أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - العولمة و انشطار مفهوم السيادة















المزيد.....


العولمة و انشطار مفهوم السيادة


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 5251 - 2016 / 8 / 11 - 17:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يقول هابرماس:" إننا اليوم نشهد داخل المجتمعات الصناعية المتقدمة ، و للمرة الأولى ، فقدان الأمل بالخلاص و النعمة ، هذا الأمل الذي ينبعث من التقاليد الدينية المستبطنة في السريرة حتى بعد الانقطاع عن الكنيسة".
إن رغبة كهذه حسب هابرماس و ما يتولّد عنها من شوق لاستدعاء القوالب اللاهوتية التي نجحت الحداثة في تجاوزها ، مردّها هذا التفخيم المتطرف لهذا الشكل الجديد للسيادة . لقد " باتت الإمبراطورية هي الذات السياسية التي تتولّى تنظيم المبادلات العالمية . وهي السلطة السيادية التي تحكم العالم" .و لأن العالم المعاصر لم يعد كما كان عليه بأنظمته و علاقاته و إنما يعاد تركيبه على نحو مغاير و مخالف لكل التوقعات. يمكن أن نفهم ، من هذا المنطلق ، المناقشات الساخنة بين مهلل لهذه الحقبة الجديدة بوصفها حقبة تحرر الاقتصاد الرأسمالي من جملة القيود التي فرضتها السلطة السيادية للدولة ــ الأمة و ناقد لها بوصفها حقبة اجتثاث للقنوات المؤسساتية التي تمثّل دعامة تمكّن المواطن من التصدي أو التأثير في منطق الرّبح المحض الذي تشكّل العولمة مصدرا له. لذلك كان من الضروري أن نبدأ بسؤال أساسي: ما العولمة؟
تعريف العولمة
التعريف اللغوي للعولمة
يعدّ مفهوم العولمة من أكثر المفاهيم التباسا و لعل ذلك يعزى إلى هيمنة الخطاب الإيديولوجي الذي أدى إلى انقسام الباحثين بين مؤيد، ينشد الترويج لها و يعتبرها انتصارا للحضارة الغربية الرأسمالية و نموذجا إرشاديا يملي على الشعوب إعادة هيكلة واقعها لتتكيف مع متطلبات الاندماج في السوق العالمي ؛ و رافض لها لما تحمله من آثار تهدد سيادة الدول و الاقتصاديات الوطنية. فهي تحيل إلى نمط سياسي و اقتصادي و ثقافي لنموذج غربي خرج بتجربته من حدوده إلى عولمة الآخر. ولغة العولمة مشتقة من الفعل عولم على صيغة فوعل ؛ و استخدام هذا الاشتقاق يفيد أن الفعل يحتاج لوجود فاعل ، أي أن العولمة تحتاج لمن يعممها على العالم. و هي ترجمة للكلمة الفرنسية ,,,,
بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي ، و الكلمة الفرنسية ذاتها ترجمة للكلمة الانجليزية
...و التي ظهرت أولا في الولايات المتحدة الأمريكية و تعني تعميم الشيء و توسيع دائرته ليشمل العالم كله.
التعريف الاصطلاحي للعولمة
في محادثة شهيرة حول العولمة أدارها جيمس غلاسمان و جمعت موسى نعيم و كلود بارفيل طرح السؤال التالي:" غلاسمان:" ما هي العولمة؟"
يجيب بارفيلد:" حسنا ، لكل مرء تعريف مختلف لها ، على ما أظن. لكن بالعبارات التي أرتاح إليها ، أعتقد بأنها تعني تأثير التغييرات التكنولوجية على البلدان الإفرادية و المجتمعات الإفرادية ؛ بمرور الزمن... لم يكن من الممكن للعولمة الأكثر ترابطا، كالتي نشهدها اليوم أن تتطور دون التقدم الباهر الذي تحقق على امتداد عدة عقود ماضية في تحسين كفاية أنظمة النقل و التي استندت إلى ثورة الاتصالات التي أتاحت التراسل الفوري مع الأفراد و المنظمات حول العالم"
غلاسمان :" هل هذه ظاهرة جديدة؟"
بارفيلد: كلا ، أعتقد أنه في كل وقت تنشأ فيه تجارة بين دول أو مجتمعات مختلفة ، تبدأ عند ذلك العولمة ، لأن ما يحدث عندئذ هو تبادل الأفكار و التحركات و المعاملات التجارية بين الشعوب المختلفة. هذه هي البداية ، إذا جاز التعبير للعولمة" .
ومن أقدم تعاريف العولمة ، تعريف رونالد روبرتسون الذي يؤكد أنها اتجاه تاريخي ثمرته انكماش العالم . أما بريتون بادي فقد عرّف العولمة بأنها " عملية إقامة نظام دولي يتّجه نحو التوحد في القواعد و القيم و الأهداف ، مع ادعاء إدماج مجموع الإنسانية ضمن إطاره" .
يتبين مما سبق أن انكماش العالم بتعبير روبرتسون يؤول إلى بروز عالم بلا حدود جغرافية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية . إننا بذلك نجابه مأزق تلاشي الدولة ــ الأمة . دعونا نعيد طرح سؤال غلاسمان وهو يحاور نعيم موسي: " قال العديد من الناس إنه بقيام تكنولوجيا العولمة سوف تتلاشى الدولة القومية. الآن قد يكون مبكّرا بعض الشيء رؤية أنها تتلاشي.و لكن هل تعتقد أن هذا هو ما سوف يحدث؟"
إن هذا السؤال يضعنا ضمن إشكالية الهوية ما بعد الوطنية في فلسفة هابرماس من أجل البحث عن نمط تفكير جديد من شأنه أن يغير الخطاب السياسي عبر تقويض التخوم الضيقة للنزعة الوطنية المشروطة بحدود إقليمية ، إلى وجود ما فوق وطني يتخذ من الحوار مقاما للتواصل الإنساني. ألسنا اليوم نقف أمام عتبة تاريخية أو أمام قفزة نوعية يمكن أن تجعل تجاوز الدولة ــ الأمة أمرا ممكنا؟
إن هذا التساؤل أخذ حيزا مهما في السجال النظري المعاصر. و لنا أن نستحضر هنا النقاش الحار الذي دار بين جان زيغلر و ريجيس دوبريه . يقول زيغلر موجها كلامه لدوبريه:" لقد استوقفني موقفك من الدولة . فأنت تخلع عليها جلالة خارقة للمألوف. فهي في نظرك ليست ذاتا للتاريخ و حسب ، بل كذلك ذات إلى أن تدوم. ففكرة تجاوز الدولة ، التي هي حلمي و حلم الملايين من الناس ، فكرة تفكيك أوصال آلة الإكراه الهائلة ، لا تدور لك في بال... فلماذا يصل بك الأمر إلى هذا الحد من الدغمائية و العماء عندما يتعلق الأمر بالدولة؟"
ولسوف يظهر لنا ، و نحن نفكك أطروحة هابرماس ، أن زيغلر كان قاسيا على دوبريه ؛ فقد اغرق نصه بإسقاطات إيديولوجية لا تخلو من مطلقات زال مفعولها في الفكر الفلسفي المعاصر . فعلى الرغم من أحداث التاريخ التي أظهرت أن العولمة تسعى من خلال مسارها إلى هدم هذا النموذج كتنظيم سياسي فعال عبر دمجه في المجتمع العالمي بوصفه سلطة فوقية تنشد " رسملة العالم غير الرأسمالي" ؛ و ما نراه اليوم من تغيّرات على الساحة الدولية و الساحات الوطنية كبداية لتحول جذري في الواقع السياسي و المفاهيم المؤطرة لعلاقاته ، حتى أن الدولة ــ الأمة " غدت عاجزة عن حماية مواطنيها ضد التفاعلات المتسلسلة التي تحدثها تطورات تجد مصدرها خارج الحدود" ؛ إلا أنها تظل الأساس الذي تنبني عليه الترابطات السياسية للأنظمة المعاصرة . ربما علينا هنا العودة إلى المفارقة التي طرحها هابرماس " بسبب الهوة المتنامية بين اندماج نسقي في الاقتصاد و الإدارة على المستوى فوق وطني ، واندماج سياسي لا يتم إلا على مستوى الفضاء الوطني " .
لا يجب الآن الشروع في تفكيك معالم هذه المفارقة التي يثيرها هابرماس في كتاب "ما بعد الدولة ــ الأمة " دون تحديد مفهوم الدولة ــ الأمة .
مفهوم الدولةــ الأمة
استهل توماس هايلاند إريكسن كتابه القيّم " العرقية و القومية" بضرورة التحوّط من الاستخدام الشائع لبعض المصطلحات التي : " تستمر في البروز على نحو سريع في الإعلام ، في أخبار التلفزيون ، في البرامج السياسية و المحادثات ... و يمكن أن يقال الشيء ذاته بالنسبة إلى الدولة ــ الأمة و القومية . و لا بد من التسليم بأن معنى أيّ من هذه المصطلحات غالبا ما يبدو إشكاليا" . كما يؤكد جاك دونديو بدوره على صعوبة تحديد حقيقة مفهوم الدولة ــ الأمة بوصفه مزيج معقّد من إرادة السلطة و الإخلاص للخدمة العامة . إنه مفهوم ملتبس مفتوح في آن على كل التأثيرات. و لعل من بين المبررات التي تجعل من مطلب تعريف مفهوم الدولةــ الأمة أمرا شائكا هو طبيعته المزدوجة ، فنحن إزاء علاقة تربط بين معنيين متلازمين هما الدولة و الأمة . فهل ثمة ما يفسر هذا الربط؟ و هل ثمة فرق بين مفهوم الدولة و الأمة ؟
يبدو أن معالجتنا لمسألةــ الدولة الأمة يجب أن تبدأ بالتعرّف على دلالة هذا المفهوم لما للمفاهيم من مكانة محورية في الفلسفة بوجه عام و الفلسفة السياسية على الوجه الأخص؛ لذلك سنحاول في هذا الفصل التمهيدي تحديد المعنى اللغوي و الاصطلاحي لمفهوم الدولة الأمة و سنتفحص مكامن الغموض و الالتباس فيه.
المعنى اللغوي للدولة
ورد في معجم لسان العرب أن الدولة تعني لغة : الانتقال من حال الشدة إلى الرخاء" و يقال كانت لنا عليهم الدولة ؛ و الدولة بالضم أي المال الذي يتداوله القوم فيما بينهم فيكون لقوم دون قوم. و الدولة برفع الدال هي الفعل و الانتقال من حال إلى حال .و نقول لغة دالت الأيام أي دارت . و قال أبو الحسن الكسّائي أن مفهوم الدولة في تداول المال: " المال يتداوله القوم بينهم و في الحرب تدال بين الهازم و المهزوم. و قيل في حال رفع الدالة تأخذ الدولة بمعنى تبدّل الدّهر و إذا فتحت تعود لهزومية أو انتصار الجيش . و في اللاتينية ليس ثمة مفردة أشد تعبيرا من كلمة
في الفرنسية . وهي تشير كلها Etat في الايطالية و statoو Status
، بخلاف المعنى اللغوي العربي، إلى أن الحكم لا يتبدل بل هو قائم و دائم.
المعنى الاصطلاحي للدولة
يتضح مما سبق أن الدولة في السياق اللغوي العربي لا تنطوي على اصطلاح فلسفي و سياسي. فهي لا تخرج عن المعنى البسيط للتداول أي الغلبة و الإدالة. هذا طبعا إذا ما استثنينا طرح ابن خلدون الذي يعتبر طرحا متميزا و فريدا لأنه شرع في معالجة ماهية الدولة خارج المنطق اللغوي عبر رصد أبعادها الاجتماعية و السياسية .
إن تنزيل إشكالية الدولة ضمن حقل الفلسفة السياسية يرتد إلى اللحظة الإغريقية من خلال إعلان ولادة المدينة الدولة . و تجدر الإشارة هنا أن هناك تمييز أساسي بين المدينة الدولة و الدولةــ الأمة . فإذا كان المعنى الأول يغذيه انتصار الميتافيزيقا و القيم فإن المعنى الثاني يغذيه انتصار العقلانية الأداتية التي عملت على شرعنة مجال الفلسفة السياسية بمعزل عن المعايير الأخلاقية.
يقول جون جاك شوفالييه في هذا الصدد: " إن الفكر السياسي اليوناني الذي ظهر ضمن إطار المدينة الدولة كان يتميز باهتمام مزدوج : الاهتمام الأخلاقي و الاهتمام العملي المرتبطين ببعضهما بشكل وثيق. لقد كان المفكرون يتصوّرون المدينة باعتبارها تجمّعا أخلاقيا للعيش المشترك وفق قواعد الخير و من أجل الخير و كانت المدينة تسعى لهدف أخلاقي و تبيّن طريق الوصول إليه" .
إن هذه الاعتبارات تبيّن أن المدينة الدولة تندرج ضمن الوقائع التي تتشكّل طبيعيا ؛ فالطبيعة الإنسانية تعبّر عن نفسها في المدينة كطبيعة أخلاقية . يوضّح أرسطو هذه الفكرة في كتاب أخلاق نيكوماك :" إن الدولة جماعة أخلاقية غايتها الحياة الطبيعية و الخير و يحكمها القانون الذي هو تعبير عن هذه الغاية" .
تقودنا هذه الملاحظة إلى التساؤل : هل يتعيّن على الفلسفة أن تمارس نقدها الذاتي بحثا عن حقيقة الدولة عبر نسيان بعدها الأخلاقي؟
في حواره مع تشارلز تايلور أشار هابرماس إلى أن الحداثة قد أفرغت السياسة من أبعادها الميتافيزيقية ، فالمفهوم السياسي صار مفهوما اجتماعيا ينقلنا من مشروع الدولة في صيغته الميتافيزيقية إلى صيغته الاصطناعية . يمكن في هذا السياق أن نقيم مقارنة بين لحظتين فلسفيتين مختلفتين: اللحظة الإغريقية من خلال مفهوم السيادة عند أرسطو و اللحظة الأوروبية الحداثية عند هوبز.
يفرّق أرسطو في كتاب السياسة بين ثلاثة أصناف من السيادة:
ـــ سيادة الأب على الأبناء
ـــ سيادة الزوج على الزوجة
ـــ سيادة السيد على العبد
إن هذا المعنى الأخير ينشأ كتتويج طبيعي و ضروري لنمو تدريجي ينقل الوجود الإنساني من الطور الطبيعي ( الأسرة) إلى الجماعة المشكلة من عدة أسر ( القرية) إلى الجماعة المشكلة من عدة قرى ( المدينة ). " إن المدينة تدخل في عداد الوقائع التي توجد بشكل طبيعي ، و إن الإنسان بحكم الطبيعة حيوان سياسي" .
كما يوضح في كتاب أخلاق نيقوماخوس الصلة البديهية بين المدينة الدولة والأخلاق. فهي أي الدولة " جماعة أخلاقية غايتها الحياة الطيبة و الخير و يحكمها القانون الذي هو تعبير عن هذه الغاية : القانون الذي لا يشكل إلا شيئا واحدا مع الالتزام الأخلاقي . القانون الذي هو القاعدة الأخلاقية للجماعة . بهذا المعنى يسمى عادلا من يخضع للقانون و يعرّف العدل بأنه الشيء المتفق مع القانون، أي الشرعية .أما الظلم فهو اللاشرعية" .غير أن هوبز ، في حواره مع تشارلز تايلور ، أشار إلى أن الحداثة قد أفرغت السياسة من أبعادها الميتافيزيقية ؛ فالمفهوم السياسي صار مفهوما اجتماعيا ينقلنا من مشروع الدولة في صيغته الميتافيزيقية إلى صيغته الاجتماعية. وقد يكون من اللازم ونحن نستعرض مسألة أسس الفلسفة السياسية عند هوبز كمنطلق للحداثة أن نطرح الحضور النسقي للعقلانية الأداتية .إن السياسة عند هوبز تبدو كانتقام من الأخلاق أي أن الأسس التي شيدت عليها السياسة قامت على نسيان الأخلاق . وهو ما يسمح بتشريع القول في السياسة كتجل صيغته الاستباقية تكمن في الأنثروبولوجيا. لقد حدد هوبز شروط إمكان الفلسفة السياسية بإنتاج انثروبولوجيا تقطع مع الترسبات الميتافيزيقية للماهية الإنسانية و ذلك بتجاوز الخطاب الأخلاقي الذي هيمن على مفهوم الدولة الأثينية . إن السياسة عند هوبز أضحت تدرج ضمن بنية الانفعالات ذاتها. و لعل حرصه على أن يفرد فصلا خاصا للحديث عن الإنسان في كتاب موضوعه الأساسي هو السياسة يعكس خلفية منهجية تجعل من الانثروبولوجيا منطلقا لتأسيس حقل الفلسفة السياسية الذي ينقلنا من مجال الطبيعة إلى مجال الاصطناع.
إن مزية هوبز ، على ما يبدو ، تكمن في تحرير الإنسان من القوالب الميتافيزيقية ليغدو كتلة من الانفعالات ؛ غير أن الصعوبة التي ستواجهنا هنا لا تتعلق بتصوّر هوبز و إنما تكمن في رؤية هابرماس للقيمي و الايتيقي. فهو بدوره يتحرك ضمن أفق الحداثة إلا أنه يشخص المأزق الذي تردت فيه حين حولت الحيادية إلى إيديولوجية. فهي قد تفتّحت في ظل إحداثية فلسفية فرضت ، بنوع من التأليه، منزلة الإنسان الأنطولوجية . فهو المنتصر على الوهم و الأسطورة التي نسجت تمثّلا مزيّفا عن ذاته : من كائن مبهور الأنفاس بالطبيعة وبالعالم إلى كائن مشوب بجنون العظمة . فهو منبع اليقين الابستمولوجي الذي أسقط الحقيقة من عليائها ، ليغدو التفلسف استجلابا للحقيقة إلى صميم أسوار الذات .
أن تستسلم الحقيقة لغطرسة الذات و تقيم في بلاطها ، يعنى أن تنسحب من المفارق و المتعالي و تتقافز نحو المحايث ، لينظر لها كمغامرة يتساقط منها احتكام مباشر لسلطة علم كان قد شرع في إنكار التعبير الميتافيزيقي للمعرفة و لم يبق له سوى أن يبني نصبا تذكاريا لها.
تكتسب هذه الفكرة أهمية في تأويل الحداثة بوصفها تكشف عن ذات غازية ، قوّضت دعائم المعاني التاريخية للميتافيزيقا. و مهما تكن مواقفنا ، كقرّاء للفلسفة، من الميتافيزيقا ؛ أكانت تقريضية، مدحيّة أم ذمّية ، تبخيسية ؛ أعتقد أننا صغنا هوية مختلفة للحداثة.
في ضوء هذه الملاحظة تأتي النظرة الجدالية: هل هجرت الحداثة الغربية حقا كل صلة بالميتافيزيقا كما قد نتوقّع؟
من الممكن أن يأتينا دارس الفلسفة الذي تجاهر فهمه مع هالة الحداثة ليؤكد بقول عرّاف : هناك من الدلائل الوافرة التي تثبت أن فحص الخطاب الميتافيزيقي ليس لغاية السلب ، بل لاستنفاد اقتباسيته العتيقة مقابل محاسن و مؤهلات العلم. و ما غاية الكانطية ؟ أليست نقد الميتافيزيقا تجاوزا لأزمتها عن طريق تقليد و محاكاة العلم؟ و ما تلك الصيرورة التاريخية البديعة للروح عند هيغل ؟ أليست اعتناقا للمطلق الذي تجسّد في الدولة بوصفها كل أخلاقي متصالح مع الحاضر؟
ليذهبنّ بنا الاعتقاد أننا إزاء تناقض، و لو نظرنا إلى هذه المشاريع الفلسفية المترابطة بوفاق حداثي و بما هي دوائر متتالية تبحث عن وحدة الفكر ، لخرجنا بخلاصة مهمة : إن فلسفة الحداثة من لحظة ديكارت إلى هيغل نظّمت فكرة الحقيقة بدمج مزدوج: حقيقة تنبثق من الذات المشرّعة التي استغرقت في تملّي ذاتها شكا و نقدا ( ديكارت و كانط) و حقيقة تقوم على إيضاح جدلي لمضمون هذا التشريع الذي تبنيه الذات من خلال قدرتها على الاعتراف بالآخر المتساكن معها في التاريخ ( هيغل).
من الصعب هنا ، و بشكل ظرفي على الأقل، أن نحدد بعناية بذرة الهوية المشوّهة لفلسفة الحداثة بوصفها خطاب مدمّر للميتافيزيقا.
إن انطلاقة كهذه تتضح مع الوضعية و النزعة العلموية التي دعا إليها أوغست كونـــــــت. و يمكن أن تبدأ مع ظاهراتية هوسرل و إن بدت استعلائية أو ظاهراتية هيدغر و إن بدت أنطولوجية و مع الوضعية المنطقية على نحو ما ميّز فيدغنشتين بين القضية الحملية المنطقية التي تعكس حقيقة تجريبية و القضية التي تحيل إلى معنى محدد للصلاحية...
و لأن انشغالنا ينصب على تعقّب فرضية ما إذا كان هناك تأثير للفكر الديني على العبقرية الفلسفية الحداثوية كخطاب أنتج نزعة علموية ذات رهانات مختلفة كليا عن الميتافيزيقا؛ فإننا سنستعيد المطارحة الفلسفية التي أثارها يورغن هابرماس في مقالتين أساسيتين وردتا في كتاب: "وجوه فلسفية و سياسية" .
و سنركز على الإشكالية التالية: هل يستسلم الفيلسوف لعقيدته و هو يشرعن حقل الممارسة و البراكسيس؟
ألا يحيل التعاكس و التمازج ، التنافر و التماس، إن وجد، إلى حداثة معطوبة؟ فالحداثي الذي ينكبّ على هذه القطيعة و المروّج للحداثة يقعان فريسة سهلة لاستهواء خفي و محتمل للإرث الميتافيزيقي الثمين.
أما صانع الحداثة فحالته تذكرنا بالعائق الابستمولوجي الذي تحدث عنه باشلار . فالعلم لا يفتأ يقوّض ذاته باستمرار بكشوفات جديدة ، هي عبارة عن تعطّلات و صدمات و انزلاقات لتاريخيّته، و العالم الذي يباشر فعل الاكتشاف ،لينقلنا من علم سابق إلى علم لاحق ، يعاني هو نفسه من تذبذب سيكولوجي؛ فالاكتشاف يصطدم بترسانة المفاهيم التي تحتاج إلى تجديد صلاحيتها و التمشي المنهجي كنموذج إرشادي لا ينسجم مع طبيعة الموضوع الجديد.
أما عن مروّج الحداثة فهو في منزلة بين منزلتين: إما أن يكون عرضة للمكائد و عدم الإلمام بحقيقة هذا التمفصل أو أنه يميل إلى ترويج هكذا فهم، بمكر إيديولوجي يجبر الميتافيزيقا أن تتلو شهادة موتها أو أن تتوارى على نحو ما حرصت العلموية قصد تبرير حصر المعرفة في العلم. يقول هابرماس: " إن العلموية كما أفهمها أنا ، فهي إيمان العلم بنفسه أي القناعة بأنه لم يعد باستطاعتنا اعتبار العلم كأحد الأشكال المعرفية الممكنة، و بأنه علينا على العكس من ذلك ، اعتبار العلم و المعرفة بوصفهما الشيء نفسه"
ألم نر تلك المراوغة في تاريخ معركة الفلسفة بالأسطورة، يوضح هابرماس . فهي تحيل إلى انتصار العقل على الأسطورة و لكن ، و ربما بشكل مفارق، تبدو من جهة أخرى كالأسطورة " فهي تنشد نظاما تأويليا يحيط بالكون أي بالموجود من حيث شموليته"
و من جهة ثانية " فهي مدعوّة أن تؤمّن علاقة مخصوصة بالممارسة"
ألم يستأنف التراث الديني اليهودي ، المناقض للحداثة، في تأدية دور الملهم لفلسفة مفوّضة تظهر كسلطة تأسيسية كلية؟ّ
يقول هابرماس:"إن الفكر الفلسفي الألماني لا ير نفسه في مواجهة ما يضعه الوعي التكنوقراطي من عوائق فحسب ، بل أيضا في مواجهة أفول الوعي الديني"
هل معنى ذلك أن الفكر الفلسفي النقدي ــ رغم عدائيته للفكر الديني ـــ ( التصوف اليهودي) يرتكز على أصول توحيدية تلهمه غريزة التجدد؟
إن اتهاما كهذا يستدعي قراءة تفكيكية تتجاوز مستوى الخطاب إلى ميتاــ الخطاب . إذ كيف لنا أن نتقوّل ما يناقض الحداثة وهو المحايث لها و المبثوث داخل نسقها ؟
إن هذا الانشطار يفصح عن هذا المخفي في خطاب الحداثة .يقول:" ما نزال نفاجأ دوما عن مدى فعالية الانطلاق من تجربة التراث اليهودي لإضاءة بعض الموضوعات المركزية الخاصة بالفلسفة الألمانية المصبوغة بشكل أساسي بالبروتستانتية . و لأن المثالية قد تشرّبت هي نفسها جزءا من التراث الكابالي ، فإن هذا الأخير يثري ... و يحافظ على بعض ملامح الصوفية اليهودية بقدر ما يبقى محجوبا خفيّا" .
إنه لأمر محيّر أن تظل الحداثة الغربية في ميتاــ خطابها مغرمة بالدين بوصفه ثمرة لعبقرية رائعة .
هذه العبقرية المصنوعة من قبل الفيلسوف هابرماس سوف نلاحظها في معنى التداولية التي تنبني عليها فكرة الفضاء العام.
يستطرد هابرماس في البرهنة التاريخية على استمرارية التراث اليهودي في ثنايا النص الفلسفي الحداثي مستعرضا أعلاما من الفلسفة اليهودية و مشددا على ألمعيتهم ؛ من ذلك فرانز دوزنزيغ الذي عكف للنظر في فلسفة الدولة عند هيغل . لقد " حاول تأويل الفكر المثالي منطلقا من عمق التصوّف اليهودي " . و هوغو سنزهايمر الذي أسس علم اجتماع القانون و غولدشيد الذي تحكم في علم اجتماع المال. كما رجح أن فلسفات شيلر و بلسنر " لا تخلو من بصمات هذا التراث" . دون أن ننسى أرنست بلوخ الذي " استخدم التصوف اليهودي و دمجه بوجهة نظر ماركسية"
لكل هذه الاعتبارات ينتهي هابرماس إلى قناعة مفادها:" لو لم يوجد تراث يهودي ــ ألماني ، لكان اليوم علينا أن نبتدعه . غير أنه موجود فعليا و لكن بعد أن دمرنا أو قتلنا ممثليه أحياء" .
إن هذا الحماس أو لنقل الجرأة في المصارحة الخفية، بين الحداثة و الميتافيزيقا ، يدعونا من جديد إلى استيضاح طبيعة العلاقة الموجودة بين الدولة ــ الأمة و الديمقراطية . فإذا كانت الإرادة الفردية ، بالمعنى الروسوي ، هي التي تنشئ قواعد الممارسة الديمقراطية عند اغترابها في الإرادة العامة بوصفها تستمد مقوماتها الأساسية من تلك الرابطة الروحية و المعنوية التي تتشكل عبر التاريخ بين الأفراد عن طريق العقد الاجتماعي ؛لتغدو الدولة ــ الأمة المنبثقة عن العقد شرط إمكان وجود الديمقراطية ؛ فإننا مع هابرماس نصطدم بصعوبة جليّة : هل سنعيد اكتشاف الديمقراطية خارج سياق الدولة ــ الأمة؟ على ضوء ماذا سنستوضح عنها و هي التي لا تربطها بالدولة ــ الأمة سوى محض علاقة عرضية ؟.
في نظر هابرماس إذا كنا نقر بوجود رابطة حقيقية بين الدولة ــ الأمة باعتبارها معطى تاريخي، فإن التاريخ ليس حجة على المستقبل . بمعنى آخر إن التصور الكوسموبوليتي يتطلب منا حسب هابرماس إعادة النظر في مطلب الديمقراطية و التي يمكن أن يتشكل مسارها السياسي بمعزل عن سيادة الدولة ـ الأمة باعتبارها حدث تاريخي.
نخلص مما سبق أنه لا ينبغي الخلط بين الدولة ــ الأمة و الديمقراطية ؛ فمن مقتضيات الدولةــ الأمة أن تحترم الشرط الديمقراطي أي أن تكون الدولةــ الأمة متعلقة و ملتزمة بفلسفة وطنية محددة تقوم على تجذير الحد الديمقراطي و لكن ذلك لا ينبغي أن يناقض الآفاق المنفتحة لتكريس الديمقراطية كأن تظل حبيسة الدولة ـ الأمة بمعناها التاريخي.تبرز أهمية طرح هابرماس في استلهام مخرج لهذه المفارقة بربط الديمقراطية بمفهوم المواطنة .
إن إستراتيجية هابرماس تكمن في كيفية تعويض " الخسائر الوظيفية التي تكبدتها الدولة الوطنية دون أن يكون محكوما على سلسلة الشرعية الديمقراطية بالانقطاع. و ما كتاب "ما بعد الدولة ــ الأمة" سوى محاولة تفاعلية لتطوير الخطاب الفلسفي السياسي ووضع أسس نظرية جديدة من شأنها أن تغير من صلاحيات الدولة الوطنية . و هذا الأمر سيظل رهين مراجعة منطق فهمنا لمفهوم المواطنة حيث يقترح شروط مواطنة عالمية في عصر العولمة تتعدى حدود الوطن و النظرة الدغمائية الضيقة للدولة ــ الأمة كما تحققت تاريخيا كظاهرة تقوم على وحدة الجنس و اللون و اللغة و المصير المشترك.
نحن إذن و الحال هذه إزاء رؤية فلسفية ينضوي بداخلها ضرب من التضاد: التسليم بأزمة الدولة ــ الأمة و بالتالي يصبح الهم الفلسفي هو كيف يمكن سد الثغرة التي تنهش المفهوم الترسبي لها بسبب العولمة التي استباحت حدودها مما أدي إلى تآكل معنى السيادة؛ و لكن و ربما للسبب ذاته فإن تشكيل كيان سياسي يجمع بين دول متعددة لا يمثل تجاوزا للدولة ــ الأمة ؛ إن ظهوريته تبدو و كأنها ظهورية شمولية للدولة ــ الأمة ذاتها. لأن نقلة كهذه من الدولة ـ الأمة إلى ما فوقها لا يمكن أن يحدث تلقائيا أو بشكل مسقط من قبل رجال الدولة . إن ذلك يستدعي وجود ضغط من فضاء عمومي كوني ينبع من إرادة الشعوب. ههنا ينكشف التناقض الذي نبّه إليه جون رولز حين ميز بين قانون الشعوب و قانون الدول. فمثلما يوجد تعارض راسخ بين قانون الدول و قانون الشعوب يحاول هابرماس أن يبين أن "المعيار الأساس للديمقراطية ليس هو انغراسها في هوية قومية ، و إنما في انبنائها على أساس التعاقد الحر بين أفراد ينظّمون حياتهم الجماعية على قواعد تنظيمية إجرائية تضمن العدل فيما بينهم . و إذا كان هذا النموذج قد ارتبط تاريخيا بشكل الدولة القومية ؛ فإنه اليوم يسير في اتجاه مبدأ المواطنة الدستورية التي تنسجم مع فكرة الشراكة الكونية العابرة للحدود السياسية الوطنية"



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكانة عصمت سيف الدولة في بلورة فهم تقدمي للفكر القومي
- حين تكون قوميا تقدميا
- استقالة محسن مرزوق : صناعة التحولات و كسر النموذج المقفل لحز ...
- رمال القحط
- معقولية خطاب غير خلاّق
- رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية التونسية
- القمع الفتّاك للفكر
- صرخة في مشهد
- ناخب فطن يبوح بأسرار عميقة
- صراعات مكشوفة
- عقاب مكرور
- تقادمية حالة حرب
- في مكان ما خارج حزب ما
- فقدان الاتجاه أم واقع سياسي جديد في تونس؟
- تونس ما بعد أزمة النداء
- أحزاب تونسية مفخّمة و مفتولة العضلات، تهوي و تنال دفنا جميلا
- النهضة و النداء يضعان أقدامهما في مرحلة ما بعد التاريخ
- في أروقة النداء: تهجير اليسار أم قصف الحكومة؟
- هل نتجه إلى فراغ سياسي في تونس؟
- مصالحة أم مضاجعة لثورة الكرامة في تونس؟


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - العولمة و انشطار مفهوم السيادة