ديالكتيك العلم الاجتماعي التاريخي بالواقعة المعاصرة


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7474 - 2022 / 12 / 26 - 23:46
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

سألت أيها الصديق العزيز بخصوص عبارة المفكر الماركسي الأردني هشام غصيب، وكوني لم أستطع التعليق على العبارة مباشرة لافتقاري لصداقة صاحب الصفحة فقد وجدت من المناسب والمفيد أن أعلق هنا على العبارة بشيء من الاسهاب القليل.
تقول عبارة هـ. غصيب: هل علينا ان نتملك تراثنا علميا وثوريا لكي نتملك حاضرنا وعصرنا؟ امعلينا ان نتملك عصرنا وحاضرنا علميا وثوريا لكي نتملك تراثنا؟ ومن من المفكرين العرب المحدثين انتبه الى هذا السؤال وحاول الإجابة عنه؟
واضح أن عبارة هـ. غصيب مشغولة بهاجس بداية طريق العلم؛ العلم بالواقع الراهن والمعاصر، وعلاقة ذلك بمسألة التراث العربي القومي والديني.
ود. غصيب من المهتمين بالديالكتيك وبتعليم الديالكتيك للناشئين. وله جهود متواصلة ومشكورة.
لكن أول ما يغيب عن العبارة هنا هو الفكر الديالكتيكي، بالتالي يخلق طرح المسألة هكذا وبهذا الشكل ارباكاً للذهن، وتبرز أمام الباحث صعوبة لا يمكن تجاوزها لحل مسألة علاقة التراث وتسلمه علمياً بعملية بناء العلم بعصرنا وبشروطنا الراهنة. فإذا أخذنا الشطر الأول من العبارة وحققناه وأنجزناه: تملك عصرنا وحاضرنا علمياً وثورياً (قضايا النظرية والتنظيم)، فلا حاجة تبقى هنا للانشغال بالتراث أو التفكير فيه لأننا أنجزنا المهمة دون الحاجة لمعونة التراث. وإذا أخذنا الشطر الثاني وحققناه حتى منتهاه: أن نتملك تراثنا علمياً وثورياً، فسيطرح السؤال مباشرة: ما لدافع لدينا نحن المعاصرين لإنجاز هذا التملك المزدوج (علمياً وثورياً)؟ وسيكون الجواب بداهة أن لدينا مهام معاصرة نظرية وتنظيمية استدعت التحقيق النقدي والعلمي بالتراث.
إن عيب العبارة الأساسي أنها تطرح سؤال بناء العلم بالواقعة المعاصرة بطريقة (هل نتملك ألف .. أم نتملك ب)، وهذا الطرح (هل .. أم؟) طرح غير ديالكتيكي، بل يتماثل مع المقاربة الميكانيكية التي تربك العقل الجدلي.
نحن المعاصرين المشغولين بمقاربة عصرنا مقاربة علمية لبناء النظرية وقضايا التنظيم التي تخصه نواجه بعدة وقائع وقضايا ومسائل، بعضنا تخلق لديه هاجس علمي وسياسي فيتقدم لتحقيق ذلك، وما أن يسير في هذا الطريق؛ طريق العلم دارساً ومحققاً حتى يصل إلى نقطة تغدو عندها العودة لمراجعة التراث وبشكل ملح أمراً حاسماً لاستكمال بناء العلم بالواقعة المعاصرة ، فندخل في دائرة التراث تحقيقاً ونقداً وتسلماً ، لأن التسلّم تعني أخذ التراث بعد نقده وتهديم وتفكيك ما يجب تهديمه ودمج ما يتوجب دمجه ورفعه إلى مستوى العلم الجديد. وقد تحدث عن هذه العملية العلمية لتسلم التراث كل من هايدغر وديريدا على خطاه لاحقاً (هايدغر عبر مفهوم التهديم وديريدا عبر مفهوم التفكيك).
لكن بعد تحقيق التراث ونقده وتسلُّمه، لا بد من خطوة ثالثة ليكتمل بناء العلم بالواقعة المعاصرة، حيث يتم رفع كل ما هو حي ونابض وفعال؛ تسلمه ودمجه في بنية العلم الجديد.
هذه الحركة الثلاثية لديالكتيك قيامة العلم بالواقعة المعاصرة يعرضها النص القرآني عرضاً بارعاً في سورة الكهف: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)]
هذا هو ديالكتيك بناء العلم: تحقيق بالواقعة المعاصرة نصل حتى نقطة تغدو العودة إلى التراث حاسمة لإكمال بناء العلم، ثم العودة إلى الواقعة المعاصرة من جديدة بعد تسلم التراث.
ها هو انجلز يعود في سنة 1882 ولمناسبة وفاة برونو بوير ليكتب الكلمات التالية: في 13 نيسان توفي في برلين رجل سبق له أن قام بدور كفيلسوف وعالم لاهوت، لكن لم يعد، وهو منسي منذ سنوات، يستلفت نحوه انتباه الجمهور إلا من حين إلى حين، كضرب من الأدب "طريف" . وكان علماء اللاهوت الرسميون، بما في ذلك "رينان"، ينتحلون أفكاره، ولذلك السبب أجمعوا على إلقاء اسمه في طيات النسيان. ورغم ذلك فإنه أكبر قيمة منهم، وقد حقق أكثر منهم في الميدان الذي يعنينا، نحن أيضاً، معشر الاشتراكيين، مسألة منشأ المسيحية التاريخي" (حول الدين ص 146)
ونضرب مثال لينين حين درس كتاب ماركس رأس المال، وحين فشلت الثورة الروسية الأولى عاد إلى تراث هيغل ولخص المنطق الكبير والموسوعة وعاد إلى ميتافيزيقا أرسطو، حتى نقل عنه قوله في تعليق يخص بليخانوف: لم يفهم الماركسيين الروس كتاب ماركس الرأسمال لأنهم لم يقرأوا كامل منطق هيغل. وقال إن الثورة الروسية الاشتراكية مرت عبر المنطق الكبير لهيغل. ذلك أنه(لينين) لاحظ لاحقاً القصور الفلسفي والنزعة "العقلانية الطبيعية" في كتابه الفلسفي "المادية ومذهب النقد التجريبي" الذي حرره سنة 1908 على أرضية ازمة الفيزياء المعاصرة وقتها. لهذا ومع الحرب العالمية الأولى وارتداد كاوتسكي عن الاشتراكية الثورية ومع تصاعد الاحتجاجات العمالية في روسيا من جديد كان لا بد من هذه العودة لدراسة التراث الفلسفي وتحقيقه من جديد.
هذا أمر والأمر الآخر أن بناء العلم بالواقعة المعاصرة وحسب لينين في مقالته "عن الديالكتيك" والتي هي خلاصة تحقيقه الجديد بالتراث الديالكتيكي والفلسفي، لا يتم بضربة واحدة (من الضربة الأولى)، بل يحتاج إلى ضربات متعددة، وهذا ما ورد في تلخيصه لمنطق هيغل. لا يتم حصول العلم بالظاهرة أو الواقعة المعاصرة من الضربة الأولى، وطريق العلم متعرج ومتناقض، فيه الكثير من التقدم والتراجع، وأخيراً نقول: يوجد عود في ديالكتيك العلم الاجتماعي التاريخي، وكما قالت العرب: العَود أحمد؛ أبلغ وأبين!