الأيديولوجية الألمانية –تحقيقات وتعليقات الدرس الخامس V


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7690 - 2023 / 8 / 1 - 16:11
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

تحقيق: قال ماركس: البشر أسرى لعلاقات الإنتاج التي تعوق تطورهم الحر. إن تقسيم العمل الذي قام منذ فجر التاريخ، والذي يمكن أن نشاهد آثاره الأولى في العائلة، يفرض على كل فرد نشاطاً محدودا ومشوها ومنحرفا. ولذا كان لا بد في سبيل نقض هذه الأوضاع الشاذة، وفي سبيل تمكين الفرد الإنساني من تطوير جميع قدراته الخلاقة، من نقض العمل (الأجير) وبالتالي نقض تقسيم العمل والملكية الفردية (لوسائل الانتاج). وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بفضل نشاط الافراد العملي لا بفضل تصوراتهم وأفكارهم. فليس المقصود أن نغير وعي البشر أولا كي نتمكن من تغيير أوضاعهم، بل أن نغير الواقع الاجتماعي الذي يصدر ذلك الوعي عنه" ص 15
تعليق: من الواضح أنه يوجد التباس في العبارة يقود إلى سوء فهم لوجهة نظر ماركس بما يخص علاقة العلم بالعمل والنظرية بالممارسة. فإذا أخذنا بحرفية العبارة التي تحتها خط كانت الثورة البروليتارية تقوم من دون نظرية ثورية، ويمكن أن يقوم بها جهلة أو أناس لديهم وعي بورجوازي لا اشتراكي.
إن عبارة لينين تأتي حاسمة في هذا السياق حين يقول: "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"، بهذا الشكل لا يمكن أن يتم "نقض العمل الاجير" من دون هذه "النظرية الثورية" التي تحتاج إلى تصور نظري جديد ووعي جديد مختلف عن الوعي البورجوازي وفي قطيعة معه. وهل يمكن تغيير الواقع الاجتماعي بالجهل والتصور القديم الافل؟ بالطبع لا يمكن ذلك وفق التصور الماركسي نفسه. وهنا نطرح السؤال: لكن من أين جاء التباس العبارة؟
أقو لكم: الالتباس قائم في نقص العبارة لا خطئها النظري. العبارة تقول: "ليس المقصود أن نغير وعي البشر جميعا في مجتمع بعينه حتى نتمكن من تغيير أوضاعهم الاجتماعية، فهذا تاريخياً ضرب من العبث نظراً لسيطرة إيديولوجيا الطبقات السائدة والحاكمة"
ليس المقصود أن نغير(نحن) وعي البشر أولا كي نتمكن من تغيير أوضاعهم"
لكن من هم هؤلاء ال(نحن؟) بالطبع لا يمكن أن يكونوا جميع أفراد المجتمع لاستحالة ذلك كما ذكرنا. إذا (نحن) هم فئة من المجتمع لهم سمات ووعي وتصور جديد وتنظيم جديد تاريخي يميزهم عن باقي أفراد المجتمع، لكن تميزهم لا يعزلهم عن باقي الافراد والطبقات والفئات الاجتماعية بل يصلهم بطريقة جديدة مع باقي تشكيلات المجتمع وأفراده. إنهم برزخ أو وسيط يصلهم بأفراد المجتمع الاخرين ويفصلهم عنهم في نفس الوقت.
يصلهم بالمجتمع وطبقاته خاصة الطبقة الثورية التي هي الطبقة العاملة المنتجة لفائض القيمة في المجتمع البورجوازي "الحديث"، ويفصلهم بالوعي والتنظيم عن البورجوازية والطبقات المسيطرة بحيث يشكلوا قوة أخلاقية مضادة لسياسات الطبقات الحاكمة وسلطتها على باقي الطبقات والمجتمع. هذا التنظيم سوف يطور ويطرح شكل وعي جديد مفارق للوعي البورجوازي ويعمل عبر هذا الوعي المفارق لتشكيل تنظيم سياسي مستقل عن وعي البورجوازية وسياساتها، بل هو يناهض هذا الوعي وهذه السياسات ويكون هدفه الأكبر تحطيم هذه السيادة التي ترتكز أساسا على احتكار سلطة الدولة من قبل البورجوازية.
إن الذين يقللون من شأن النضال النظري والتأسيس لوعي جديد، هم ليسوا أكثر من محتالين طامحين لركوب الموجات الثورية لتحقيق مطامح فردية تافهة على حساب النضال البروليتاري.
يكتب لينين في كتاب "ما العمل: المسائل الملحة لحركتنا" الكلام التالي:
لقد تجنبت هيئة تحرير "رابوتشييه ديلو" المسائل النظرية طيلة هذا الوقت، مع أن هذه المسائل قد استرعت اهتمام جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين في العالم بأسره. أما الإعلان الثاني فعلى العكس من ذلك: إنه يشير في البدء إلى ضعف الاهتمام بالناحية النظرية خلال السنوات الأخيرة ويطلب بإلحاح "انتباها يقظا حيال الناحية النظرية في الحركة البروليتارية الثورية" ويدعو إلى "توجيه نقد لا هوادة فيه إلى الميول البرنشتينية (نسبة إلى برنشتاين) وغيرها من الميول المعادية للثورة" في حركتنا. والأعداد التي صدرت من "زاريا" توضح كيف نُفذ هذا البرنامج. وهكذا نرى أن العبارات الطنانة عن تحجّر الفكر، وما إلى ذلك، تخفي وراءها عدم الاهتمام بتطوير الفكر النظري والعجز عن تطويره. وما مثال الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس إلا دليل جلي على ظاهرة أوروبية عامة (أشار إليها الماركسيون الألمان أيضا منذ أمد بعيد) وهي أن حرية النقد الذائعة الصيت لا تعني استبدال نظرية بأخرى، بل تعني التحرر من كل نظرية متكاملة ووليدة التفكير، تعني المذهب الاختياري وانعدام المبادئ. ولا بد لكل مُطّلع على وضع حركتنا الواقعي، وإن جزئيا، من أن يلاحظ أن انتشار الماركسية الواسع قد رافقه بعض الانحطاط في المستوى النظري. فبسبب النجاحات العملية التي أحرزتها الحركة وبسبب أهميتها العملية، انضم إليها كثيرون ضعيفون جدا أو صفر من حيث الإعداد النظري. ولذلك يمكننا أن نتبين مبلغ ما تظهر "رابوتشييه ديلو" من تفاهة عندما تستشهد، على غرار المنتصرين، بعبارة ماركس: "إن كل خطوة تخطوها الحركة العملية أهم من دستة من البرامج". إنّ تكرار هذه الكلمات في مرحلة الاضطراب النظري يشبه صراخ من يصرخ: "إن شاء الله دايمه!" عند رؤية جنازة. أضف إلى ذلك أن كلمات ماركس هذه مأخوذة من رسالته بصدد "برنامج غوتا"، حيث يندد بشدة بالمذهب الاختياري في صياغة المبادئ. فقد كتب ماركس إلى زعماء الحزب: إذا كانت هنالك من حاجة إلى الاتحاد، فاعقدوا معاهدات بغية بلوغ أهداف عملية تقتضيها الحركة، ولكن إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم و"التنازل" النظري. هذه هي فكرة ماركس. وها نحن نجد بيننا أناسا يستغلون اسمه للتقليل من أهمية النظرية! لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا. "
من جهة أخرى وفي حديث للفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدغر عن كارل ماركس وتغيير العالم يقول: موضوع الحاجة لتغيير العالم موجود في العبارة الشهيرة لكارل ماركس التي وردت في مقالته "فرضيات حول فيورباخ"، أريد أن أقتبس لك بدقة واقرأ من الكتاب الآن: الفيلسوف حتى هذه اللحظة، فهم العالم وفسّره، لكن المطلوب هو تغييره. " من يقبل بهذه العبارة ويصدق معناها (من يقبل هذه الصياغة)، يكون قد غفل عن أن تغيير العالم، يستلزم أولاً تغيير التصور عن العالم، وتغيير التصور عن العالم يمكن إحداثه فقط عن طريق فهم العالم بشكل شامل وعميق".
وهذا عين ما فعله ماركس لاحقاً في سبيل فهم العالم البورجوازي فهماً شاملاً وعميقاً عبر كتاباته وخاصة كتابه الفذ والنابه "الرأسمال". من هنا يتوجب تعديل العبارة حتى تستقيم مع مجمل عمل ماركس النظري اللاحق بحيث تغدو كالتالي: "الفيلسوف (هيغل) حتى هذه اللحظة لم يفسر العالم البورجوازي ولم يفهمه حق فهمه، والمطلوب هو فهمه فهماً شاملاً وعميقاً وتغييره"
ماركس: فرضيات عن فيورباخ -11
"الفلاسفة فقط فسروا العالم بطرق متعددة، لكن الامر المهم على أية حال هو تغييره" (ترجمة فؤاد أيوب وهو مطابق للصياغة في الطبعة الإنكليزية لدار التقدم)
الفرضية 11 في صياغتها الأولى، وعبارة الأيديولوجية الألمانية الواردة أعلاه تفترض أن العالم مُفسّر بشكل تام من قبل الفلاسفة (ممثلين بهيغل) عند مجيء ماركس إلى فضاء الصراع الفكري العالمي، بحيث لا تكون هناك ضرورة لدراسة التشكيلة الرأسمالية، بل يتوجب البدء والمباشرة بعملية التغيير فورا، وهذا مناقض لمجمل عمل ماركس النظري بما فيه كتابه "راس المال".
يقول مترجم الكتاب إلى العربية: يشكل نص "الأيديولوجية الألمانية" في عملية تكوين المادية التاريخية، لحظة حاسمة، انفصاماً (قطيعة معرفية حقيقة) يعترف به ماركس بالذات. لقد كان عبورا من شاطئ إلى شاطئ لا عودة عنه تاريخياً، العبور من الإشكال الفلسفي لشباب ماركس المرتبط بصورة وثيقة بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية كما يمثلها كانط وهيغل وفيورباخ إلى الدرب الذي سيؤدي، بواسطة نقد الأسس الفلسفية العامة لتلك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، إلى الماركسية في فجر تشكلها الحق.
"من هنا كانت بعض الصعوبات في قراءة (نص) "الأيديولوجية الألمانية" وتحليله، من جراء موقعه الانتقالي في تطور أفكار ماركس وانجلز. إنه نص ربما أثارت حرفيته بعض الالتباس، لأن فيه إلى الماضي ما يشده إليه، وإن يكن هو في جوهره، توقع للمستقبل، توقع جريء، لكنه يعوزه بعد، من جراء طبيعة الأمور بالذات، الشيء الكثير من النضوج والدقة، والتماسك. ألا يقول انجلز نفسه عام 1888 وهو يعيد قراءة مخطوط الأيديولوجية الألمانية: كم من المعارف في التاريخ الاقتصادي كانت ناقصة وقت ذاك".
ولم يكن بد من انتظار "رأس المال" (Das Kapital, Kritik der politischen Ökonomie) حتى تتخذ المادية التاريخية شكلها النهائي." (الأيديولوجية ص 17 مقدمة)
إن العبور مثله مثل المخاض عملية شاقة، له مراحله المتعددة التي تستغرق فترة من الزمن يكفي لنضوجها، وهو بالنسبة إلى الماركسية سنوات عديدة. وكما أنه لا يمكن الانتقال في التاريخ الفعلي من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر بين ليلة وضحاها، كذلك لا يمكن الانتقال في تاريخ الأفكار من نظرية إلى أخرى بين ليلة وضحاها، بل لا بد من وجود مراحل انتقالية ربما خيّم عليها بعض الابهام والغموض" (الأيديولوجية الألمانية: ص 17) وهذا ما ينطبق على (الفرضية 11 عن فيورباخ) حيث ما يزال سحر هيغل الفيلسوف الأكبر حاضراً عبر اعتقاد ماركس أن هيغل قد فسر العالم البورجوازي الحديث في كتابه "أصول فلسفة الحق" عبر تبيانه الجانب العقلاني للدولة البورجوازية الحديثة والمجتمع البورجوازي الحديث. ما يزال ماركس في هذه الفرضية مفتوناً بهيغل وعمله العظيم. يكتب هيغل في أصول فلسفة الحق: "هذا الكتاب إذن وهو يحتوي على علم الدولة، لا يريد أن يكون أكثر من محاولة لفهم الدولة ورسم صورة لها بوصفها شيئاً عقليا في ذاتها. ولا بد له بوصفه عملا فلسفياً، أن يكون بعيداً عن محاولة بناء دولة على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. والدرس الذي يتضمنه لا يمكن أن يعتمد على تعليم ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. إنه لا يبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالماً أخلاقياً. هنا رودوس هنا نقفز! (هنا الوردة فلنرقص هنا!)" (أصول فلسفة الحق ص 115 طبعة 1996) ماركس في رده على عبارة هيغل هذه إنما يدعو لتغيير الدولة البورجوازية التي باتت لا عقلية ورجعية في السياسة والايديولوجيا، أي باتت لا أخلاقية بالمعنى التاريخي. هيغل الفيلسوف فسر واقع الدولة البورجوازية (عالم الدولة البورجوازية الحديثة) وأنا ماركس ادعو لتغييرها لكونها باتت عالما لا عقليّا ولا أخلاقيا بامتياز، لكن هذه الدعوة تطلبت من ماركس عملا تفسيريا عميقا وشاملاً للتشكيلة الرأسمالية الحديثة والمجتمع المدني البورجوازي الذي يقوم عليه كيان هذه الدولة، وجهدا نظريا جبارا تُوّج بـ “رأس المال" لفهم النظام الرأسمالي بشكل "شامل وعميق" حسب تعبير هايدغر. رودوس هيغل الاغتباط بالتفسير ورودوس ماركس الاغتباط بالتفسير والتغيير معا، هي نظرية ثورية وممارسة ثورية قائمة عليها حسب قول لينين الشهير.
يتركز انشغال هيغل، إذاً، في العرفان أو التفسير، حيث يتوصل إلى نوع أصيل من التفسير بحيث يتوجب على الذات أن تكون متيقظة وفاعلة في سبيل إنتاج واقعية حقيقية، وهو ما يسميه هيغل فاعلية المفهوم أو الذات في بناء هذه الواقعية الحقيقية (بالنظر إلى الواقعية الحادثية). وهو ما يسمى بديالكتيك العيني في الهيغلية والماركسية على السواء: الموضوع؛ المعطى منقول إلى الرأس ومحوّل فيه؛ يكتب ماركس في مقدمة رأس المال-تذييل الطبعة الثانية: "فالمثالي ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحوَّل فيه". هذا التحويل بعد النقل خطوة جبارة وحاسمة، والتغطية عليها بعبارة ماركس الشهيرة التي تقول: "لم يفعل الفلاسفة حتى اليوم سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن الأمر الهام هو تغييره “. إن التغطية على التفسير الديالكتيكي العيني بحجة تغيير للعالم قائم على انطباعات حسية أو على تفسير وضعي-جسدي هو ماركسية مدعية وسطحية وهي "التفاهة" عينها التي تحدث عنها ماركس في نقده للاقتصاد السياسي السطحي. (قراءة نقدية في مقدمة العقل والثورة)
مراجع الدرس الخامس
1-ماركس انجلس: الأيديولوجية الألمانية، طبعة دار الفارابي ترجمة الدكتور فؤاد أيوب
2-ماركس: فرضيات عن فيورباخ ؛ الفرضية 11
3-لينين: كتاب ما العمل: المسائل الملحة لحركتنا
4-هيغل: أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام طبعة 1996
5-نايف سلوم: قراءة نقدية في مقدمة "العقل والثورة "