أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا لاغة - المشهد الثاني من رواية ريح من داعش















المزيد.....


المشهد الثاني من رواية ريح من داعش


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 5774 - 2018 / 2 / 1 - 12:48
المحور: الادب والفن
    


بدت الحافلة متعثّرة في مسالك غامضة و أنا مستسلم لهدوء جارف. تناثر ضوء الصباح على وجوه متورّمة عندما استوقفتنا دورية تفتيش لم يلبث أن طوّق أفرادها الحافلة كمن يستعد لشنّ هجوم عنيف .قال السائق: >.
قال أحدهم برؤية متشائمة و قد أطل برأسه: >.
تذرّعنا جميعا بالصمت. وسيلتنا للبقاء.صعد إلى الحافلة وهو يطوف ببصره حتى أنك تحسبه يميز الفخاخ لكي لا يقع في شراكها. و بينما كان يخترق الصفوف بأقدامه المتطاولة كنت متحرّقا ألا يعاملني باستفزاز. فجأة وضع يده على كتفي قائلا: <<أنت لست من الجزائر على ما أعتقد>>. قلت في نفسي : <<لا ريب أن الغباء أشد فتكا غير أن خطورته مضحكة>>. تنبهت لأنفاس تسطك بجواري و سياط الخوف النارية تلفعها.تحدثت مباغتة و ما يشبه هزة طرب تساورني: <<قلّما تألف النظر يا سيدي لوجوه تتيح لهم المدينة تنوّعا هائلا>>. و فيما شرع يلاحظني استرسلت قائلا و أنا أتحدث بنفس فيه ثمار السلام: <<تحسبني غريبا وافدا و أنا عريق متأصل في هذه المدينة>>. قال وهو يتلصص تحت جسد امرأة تقبع خلفي: <<أنت محق ، دروب المدينة لا تضيق و تمرق منها حشود غفيرة درجت على أن تخبرني بفصول حياتها>>.
قلت بهيبة واهمة: <<و بأية أعذار يفعلون ذلك؟>>
قال بنغمة الموبوء بالعظمة:<< لعلهم يهابون المصائب>>.
قلت ضاحكا:<< أتودّ أن أخبرك بما طرأ مدار أعوام خلت من حياتي؟>>
قهقه طويلا و قال:<< تتحدث بعقيدة متسيس>>.
قلت: <<تداعت الأحلام و احترقت و لم أفقه أصولها و لا أجزم إن كانت أهدافها سخيفة أم عظيمة>>.
قال:<< تأثيرك عجيب إن اختلط بالسواد الأعظم من البسطاء. و لكن لا بأس فأنا أمتدح جسارتك>>.
قلت: <<أو ثمة خير لمن تسارع نسبه للذل و الجبن>>.
قال وقد التهب وجهه جرأة فيما يستعيد خطاه نزولا من الحافلة:<< أنا أغبط هذه الفئة من الرجال و اختفى>>.
احتاج الركاب إلى أمد طويل لكي يستردّوا نبضهم وجذوة حماسهم. قالت المرأة و قد استولت عليها دهشة فتية: <<إن جرأتك تجتذب السامع>>. لم تكن لديّ رغبة في الحديث فأومأت لها برأسي ممتنا ثم تراخيت و سهم النوم فيّ وافر.
لا أدري كم من الوقت و أنا أحاول أن أنتزع نفسي من الحافلة، فالناس يتدافعون على المقاعد الفارغة . أقبلت أفتّش عن طريقي المعتاد الذي كنت أتقاسمه مع صديقي مصعب عبر شارع عريض تحفّ به أشجار كثيفة و عمارات شاهقة طلاؤها شاحب و مطموس، تحتوي في الطوابق الأرضية على مقاهي و متاجر تبعث الحياة في المدينة . كنا في السابق نمضي وقت الضحى في مقهى الغزالة التي كان مصعب تربطه بصاحبها، العم سعد ، صلة قرابة. كان يستقبلنا باشا مظهرا تضامنه مع الطلبة فيلجأ إلى عبارات المجاملة المألوفة على الرغم مما يبدو عليه من قلق و خشية من المواضيع السياسية التي لا نسأم من تكرارها. لقد كان متفهّما لما يتّسم به جيلنا من اندفاع و حماس. كنا ندرك أن هناك مخبرا درج على تمضية يومه في المقهى ، لا شيء يفعله سوى التدخين و قراءة الصحف. كانت بشرته ناصعة البياض و تسريحة شعره متميّزة . كانت حركاته و إيماءاته تضمر شخصية منسوجة بنجاح في مهامها.إننا نعرفه الآن جيدا ، فقد صادف أن رأينا رجال الدرك يحادثونه بوقار وهو يركن سيارته في المر آب المحاذي للمقهى.
لقد كانت صدمة بالغة عندما اعتقلت في المظاهرة الصاخبة التي جابت محيط الحرم الجامعي لتتسرّب في الأحياء الشعبية المتاخمة لها مخالفة بذلك القواعد المتّفق عليها. أذكر أن جميع الطلبة قد انغمسوا في هذا الحراك كمظهر لمقاومة التدخل الأمريكي الهمجي في العراق.
حالما أدخلونا في غرفة جدرانها كالصفيح ، أثير الكثير من الضجيج. يا ألله ، أمر لا يصدّق، إني ألمح ذات الرجل بجرائده المتناثرة في المقهى. ما أن بلغ عتبة الباب وقد لان له كل الحضور بالطاعة و الولاء حتى قال بثبات: << اتركوني معهم لبعض الوقت>>. كنّا وجلين وهو يرمقنا بنظارته الفاحصة. و دون أن يشركنا في الحديث قال: <<ليس لديّ أسئلة ، لسنا عميانا و نحن نعرف عنكم كل شيء>>. لحظات صمت رهيبة مرّت قبل أن يعاود تحذيره:<< ستكون استضافتنا عابرة مع أن تهمكم غير مريحة. نحن أيضا لا نشعر باللامبالاة تجاه ما يحدث>>. و فجأة صرخ بتهيّج:<< لن نتسامح مع كل من يخل بالنظام . هل هذا مفهوم؟>>
تقدّم نحوي و هو يتأمّلني و كأنه وقع على شيء لم يكن ينتظر العثور عليه.قال و قد أطفأ غطرسته:<< أنظروا من هنا، جاري المبجّل حازم السيناوي ، أم تراني مخطئا ؟>>
لم أجرأ على الكلام و اكتفيت بتحريك رأسي تأييدا.
قال : <<لا شيء يستحق أن تبعثر لأجله حياة باذخة بالأمل>>.
وصلت إلى البيت و أنا أتضوّر جوعا . وجدت مصعب الذي سرّ كثيرا برؤيتي. فقام بتحضير حساء البرغل المحبب إليّ و قصصت عليه سرّ الرجل الغامض الذي اعتاد الحضور الملحّ للمقهى. ألقيت بنفسي داخل المصعد ،خرج منه رجل أسرع مهرولا. لم نتبادل التحية. جاشت نفسي بذكريات هبّت عليّ هبوب العاصفة. و اقتفاء للتفهم و ترجيحا لحسن الظّن بالطارق نقرت الباب بإيقاع متوارث حتى إذا انفلق ظهر مصعب و قد طابت سريرته و توابع الأسئلة ضياء على ملمحه. تمازجت الأيادي بفرح مفعم . قال والشوق يعتصره: << ها أنت ذا أخي الحبيب، لطالما كنت متيقّنا أن الذين سكنوا هذا المنزل لا يمكن أن يفترقوا>>. طأطأ رأسه وقال بحزن: <<استغرق الأمر طويلا و أنت في عزلتك . لا أحد يحيّيك. كنا نراقبك >>.
قلت: <<كنت بحاجة لهذا العذاب ، تعرّفت فيه على ذاتي اللئيمة>>.
مصعب: <<لقد دهشنا بجلدك . كنا نراقبك و نمضي الساعات الطوال ندوّن تفاصيل يومك>>.
قلت: <<لم يخطر ببالي ذلك قطّ>>.
مصعب:<< وماذا كنت تظن ؟ نتركك وحيدا كل ذاك الوقت تنهشك أخطار مفجعة و نحن نتفرّج؟>>
قلت: <<أنت محق ،فارقتكم جنونا و قد فزعت من مذموم أفعال مرتدّين يربضون فوق أرض الإسلام فتعايبت مع ضعفي و أنفاسي الفاترة>>.
قال مصعب و لم يفارقه شوقه :<< هل في عودتك ميلاد جديد؟>>
ضحكت مراوغة و أنا أضع يدي على صدري قائلا: <<لعل قصدك أن الملاحم من هؤلاء غير منسوب؟>> ، ظل مصعب يحدق فيّ و كأنه يكتشف ملامحي لأول مرة ثم قال: <<معاذ الله كنا ننتظم ببطء و الأيام تهرم و كل الإخوة ينتظرون مجيئك>>.
قلت: <<شيء مثير ، سأعتبر ما قلته رؤية حلمت بها منذ سنين و اعلم أن الله سبحانه هو المقدّر و المدبّر.الجهاد يا أخي حدث يؤجّج الصلة بالخالق و تبرق منه مقامات النصر و طليعته فراق الأهل و البلد>>.
قال: <<صدقت>>.
انصرف عنّي و صدمة اللقاء تلاقحه قائلا : <<أفضّل أن أتركك ترتاح ففي انتظارك لقاء مع الإخوة>>.
كانت السعادة المبهمة لا تفارقه و هو يلوّح مودّعا. قال متقنا خطاه: <<للحديث بقية ، امكث هنا إلى أن يأتي يزيد و سيصحبك حيث نكون ؛ و احذر أن تتجاذبكما أنظار الفضوليين>>.
يختفي فيحضرني نشاط غزير فتولد من سكينتي أصوات تجرفني إلى الصلاة. تطـــــهّرت و أجبت الدعاء.
كدت لا أميّز نفسي و أنا أستيقظ فجرا و صوت الأذان تنقله نسمات خفيفة تلتهب في القلب. قلت : <<لعمري إن صلاة الجماعة ثوابها أفيد>>، فتعقبت الصوت و خاطر الجهاد يغمرني و يدفعني دفعا.و أثناء العودة مررت بالمقهى التي بدأ يدب فيها ازدحام معتاد. ألقيت تحية الصباح على العم سعد الذي بالكاد يفتح عينيه من النعاس. قال لي وصدمة اللقاء ترجّه رجّا: <<لم نرك لفترة طويلة من الزمن يا حازم. لعل المانع خيرا>>. لاحظت أنه يزخر بوابل من الأسئلة انفرجت ملاينة في وجهه ، فأمعنت في قطع الحوار و طلبت قهوتي المعتادة و رقائق من الخبز الطازج. استسلمت إلى مراقبة المارة و يدي تمتد إلى الخبز بين الفينة و الأخرى و لم أزل على تلك الحال حتى ظهر شاب يتودد بالإحسان لمن يعترضه من المارة. ركضت متعقّبا أثره ، تحفّظ في سيره و ثابر ما استطاع على اجتناب التلفّت فحدّثتني نفسي أنه سيّب قصده و استشعر بحسه الأمني أن ثمة من يتبعه. اجتهدت في اللحاق به.كاد يرقص وهو ينظر إليّ نظرة متحمّسة ، و بهالة من الحب يلجأ إلى مرح الطفولة و يلتحم بي بشكل محموم.بدا لي قويّ النفس ، تغلي ذاته بالورع كسالف عهده . تذكّرت مشاكساتنا العميقة لأتفه الأمور عندما كنا نقطع الطريق إلى المدرسة فيغدو الحوار لطما و شتما. قلت و أنا أحضنه : <<ما سلكك إلى هنا يا أخي>>.
قال و عيناه تفيضان دمعا: <<أنبأني مصعب بأنك ملكت نفسك فجئت للتو>>.
قلت :<<اسمع يا يزيد ، ثمة رغبة جامحة استحكمت بي و لا أدري أهي صحة و اعتدال أم سقم و خبل. و الغريب أنها بدت لي كولادة جديدة>>.
قال: <<خيرا بإذن الله>> .
قلت: <<ذات يوم و أنا في مرقدي على ضفاف البحر رأيت أنني أتصدّق بنفسي. فأيقظني رعد مدوّ أعقبه خفقان في كامل جسدي>>.
يزيد :<< شرف الهمّة يكون مجبولا بما نوى العبد و ما أظنّها تخاريف يا أخي ، فامضي فوالله ما رأيتك خلقت إلا لأمر كهذا>>.أمسكني وهو يستحثّني على السير فالمارة لم تلبث أعدادهم تتوالد ثم أردف قائلا: <<ينتظرك ميقات قريب>>.
قلت: <<أخبرني مصعب و لا أدري هل من الحكمة أن أجالسكم>>.
يزيد: <<حاول أن تفهم ، عليك أن تنصاع للأوامر فكل ما سنفعله مرتّب من قبل وجميع الإخوة في الزمن الماضي و الحاضر كانوا يرون فيك خصال القيادة>>.
عندما كان يضيق بنا الطريق لمحت يزيد وهو يحاول الاختباء من عيون النسوة حياء. فقد كان بهيّ الطلعة ، فارع الطول ، تزيده سعة عينيه الخضراوين جمالا و بهاء. انتهينا إلى قبو تتألّق من جدرانه أزهار شديدة التنوّع ، تدهش الحساسية . ولم نزل كذلك حتى تجلّت من ورائه أدراج متخفّية تقود إلى شقة تبدو حديثة البناء ، أمكنني أن أتبيّن بمشقّة بالغة أصوات تفرّعت من الداخل. و بمحاذاتها بهو تنبعث من أرجائه رائحة شاي منعشة . مرّر يزيد كلمة السرّ في ورقة من تحت الباب ففتح في حينه . احتفظت بهدوء ظاهر و أنا غمد نظرات فاغرة لم أعرف منها سوى مصعب و حسان.
بادر يزيد بإلقاء التحية بسكينة و وقار قائلا: <<السلام عليكم أيها الإخوة الكرام >>، فردّوا بمثلها. لم أجد صعوبة في أن أقتنص لقطة الضيق المختبئة و المعممة لدى السادة الحضور.
قال حسان بنبرة حازمة: <<هذا أخ كريم أظهروا له ما يستحقّ من الإحترام>>.
مصعب: <<هو الرجل الذي أثار فضولكم و جرّب الأحزان و التوحّد. كلنا كنا نستعجل رؤيته . و ها هو ذا قد جهد إلينا في سبيل صلاح هذه الأمة>>. انتظر يزيد حتى يوضع الشاي و الماء على مناضد صغيرة متفرّقة في أرجاء الغرفة ليفتتح اللقاء متطيّرا بالاستعاذة و البسملة و الثناء المستفيض على المولى عز و جل ثم قال: <<ما نحن أيها الإخوة سوى فقراء محصّنين بإذنه تعالى بأمانة قذفت في قلوبنا. نبل رسالتكم أنكم أمناء على أمة كثر فيها الفساد و الخذلان. و تتضاعف نخوتكم بأخ طليق منّ عليه الباري الهداية و الصلاح ، أخوكم في الله حازم. فما يمنعنا أن نرفع الدعاء لصحبتنا الجديدة و نعلن قوام مجلسنا بقسم مبين>>.
و ما أن سمعوا حتى رفعوا أيديهم بينما قام يزيد بواجب الدعاء ثم قال معقّبا: <<إخوتي في الله ، لا يمكن إعطاء تصوّر صحيح عن تنظيمنا إذا لم نفرد باب الاجتهاد ضمن أطر شرعية نحتكم إليها. و لنتكلم بصراحة ، إن باب الجهاد أدواته محرجة و أساليب الدعوة فيه محفوفة بالبدع . و ها هو الغرب الكافر بنعم الله و فضله ينسج عقولا مصقولة بالضلال من بني جلدتنا يتكلّمون عن الجهاد كقطيفة للإرهاب و التعصب و التطرف. فوا الله ما كانت الثياب لتستر عوراتنا في حياة سقيمة ذليلة فيها جنود مرتزقة يشقّون طريقهم إلينا في العراق. يهتكون أعراضا و ينهبون أرزاقا. لا و الله ما استنفروا علينا إلا و فرائسهم ترتعد حبا في متع حياة زائلة.إخوتي في الله ، إن أنظمتنا لا يضارعها شيء في وطنيتها المتوهّجة كذبا . فهل الجهاد اندفاع غاشم ؟ لا و الله ، فالغلط كل الغلط لجهاد بلا تخطيط و تنظيم بلا أصول. هلاّ بيّنتم لي خطأ يمكن أن يصيبنا في مقتل ؟ حكّام يمسكون بأهداب العدالة فيلفّقون التّهم الجزاف لإخوة لكم استنصروا بالدين . أليس صحيحا أن هناك شرذمة من المتكسبين الخونة المرتدين باعوا أنفسهم طمعا في درهم و دينار؟ ألم يسفك دم إخوتنا أعزّكم الله في بلاط السلطان؟ و ها هي الحرب تدق أوزارها في بلاد الإسلام و دماء طاهرة بريئة غالية تسيل على قارعة الطريق في العراق و الشاشان ... هل ننكس الرؤوس و نحضن الخضوع و الخنوع؟ يا مبتلانا ، أيّ وجه سنقابل به الجبّار القهّار يوم لا تدري نفس ما يخبّأ لها ، نعيم أم شقاء ، سندس و إستبرق أم شجر الزّقّوم و العياذ بالله.إخوتي في الله ، إن الدم الذي لا يهتز بأوشاج الشهادة يتساقط زعافا، فلنجاهد معا و نضارب في أيامنا الطويلة بتلهّف العبد الناصح الذي يبتغي الشهادة >>.
مصعب: <<أقسم بالله أنه لا دم إلا بدم و لا هدم إلا بهدم و ما نحن طلاّب دنيا نعيمها ينفذ و لا يدوم و إنما طلاّب آخرة ، فطوبى لمن سحرته الآجلة و الخزي و العار لمن فتنته العاجلة>>.
اخترت لنفسي ذاكرة من رحيق النهار المنسكب على الهنا و قلت: <<اللحن طلقة تمرق من الساعد>>. قيل لي: <<كيف؟>>
حمدت الله كثيرا و قلت: <<الحديث عن الجهاد يجري متواطئا كالسحر غير أنه ليس له من أثر سوى أبخرة لا تطاق تكاد تصيبنا بالعقم>>.
حسان: <<الإذعان للشهادة معدنه كدّ و جهد و إخلاص فمن أين تتأتّى الأبخرة التي لا تطاق؟>>
مصعب:<<صدقت . يقول عز و جل :" و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا" صدق الله العظيم>>.
قلت: <<سأوضّح ما هو لشدة وضوحه ثاقب. أمّا عن نفسي فأشهد ربّي أنني مشتاق لميتة مقدّسة لا يدركها إلا فؤاد يتفتّق زهوا للجهاد. و سأخلص في مسعاي لكم حتى و أنا أجلد بالسياط و لن تتلعثم شجاعتي و إن زادت جرعة التنكيل ، سأصلي بنبض عاطفة تعانق الشهادة. و لكن خشيتي أن يترك الجهاد لبلاغة الموعظة التي تزعزعها غريزة الطمــــــع . و حفظا لمن دبّر هلا تنادينا بتقية و كناية؟>>
قال حسان ببساطة مهذبة يتقاطر منها التسامح و الإعجاب:<< نادوني القعقاع>>.
قال مصعب: <<و أنا حذيفة>>.
قال يزيد: <<و أنا البراق>>.
قلت : <<و أنا حفظكم الله نادوني معاذ>>.
رفع اللقاء لمدّة عشرة دقائق ، انتهزها أبا حذيفة ليعرّفني بعدي المكنّى بطلحة ، متخرّج من كلية الهندسة الكهربائية بفرنسا .وهو من أصل جزائري ترعرع في بلدة تسمّى أردوان في أحواز باريس. و هو من الحفظة الذين لمعوا في حسن التلاوة في جامع ستالينغراد ؛ و رشيد المكنّى عكرمة وهو متحصل على دكتوراه في الهندسة الكيميائية من ذات الكلية . وهو يقيم شمال باريس في منطقة تدعى بتي كلامار. وهو من أصل عراقي.و قد عرف بنبوغه في الدراسة .
أستأنف أبو حذيفة اللقاء قائلا: <<إني لأعجب لمن يترك الجهاد و تهيج خواطره لما دونه فتتشظّى نفسه في اللهو و المجون>>.

قال طلحة وهو يجيل عينيه بينهم: <<لنذكّر أنفسنا هدانا و هداكم الله ،أن المتعة شراكها منيع تغشاه الأنفس الخائرة و لقاحها مذلّة و خسّة و ثمرتها فقاقيع من الجبن و المهانة>>.
البراق: <<إن أحسنتم الظن بالواحد الأحد و نحسب أنكم كذلك تكونون أعزكم الله طلـــــقاء و في مأمن من كل غواية>>.
القعقاع :<<كلّنا يأمل بإذنه تعالى في إمارة مباركة يلوح منها العزم والفخر فشدّوا الهمّة >>.
قلت: <<هيهات أن تبذر آمالكم و أنتم قابعون تحت أشرعة من سراب. و اعلموا أنني لست ناصحا بل منصوحا ، فقد جئت من شفير جنون بصيرته ظلمة>> .
قال عكرمة و هو يسألني: <<فأيّ طريق نسلك؟>>
قلت: <<الصّبر و الصدق مع الله قلاع حصينة لا يغشاها إلا ذوي العزم منكم و إخوة يلحقون بنا بإذنه تعالى. و لقاحه همّة و توكل و ثمرته جهاد و شهادة.و اعلموا ثبّت الله عزمكم أن للجهاد أحكام>>.
القعقاع: <<إنّ لقدومك دهشة يا معاذ، فهلا بيّنت لنا أحوال الجهاد و أحكامه>>.
قلت: <<أمّا الأحكام فسأعرض عنها فأمر التعبير عن حقيقتها يضيق نطاقه و أمّا الأحوال فسأفصّل فيها. فهو في أوّل طالعه ، و الله و رسوله أعلم ،يشتدّ بصاحبه فيغشاه في بعض يومه فتقبل عليه أطياف من معارك هو فيها غالب. وقد يعجب بنفسه ، فهو لفنون القتال جاهل و لشرعته فاقد>>.
ضحك جميع الإخوة و أردف القعقاع : <<إيه و الله ، إن المؤمن يستثاب بما يستشعر من مواهب الله العظيمة فيذهل العقل من حظه و نصيبه و إطناب رغبته في نيل الشهادة>>.
طلحة: <<حال كتلك، ديدنها القلب فيأخذ العبد بحظّه و نصيبه فلا يرى شيئا لغير خالقه إلا بحول قوّته.وهو ينصاع بالفطرة إلى رياض الخير ذودا عن الحق>>.
قال لي البراق :<<اغفر لي هذا السؤال المباغت يا معاذ و لكنني في حاجة إلى جوابك : كيف يحصل اليقين بدوام حضوره فلا يفتر؟>>
قلت: <<نجهّز أنفسنا بالجهاد و نغترف من سيرة الحبيب المصطفى و صحابته فنزهد فيما زهدوا و نقبل على ما أقبلوا. و اعلموا أنّ ما كان منهم مفرط في متع الدنيا و أوّلها البطن. و ما شغفهم بالحياة إلا قليل فافزعوا إلى الصوم حتى تنتقش نفوسكم على ما عزمتم و استعينوا بسير الصالحين في العطاء و التنافس و البذل و المسارعة إلى كمال غناه و رابضوا في اعتكافه قصيرة لتكونوا شهود نصر و إنابة و ابتهاج. و إني لآخذ بزمام هوان الدنيا فأخلصوا النيّة في طلب الشهادة بسكينة العارف قبل انقشاع ظلمة هذا الليل و الهجوا بذكر الله لما له من تأثير عظيم على القلوب فلا قوة على طاعة إلا بمعونته سبحانه.و إذا أدركتم محامد هذه النعمة و المجامعة التي جعلتنا إخوانا أدامها الله و أتمّها ، كان حريّ بنا أن نستحلف بعضنا بعهد و ميثاق>>.
طلحة: <<ما من شيء أحبّ إلى الله من الوفاء بالعهود>>.
القعقاع:<<أن تأنس أفئدتنا بهداية التدبير هو شفاء من الآفات و المصائب، فإن غاب لعل منا لا سمح الله من يشهر السلاح في وجه أخيه>>.
طلحة: <<التنظيم يؤنس في الوحشة وهو سراج يستقبح كل تسيير بلا ترتيب>>.
أبو حذيفة:<<عين العقل يا أحبّة . ألا يسألنا تعالى في اليوم والليلة الهداية إلي صراط مستقيم بحسن التقوى و الإخلاص و الصدق . فلنذكر بعضنا و إننا بعون الله لمنصورون. فقد روى الترمذي و أحمد و النسائيّ في السنن الكبرى و البيهقي و ابن حيان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلّم يقول:" إنكم منصورون و مصيبون و مفتوح لكم>>.
اجتهدنا مباحثة إلى أن أتممنا حاجتنا فنالنا التعب من فرط ما جلسنا و من أبواب الميثاق أصّلنا:
ـــ الكتاب و السنة مرجع كل تدبير . و منهجنا في ذلك ما ذهب إليه ابن كثير ، نفسر القرآن بالقرآن ، فإن أشكل علينا الأمر ؛ نفسّر القرآن بالسنة ما ثبت منه و صحّ سنده.
ـــ لا تتم البيعة إلا لمن كان جامعا لمفاتيح العلم و العمل و من تبصّر بفنون القيادة و من صغرت الدنيا في عينه و لم يستكثر انصرافه للجهاد و من يعظّم خشيته لكل خطر يحدق بمن سواه من إخوته.
ـــ لا يؤتى مجلسنا غيرنا فلا نستزد إلا لخطب اقتضته موجبات باطنة تستجلب خيرا و تدفع ضررا و أذى.
ـــ تبارك طبائع الأقوام من إخوتنا بعناية الترجيح و التفاضل فيما يستلزم من امتثال للتكليف.
ـــ الصدق غنيمة و شفاء من الدسائس و الدخلاء.
ـــ المؤتمن على السر موصوف و معلوم بالضرورة ، تسلب حياته بالقتل و يبنى القصاص على يقين.
ـــ يتراكب التنظيم من أعلى إلى أدنى
ــ لا تناط المهام إلا لمن تأهّل و انفرجت سريرته و طربت نفسه لها و شدّ أزر التنــــــــظيم و الجهاد تحت لوائه ، فريضة على كل أخ و تنجز وفق أحكام و وصايا هيئة الشورى المجاهدة و المؤمنة التي تبايع على إحداث سارية التخطيط الحربي و التسليح، سارية التعبئة و التجنيد، سارية الإفتاء و التأصيل الشرعي،سارية الطوارئ و الأزمات،سارية التكنولوجيا والاختراق و التجسس و سارية المالية و الإدارة. هذا و بإجماع الإخوة تصديقا وقبولا بما آمنوا به و سلّموا به تسليما لا تهزهم في ذلك زوابع الفتن، قد جنّدوا أنفسهم و اختاروا طريق الجهاد . و ما المراد في ذلك سوى تطلّع الأعناق إلى الشهادة عملا بقوله تعالى في الآية 55 من سورة الزمر:" و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون".
كنت أول المندهشين الذين تفاجئوا حين أقترح أبو حذيفة أن أنال شرف قيادة التنظيم. إن هذا الاصطفاء الذي سلّط عليّ فجأة عرّضني للحيرة . فقد جرت الأمور كما لو أن الإخوة قد بتوّا في الأمر. فخشيت أن يكون خيارا غير مطمئن ربما لأنه ينقصني التأهيل أو الطاقة للبناء.
قال القعقاع: <<صممنا عمدا لتكون أميرنا في هذه الأيام الصعبة>>.
قلت: <<لا أدري لقد خرجت للتوّ من غربتي و أخشى ألاّ أكون في مستوى التكليف>>.
علا صوت الإخوة بشيء يشبه المرح الموسوم برجاء حار: <<نحن عونك و نشهد الله على مبايعتك دون تقصير أو مخالفة>>.
بمقدار ما كنت متجهّما من المسؤولية و أنا أستحضر أعباءها بقدر ما كنت أتساءل في ذاتي عمّا يجعلها ممكنة أو بالأحرى ما يعلل هذا الاختيار الذي يجعلني أميرا. قلت : <<هذا متقدّم على وعيي بذاتي و تجاربي الماضية تخبّئ وراءها شخصا مجهولا ؛ و خشيتي أن استظهار التبجيل محبّة جرّدت من الجدوى>>.
سأل طلحة: <<من أين نبدأ؟>>
قلت: <<السؤال الذي يملي نفسه وسط ضجيج صاخب حول الجهاد هو التأصيل و ثبوت قول الشرع في لوازمه التي صارت بحاجة إلى تجديد و تطعيم و تقرير يطال الوضع العالمي و مكان الدعوة و معايير الاستقطاب. من غير ذلك ترتد أعمالنا إلى أقوال فنخطئ السبيل في نشر الدعوة>>.
البراق: <<الوسائل و المقاصد جزء من إستراتيجية عملنا فبقدر ما نحسن الإعداد بقدر ما نمسي قوة مبتكرة تتعامل بتأهب في حربها المقدسة. و ثوابت الجهاد فكرة بليغة أخي معـــاذ و أنا جاهز من الآن للعمل على صياغة تصور يجري تطويره و إثراؤه في أتون لقاء لاحق>>.
القعقاع: <<و ما زمن الإنجاز المتوقع في رأيك؟>>
البراق: <<هي سبعة أيام لا غير تكون بعون الله و حمده جاهزة>>.
أبو حذيفة:<<هناك عامل آخر يتعلّق بالأمن و شروط الانضمام المتعلّقة بالتنظيم.ما هي الطريقة و الأرضية التي سنباشر من خلالها الدعوة؟>>
قلت: <<أصبت ، إن برنامجنا طموح للغاية و يجب أن نبتدع إستراتيجية تضبط قواعد التعامل و معايير الاتصال و أشكال تقاسم القيادة و التسيير. و الواقع إن هذه المقاييس ستؤدي دورا مفيدا و موجّها للشروط المسبقة التي تجعل من تدبيرنا ممكنا و ناجعا>>.
أبو حذيفة: <<و ماذا تقترح؟>>
قلت: <<نبذل أقصى جهد لابتكار الظروف المطلوبة و نعوّل على التخصص الذي يساعدنا بشكل حقيقي في تأمين هذه المهمة ؛ لذلك فإني أقترح أن يسترشد كل أخ اعتمادا على اختيار سرّيته مما ضبط سلفا بالمعارف و المعلومات الضرورية و المركزية التي تيسّر له أداء مهمّته و ينصبّ اهتمامه على إنجاز ذا مغزى في ستة أشهر؛على أن يكون أبو حذيفة دليل الجماعة الذي يسهر على تأمين تواصلها. و لأن الهدف الجوهري من هذه المرحلة يقوم على الاستقطاب فإني أقترح القعقاع أميرا على سرية التعبئة و التجنيد، إذ من الأفيد أن نبدأ بتعزيز فعالية الانتساب ممن شهد لهم بالنبوغ و الاستقامة في هذا الطور من التأســــــــيس, و يباشر أبو حذيفة التواصل مع المجموعة بالطريقة الآتية: تتدفق المعلومة من القعقاع عن هوية المنتدب الجديد و تحصيله العلمي إلى البراق . الذي ينقلها بشكل ترابطي إلى أبي حذيفة أمير سارية الاختراق و التجسس و مراقبته بما يكفي للتحقق من ولائه.



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشهد الأول - رواية ريح من داعش-
- في مئوية عبد الناصر، هل الناصرية ماض نبكي على أطلاله أم مشرو ...
- ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا
- العولمة و انشطار مفهوم السيادة
- مكانة عصمت سيف الدولة في بلورة فهم تقدمي للفكر القومي
- حين تكون قوميا تقدميا
- استقالة محسن مرزوق : صناعة التحولات و كسر النموذج المقفل لحز ...
- رمال القحط
- معقولية خطاب غير خلاّق
- رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية التونسية
- القمع الفتّاك للفكر
- صرخة في مشهد
- ناخب فطن يبوح بأسرار عميقة
- صراعات مكشوفة
- عقاب مكرور
- تقادمية حالة حرب
- في مكان ما خارج حزب ما
- فقدان الاتجاه أم واقع سياسي جديد في تونس؟
- تونس ما بعد أزمة النداء
- أحزاب تونسية مفخّمة و مفتولة العضلات، تهوي و تنال دفنا جميلا


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا لاغة - المشهد الثاني من رواية ريح من داعش