ديالكتيك -الحياة الأخلاقية-


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7815 - 2023 / 12 / 4 - 09:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أما وقد سألت أيها الصديق العزيز هذا السؤال المركب والمترامي الاطراف: ما الفرق بين الأخلاق (Ethics )، والخُلُقMorals)) ؟
لماذا تحدث اسبينوزا عن الأخلاق (Ethics) بينما نجد التقليد الممتد من كانط وحتى نيتشه يستخدم (Morals)؟
عندما يتحدث فيسلوف ينتمي للتقليد الفلسفي العربي الإسلامي -كالفارابي مثلاً- عن الأخلاق فأيهما يقصد؟
هل إن موضوعة "تحصيل السعادة" لدى الفارابي هي في حقل الأخلاق (Ethics) أو الخُلُق (Morals)؟
وهل لدينا نحن في تراثنا تمييز بين المعنيين؟ هل هما نوعان من الأخلاق؟ وأيٌ منهما على ارتباط بالسياسة من حيث أنها "تدبير المدينة" (politiea: من polis المدينة)؟
أقول:
سأستعرض أولاً فهم هيغل لمفهوم "الحياة الأخلاقية" وتطويره لمفهوم الممارسة العملية التاريخية على المستوى النظري- المثالي، بالاعتماد على كتابه الكبير (أصول فلسفة الحق).
يكتب هيغل تحت عنوان (الانتقال من الاخلاق الذاتية إلى الحياة الاخلاقية):
"إن الخير والضمير إذا ما بقيا مجردين (كل مستقل عن الآخر) لأصبح كل منهما هو اللامتعين الذي ينبغي ان يتعين. لكن تكامل هذين الشمولين النسبيين في هوية مطلقة (في وحدة) قد تم إنجازه بالفعل في صورة ضمنية في ذاتية اليقين الذاتي الخالص التي تدرك في فراغها وهي تتلاشى تدريجياً، تحادها مع كلية الخير المجردة. إن هوية الخير مع الإرادة الذاتية (وحدتهما) –وهي هوية من ثم عينية (فعلية)-تمثل حقيقتهما معاً في الحياة الأخلاقية moral life " (أصول فلسفة الحق ص 318)
والخير هو الجانب الجوهري الكلي للحرية (والتحرر وتجاوز الشرط المُقيِّد)، ولكن في صورة لا تزال مجردة، وهو يحتاج إلى ضمير الفرد وارادته المتماهية مع الخير حتى تغدو مقولة الخير عينية وفعلية في تاريخيتها الاجتماعية.
"إن طبيعة المتناهي والمحدود (وهو هنا الخير المجرد من دون أفراد ممتلئين به) الذي هو ما ينبغي ان يكون فقط (ولكنه ليس كائناً بالفعل) وكذلك الاخلاق الذاتية المجردة (للأفراد) التي ينبغي أن تكون خيراً فحسب ولكنها ليست كذلك بالفعل، وأن تحتفظ بضدها كامناً داخل ذاتها، أعني بالنسبة للخير تحققه الفعلي، وبالنسبة للذاتية، "الخير"، أو اللحظة التي تصبح فيها الحياة الأخلاقية متحققة بالفعل) ولكن بوصفهما وحيدي الجانب (مجردين) فإنهما لم يوضعا بعد طبقاً لطبيعتهما الكامنة. إنهما يبلغان هذا الوضع في سلبهما، أعني في أحادية الجانب فيهما، عندما يميل كل منهما إلى أن يكون ما هو عليه ضمناً –عندما يكون الخير(المجرد) بلا ذاتية، وبلا طابع متعين، ويكون المبدأ المحدد، أي الذاتية بدون ما هو كامن بداخله (بدون خير)"
في هذا التجريد هما لحظتان في الفكرة الشاملة التي هي وحدتهما.
إن تجسد الحرية الذي كان في البداية مباشراً على أنه حق، ثم تحدد في انعكاس الوعي الذاتي على أنه خير، والمرحلة الثالثة التي ظهرت هنا عند انتقال الخير إلى الحياة الأخلاقية (بفعل الارادة) على اعتبار أن هذا الانتقال هو حقيقة الخير الذاتية (الإرادة الخيرة) وهو بالتالي حقيقة كل من الذاتية والحق. إن الحياة الأخلاقية هي الاستعداد الذاتي لأن يصطبغ المرء بما هو حق في ذاته. وهذه الفكرة هي حقيقة تصور الحرية (وتجاوز الشرط المقيد بالفعل لا بالقول فقط)
صبغة الحق (صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة: 138]
بكلام آخر: "الحق ككلية خالصة والذاتية كجزئية خالصة ضدان، وفي استطاعتنا أن نتجاوز سلب أحدهما للآخر بإنكار استقلالهما المتبادل، والانتقال إلى صورة من التجربة يوجدان فيها كلحظتين تكمل كل واحدة منهما الأخرى. وتلك هي الحياة الأخلاقية moral life ". هامش ص 261
والحياة الأخلاقية هي الاستعداد الذاتي المصطبغ بالحق كمضمون له. وهو ما يعبر عنه باللغة الصوفية الباطنية ب ظهور الحق بالأشخاص (رجال الحق أو عباد الرحمان؛ (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]؛ وهو الانتقال من الواقع القائم إلى الممارسة السياسية التاريخية. هنا الذاتية وقد اصطبغت بالحق كنظرية ثورية وإرادة عمل تاريخي.
اشتُقَّت كلمة الأخلاقيات Ethics من الكلمة اليونانية êthikos، والتي بدورها مشتقة من كلمة êthos التي تعني “الشخصية” (شخصية الفرد) وتستخدم لوصف المعتقدات أو المُثُل التوجيهية التي تميز المجتمع.
وإثييه تعني عادة، والأخلاقية في اللغة تعني السجية والعادة. من هنا Ethics تعني أخلاق العادة والعرف في جماعة معينة، وفلسفة الأخلاق، والأخلاقيات، وهي هي مجموعة من الآداب والقيم أو القواعد التي تعتبر صوابا بين أصحاب مهنة معينة. كلمة أخلاقيات تعني: «وثيقة تحدد المعايير الأخلاقية والسلوكية المهنية المطلوب أن يتبعها أفراد جمعية مهنية
والاخلاق اليومية هذه متفاوتة من فرد لآخر وتختلف من جماعة بشرية لأخرى. وهي نسبية ومتبدلة
ويقرر الفارابي أن القواعد الأخلاقية (Ethics)، والاخلاق الذاتية (morals) أو الأفعال الارادية، "تختلف باختلاف المكان والزمان والأمم والافراد، ونسمعه يقول: وليس إنما تختلف تلك المعقولات الارادية في الازمان المختلفة حتى توجد في زمان ما يخالفه في أحوالها وأعراضها لما توجد عليه في زمان قبله أو بعده، بل تختلف أيضاً أحوالها عندما توجد في الأمكنة المختلفة. كذلك الأشياء الارادية المعقولة كالعفة واليسار وأشباه ذلك. هي معان معقولة إرادية، وإذا أردنا أن نوجدها بالفعل كان ما يقترن بها من الاعراض عند وجودها في زمان ما مخالفاً لما يقترن بها في زمان آخر، وما من شأنه أن يوجد لها عند أمة ما، غير ما يكون لها من الاعراض عند وجودها في أمة اخرى" (تحصيل السعادة ص 14)
والفارابي لم يضع كتاب تحت عنوان "تحصيل السعادة" خاصة السعادة المنتهية، بل يعتبر هذا الكتيب مقدمة لكتاب له بخصوص الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطوطاليس
والعنوان من عمل النساخ وضع بشكل اعتباطي. يقول مقدم الكتاب وشارحه ومبوبه (د. علي بو ملحم): نستطيع أن نقول أن هذا الكتاب ليس كتاباً قائماً بذاته، وإنما هو مقدمة لكتاب ألفه الفارابي للتوفيق بين فلسفتي أفلاطون وأرسطو (الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون وأرسطوطاليس) وهو كتاب مذكور في قائمة كتب الفارابي القديمة. يدل على صحة ما نذهب إليه نص الخاتمة حيث يقول: "ونحن نبتدئ أولاً بذكر فلسفة أفلاطون ثم نرتب شيئاً فشيئاً من فلسفته حتى نأتي على آخرها؛ ونفعل مثل ذلك مع الفلسفة التي أعطاناها أرسطوطاليس. فنبدأ من أول أجزاء فلسفته، فنبين من ذلك أن غرضهما واحد". وقد تنبه إلى هذه المسألة بعض المستشرقين من أمثال شتراوس وروزنتال". ص 7
ثم أن الناسخ لم ينسخ الكتاب كاملا قائلاً: هذا آخر ما وجدناه في هذا الكتاب. فكان الناسخ يقتطع جزءاً من الكتاب ويعطيه اسماً ويعتبره كتابا مستقلاً. ومن ثم كان الاضطراب في أسماء كتب الفارابي ومحتوياتها" 7
والكتاب موضوع حديثنا ليس موضوعه السعادة، كما يوحي العنوان الذي وضع له، لأنه قلما تكلم على السعادة، وهو لم يذكرها إلا قليلاً وبصورة عابرة. ص 6
لقد وضع هذا العنوان للكتاب "تحصيل السعادة" بصورة اعتباطية، فالفارابي لم يضعه لأنه لم يرد ذكره في لائحة كتبه التي أثبتت في فهرس ابن النديم المعاصر للفارابي، ولا في كتب التراجم القديمة التي وضعها صاعد الاندلسي وابن أبي أُصيبعة وسواهما، وإنما ظهر هذا العنوان في طبعة حديثة اعتماداً على كلمة "تحصيل السعادة" التي وردت في أول الكتاب، هي طبعة حيدر آباد الدكن في الهند سنة 1345 هـ" ص 7
إن تبدل الاخلاق السائدة واختلافها لا تستطيع العلوم النظرية الإحاطة بها (التي تحيط بالمعقولات التي لا تتبدل أصلاً) ومن ثم مست الحاجة إلى قوة أخرى غير القوة النظرية، تميز الاعمال التي تحصل موجودة بالفعل عن الإرادة في زمان محدود ومكان محدود عن وارد محدود، تلك هي القوة الفكرية (دراسة ملموسة لواقع ملموس؛ لينين) 14
يرى الفارابي أن الفضيلة الفكرية يجب ان تكون تابعة للفضيلة النظرية الرئيسية (المنهج) لأن عملها هو تمييز أعراض المعقولات النظرية. والفضيلة الخلقية (الممارسة العملية) يجب ان تتبع الفضيلة الفكرية (التحليل الملموس للوضع الملموس) لأن الفضيلة الفكرية هي التي تحدد غاية الاخلاق والوسائل المؤدية على تلك الغاية" 16 نحن خنا أمام ديالكتيك المنهج النظري-النظرية في الاستراتيجية والتكتيك، في تحليلها لواقع ملموس عبر القوة الفكرية، من ثم التنظيم الثوري التاريخي والممارسة العملية. هذا القول يجري على المستوى الاجتماعي التاريخي. أما على المستوى السيسيولوجي اليومي فيمكننا الحديث هنا عن جدل القواعد الأخلاقية ethics مع الأخلاق الذاتية (الضمير والإرادة لدى الفرد) morals كما هو الحديث عن جدل اللغة والكلام لجهة فاعلية الكلام اليومية المشروطة بالزمان والمكان تجاه فواعد اللغة المتواضع عليها، كذلك الامر بالنسبة لمورال في مقابل إثيكس. فالكلام هو العنصر الدينامي المجدد اليومي، وكذلك الامر بالنسبة للأخلاق الذاتية morals.
هذا الجدل او الديالكتيك لتحرر الإرادة الفردية والضمير الفردي من استحواذ القواعد الأخلاقية السائدة، هو الذي يقود لاحقاً، مع التقاء هذا التحرر الفردي مع مصالح طبقة مهمشة تسعى إلى التحرر، إلى الحياة الأخلاقية التاريخية للأفراد، فيحررون بتحررهم الطبقة الثورية بالقوة. يقول ماركس بما معناه في الأيديولوجية الألمانية: إن الافراد في سبيل تحررهم يحررون الطبقة.
يطرح الفارابي فهماً مميزاً للفلسفة تقترب فيها الفلسفة من الدين، ويمكن النظر إليها كفلسفة ممارسة (براكسيس) يقول: والفرق بين الدين والفلسفة إنما هو في طريقة تفهيم أو تصديق هذه المعلومات المشتركة. فالفلسفة تفهمها عن طريق البرهان اليقيني، والدين يفهمها عن طريق الاقناع والتخييل والمحاكاة والتمثيل" 20 ويضيف: "والامام الذي يعني في اللغة من يؤتم به، لن يكون إماماً أي مؤتماً به ومتقبلاً من الناس، إلا إذا اكتمل علمه النظري (الفلسفة) وعلمه العملي التشريعي أو الديني" 21
إذن، ولكون الفارابي يتحدث عن مهمة عملية وأخلاقية للفلسفة، فهو بالضرورة منشغل بديالكتيك الحياة الأخلاقية moral life أي بالخلق الشخصي والفضيلة والخير، أي بالحياة الأخلاقية التاريخية لدى الأشخاص في دعوتهم التاريخية.
وهكذا يتحدث الفارابي عن "الفيلسوف الباطل وهو الذي يحصل العلوم النظرية، ولكنه لا يعرف السعادة (لا يعرف الفضيلة والخير والحياة الاخلاقية)، والفيلسوف البهرج هو الذي يحصل العلوم النظرية ولكنه لم يحز الفضيلة "22 "والسعادة تحصل للمرء إذا حصل على العلوم النظرية والعملية والفكرية" 23
إن التقليد من كانت إلى هيغل إلى ماركس باستخدام morals بدل ethics يدل على أثر الثورة الفرنسية الهائل على العقول الفلسفية اللامعة في ألمانيا خاصة هيغل (القرن التاسع عشر)، وتشير إلى ثورية القرن التاسع عشر خاصة ثورات 1848 في البر الأوروبي (فرنسا وألمانيا) وانتهاء بكمونة باريس 1871 .
أما سبينوزا (القرن السابع عشر) ومذهبه في وحدة الوجود، في استمرار لمذهب جوردانو برونو، فهو ينكر على الثورة وجودها وحياتها، خاصة وأن الله مندمج مع نظام العالم والطبيعة. وهو أي الله ليس مفارقاً للطبيعة ولا متعالياً عليها. ومثل هذا المذهب العدمي ينكر على الثورة الاجتماعية وجودها، وينكر مسألة الخلق والتجديد والابداع التاريخي. بالتالي هو يتحدث عما هو كائن وليس عما يجب أن يكون، أي يتحدث عن أخلاق العادة ethics، وليس عن الحياة الأخلاقية moral life.
لقد بدأ هذا الانتقال من الاخلاق الذاتية إلى الحياة الأخلاقية في أوروبا مع عدمية جوردانو برونو ولاحقاً مع سبينوزا وقد جمعهما مذهب وحدة الوجود العدمي على مستوى الحياة الأخلاقية، ثم كانت الحلقة الثانية مع شك ديكارت ب"وجود الموجود" (هو) الموروث والذي في طريقه إلى التسلّم. وجاء الشك الأكثر خطورة بالنسبة لموضوعنا، شكل هيوم، حيث شكك بالأخلاق الدينية الكاثوليكية وبالأخلاق الذاتية لدى البورجوازي القادم، وراح يفتش ويبحث في طبيعة الانسان على التجريد، وهو حقيقة يتلمس طبيعة المولود البورجوازي التجاري الجديد، ثم خلفه كانت، حيث قابل في ديالكتيكه "النقدي" القواعد الأخلاقية للكاثوليكية تجاه الحياة الأخلاقية للبورجوازية الراديكالية الثورية. كانت المحصلة عاطلة، لأن المقولتين بقيتا مجردتين دون تماس بينهما. وحده هيغل من طور بشكل نظري- مثالي، ديالكتيك الحياة الأخلاقية والممارسة الثورية التاريخية، ولم يكن من بد حتى مجيء ماركس والظهور التاريخي السياسي للبروليتاريا على المسرح الأوروبي عبر ثورة 1848 ، وطرح الحياة الأخلاقية كممارسة تاريخية سياسية ثورية عبر بناء حزب البروليتاريا الاشتراكي-الديمقراطي الثوري.
إن ما أعاق تفهم اسهام ماركس الجديد خاصة في المانيا عبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني هو طغيان الالحاد والعدمية في الثقافة الألمانية والنزعة العقلانية الطبيعية، وبالتالي الوضعية والنفور من الاستراتيجية الدينية. ولم يكن بد حتى ينتشر فكر ماركس، من تطوير وتحديث وإعادة إنتاج استراتيجية "دينية " معاصرة تكون الوارث لكل التراث الديني المكافح والثوري.
أما نبتشه فقد عطل عمل ديالكتيك الحياة الأخلاقية بتهكمه المر، حيث عرى البورجوازي من كل دينية وبرهن استحالة قيامة حياة أخلاقية للإنسان المعاصر في شروط التشييئ البورجوازي الكاسح. لم تستطع الحركة الاشتراكية الألمانية بناء حياتها الأخلاقية بعد تدمير الاله الكاثوليكي. لقد لاحظ دستويفسكي (في الاخوة كارامازوف) ملاحظته النافذة حول طريقة التعاطي الألماني والاوروبي مع نتائج نقد الدين في القرن التاسع عشر.
قلنا في (خمسة دروس في الأيديولوجية الألمانية): "لم يمض أربعون عاماً (1883) حتى أثار انجلز الانتباه مرة أخرى لعمل برونو باور في نقده للأناجيل ونقده للمسيحية المُبْكرة. ومع هذا فإن نقد الدين في أوربا وخاصة ألمانيا في القرن التاسع عشر لم يصل إلى خواتيمه المنطقية، أي أنه بقي سلبياً ولم تتم الهيمنة على معطياته الإيجابية من قبل الماركسية الوليدة ، فبقي الدين محروماً مطروداً بقوة النقد الألماني من حظيرة الفكر الاجتماعي الفلسفي النقدي الجديد، أي أنه بقي خارج حظيرة الفكر الاجتماعي الاقتصادي النقدي والثوري كما ألمح إلى ذلك بدهشة واستغراب كبيرين دستويفسكي في روايته العظيمة "الأخوة كارامازوف" حيث يقول: "إن رجلاً يجمع بين الاشتراكية والمسيحة لهو أخطر كثيراً من اشتراكي ملحد" ويضيف: "قال الاب بائيسي لإلكسي كارامازوف: تذكر أيها الفتى أن المعرفة العلمانية التي نمت نمواً كبيراً وأصبح لها سلطان عظيمٌ ، قد هجمت، في خلال هذا القرن خاصة (القرن التاسع عشر) ، على كل ما تركته لنا النصوص المقدسة من حقائق سماوية. فعلماء هذا العالم بعد أن قاموا بنقد حاقد لا يُشفى غليله، لم يحتفظوا بشيء، لم يحتفظوا بشيء البتة مما كان يعد مقدساً في القرون الماضية. لقد حللوا بكثير من التدقيق والامعان كل جزء من أجزاء التعليم الديني على حدة، ولكن فاتهم إدراك الدين في مجموعه، وبلغوا من ذلك أن المرء تذهله فيهم هذه العماوة حقاً، ذلك أن الحقيقة هي في الكل " هذه "المعرفة العلمانية هي معرفة البورجوازية العلمانية الليبرالية" وهذا النقد للدين شبيه لنقد الميثولوجيا بعد هوميروس ونزع الطابع الميثي عن الفكر اليوناني. وهذا علامة نقص في هذا النقد العلماني البورجوازي (ومن قبله الاغريقي)، وعلامة نقص في الفكر الماركسي الاجتماعي التاريخي، لأن على هذا الاخير وحده اكمال هذا النقد ودمج المخرجات الإيجابية لهذا النقد في نظريته الاجتماعية الاقتصادية الثورية. بهذا الدمج للمخرجات الإيجابية لنقد الدين تتم هيمنة الماركسية كنظرية للتغيير الاجتماعي التاريخي على الدين وتكون هي الوارث للدين كفكر اجتماعي تاريخي غابر. خاصة بعد أن تحول الدين إلى عصب متقاتلة متخاصمة تحمل فكراً وظيفياً متشيعاً ضيقاً يعمل في خدمة الوضع القائم الرأسمالي الامبريالي. حتى عندما يعمل هذا الفكر الديني الاعتباطي كحزب سياسي، فهو يأخذ طابعاً اعتباطيا رجعياً في خدمة السياسة الامبريالية واستراتيجيتها.
لقد لعب الدين دوراً اجتماعياً تاريخياً فجر صعوده، هكذا المسيحية المُبْكرة قبل ان تتحور وتصبح ديناً في كنف الإمبراطورية الرومانية (دين دولة) وتعمل خادماً لها. كذلك الإسلام في فجره وصدره لعب دوراً تاريخياً متقدماً حين نقل حياة العرب الاجتماعية من حياة القبيلة إلى حياة الدولة المركزية. " (خمسة دروس)
وقلنا إن الفلسفة عبد، أي هي واسطة ووسيلة يمكن أن تكون في خدمة الدين والوحي كما كانت في العصور القديمة والوسطى، ويمكن أن تكون في خدمة الحركة الاجتماعية التاريخية الثورية (الماركسية). وإذا أُخذت مجردة لوحدها زادت في مرض الأمة المريضة كما قال الفيلسوف الألماني المتهكم نيتشه. وإذا اخذت مجردة من دون اعتبار لحياة المجتمع وتناقضاته وصراعاته التاريخية الفعلية، كانت شيطاناً أخرس: تعرف الحق وتجحده بتغطيته بعد كشفه، وتتحول إلى فكر مداهن للوضع الرأسمالي القائم." جاء في سورة البقرة: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]
وكما قلنا في (الدرس الأول من الدروس الخمسة)، الفلسفة نتاج ذو طابع سلبي، لا تتحول إلى عمل اجتماعي إيجابي إلا عبر طريقين: الأول هو خضوعها للدين والوحي، والثاني خضوعها للفكر الاجتماعي التاريخي الثوري وفلسفة الممارسة الماركسية (praxis)
والفلسفة عبد كما هو حال العقل النظري على هذا الأساس، حيث النظرية في خدمة الممارسة." (الدرس الثاني)
إن الفيلسوف الذي أبقى على الاستراتيجية الدينية ونظّر لها باقتدار هو الفيلسوف سيرن كيركيجور (كيركغارد)، بالرغم من تهكمه السقراطي المرير تجاه المسيحية السائدة (الكاثوليكية).