-التخلف والتنمية-*، عرض الباب الثالث


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7772 - 2023 / 10 / 22 - 01:11
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

يطبع التخلُّع جيداً أحوال البلد المتخلف، لكن ينبغي ألا ننسى أنه مرتبط على نحو وثيق بالسيطرات الخارجية التي ترهق مجتمع البلد المتخلف واقتصاده"
لم يظهر التخلع في الغالب إلا من خلال السيطرات الخارجية الامبريالية. فقبل التوسع الامبريالي الكبير (بعد كساد 1876) لم يكن صحيحاً الحديث عن التخلّع"
هكذا نفهم مرة أخرى كيف شكلت الامبريالية كطور في الرأسمالية بدأ نهاية القرن التاسع عشر، شرطاً لبروز ظاهرة التخلف، ومعها آليات التخلُّع الاقتصادي والترضيض الاجتماعي-الثقافي. بهذا أيضاً نفهم أن الشرط الامبريالي ومعه السيطرات الخارجية الأجنبية خلق ظاهرة التخلّف وآليات التخلّع الاقتصادي أو عدم التمفصل في المجتمع المتخلف. ونلاحظ أن كلمة السيطرة مستخدمة بصيغة الجمع: سيطرات، ومعناه أن السيطرة ليست اقتصادية فحسب، بل هي سيطرة سياسية واجتماعية وثقافية. وهذه هي الاشكال الثلاثة للسيطرة:
1-السيطرة من خلال المبادلات التجارية
2-السيطرة من خلال تدفقات رأس المال
3-السيطرة الاجتماعية والثقافية والسياسية
1-السيطرة من خلال المبادلات التجارية: البلدان المتخلفة تصدر مواد أولية، وغالباً ما يكون هناك تخصصاً للبلدان في تصدير مواد بعينها (نفط، بن ، شاي، موز، مطاط، قطن، الخ)، وتكون تجارتها محددة ببلد أو اثنين (بلدان افريقيا-فرنسا، بلدان أميركا اللاتينية-الولايات المتحدة الاميركية)، وتستورد منتوجات مُصنّعة. هذه هي الصيغة الشهيرة للتقسيم الدولي للعمل الذي فرضته الدول الامبريالية بالقوة والحروب.
تشكل التجارة الخارجية في معظم البلدان المتخلفة القسم الأساسي من دخول الاقتصاد المديني.
يسبب التقسيم الدولي للعمل (في شكله الامبريالي)، بالضرورة، سيطرة البلدان المتطورة. ينجم عنها نتائج اقتصادية واجتماعية مدمرة " هذا التقسيم الدولي الجائر للعمل يجعل مسألة الصراع الطبقي ظاهرة دولية بامتياز، ويجعل للتحالفات الدولية والاستقطابات تداعيات أكثر خطورة على السلم العالمي والعلاقات بين الدول.
اتجاه التجارة الدولية على المدى البعيد يدل على تكريس التقسيم الدولي للعمل وتفاقم ظاهرة التخلف. أما اتجاهها على المدى القريب فيظهر عدم استقرار أسواق منتوجات المواد الأساس (المواد الاولية)، وبالتالي التقلُّب الخطير في أسعار هذه المواد، ما يهدد البلدان المتخلفة بالإفلاس وبمزيد من الفقر. وهذه هي تمظهرات السيطرة التجارية للبلدان المتقدمة.
"إن وجهة توسع التجارة الدولية ما تزال بعيدة جداً عن أن تتيح للبلدان المتخلفة تلافي تأخرها" وتجاوزه. والسنة الأساس أو الفارقة في التجارة الدولية هي سنة 1938 (قبيل الحرب العالمية الثانية) "منذ عام 1938 ظهر تفاوت بين توسع تجارة كل من البلدان الصناعية والبلدان المتخلفة. وهذا معناه أن حصول تزايد في الإنتاج الصناعي في البلدان المتقدمة لا يستدعي توسع متناسب معه في تجارة منتوجات الأساس (المواد الاولية) التي منشؤها في البلدان المتخلفة" والأسباب قائمة في توسع انتاج المواد الأولية البديلة (التخليقية أو الصناعية) "المواد التخليقية على وجه الخصوص، هي التي تفرض نفسها بصورة متزايدة على حساب المنتوجات الطبيعية. " فمنذ عام 1952-1962 تزايد انتاج القطن بنسبة 24% والصوف بنسبة 11% أما انتاج المنسوجات التخليقية (المصنعة) فقد تزايد بنسبة 740% كما كان تزايد انتاج المطاط الصناعي (التخليقي) بالغ السرعة." بالطبع وبناء على ذلك سوف تنمو التجارة البينية بشكل كبير بين البلدان المتقدمة، حيث تستغني البلدان المتقدمة تدريجياً عن التعامل مع البلدان الفقيرة. لم تعد التجارة تنشر التنمية، والبلدان المتخلفة باتت على الهامش. صحيح أن زيادة التقدم التقني قد زاد هذه الاتجاهات قوة، إلا أنه غيّب مواد أولية (همّشها) لصالح مواد أولية جديد هي موضع تنافس الدول المتقدمة كالمعادن النادرة التي باتت لها أهمية استراتيجية في صناعة الطائرات والحواسيب والبطاريات الكهربائية، وفي الصناعات الحربية.
تعاني البلدان المتخلفة من تقلّب أسعار المواد الأولية، بالتالي من ضعف عملتها المحلية ومن التضخم المزمن (غلاء الاسعار)، ومن مستوى متدن في الاستثمار، بفعل جهود مكافحة التضخم. يضاف إلى كل ذلك مسألة المديونية نتيجة عجز ميزانية الدولة.
بالطبع تشدد الشركات الاحتكارية الدولية قبضتها على تجارة المواد الأولية، فهي تملك استثمارات المواد الأولية في البلدان المتخلفة والمشاريع التحويلية (الصناعية) في البلدان المتقدمة، بالتالي تحدد تجارة هذه الشركات أسعار المواد الأولية على المستوى العالمي ويكون التنافس بين عدة احتكارات. "في هذه الحالة لم تعد التجارة الدولية سوى مجرد عمليات تحويل في إطار المشروع نفسه"
إن تدهور حدود المبادلة التي شرحناها أعلاه والآثار المخلِّعة للسيطرة الأجنبية هي من العواقب الرئيسية الخطيرة على البلدان المتخلفة. فإذا كانت لدى البلد المتخلف نسبة الصادرات نسبة المستوردات أقل من 100، فهذا معناه أنه لدينا تدهور في حدود المبادلة، والفائض التجاري يذهب إلى البلد المتقدم. وكأن حدود التبادل تعبر عن القدر الشرائية لصادرات البلد المتخلف. هذه النسبة بين الصادرات والمستوردات تدخل عليها عناصر أخرى كالمنح والقروض التسهيلية والمساعدات العينية تجعلها تقريبية. كما أنه يفضل أن تغطي الإحصاءات فترات غير طويلة من أجل الدقة.
حصر التدهور بين 1872-1939 أمر هام لأن 1872 هو بدو الظاهرة الامبريالية وتوسعها حتى بداية الحرب الامبريالية العالمية الثانية.
يذكر للتدهور أسباب نقدية وسيسيولوجية
السوسيولوجية تعني اجتماعية لها علاقة بشكل الاستهلاك ومسألة التظاهر في البلد المتخلف، وميل الأثرياء إلى المبالغة في اقتناء السلع الأجنبية الفاخرة، وإيداع مدخراتهم الكبيرة في البنوك الأجنبية.
والنقدية تعني ظاهرة التضخم الدائم في البلدان المتقدمة والمتخلفة، وهذا التضخم ناجم عن التسعير الاحتكاري الذي تفرضه الشركات الاحتكارية الدولية. حيث يترافق تزايد عرض السلع مع استمرار الأسعار مرتفعة. هذه الظاهرة مرافقة للاحتكار والتسعير الاحتكاري.
في المرحلة الرأسمالية قبل الاحتكارية (مرحلة المزاحمة الحرة) كانت زيادة العرض تعني انخفاض الطلب على السلع بالتالي انخفاض الأسعار، أما في المرحلة الاحتكارية فالأسعار تحافظ على ارتفاعها رغم وجود فائض في العرض وهو ما يؤدي إلى بطء نمو الاقتصاد أو إلى ركود وكساد ومع ذلك فالأسعار تحافظ على ارتفاعها. أي أن ترافق وتزامن الكساد مع التضخم وارتفاع الأسعار سمة للرأسمالية الاحتكارية.
لكن لمفاعيل التضخم والاسعار المرتفعة تداعيات عكسية حسب البلد: فبلد متخلف إذا عانى من التضخم وانخفاض قيمة عملته الوطنية يستطيع شراء سلع أقل، بينما بلد متقدم صناعياً يجعله انخفاض قيمة عملته أن يبيع أكثر في السوق العالمية، لأن بضائعه أو سلعه تكون أرخص وأقدر على المنافسة.
إذن تدهور حدود المبادلة ينجم بالضرورة عن عدم التكافؤ في الاقتصادات والمجتمعات المتجابهة في ميدان التجارة الدولية.
بالنسبة للسيطرة الامبريالية يجب التمييز بين إرادة السيطرة وهي فعل اقتصادي سياسي، وبين آليات السيطرة وعواقبها وآثارها الطويلة، وهي آليات بنيوية اقتصادية من دون تدخل سياسي أو إرادة سيطرة مباشرة. "وجاءت الآليات الامبريالية لتشدد وطأة هذا التسلط "التلقائي" " أي الاقتصادي، بتجميدها النمو الاقتصادي للبلدان المتخلفة. من هنا ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وبعد استقلال أغلب البلدان المتخلفة، ما سمي بالاستعمار الجديد أو الحديث أو الاستعمار الاقتصادي. وهو "نظام الاستغلال الحديث الأكثر تقدماً وترشيداً". إن هذا الشكل يتضمن ويستبقي جميع مظاهره المبكرة ولكنه ينقلها إلى مستوى جديد. والمهمة الرئيسية للإمبريالية في أيامنا هذه، هي تعطيل التنمية الاقتصادية في البلدان المتخلفة، أو إذا استحال ذلك فليكن إبطاءها والتحكم بها"
بالنسبة لعنصر الحجم ودوره في مسألة السيطرة أقول: حتى لا ندخل في سجال ما يزال قائماً حول الاقتصادات الكبرى منها الاشتراكية ومنها الامبريالية، ومن قول بعضهم بإمبريالية الصين أو روسيا أو غير ذلك من السجالات الاعتباطية. يتوجب علينا الاستفادة من قدرة كتابنا هذا التوضيحية. فقد ميز بين آليات السيطرة أو آلياتها الاقتصادية وسيرورتها التلقائية من جهة، وبين إرادة السيطرة المباشرة، وهي فعل اقتصادي سياسي بامتياز، وقد يكون عسكرياً. فعلاقة بلد كبير ببلد صغير، أي علاقة اقتصاد كبير في ناتجه وصناعاته مع بلد صغير ومتخلف يولد تلقائياً في الشروط الدولية الراهنة نوعا من آليات السيطرة سواء كان البلد الكبير امبريالياً أم اشتراكياً. الفارق يكون هنا في غياب إرادة السيطرة المباشرة في البلد الاشتراكي، أو وجود النوايا الحسنة، بينما توجد إرادة السيطرة المباشرة وخططها (النوايا الخبيثة) لدى البلد الامبريالي (قارن سلوك الصين مع سلوك بريطانيا والولايات المتحدة بهذا الخصوص)
نأخذ مثال العلاقات الكوبية الأميركية بعد انتصار الثورة الكوبية 1959.
"أدى قطع العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى انهيار قسم كبير من الاقتصاد الكوبي (كانت صادرات كوبا إلى الولايات المتحدة وقتها تمثل ثلثي صادراتها و 18% من الناتج القومي الاجمالي) في حين أنه لم يؤثر إلا بنحو طفيف جداً على الاقتصاد الأميركي (لا تشكل الصادرات الكوبية إلى أميركا وقتها سوى 12 بالألف من الناتج القومي الإجمالي الأميركي، وصادرات أميركا اللاتينية كلها سوى 6 بالمائة من الناتج القومي الاميركي)"
من هنا فإن قدرة البلدان المتخلفة في التأثير على حجم التجارة وشكلها لا يكاد يحس، ومن هنا تقع في دور سلبي وتكون ضحية لعواقب تصرفات البلدان الصناعية وسياساتها.
في حديث الكتاب عن البنية (بنية الاقتصاد) ودورها في السيطرة، يتساءل: هل لنا أن نأمل في عالم خال من سيطرات اقتصادية؟ ويجيب بلا!
وأقول لكم: من الطبيعي في اقتصاد عالمي تسيطر عليه الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة، ورغم وجود دول كبيرة متقدمة تشق طريقها نحو الاشتراكية (بواسطة اقتصاد رأسمالي) أن يكون لدينا سيطرات اقتصادية. لكن الكتاب لا يتخيل وضع تكون فيه الهيمنة للنظام الاشتراكي العالمي، عندها سنتحدث ليس عن السيطرة، بل عن التكامل الاقتصادي بين أمم الأرض وبلدان العالم الاشتراكي.
السيطرة من خلال تدفق الرساميل
"بشكل ملتبس، هناك أمل بتجديد تجربة القرن التاسع عشر في التنمية الاقتصادية. وحسب هذا الامل ، يكون من المفروض أن تتيح أموال البلدان الغنية استثمار خيرات العالم الثالث وتجهيزه وتطويره، مثلما سهلت الرساميل الأوروبية في القرن التاسع عشر تنمية البلدان الجديدة (كندا، الولايات المتحدة، نيوزيلندا)
هذا الوهم ظهر مرة أخرى بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي 1991 وصعود فكرة "العولمة" ومعها طروحات تقول ببدء تخلص الرأسمالية من "النزعة الامبريالية" وبداية شروع البلدان الغنية بتجهيز البلدان المتخلفة صناعياً عبر رفع لواء "النزعة الإنسانية للتدخل الامبريالي". وقد قاد هذا الاتجاه المضلل والمزيف الدكتور صادق جلال العظم في مقالة له عن العولمة أواخر القرن الماضي، وكذلك بعض تنظيرات وكتابات جاد الكريم الجباعي. وقد قمت وقتها بالرد على مقالة العظم وبشكل تفصيلي في مقالة مطولة نشرت وقتها في مجلة "النهج" تحت عنوان: "ماركسية أم كانطية؟" وقد نشرت المقالة لا حقاً في كتابنا المنشور سنة 1999 "في القول السياسي-1 ضد العولمة والشرق أوسطية".
كما ظهر وهم مشابه ترافق مع الحملة المضللة المرافقة للغزو الأميركي للعراق، مفاده أن أمريكا سوف تقضي على الحكام الطغاة والدكتاتوريين وتقيم ديمقراطية في هذه البلدان، وسوف تعيد اعمار العراق كما أعادت اعمار أوربا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية بمشروع للتمويل شبيه بمشروع مارشال عام 1947 (إعادة اعمار أوربا واليابان تحت اشراف الشركات الاحتكارية الأميركية).
مهما يكن فالبلدان الجديدة ليست مثالا موفقاً لشرح الاستثمار الأجنبي الخارجي، بل هي هجرات استعمارية استيطانية أوربية باتجاه العالم الجديد، هجرات من سكان أوروبيين لديهم المال والخبرات والطموح والمغامرة من أجل المال والذهب. وأعتقد أن البلد الوحيد الذي لم يغدو بلداً متقدماً صناعياً وهو الارجنتين، مع أنه تعرض للاستعمار والاستيطان الأوروبيين إلا أنه يبدو أن سكان الارجنتين الأصليين كانوا أكثر عدداً وأكثر تطوراً من السكان الأصليين في الشطر الشمالي من القارة الأميركية. في بداية القرن العشرين ظهرت تجربة جنوب افريقيا وأستراليا حيث استعمرت من قبل أقليات بيضاء، وكون سكان استراليا الأصليين اقل تطورا من سكان جنوب افريقيا كانت المواجهة لها نتاج مختلفة.
إذا تجربة استعمار الاوربيين للعالم الجديد لا تصلح مثالاً لتدفق الرساميل والاستثمار الأجنبي في بلد متخلف.
يجيب الكتاب بالقول: إن الأمور لا يمكن أن تجري على هذا المنوال. أن الرساميل الخاصة هي الأدوات لاستراتيجية المؤسسات الاستثمارية الدولية الكبرى، ولأن الرساميل الحكومية هي بداهة في خدمة الدول المسيطرة"
ثمة نوعان من الرساميل الخاصة" الاستثمارات المباشرة، والتوظيفات (المساهمات) النقدية أو القروض.
الاستثمار المباشر: أن تقوم الشركة الأجنبية بإقامة مشروع خاص بها في بلد أجنبي، والتوسع فيه. أما التوظيفات النقدية: فهي أن تقوم شركات في بلد متقدم بتوظيف كمية من المال في مشروع استخراجي أو انشائي في بلد أجنبي، كتوظيف نسبة كمية من المال في مناجم ذهب، أو مناجم نحاس أو المساهمة المالية في إقامة سكك حديد بالتشارك والمساهمة مع السلطات والشركات المحلية. أو تقدم الشركة قروض للدول المتخلفة بفوائد مستحقة بوقتها. كانت القروض هذه في القرن التاسع عشر تتجه نحو الامبراطوريات منها الروسية والعثمانية.
جاء في الكتاب: "حتى عام 1939 (بداية الحرب العالمية الثانية) كانت الاستثمارات المباشرة والتوظيفات النقدية تؤلف الطريقة الرئيسية لتمويل الاستثمارات في البلدان المتخلفة. أما اليوم (1969) فلم تعد الأمور تجري على نفس المنوال، فالتوظيفات النقدية أضحت نادرة. وتدفقات التوظيفات النقدية الوحيدة، التي تصل البلدان الغنية بالبلدان الفقيرة، هي التدفقات التي تأتي من البلدان الفقيرة، وهي حصيلة هرب ادخارات ذوي الامتيازات إلى الخارج." ، أي أن الاتجاه أصبح عكس السير. وهناك طريق آخر لتدفق التوظيفات المالية والرساميل هو من الولايات المتحدة إلى بلدان أوروبا الغربية المتقدمة واليابان وأستراليا.
أيضاً نلاحظ آلية مشابهة فيما يخص الاستثمارات المباشرة: تتجه تدريجياً نحو البلدان المتقدمة الغنية، وتجعل التضامن بين البلدان المتقدمة أكثر وثوقاً.
لكن للشركات الاحتكارية المستثمرة أهداف أخرى هي أن "الاستثمار المباشر" وثيق الارتباط باستراتيجيات الشركات بما يخص السيطرة على البلدان المتخلفة ومناجمها. وليس من أهدافها بتاتا تنمية هذه البلدان إلا بشكل عرضي يخص عمل الشركة.
إضافة إلى ذلك، إن قسماً هاماً من الاستثمارات الأجنبية لا تتحقق بواسطة رساميل قادمة من البلدان الغنية، بل بإعادة استثمار أرباح راس المال المستثمر قبلاً. وخلافاً للتوظيفات النقدية، فإن الاستثمارات المباشرة لا تأتي إلا بالقليل من العملة الصعبة، وتبقي البلد في التبعية الاقتصادية"
فيما يخص أهداف الاستثمارات المباشرة في البلدان المتخلفة، تتركز الاستثمارات الأجنبية في القطاعات التي تضمن تموين البلدان المتقدمة بالمواد الأولية، والبترول بخاصة. أما خلق المشروعات الصناعية فهو وحده الذي كان مهملاً"
اتجاه الاستثمارات المباشرة المفضل:
اعتبارا من 1872-1939 عملياً كانت استثمارات البلدان الصناعية تصب في البلدان المتخلفة بشكل خاص. أما اليوم ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية، فقد انقلب الاتجاه رأساً على عقب، فالاتجاه المفضل هو نحو البلدان المتقدمة. ليس الاستثمار في البلدان المصنعة من قبل أضمن وأسهل فحسب، بل إنه يتيح الدخول في أسواق هي في تمام النمو والازدهار. إن التحول الذي أصاب اتجاه شبكة الاستثمارات الأميركية يشكل علامة مميزة لهذه العملية"
يخرج الكتاب بنتيجة تقول: إذن من الصعوبة بمكان الاعتماد على الرأسمالية الدولية في سبيل تنمية البلدان المتخلفة. وأن المجتمعات الرأسمالية الصناعية، إذا تركت تسير وفقاً لديناميتها الخاصة، لم تعد تحث إلا تنميتها الخاصة" وإذا اكتفينا بوجهة النظر هذه، غاب الجانب الداخلي من عقبات التنمية في البلدان المتخلفة، وهي سيطرة البورجوازية المحلية المتخلفة على سلطة الدولة. من هنا نخرج بصياغة أكثر كفاءة وشمولية، وهي أن البورجوازية في مراكز النظام الرأسمالي وفي أطرافه باتت تشكل عقبة خارجية وداخلية أما تنمية صناعية للبلدان المتخلفة، وباتت مهمة تصنيع وتنمية هذه البلدان من شأن الحركة الاشتراكية والبروليتاريا في تحالفاتها الديمقراطية في الداخل والخارج.
تدفقات الرساميل الحكومية
انتشرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 تدفقات ضخمة من الرساميل الحكومية أخذت غالبا شكل هبات بلا شروط. ومن عام 1945-1950 اتخذت اتجاهها الأساسي من الولايات المتحدة إلى أوروبا واليابان فأتاحت إعادة بناء القارة الأوروبية وتحديثها مع اليابان"
ومن وجهة نظري أن الدافع وراء هذه التدفقات الحكومية غير المشروطة هو دافع سياسي استراتيجي الهدف منه مواجهة المد الشيوعي بعد الحرب 1945 وبعد انتصار الثورة الاشتراكية الصينية 1949، في أوروبا وجنوب شرق آسيا (الهند الصينية) وكان مشروع مارشال 1947 علامة بارزة على هذه الإرادة السياسية الأميركية، خاصة وأن الولايات المتحدة خرجت من الحرب وهي تقود النظام الامبريالي بدلا من المملكة المتحدة.
"منذ 1945 وحتى اصلاح كنيدي 1961، كانت المهمة الأساسية لهذه المساعدات العمل على دحر الشيوعية. بيد أنها لا تخلو من معنى اقتصادي: إنها تحاول تمهيد الطريق أمام الصادرات الأميركية (العسكرية والمدنية) وتعمل لتوطين (وتكريس ونشر) نمط الاستهلاك الأميركي في البلدان الحارة (بلدان الجنوب). "إن أوروبا التي كانت مهددة بتحولات شيوعية (بعد الحرب) قد تلقت خلال الفترة 1948-1952 القسط الأساسي من المساعدات الأميركية. فالبلدان التي كانت أمريكا ترى أنها مهددة من قبل الشيوعية والتي كانت متحالفة معها عسكرياً (أوروبا، اليابان، كوريا الجنوبية) هي التي حازت على القسم الرئيسي من المساعدات"
أما المساعدات إلى البلدان الأخرى المتخلفة فكانت محكومة بشواغل عسكرية (المساعدة لأجل الدفاع).
ولتعزيز السيطرة على البلدان المتخلفة ومنع تحولها الاشتراكي كانت التحويلات الحكومية تشكل 80% من الرساميل التي تلقتها هذه البلدان 1951-1961. "إن هذه التحويلات في الرساميل تدخل ضمن استراتيجية البلدان الغنية. وهدفها الأساسي ليس التنمية، بل الحفاظ على سلطان الدول المسيطرة وتعزيزه". وكون هذه الرساميل في معظمها (90%) ثنائية الطرف (مقدمة من بلد لآخر دون المرور بالمنظمات الدولية، وهذه الأخيرة تسمى متعددة الاطراف) لا يترك أي لبس حول معنى تحويلها." ووظيفتها في تعزيز السيطرة.
أما ارتباط المساعدات الحكومية الأميركية بالاستراتيجية التجارية، فهذا معناه أن المساعدات الأميركية المنطوية على أغراض تجارية تتيح للمنتجين الاميركيين تصدير انتاجهم بسهولة (بفعل القروض الحكومية والمنح). "إن القانون رقم 480 المسمى "قانون المساعدة لتنمية التجارة الزراعية" الذي يمول "برنامج الأغذية في سبيل السلام" الذي دُشّن عام 1955 هو نموذج لخليط مشوش من أهداف استراتيجية (وعسكرية) وأغراض تجارية لإحسان جشع"
المساعدات الأميركية واستراتيجية التنمية
سنركز قليلاً على هذه الفقرة لما لها من أهمية خاصة في الكشف عن الأدوار السياسية للجيوش في البدان المتخلفة واستيلائها على سلطة الدولة.
لقد بنى الخبراء الأميركيون الآمال خلال فترة طويلة على ظهور طبقة وسطى (بورجوازية) في البلدان المتحالفة عسكرياً مع الولايات المتحدة الأميركية. وهذه الطبقة سوف تكون في معظمها منخرطة في القوات المسلحة (الجيش) أو في إدارات حكومية أساسية.
"وبالفعل فإن الأموال التي تأتي بها المساعدات، إذ تغذي موازنة الدولة، تتيح الحفاظ على جيش وادرة لجبين (ضخمين). في هذه الحالة يشكل الموظفون المدنيون والعسكريون النواة المركزية لطبقة وسطى (بورجوازية) مدينية. تتكفل بواسطة انفاقها بازدهار الفلاحين. أما حاجات هذه الطبقة فإنها تصاغ حسب المستوردات التي تتيحها المساعدات. والواقع أنه ما دامت المواد الاستهلاكية الخاصة بالطبقة الوسطى [هذا الاستخدام لكلمة الوسطى آت من صفة البورجوازية في الثورة الفرنسية حيث كانت تتوسط بين العوام والنبلاء] هي التي تحظى بالطلب الاوسع بالنسبة لأنواع السلع المستوردة، لذى فإن منع استيرادها لصالح سلع أكثر نفعاً للتنمية غير وارد. هكذا يتعرض تمويل الموازنة لخطر الاستنزاف". وهذا بطبيعة الحال يقود البلد المعني إلى الأسلوب الرأسمالي البورجوازي في التنمية.
إن حاجات تلك البلدان إلى المنتوجات المصنوعة بالإضافة إلى الادخار الذي يفترض أن يوفره ارتفاع دخل الطبقة الجديدة، يجعل الأمور تبدو وكأنها جاهزة تماماً لخلق صناعة محلية. إلا أن الأمور تجري عكس ذلك، وتغدو الطبقة الوسطى (البورجوازية) المرتبطة بالغرب الرأسمالي بمداخيلها واستهلاكها، سوراً أميناً ضد الشيوعية."
إن نمو هذه الطبقة البورجوازية في البلدان المتخلفة بعد الحرب العالمية الثانية، جعلت تدخُّل الجيش في الساسة واستلام سلطة الدولة أمراً أكثر من شائع. ولدينا أمثلة هائلة في تجارب الجيش في السلطة في الأقطار العربية غير الملكية (مصر، سوريا، ليبيا، العراق، الجزائر).
إن المساعدات الأميركية وحتى السوفياتية لم تفض سوى إلى خلق اقتصاد مديني يبدو كجزيرة (اقتصاد مديني مُخلّع) ومريض بحب المال والمضاربات. إن الأسلوب الرأسمالي في التنمية لم يكن موضع شك أو تساؤل أبداً في أغلب البلدان المتخلفة، سواء التي تلقت مساعدات أميركية أم سوفياتية، باستثناء أن الأخيرة التي تلقت مساعدات سوفياتية، رفعت شعارات اشتراكية بورجوازية صغيرة عقائدية (اشتراكية قومية) لم تغير شيئاً في جوهر رأسمالية التنمية. وقد أطلق على هذه التنمية الرأسمالية في البلدان التي كانت تسمى "تقدمية" "طريق التطور اللارأسمالي".
لقد ربط الرئيس كنيدي عام 1962 بين التنمية الرأسمالية والحرية يقول: "إن فلسفة السوق الحرة، التي تستند إلى أوسع إمكانية للخيار الاقتصادي متاحة للأفراد والأمم، هي قديمة قدم مفهوم الحرية ذاته". إن المبدأ الذي يحكم استراتيجية التنمية الأميركية بسيط: ليس من حل خارج إطار الرأسمالية، بالتالي ممنوع منعاً باتاً على الأسلوب الاشتراكي للتنمية دخول الميدان في هذه البلدان. وتبعاً لذلك تتغير المساعدات الأميركية لبلد تبعاً لتغير أحوال "الخطر" الشيوعي.
المساعدات السوفياتية
بحكم احتدام الصراع الطبقي الدولي بين المعسكرين الاشتراكي والامبريالي الرأسمالي، ومنطق الحرب الباردة، "خضعت المساعدات السوفياتية كالمساعدات الأميركية لسياسة القوة" فكل معسكر يحاول حشد قوى البلدان الأخرى ضد الطرف الآخر في الحرب الباردة التي قامت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور الكتلة السوفياتية الاشتراكية كقطب دولي له وزنه الكبير ويحسب له حساب.
من سمات المساعدات السوفياتية:
1-حجمها الصغير (أقل من 6.5% من المساعدات الدولية)
2-أقل إرهاقاً بالنسبة للبلدان المتخلفة نظراً لصغر حجمها وللتساهل السوفياتي في منحها.
3-على صغر حجمها تقدم مثالاً جيداً لقلة الاعتباط وللتناسق الاستراتيجي
4-تستهدف المناطق غير المستقرة، أو البلدان التي هي في حالة نزاع مع الغرب الامبريالي. وهي تتناسب مع درجة إمكانية تحول البلد الذي تقدم له المساعدة إلى الشيوعية أو أن يصبح حليفاً لها في الحرب الطبقية الدولية المستعرة. هذا السعي للتحالف حتى مع بلدان ذات تنمية رأسمالية بورجوازية جعل المساعدات السوفياتية على صغرها تلعب دوراً في تنمية طبقة بورجوازية تحتكر المناصب العسكرية والمدنية، وتعتمد نمط استهلاك غربي كما سبق ذكره (مصر، الجزائر، سوريا، اندونيسيا، الهند). وهي بلدان "التطور اللارأسمالي"
من المفيد لاحقاً اجراء بحث مخصص للمساعدات السوفياتية للصين بعد انتصار الثورة الاشتراكية، ومن ثم القطيعة بداية الستينيات والصراع الأيديولوجي المرير بين البلدين الاشتراكيين.
5-في جميع الأحوال، فإن الأهداف السياسية للمساعدات تحظى بأولوية مطلقة على الأهداف الاقتصادية البحتة.
6-كانت المعونات تقدم دون اجراء أي دراسة تمهيدية للتحقق من ملاءمة طلب البلد المعني ومناسبته، ولهذا كانت المساعدات والمعونات تستهدف الدعاية السياسية، والغزو الدبلوماسي.
7-كان للمساعدات السوفياتية واستراتيجيتها التجارية ميزة غير موجودة عند الغرب وهي أنه يمكن للبلد موضع المساعدة أن يسدد ديونه للسوفييت بشكل عيني؛ عبر المقايضة: بضاعة مقابل بضاعة (السكر بالنسبة لكوبا، والقطن بالنسبة لمصر، والمعادن بالنسبة للهند)
نرى هذه الأيام جهود روسية حثيثة للإفلات من سيطرة الدولار على التجارة العالمية عبر التجارة بالعملات المحلية (خاصة مع الهند والصين)
لقد منعت الشواغل السياسية للمساعدات هذه الطريقة في المبادلات أن تعطي نتائجها الحسنة.
إن سياسة الاكتفاء الذاتي للاتحاد السوفياتي والاستراتيجية التجارية الانطوائية حرمت مبادلاته التجارية مع البلدان المتخلفة من التأثير على بنية التقسيم الدولي للعمل والسعي لتقسيم جديد. أمر آخر كان له دور كبير في ذلك، هو بنيته الاقتصادية الكبيرة والمتطورة والتي عملت باتجاه معاكس لإرادته السياسية؛ مقتفياً أثر القاعدة التي تقول: إن الاقتصاد الصناعي المتطور والكبير أكثر حاجة إلى الاقتصادات الصناعية المتطورة الأخرى منها إلى الاقتصادات المتخلفة. ولهذا فإن مبادلاته التجارية مع أوروبا الغربية تتوسع بصورة أسرع من توسعها مع بلدان العالم الثالث"
إن ما يميز المساعدات الأميركية عن المساعدات السوفياتية، أن شواغل عسكرية وتجارية هي التي تحكم المساعدات الأميركية، وأن هدفها البعيد هو الحفاظ على الأوضاع المتفسخة في العالم الثالث، وخلق طبقة وسطى (بورجوازية) فيه مرتبطة بالغرب، بالتالي احكام واستدامة السيطرة الامبريالية الأميركية عليه.
عانت المساعدات السوفياتية في البلدان غير الاشتراكية إشكالية صعوبة الاعانة في مجال التخطيط، ثمة خبيران ماركسيان فقط، عملا في ميدان التخطيط في بلدان العالم غير الاشتراكي وهما الفرنسي شارل بتلهايم، والبولوني أوسكار لانجه. وقد قدم شارل بتلهايم للطبعة الفرنسية لكتاب بول باران "الاقتصاد السياسي للتنمية"، وكانت له نقاشات وسجالات اقتصادية سياسية مع الثوري الاممي المعروف إرنستو تشي غيفارا. أما أوسكار لانجه فله تأليفات اقتصادية سياسية مهمة منها على سبيل المثال "الاقتصاد السياسي-القضايا العامّة"
إن استراتيجية التنمية التي تحكم المساعدات السوفياتية أن السوفيات يريدون تطبيق طريقتهم الخاصة بالتنمية كالتخطيط الصارم والأوامرية المتشددة في الاقتصاد. مع ذلك فإن الجهود التي بذلوها لتكييف هذه الطرق مع ظروف البلدان الأخرى بقيت محدودة جداً.
توجد ميزة للمساعدات السوفياتية وهي أن المساعدات تركز أساساً على الصناعة، لكن من النادر أن يمد الاتحاد السوفياتي تعاونه إلى المسائل الاقتصادية العامة. أضف إلى ذلك أن السوفيات لا يولون الزراعة اهتماما تقريباً، لأنهم لا يملكون شيئاً يقولونه حول أساليبهم الخاصة.
إن الهبات والقروض بدون فائدة هما الاشكال الأكثر تواتراً في المساعدات السوفياتية"
أما الصين فتقدم ايضاً مساعدات هامة إلى البلدان الشيوعية الأقل تطوراً. (فيتنام ومنغوليا وكوريا). حيث تولي الصين أولوية إلى المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم ذات النتائج السريعة: صناعات خفيفة، هياكل تحتية صغيرة للاقتصاد (سكك حديد مثلا).
أما المساعدات العسكرية الصينية فتذهب قبل كل شيء إلى الهند الصينية (التي هي في مواجهة مباشرة مع الامبريالية الأميركية والفرنسية)، ثم إلى حركات المقاومة الفلسطينية واليمن"
ما يميز الاستثمار الفرنسي هو التركيز على الإدارة الحكومية (كتعويض عن الإدارة الاستعمارية البائدة) والتعليم لدعم نفوذ اللغة الفرنسية في مستعمراتها السابقة، أما الإنكليز فيعتمدون على فروع المصارف والقروض التي تقدمها هذه المصارف. إن الاستراتيجية البريطانية هي استراتيجية نقدية (مصرفية) قبل كل شيء.
في النهاية تبقى المساعدات إحدى عوامل الهيمنة (السيطرة)، وتزداد خطورة هذا العامل كلما ازداد توسع اسهام الرساميل، وبشكل خاص ما كان منها على شكل قروض او اعتمادات في احداث تزايد خطير في الديون الخارجية للدول المتخلفة". إن تفاقم هذه الديون وفوائدها تزيد من ضعف البلدان المتخلفة وتزيد من تبعيتها للمراكز الامبريالية.
السيطرة الاجتماعية والثقافية والسياسية
1-لا يمكن عزل السيطرة الاجتماعية-الثقافية عن السيطرة الاقتصادية
2-العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة تولد بصورة حتمية مُركّب نقص ثقافي. وهذا ما يلاحظ في علاقة المستعمِر بالمستعمَر. وقد تحدث فرانتز فانون عن "مُركَّب النقص" هذا بشكل أساسي في كتابه الشهير "معذبو الارض".
3-يطلق الكتاب كلمة "الرضّ" و"الترضيض" الاجتماعي-الثقافي على أثر صدمة المجتمع الصناعي على العالم الثالث، فلا يمكنه إلا أن يلقى الاضطراب في نمط التنظيم الاجتماعي، هذا التنظيم المتكيف مع الاقتصاد التقليدي أو الاقتصاد الأسري المكتفي ذاتياً.
كما إن السيطرة الاقتصادية على العالم الثالث هي موضع منافسة شرسة بين البلدان الامبريالية الرأسمالية الرئيسية، حيث تتداخل فيها المقتضيات الاقتصادية والأيديولوجية-الثقافية. وقد دخلت الأمم المتقدمة بمصالحها المختلفة في نزاعات حادة خلال مباشرتها تحقيق استراتيجيتها الدولية في السيطرة على البلدان الأخرى المتخلفة. ومن نافل القول أن السيطرة الاقتصادية تعتمد أساساً على السيطرة السياسية والتي تتفاوت في درجة التمويه والتخفي الخبيث.
4-هذا الترضيض الاجتماعي-الثقافي يفسر بلا لبس لماذا كانت ثورات العالم الثالث ثورات قومية قبل كل شيء. إن المطالب القومية في السيادة والاستقلال هو الأسلوب الذي يعمل من خلاله مواطن العالم الثالث لتأكيد ذاته من جديد وإعادة خلق شخصيته واستعادة هويته.
5-ليس الاعلام الذي تسيطر عليه الحكومات الغربية سوى شكل من أشكال السيطرة خاصة وأنه يحتكر وكالات الانباء الدولية الرئيسية (رويترز، اسوشيتد برس، فرانس بريس، الخ) هذه الوكالات التي تشرف عليها المجموعات الرأسمالية الاحتكارية أو الحكومات الغربية.
6-يوجد في المجتمعات المتخلفة استعداداً، خاصة في الطبقات الثرية، لتقبل هذه الامبريالية الفكرية. إن النماذج الثقافية الأميركية والأوروبية التي تجللها أبهة النجاح المادي، تمارس غواية خطيرة على الوجدان. إن نظام القيم في الغرب وثقافته ولغته ودينه هي أيضاً وسائل للارتقاء بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بأنهم ضحايا التقاليد وأساليب التفكير الرجعية والظلامية.
6-بخصوص تعميم الرفاه على الطريقة الأميركية المشوهة أقول: لكي نجعل العالم كله في مستوى معيشة أميركا، فذلك يفترض معدلاً من التنمية مستحيلة التحقق.
إن طرح المسألة بهذا الشكل فيه تشويه والتباس، لأن مستوى معيشة الاميركيين ليست واحدة، فهناك تفاوت اجتماعي وعرقي ما برح يتعمق ويتسع في المجتمع الأميركي. والنقطة الثانية هي أن التحويل الاشتراكي، وهيمنة النمط الاشتراكي عالمياً سوف يعيد انتاج مفهوم الرفاه بشكل مختلف جذرياً. هنا لا يتم توسيع عدد المرفهين بل تغيير مفهوم الرفاه نفسه عبر تغيير اتجاه أساليب الحياة. هكذا يتوجب على البلدان المتخلفة التي تريد بناء تنميتها الاقتصادية أن تقوم بفك ارتباط اقتصادي وثقافي-قيمي مع الغرب الامبريالي.
7-إن فك الارتباط والتنمية المنزوية أو المنطوية على نفسها والمعتمدة على الذات، يمكن أن يولد قوة تقليد لدى الجماعات غير المتكيفة في المجتمعات الغربية. وإذا تكاثرت هذه الجماعات فيمكن أن يحدث ما يسميه الكتاب "بالتكزز الاقتصادي والاجتماعي" وهو نمط من التوترات الاجتماعية الحادة والمماحكات العنيفة أحياناً.
8-السيطرة السياسية: إن تاريخ السيطرة السياسية على بلدان العالم الثالث هو تاريخ الاستعمار. فالاستعمار هو الشكل الأبرز والأكثر فجاجة للسيطرة السياسية. وقد تحولت هذه السيطرة المباشرة إلى أخرى غير مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثاني وسميت هذه السيطرة غير المباشرة "بالاستعمار الجديد" الذي يعتمد على الاستغلال الاقتصادي والاحتكار التجاري والمعاهدات غير المتكافئة. كما يعتمد بشكل حاسم على وجود طبقات محلية مسيطرة تلعب دور السمسار أو الكومبرادور لشفط ثروة البلد المتخلف مع ضمان حصتها. "إن خلف الديماغوجية والحدة اللفظية تكمن الحقيقة الواقعية لسيطرة أشد مكراً وتدليساً ولكنها موجودة فعلاً على الدوام"
أخيراً نقول مع الكتاب: لا شك أن البلدان المتخلفة هي "بروليتاريا" القرن العشرين. إنها إذ تعاني الاستثمار من قبل الطبقات البورجوازية المحلية الثرية والمسيطرة والمتواطئة مع النظام الإمبريالي، تسحقها في الوقت نفسه ميكانزمات الاقتصاد الدولي، وتلقي القوة العسكرية والجيوش الامبريالية المستعدة دوماً، الرهبة في قلوبها، حيث لا تجد هذه الشعوب منفذاً في بعض الأحيان إلا العنف المنفلت من كل ضابط سياسي.
*ج. م البرتيني، م. أفولا، ف. لورُوج: التخلف والتنمية في العالم الثالث، ترجمة زهير الحكيم، الطبعة الثالثة 1980، دار الحقيقة بيروت.