-الدولة والثورة-؛ حواشٍ وتعليقات- الفصل الثاني


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7899 - 2024 / 2 / 26 - 00:50
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

الدولة والثورة وخبرات سنوات 1848-1851.
في هذه الفترة يكتب ماركس "الصراعات الطبقية في فرنسا" يحلل فيه أسباب فشل ثورة 1848 الديمقراطية، كما يكتب "18 برومير لويس بونابرت" يحلل فيه سر صعود لويس بونابرت إلى السلطة، ويبين ظاهرة البونابرتية كأحد أشكال الدولة البورجوازية.
يورد لينين ملاحظة غاية في الأهمية تقول: "إن بؤس الفلسفة " و "البيان الشيوعي" وهما بواكير الماركسية الناضجة، يعودان بالضبط لعشية ثورة 1848." 29
بينما يشكل كتاب "الاسرة المقدسة" و"الأيديولوجية الألمانية" نصين مؤسسين مع ملامح انتقالية من "المادية الطبيعية" إلى "المادية التاريخية". في "الأيديولوجية الألمانية" يبدأ ماركس بالتخلّص من تأثير كل من هيغل وفيورباخ، مع ميله لتثمين هيغل في "فينومينولوجيا الروح".
جاء في "بيان الحزب الشيوعي" الذي كتب بعد أشهر من كتاب "بؤس الفلسفة"، أي في تشرين الثاني 1847: "بعد أن تتحول الحرب الاهلية المستترة إلى ثورة مكشوفة تؤسس فيها البروليتاريا سيادتها عن طريق اسقاط البورجوازية بالعنف. رأينا فيما تقدم أن الخطوة الأولى في الثورة العمالية هي تحول (حرفياً: رفع) البروليتاريا إلى (درجة) طبقة سائدة، هي اكتساب الديمقراطية (اكتساب السلطة السياسية). تستفيد البروليتاريا من سيادتها السياسية لكيما تنتزع بالتدريج من البورجوازية كامل راس المال وتمركز جميع أدوات الإنتاج في يد الدولة (الاشتراكية)، أي في ايدي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة (دكتاتورية البروليتاريا)، ولكي تزيد بأسرع ما يمكن (تطور) مجمل القوى المنتجة"
وهنا نلاحظ أمرين: انتزاع البروليتاريا رأس المال بالتدريج من البورجوازية، والثاني تركيز جميع وسائل الإنتاج (أدوات الانتاج) بيد الدولة الاشتراكية كي تزيد بأسرع ما يمكن تطور مجمل القوى المنتجة. إن الانتزاع التدريجي لرأس المال من البورجوازية يبرره قلة خبرة البروليتاريا في إدارة تثمير راس المال، ونقص لديها في الخبرات والكوادر الاقتصادية والإدارية. والثاني مراعاة شرائح من البورجوازية المتوسطة والصغيرة بما فيها الفلاحين، في أعقاب انتصار الثورة الاشتراكية كعمل ديمقراطي للبروليتاريا الثورية بحيث توسّع من قاعدتها الشعبية حتى إنضاج جميع ظروف العمل الاشتراكي أكثر. أما الملاحظة الثانية فتشير إلى أن البورجوازية الامبريالية في المراكز والبورجوازية الوضيعة الرثة في البلدان الهامشية المتخلفة تشكل عقبات في طريق تطور إجمالي للقوى المنتجة، ففي المراكز الرأسمالية تشكل مصالح الشركات الكبرى أحيانا عقبات أمام تطور مجمل القوى المنتجة، فتطور ما يناسب مصالحها الخاصة وأرباحها بشكل انتقائي. أما البورجوازية في بلد متخلف فهي حثالة الرأسمالية الامبريالية، وقد ولدت عاجزة تاريخيا بحكم تزامن ولادتها مع المرحلة الامبريالية، فهي صورة في حكمها للعلاقة الامبريالية، وهي ملحقة بهذه الامبريالية. كذلك تعزز هذه العقبة أمام تطور القوى المنتجة، الامبريالية نفسها كعقبة خارجية.
تلعب سلطة البروليتاريا السياسية في فترات الانتقال من النظام البورجوازي إلى النظام الشيوعي دوراً اقتصاديا هاماً، وتأخذ اسمها بالفعل: (رأسمالية الدولة الاشتراكية) بحيث تشرف البروليتاريا بواسطة الدولة على التطور الرأسمالي بدلاً من الطبقة البورجوازية التي أفل دورها التاريخي في تطوير القوى المنتجة. (الصين مثالا)
لقد أطلق ماركس وانجلس اسم "دكتاتورية البروليتاريا" على دولة البروليتاريا بوصفها طبقة سائدة، بعد تجربة كمونة باريس، أي بعد أن قدمت الشروط التاريخية إمكانية هذه السيادة للبروليتاريا كأمر فعلي. أي أن البروليتاريا في أوروبا بعد 1971 باتت قادرة على استلام السلطة والسيادة كطبقة حاكمة وكديمقراطية اشتراكية. وقد شاهدنا هذا الصعود للاشتراكية الديمقراطية بعد هذا التاريخ في ألمانيا وإيطاليا ولاحقاً روسيا. وقد عبر عن هذه الفكرة كارل كاوتسكي في كتابه "طريق السلطة" سنة 1901. أي أن البروليتاريا باتت ناضجة تاريخياً لتسلم سلطة الدولة. أما كراس كاوتسكي "طريق السلطة" فقد قال عنه لينين عام 1917: "إنه خير عمل لكاوتسكي ضد الانتهازيين." وبأنه "يسجل تقدماً كبيراً إلى الامام لأنه يعالج الشروط العينية (الملموسة) التي ترغمنا على الإقرار بأن عصر الثورات الاشتراكية قد بدأ" (طريق السلطة: 5) إن تراث كاوتسكي سيبقى كما قال لينين: "التراث الوطيد للبروليتاريا، بالرغم من جحود كاتبه لاحقاً" (طريق: 5) يكتب كاوتسكي: "إن الحزب الاشتراكي ثوري لأنه يقر بأن الدولة أداة، بل أعظم أداة للسيطرة الطبقية، وبأن الثورة الاجتماعية التي تجنح نحوها جهود البروليتاريا لا يمكن أن تتم ما لم تستولِ هذه الأخيرة على السلطة السياسية " (طريق السلطة: 7)
علينا أن نثبت هذه الملاحظة المهمة والتي تقول: "إن اسقاط سيادة البورجوازية لا يمكن أن يتم إلا من جانب البروليتاريا باعتبارها طبقة خاصة (تاريخية) تُعدّها ظروف وجودها الاقتصادية لهذا الاسقاط، وتعطيها الامكانية والقوة للقيام بذلك." 33 "إن إسقاط البورجوازية لا يمكن أن يتحقق عن غير طريق تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة (عبر الاستيلاء على سلطة الدولة) كقوة لقمع ما تقوم به البورجوازية حتماً من مقاومة يائسة ولتنظيم جميع جماهير الشغيلة والمستثمَرين للتنظيم الاقتصادي الجديد." 34 إن سيادة البروليتاريا السياسية أي سلطتها لا تقتسمها مع أحد ، لكنها تنظم هذه السيادة وتحت لوائها العلاقة مع الطبقات الهامشية الأخرى، للدفع بتطور مجمل القوى المنتجة. إن البروليتاريا الحديثة هي الطبقة المنتجة لفائض الإنتاج القومي، من هنا موقعها الاقتصادي المتقدم والمميز في النضال السياسي ضد البورجوازية.
"لا بد للبروليتاريا من سلطة الدولة، من تنظيم القوة المتمركز، من تنظيم العنف سواء لقمع مقاومة البورجوازية المستثمِرة، أو لقيادة جماهير السكان الغفيرة من فلاحين وبورجوازية صغيرة وأشباه بروليتاريين في أمر "ترتيب" الاقتصاد الاشتراكي." 34 ولكن هل من الممكن للبروليتاريا أن تقيم سلطتها السياسية دون أن يسبق ذلك "تحطيم وتدمير آلة الدولة التي أنشأتها البورجوازية لنفسها؟ هذا هو الاستنتاج الذي يقودنا إليه بيان الحزب الشيوعي مباشرة"
يكتب لينين: "في "بيان الحزب الشيوعي" طرحت مسألة الدولة بصورة مجردة للغاية وبمفاهيم وتعابير عامة جداً. وهنا (في 18 برومير) تطرح المسالة بصورة ملموسة (بعد تحليل الخبرة التاريخية لثورة 1848) ويستخلص الاستنتاج في منتهى الدقة والوضوح ويلمس حسياً: جميع الثورات السابقة (البورجوازية) أتقنت آلة الدولة (البورجوازية) في حين ينبغي تحطيمها وتكسيرها (من قبل الثورة البروليتارية)" 37
وفي مقاربة للماركسية كما لو كانت علم تجريبي حديث تضع فروضاً، مستندة إلى الخبرات السابقة، ثم تأتي التجربة العملية التاريخية اللاحقة لتصادق عليها. يكتب لينين: "إن ماركس الأمين لفلسفته المادية الديالكتيكية يأخذ كأساس الخبرة التاريخية التي أعطتها السنوات العظمى، سنوات ثورة 1848-1851. وتعاليم ماركس هنا، كشأنها أبداً، هي تلخيص للخبرة على ضوء نظرة فلسفية عميقة، ومعرفة واسعة للتاريخ." 38
"إن ما دفع إلى طرح المهمة بهذا الشكل ليس الاستدلالات المنطقية (الموضوعية الفكرية)، بل مجرى الاحداث الواقعي، الخبرة الحية التي أعطتها سنوات (1848-1851) مما يبين لنا شدة تمسك ماركس بالخبرة التاريخية (النضالات التاريخية للبروليتاريا) ودقته في عدم الخروج عن قاعدتها الواقعية، كونه لم يطرح في سنة 1852 بعد بصورة عملية مسألة: بأي شيء يستعاض عن آلة الدولة هذه التي ينبغي القضاء عليها. ذلك الاختبار لم يعط في ذلك الحين مادة لهذه المسألة التي طرحها التاريخ على بساط البحث فيما بعد بشكل واقعي سنة 1871 (الموضوعية الواقعية). في سنة 1852، لم يكن بإمكان المرء أن يقرر على أساس التتبع التاريخي وبدقة العلوم الطبيعية غير واقع أن الثورة البروليتارية قد واجهت مهمة "تركيز جميع قوى الهدم" ضد سلطة الدولة، مهمة تحطيم آلة الدولة" 41 إن مادة هذه المسألة ليست طبيعة جامدة ميتة، بل هي ذاتية تاريخية فاعلة حية، إنه درجة تقدم نشاط البروليتاريا التاريخي السياسي على مستوى الوعي الطبقي والتنظيم. هذه الدرجة من التقدم السياسي للبروليتاريا الفرنسية سنة 1871 هي التي سمحت لماركس بالحديث عن "دكتاتورية البروليتاريا" وعن البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة، وعن ديمقراطية البروليتاريا الاشتراكية. يكتب لينين: ففي هذه الحركة الثورية الجماهيرية (كمونة باريس)، وإن كانت لم تبلغ الهدف، فقد رأى ماركس خبرة تاريخية ذات أهمية كبرى، خطوة معينة إلى الامام تخطوها الثورة البروليتارية العالمية، خطوة عملية أهم من مئات البرامج والاستدلالات. وقد وضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه الخبرة واستخلاص الدروس التكتيكية منها، وإعادة النظر في نظريته على أساسها" 48
ينقل لينين عن انجلس العبارة التالية: "وفي هذه البلاد (فرنسا) يظهر نضال البروليتاريا التي ترفع رأسها (لا مؤخرتها) ضد البورجوازية السائدة، بشكل حاد لا تعرفه البلدان الاخرى" (مقدمة ط 3 من 18 برومير). يعلق لينين على العبارة التي تحتها خط بالقول: لقد شاخت الملاحظة الأخيرة ما دام ثمة انقطاع قد وقع منذ سنة 1871 في نضال البروليتاريا الثوري" حيث قامت انتفاضة عمال باريس بعد سقوط العاصمة تحت الحصار البروسي، استولت البروليتاريا خلالها على السلطة لمدة شهرين، حتى قام الجيش الفرنسي بقمعها دموياً نهاية 1871. هكذا انتقل تاريخياً ثقل النضال السياسي للبروليتاريا إلى ألمانيا بعد توحّدهاـ ولا حقاً إلى إيطاليا والمجر (هنغاريا) وتوِّج في روسيا بانتصار البروليتاريا الاشتراكية في أكتوبر 1917.
إن عبارة ماركس التي يستشهد بها لينين والقائلة: "إن وجود الطبقات يقترن بمراحل معينة لتطور الانتاج" 44 يعني بالضبط نظرية أنماط الإنتاج التاريخية التي وضعها ماركس في سياق تطويره للمادية التاريخية، والتي تفيد بأن المرحلة التاريخية تتحدد بنمط الإنتاج المهيمن عليها، حيث تتواجد في كل نمط للإنتاج طبقات متضادة بعينها تختلف عن الطبقات الاجتماعية المتضادة في أنماط الإنتاج الأخرى.
يقول لينين: إن التعاليم بشأن النضال الطبقي لم توضع من قبل ماركس، بل من قبل مفكري البورجوازية الرواد الاعمق معرفة قبله، وهي بوجه عام مقبولة من قبل البورجوازية. ومن لا يعترف بغير نضال الطبقات ليس بماركسي بعد، ويظهر أنه لم يخرج بعد من نطاق التفكير البورجوازي والسياسة البورجوازية. إن حصر الماركسية في التعاليم بشأن النضال الطبقي يعني بتر الماركسية وتشويهها وقصرها على ما تقبله البورجوازية. ليس بماركسي غير الذي يجعل اعترافه بالنضال الطبقي شاملاً؛ الاعتراف "بدكتاتورية البروليتاريا". وهذا ما يميز بصورة جوهرية الماركسي عن البورجوازي الصغير" 45 نعم، ديكتاتورية البروليتاريا أي دولة ديمقراطية من نوع جديد: ديمقراطية اشتراكية لأجل البروليتاريين والمعدمين بوجه عام، ودكتاتورية من نوع جديد لقمع البورجوازية.
وكما أن هناك تنوعاً في أشكال دولة نمط الإنتاج الرأسمالي، كذلك الامر في دولة البروليتاريا الاشتراكية في المرحلة التاريخية الكاملة التي تفصل الرأسمالية عن "المجتمع اللاطبقي" (عن الشيوعية). يكتب لينين بهذا المعنى: "إن دكتاتورية الطبقة الواحدة هي ضرورة ليس فقط في كل مجتمع طبقي بوجه عام، ليس فقط للبروليتاريا التي اسقطت البورجوازية، بل ايضاً لمرحلة تاريخية كاملة تفصل الرأسمالية عن "المجتمع اللاطبقي"، عن الشيوعية. إن أشكال الدولة البورجوازية في منتهى التنوع، ولكن كنهها واحد: فجميع هذه الدول هي بهذا الشكل أو ذاك وفي نهاية الامر دكتاتورية البورجوازية على التأكيد. وطبيعي ان الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية لا بد وأن يعطي وفرة كبرى من الاشكال السياسية (أشكال الدولة) وتنوعها، ولكن فحواها لا بد وأن يكون واحداً: دكتاتورية البروليتاريا"
مراجع قراءة الفصل الثاني
1-لينين: الدولة والثورة
2-كارل كاوتسكي: طريق السلطة، ترجمة جورج طرابيشي ط 1 1974