توصل شميت إلى صياغة النظرية الجيوبوليتيكية "نظرية المجال الكبير""Grossraum" حيث ينظر هذا التصور إلى عملية تطور الدولة على أنها الطموح إلى اختيار الحجم المكاني الأوسع مدى، ومبدأ التكامل الإمبراطوري هو التعبير المنطقي والطبيعي عن الطموح الإنساني إلى التركيب، وعلى هذا فإن مراحل التوسع المكاني للدولة تتطابق مع مراحل تحرّك الروح الإنسانية نحو الشمولية.
هذا القانون الجيوبوليتيكي ينسحب أيضا على المجالات التقنية والاقتصادية، حيث يبين شميت أنه بدءا من لحظة معينة يأخذ التطور التقني والاقتصادي للدولة بمطالبتها بتضخيم سياستها كما ونوعا، ويرى شميت أن تطور نوموس الأرض يجب أن يؤدي إلى ظهور الدولة_ القارة الـ"Grossraum" كضرورة تاريخية وجيوبوليتيكية .

و لكن لماذا نقول عنها بأنها ضرورة جيوبولوتيكية؟
يشير هابرماس في كتاب " ما بعد الدولة ـالأمة " إلى صعوبة تصوّر وجود جماعات سياسية قادرة على الانفصال بذاتها ومواجهة المعايير الجديدة التي فرضتها العولمة . في هذا السياق يستعرض وجهتين متضادتين: الأولى تتصل بالسيادة التي بموجبها تتأسس الدولة ؛ بصرف النظر عن اكراهات المكان و الزمان . وحدها الدولة ــ الأمة ، في نظر هؤلاء ، الضامن الحقيقي لسلامة للهوية الوطنية و الذود عن حدودها. و كل انتهاك يطال سيادة الدولة ــ الأمة هو هتك و تقويض لوجودها ذاته. أما الثانية فهي تتطلع إلى مجتمع عالمي تتلاشى فيه الدول ضمن هوية أشمل مما يعني تأسيس دولة عالمية تنبني على وعي كوسموبوليتي يتجاوز الانتماء القومي نحو أفق أرحب يؤمّ الإنسانية بالمعنى الكوني للكلمة.
إن إستراتيجية الحسم و تجاوز هذه المفارقة تنبني حسب هابرماس على ضرورة التفكير من جديد في سؤال الدولة ـ الأمة.
الكتاب يتكوّن من ثلاثة فصول كتبت في أوقات مختلفة و نشرت جميعها ضمن هذا المؤلف باعتبار أنها تعالج نفس الموضوع: التعارض بين العولمة الاقتصادية و نموذج الدولة ـ الأمة.سنحاول في هذا الصدد التركيز على الفصل الثاني لكونه يعالج مختلف المواضيع التي طرحت في الفصل الأول و الثالث.
يهتم الفصل الأول بالسمات البارزة للحداثة التي طبعت القرن العشرين و أثّرت في المجتمعات.إن القراءة النقدية لهذا العصر تتنزل في سياق فضح المخاطر التي تكمن في صلب العولمة الاقتصادية . وهو ما يبرر البحث عن جواب من الفلسفة السياسية حول موقفها من العولمة خاصة في بعدها الاقتصادي . إن خلفية طرح السؤال ذات صلة بالقدرة العملية للدولة ـ الأمة. لا مراء أن العولمة خلقت حالة من اللا توازن بين الدول. إن جوهر المشكل لا يطال البعد الاقتصادي فحسب باعتبار لو صح أن الدولة ــ الأمة باتت عاجزة على تأمين حقوق اجتماعية متكافئة بين مواطنيها فإن شرط إمكان تطبيق الديمقراطية يصبح هو بحد ذاته موضع تهديد. إن تلافي هذا الإشكال يفرض على الفلسفة السياسية أن تشرّع لوجود ما فوق وطني . لا شك أن الاتحاد الأوروبي يعتبر مثالا جيدا حقق خطوة مهمة نحو الما فوق وطنية . إن هذا التشكيل السياسي ليس ثمة ما يناقضه ؛ فمنذ 1945 تأسست الدول الأوروبية على القيم الديمقراطية . صحيح أن كل دولة تبحث عن سبل تضعيف قوتها في نطاق اقتصاد معولم إلا أن الرهان الأساسي يظل تجذير الحد الديمقراطي.
من هذا المنطلق يعتبر كتاب " ما بعد الدولة ـ الأمة " محاولة لإيجاد حل توفيقي يستثمر إيجابيات الموقفين . في هذا الصدد يوضّح هابرماس مخاطر العولمة الاقتصادية ، التي قوّضت مقولة الحدود مما أفضى إلى استباحة سيادة الدولةــ الأمة بشكل جلي. إن العولمة الاقتصادية جرّدت الدولة ــ الأمة من صلاحياتها المعتادة .فلم تعد هي اللاعب الوحيد في مجال العلاقات الدولية ضمن المجتمع الدولي . فالدولة تهتز أركانها بشدة من جراء انتشار اللاعبين غير القوميين الذين يفلتون من سيادة الدول. إن دور الفلسفة السياسية ألا تترك الوجود الاجتماعي خاضعا برمّته لما هو اقتصادي . وهي مهمة لا تنجز سوى بتكتل الدول القومية التي تعجز فرادى على مجابهة العولمة. نحن نتحدث إذن عن وجود سياسي ما فوق وطني . و لعل تجربة الإتحاد الأوروبي تلعب دور النموذج الإرشادي الذي يرمز إلى هذا الكيان السياسي الذي يعوّض الدولة ــ الأمة . إنه الضمانة الوحيدة للجمع بين العدالة الاجتماعية و نجاعة السوق القائمة على كسب التنافسية وفق شعار محدد ألا وهو الرفع في المردودية و إحراز أقصى درجة من الربح.
إن المربك في طرح هابرماس أن تجاوز الدولة ــ الأمة من خلال تأسيس ماهية سياسية أرحب منها تلج بنا إلى مجال الما فوق وطني، لا يمكنه أن يتحقق إلا عبر فضاء عمومي يعترف بالآخر ككيان موجود يخضع لبنية حوارية. أن ننحت " هوية جماعية ذات بعد كوني تتجسد من خلال جماعة سياسية تظل مفتوحة لاندماج كل المواطنين بمختلف أصولها" .
إن التأكيد على هذا الاندماج الكوسموبوليتي لا يظهر في العولمة إلا بوصفه عملية اكراهية . إن التوحيد في العولمة استتباعي يلغي سيادة الآخر و يحول دون استقلاله السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي . إن زعم فوكو ياما بأن مسيرة العالم لا بد أن تقود حتما إلى الديمقراطية التي هي وجهة التاريخ الليبرالي النهائية ، هي مجرد مقولة جذابة و خادعة في الآن عينه. إذ أنه بالقدر الذي توحي فيه بإلغاء المسافات بين القوى المركزية ، تؤكد استلحاق دول الأطراف بالقوة . و بالتالي فهي تسقط من حساب العلاقات الدولية ، مبدأ التوازن كما يخترق مبادئ و قواعد السيادة الوطنية.
ما دمنا ننظر إلى العولمة على أنها تحول دون تجسيد الديمقراطية فبأي آلية يمكن إشراك الآخر السياسي لينتمي إلى وجود يتحيز في مجال ما فوق وطني ؟ ووفق أي تعليل؟
لو أن الأمر يتعلق بماركس لعلل لنا ذلك بقوله :" مثلما أن كل ما هو طبيعي يجب أن يتكوّن ، كذلك فإن الإنسان يملك فعل تكوّنه الذي هو التاريخ، و الذي هو بالتالي بالنسبة إلى الإنسان تاريخ معلوم و لذلك فهو فعل يتكوّن بتجاوز ذاته بالوعي"
هذا التفسير الذي يقدمه ماركس للصيرورة التاريخية يصلح لكي يلقي الضوء على الهوية المفهومية للدولة ــ الأمة . فهي ليست متماهية بشكل مطلق مع التاريخ. غير أن عملية التطور لا تحدث ، في نظر هابرماس، بفعل الانعكاس بل إن الذات الاجتماعية التي تواجه محيطها تتصرف في كل مرة إزاء سيرورة هذا التطور. يشتمل مفتاح التفسير الذي يقدمه هابرماس لتبرير هذا الوجود الما ـ فوق وطني على صعوبة نظرية قد لا تصمد أمام الاعتراضات المتكررة التي يطلقها كارل شميت الذي يعتبر أن مشاركة الذوات في الحوار داخل الفضاء العمومي يلحق تشويها لمعنيي الديمقراطية و السياسي على حد سواء. فأن نتعرف على السياسي يعني أن نفهم اللحظة الأنطولوجية التي يتأسس عليها . وهي لحظة لا يمكن إدراكها إلا بترسيخ مقولتي الصديق و العدو.
أن نحل التناقض بينهما بالبحث عن مواطنة عالمية يعني أن نضع نهاية السياسة التي تتأسس ضمن شرط الوعي بهذا التمايز. لنبادر إلى القول أن كارل شميت يضعنا إزاء أزمة يقينيات للقاعدة التي تشكلت منها الفلسفة السياسية. يصوغ شميت موقفه النقدي من العقلانية الحديثة من خلال دعوتها للتأصيل و العمومية ؛ فقد " عرفنا اليوم أسرار الكلمات .إن أبشع الحروب تشنّ باسم السلام ،و أكثر النظم القمعية تمارس وحشيتها باسم الحرية ، و أكثر الأفعال همجية تدعى: إنسانية "
إن الوضع ههنا حساس للغاية ؛ فقد أراد كارل شميت أن يقيم الحجة على أن الفلسفة ظلت مقيّدة و حبيسة الأفق الميتافيزيقي . أليست المواطنة العالمية سوى ترجمة فعلية و أصلية لوعي مسكون باليوتوبيا ؟
كيفما كان الحال ، يظل مناط الأمر عند شميت مرتبط بألاعيب الإيديولوجيا الليبرالية التي لا تتناول المسألة السياسية في الصميم.
يستهل شميت كتابه " مفهوم السياسي" بالقول:" إن مفهوم الدولة يفترض مسبقا مفهوم السياسي" . و إذا حاولنا تحديد عناصر مفهوم السياسي حتى نقف على معناه ، سنبدأ من استبعاد مفهوم الرومانسية السياسية ؛ لأن مساحة السياسي هي مساحة السلطة لا القانون ، القرار لا النقاش. و عليه فإن الأخلاقي و الديني و الاقتصادي تعد نطاقات هامشية لا تحدد معنى السياسي. في حالتنا هذه ، إن السياسي لا يمكنه أن يتصور إلا من خلال الدولة التي تميّز بين الصديق و العدو؛ "فالعالم الذي لا يحمل إمكانية الحرب ، هو عالم لا ينطوي على تمييز بين الصديق و العدو، و بالتالي فهو عالم بلا سياسة" .
إن هذه الخاصية التي تنفرد بها الدولة ، هي التي تضفي معنى على الحياة و تجعل المطالبة بالتضحية بالنفس ( أو قتل الآخر ) إمكانية قائمة . أن نعتبر الدولة هي المحدد لماهية الوجود الإنساني و السياسي ، فهذا كفيل لتبرير ثبوتيتها . فهي مستمرة و ماكثة في الزمن.
إن من يتناول هذه الخاصية التي تنفرد بها الدولة من وجهة نظر هابرماس يجد نفسه إزاء مفارقة . فإذا كان شميت يسعى إلى بناء نظرية عامة في السياسي و تحليل منطقها من خلال التمييز بين الصديق و العدو ، فإن هابرماس ، وفق ما تظهره بحوثه ، يدين النظرة الثبوتية للدولة ــ الأمة. إن اعتراض شميت يكمن في وضع الإصبع على عدم مشروعية هذه المجاوزة لما يتطلبه ذلك من محو لطرفي العلاقة التي يتقوّم بها السياسي ( من التسليم بضرورة التمييز بين الصديق و العدو إلى نظرة شمولية تنشد مواطنة عالمية ). تبدو الدولة ــ الأمة من وجهة نظر شميت كنقطة نهائية يستند إليها كل شيء و لا تستند إلى شيء. إنها مبررة لذاتها و بذاتها؛ إذ " هي التي تشكل النظام الذي لا يشتق من غيره".
لعل أول استتباع يترتب عن هذه القراءة ، أن نخوض في أغوار العلاقة بين الشرعية و المشروعية.
في التمييز بين الشرعية و المشروعية
باختصار ، إذا أردنا أن نبلغ حقيقة العلاقة التي تربط الشرعية بالمشروعية ، علينا ألا نأخذ بالفهم الذي يدمج في كثير من الأحيان بين هذين المعنيين المختلفين في الاصطلاح القانوني ..إذ نجد البعض من فقهاء القانون يرون أن الشرعية والمشروعية تحيلان إلى المعنى ذاته ..وهذا الرأي يحتاج إلى إعادة تأصيل بما يتلاءم مع الرهانات و الشروط التاريخية المتعلقة بنشأة هذين المصطلحين في حقل الفلسفة السياسية.
يمكن أن نفهم الشرعية ضمن الإطار السياسي بمعنى اكتساب شيء ما إطارا قانونيا أو لصيغة عمل معينة قد تكون سياسية أو إدارية أو اقتصادية ، ولذلك يقال مثلا إن الإدارة شرعية أي أنها تحوز الإطار القانوني الصحيح للمفهوم دون أي علاقة بالقاعدة القانونية.
أما المشروعية فهي العلاقة القانونية التي تختص بالقانون والقرار والتعليمات ..فرجال القانون يصفون القرار بأنه مشروع عندما يكون مطابقا لمبدأ المشروعية والذي يعرّف بأنه توافق القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى وعدم مخالفتها شكلا وموضوعا ..وفي حالة حصول مخالفة يصاب القرار بعيب عدم المشروعية ويدخل ضمن نطاق القرار المعيب.
نلاحظ من خلال تجزئة التعريفين السابقين أن مفهوم الشرعية يختلف اختلاقا كليا عن مفهوم المشروعية فالأول ذا طابع وظيفي يعنى بالجانب العلمي أي ما يمكن أن نطلق عليه المفهوم الوظيفي في ممارسة السلطة سواء أكانت سلطة سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو دولية ..وتأتي الشرعية بطرق متعددة منها الاستفتاء أو الانتخاب و الثاني ذا طابع نظري ، فمن الناحية القانونية تشير المشروعية إلى العلاقة بين القوانين وليس إلى عملية ممارسة السلطة؛ فالسلطة الشرعية هي تطبيق للقانون المشروع . و في هذا الصدد يؤكد لويس ديمون :" أن النظرية السياسية لا يمكن أن تكون نظرية أية سلطة و إنما نظرية السلطة الشرعية" . و هذا يعني عدم إمكانية اقتصار السياسة على ممارسة السلطة و غاياتها لأن ما يجعل هذا السيطرة ممكنة هي الشرعية . و لعل ذلك ما دفع بول باستيد إلى التحذير بأن " مصطلح الشرعية هو أساس السلطة الذي يبرر الخضوع أو الطاعة الناجمة عنها" .
و نظرا لكون الشرعية في ظل النظام الديمقراطي تستمد أساسها من الدستور ، فإن الخروج عنه يؤدي إلى اللاشرعية .و في هذا المجال يؤكد كارل شميت " أن الدولة يجب أن تكون لها ، بنظر القانون ، واقعا قانونيا مجردا ، لها قيمة معيارية. فهي ليست على الإطلاق واقعا أو فكرة إلى جانب النظام القانوني أو خارج إطاره ؛ و إنما بالتحديد هذا النظام القانوني ذاته... و هكذا فإن ما يؤسس قيمة معيار ، لا يمكن أن يكون بدوره إلا معيارا . و لهذا فإن الدولة ، في النظرية القانونية تتطابق مع دستورها ، أي مع المعيار الأساسي و الوحيد" .



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة و انشطار مفهوم السيادة
- مكانة عصمت سيف الدولة في بلورة فهم تقدمي للفكر القومي
- حين تكون قوميا تقدميا
- استقالة محسن مرزوق : صناعة التحولات و كسر النموذج المقفل لحز ...
- رمال القحط
- معقولية خطاب غير خلاّق
- رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية التونسية
- القمع الفتّاك للفكر
- صرخة في مشهد
- ناخب فطن يبوح بأسرار عميقة
- صراعات مكشوفة
- عقاب مكرور
- تقادمية حالة حرب
- في مكان ما خارج حزب ما
- فقدان الاتجاه أم واقع سياسي جديد في تونس؟
- تونس ما بعد أزمة النداء
- أحزاب تونسية مفخّمة و مفتولة العضلات، تهوي و تنال دفنا جميلا
- النهضة و النداء يضعان أقدامهما في مرحلة ما بعد التاريخ
- في أروقة النداء: تهجير اليسار أم قصف الحكومة؟
- هل نتجه إلى فراغ سياسي في تونس؟


المزيد.....




- روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا ...
- إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط ...
- سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
- عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
- -البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا ...
- أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي ...
- لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
- فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س ...
- هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد ...
- الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رضا لاغة - ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا