حواشٍ وتعليقات على -الدولة والثورة--الفصل الأول


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7893 - 2024 / 2 / 20 - 20:18
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

"الدولة والثورة" شقّان:
الأول هو “تعاليم الماركسية في الدولة"
والثاني هي "مهمات البروليتاريا في الثورة"
بخصوص الشق الأول، فقد كتب لينين كتاب الدولة والثورة في آب-أيلول 1917، أي قبيل الثورة الاشتراكية في روسيا بشهر. وقد أفصح لينين عن فكرته في النصف الثاني من سنة 1916. ويبدو أن الكتاب هو بالدرجة الأولى للنشر داخل الحزب، لتوضيح تعاليم الماركسية بخصوص الدولة، خاصة وأن الكتاب لم يصدر إلا في سنة 1918. وفي رسالة مؤرخة في 17 شباط 1917 وموجهة إلى كولونتاي كتب لينين أنه قد حضّر تقريباً المواد اللازمة في مسألة موقف الماركسية حيال الدولة. إن هذه العبارة الواردة في هوامش الكتاب" (الدولة والثورة) والتي تقول: "في ذلك الحين أيضاً كتب مقالة "أممية الشبيبة" وانتقد فيه الموقف المعادي للماركيبة الذي وقفه بوخارين من مسألة الدولة، ووعد بكتابة مقال مسهب عن موقف الماركسية حيال الدولة"، هي ملاحظات من عمل الناشرين البيروقراطيين السوفييت المتعصبين لموقف ستالين من رفاقه البلاشفة القدامى. متعصبون يحاولون إظهار كتاب الدولة والثورة وكأنه عمل ضد بوخارين بشكل أساسي، ولتبرير إعدام بوخارين من قبل نظام ستالين البيروقراطي سنة 1938. مع أن دراسة كتاب بوخارين "الامبريالية والاقتصاد العالمي" الفصل الحادي عشر: (وسائل الصراع التنافسي، وسلطة الدولة)، تدحض هذا الادعاء.
وبوخارين هو نيقولاي بوخارين (1888-1938) من قادة الصف الأول للبلاشفة إلى جانب لينين وتروتسكي وستالين وزينوفييف وكامينيف وبريوبراجنسكي ورادك وغيرهم. وهو أحد ضحايا اعدامات موسكو من البلاشفة القدامى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، الاعدامات التي قام بها ستالين متهماً رفاقه القدامى من قادة الحزب البلشفي "بالهرطقة" والخيانة.
وكان لينين قد قدم لكتاب بوخارين الهام "الامبريالية والاقتصاد العالمي" في كانون الأول سنة 1915. وقد قال في الكتاب: "الحديث عن أهمية الموضوعة التي يعالجها مؤلف ن. أ. بوخارين هذا، لا تتطلب إيضاحاً خاصاً. فمشكلة الامبريالية ليست أكثر المشكلات أهمية وحسب، بل لعل بوسعنا القول إنها المشكلة الأهم على الاطلاق، في عالم علم الاقتصاد الذي يتفحص ويدرس الاشكال المتغيرة للرأسمالية في الأزمنة الراهنة" وأضاف لينين قوله: "الأهمية العلمية لمؤلف ن. أ. بوخارين، تكمن بصورة خاصة في كونه قام بتفحص الحقائق الأساسية للاقتصاد العالمي المتعلقة بالإمبريالية ككل، وكمرحلة محددة في نمو الرأسمالية الأعلى تطوراً" (الامبريالية والاقتصاد العالمي: 5-6)
أما ألكسندرا كولونتاي ... ألكساندرا دومونتوفتش (1872-1952) فهي شيوعية ثورية روسية من أبرز نساء الحركة الشيوعية الروسية.
وقد جمع لينين ملاحظاته بخصوص "موقف الماركسية حيال الدولة" في دفتر ملاحظات أو مسودّة، عرفت باسم "مسودة الدولة والثورة". وقد ظهرت باللغة العربية في ترجمة مصرية. وقد دوّن في هذا الدفتر مقتبسات من مؤلفات ماركس وانجلس وكذلك فقرات ومقتطفات من كتب كاوتسكي وبانيكوك وبرنشتين مرفقة بملاحظاته الانتقادية واستنتاجاته وتلخيصاته."
كان من المقرر أن يكتب لينين فصلاً سابعاً للكتاب بعنوان "خبرة ثورتي سنة 1905 وسنة 1917 الروسيتين " إلا أنه لم يرى النور. (هامش ص 165)
في مقدمة الطبعة الأولى يكتب لينين "ضد الأوهام الانتهازية بصدد "الدولة" " الكلام التالي:
"في الوقت الحاضر (قبيل الثورة الاشتراكية في روسيا وخلال الحرب العالمية الاولى) تكتسب مسألة الدولة أهمية خاصة سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية السياسية. فالحرب الاستعمارية (العالمية الاولى) قد عجلت وشددت لأقصى حد سير تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. والظلم الفظيع الذي تقاسيه جماهير الشغيلة من قبل الدولة التي تلتحم أوثق فاوثق باتحادات الرأسماليين ذات الحول والطول يغدو أفظع فأفظع" هذا الاندماج بين رأس المال الاحتكاري عبر شركاته الاحتكارية العملاقة من جهة وبين الدولة الامبريالية عبر ميزانية الدولة، زاد من جبروت الطرفين، وقلص من هامش المناورة أمام البروليتاريا والجماهير الشعبية عامة.
يكتب يوجين فارغا في كتابه الهام "القضايا الاقتصادية/ السياسية للرأسمالية":
"قال لينين في كتابه "الحرب والثورة": إن الرأسمالية القديمة، رأسمالية عصر المنافسة الحرة، كانت تنمو إلى رأسمالية التروستات والسنديكات والكارتلات العملاقة (إلى رأسمالية احتكارية). وقد أدخلت هذه المجموعة بداية الإنتاج الرأسمالي الذي تتحكم فيه الدولة. موحدة القوة الجبارة للرأسمالية (للشركة العملاقة) مع القوة الجبارة للدولة في آلية واحدة. وجاذبة عشرات الملايين من الناس إلى داخل التنظيم المفرد لرأسمالية الدولة. وذاك تاريخ اقتصادي وذاك تاريخ دبلوماسي. لا يستطيع أحداً أن يفر منه." ويضيف فارغا: "ويشكل التحام القوتين –الاحتكارات والدولة-أساس رأسمالية الدولة الاحتكارية. وقد طرأ على وجهة النظر هذه مزيد من التطوير في برنامج الحزب الشيوعي السوفياتي، الذي يقرر أن: "رأسمالية الدولة الاحتكارية توحّد قوة الاحتكارات وقوة الدولة في آلية واحدة غرضها إثراء الاحتكارات وقمع الحركة العمالية ونضال التحرر الوطني، وإنقاذ النظام الرأسمالي، وشن الحروب العدوانية. ونحن نريد أن نبرز أن كلاً من لينين وبرنامج الحزب الشيوعي السوفياتي يتحدثان عن انصهار القوتين، ويعني ذلك أن رأس المال الاحتكاري والدولة قوتان مستقلتان، تتحدان في عصر الرأسمالية الاحتكارية لإنجاز أهداف محددة. وليس ذلك مجرد "خضوع" الدولة، خضوعاً من جانب واحد، لرأس المال الاحتكاري، كما أكد ستالين، وكما يواصل بعض اقتصاديينا التأكيد بطريقة نصيّة إلى يومنا هذا. " ويضيف فارغا القول: "وقد قمنا بمحاولة لتحديد مضمون رأسمالية الدولة الاحتكارية تحديداً أكثر دقة إلى حد ما (بقولنا): إن مضمون رأسمالية الدولة الاحتكارية هو اتحاد بين قوة الاحتكارات وقوة الدولة البورجوازية (الامبريالية) لتحقيق غرضين هما: 1-دعم النظام الرأسمالي في النضال ضد الحركة الثورية في داخل البلد وفي النضال ضد المعسكر الاشتراكي؛ 2-إعادة توزيع الدخل القومي من خلال الدولة (ميزانية الدولة) لصالح رأس المال الاحتكاري" (القضايا الاقتصادية السياسية ص 66 وراجع أيضاً: يوجين فارغا: "رأسمالية القرن العشرين"). وكان بوخارين قد تحدث سنة 1915 في كتابه السالف الذكر (الامبريالية والاقتصاد العالمي)، الفصل الحادي عشر: عن “الأهمية الاقتصادية لسلطة الدولة".
وقد وضع بول باران وبول سويزي عنواناً لكتابهما المشترك "رأس المال الاحتكاري؛ بحث في النظام الاقتصادي والاجتماعي الأميركي" أي بحث ودراسة الشركة الاحتكارية، مجردة عن علاقاتها بالدولة الامبريالية الرأسمالية. ومع ذلك فقد جاء الفصل الثامن من الكتاب بعنوان: "حول تاريخ الرأسمالية الاحتكارية" والفصل التاسع بعنوان: "الرأسمالية الاحتكارية والعلاقات العنصرية" في إعادة للربط والدمج بين الشركة الاحتكارية والدولة الامبريالية الأميركية. يقول بوخارين: "بما أن الدولة الحديثة (الامبريالية) هي صاحبة حصة (اقتصادية عبر ميزانية الدولة) كبيرة في تروست الدولة الرأسمالية، فإنها الذروة المنظمة الأعلى والأكثر شمولية لهذا الأخير. ومن هنا تأتي سلطتها الضخمة، بل والرهيبة الهائلة تقريباً" (الامبريالية والاقتصاد العالمي: 188) لقد توقع بعض البلاشفة اضمحلال الدولة بعد ثورة 1917، وقد قدم مجرى التاريخ وتحليل بوخارين المسبق مشهداً معاكساً تماماً تجلى في هذه السلطة الرهيبة الهائلة، حتى في روسيا نفسها تحت حكم ستالين ونظام البيروقراطية السوفياتية، فإن التطور الهائل لسلطة الدولة الاشتراكية البيروقراطية جرى في نفس الاتجاه. يقول بوخارين: "إن الاتجاه نحو الامبريالية يوحد بين ظاهرة اقتصادية وسلطة سياسية عظيمة. ويجري تنظيم كل شيء على نطاق واسع. إن الدور الحر للقوى الاقتصادية، الذي كان حتى وقت قريب يخلب ألباب المفكرين (الليبراليين) والمهتمين بالقضايا العامة، يتلاشى ويختفي" (الامبريالية والاقتصاد العالمي 182)
يكتب ألبرتيني: لقد "غدت النفقات الحربية حافزاً هائلاً للنمو الصناعي، ولما ضُمّت هذه النفقات إلى دولة الرفاهية (دولة الخدمات)، أعطت النفقات العامة (ميزانية الدولة) وزناً في الفعالية الاقتصادية مجهولاً إلى ذلك الحين (بعيد الحرب الثانية). إن التصرّف بواسطة النفقات العامة (ميزانية الدولة) من أجل ضبط وتثبيت الطلب يكون ميسوراً أكثر عندما تقارب النفقات 40% من الناتج القومي الإجمالي (غير الصافي) منه حين لا تتجاوز حاجز 10% منه" (لفهم الاقتصاد العالمي ص 42-43) إن الدولة الأميركية تشتري من الشركة الاحتكارية الأميركية بواسطة ميزانية الدولة، وتفتعل الحروب العدوانية لتشتري أكثر من شركات السلاح العملاقة. هكذا تعيد الدولة الامبريالية الأميركية توزيع الدخل لصالح الشركات الاحتكارية على حساب الشعب الأميركي، وعلى حساب شعوب البلدان المتخلفة التي تعاني النهب والاستغلال ومعه العدوان والتدمير. يكتب بوخارين سنة 1915: "تكرّس ميزانية الدولة التي نمت نمواً هائلاً، حصة ما فتئت تزداد ضخامة لـ "الأغراض الدفاعية" كما يجري في العادة الاصطلاح على تلطيف صفة العسكرة (عسكرة الاقتصاد) بهذه التسمية" (لفهم الاقتصاد العالمي 183)
يقول رجل الاعمال الأميركي إيلون ماسك: " إن "الدين العام سيرتفع من 99% من حجم الناتج المحلي الإجمالي التي يتوقع تسجيلها في نهاية العام 2024 إلى 116% من حجم الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2034، وهو أعلى مستوى على الإطلاق".
وقد سجلت الحكومة الفيدرالية الأمريكية عجزا في الميزانية بنحو 1.7 تريليون دولار في السنة المالية 2023 " (المصدر: شينخوا)
تستدين ميزانية الدولة الأميركية لتشتري من الشركات الاحتكارية ومنها شركات صناعة الأسلحة كي تبقى مزدهرة على حساب الشعب الأميركي وشعوب العالم كافة. كتب النائب الجمهوري الأميركي تومي توبرفيل: "إن فكرة ضرورة إطالة أمد قتل الناس في أماكن بعيدة من أجل إثراء مقاولي الدفاع لدينا هي فكرة بغيضة ومتناقضة مع اللهجة الوعظية والأخلاقية التي يتبناها مؤيدو أوكرانيا في العاصمة. وفي أوقات مختلفة، كان هذا النوع من الجدل يدور في غرفة خلفية مليئة بالدخان، كان يعرف بالتربُّح. وفي عصرنا يتم طباعته في صحيفة واشنطن بوست، ولذلك لم أصوّت لصالح سنت واحد لصالح أوكرانيا." (فوكس نيوز)
يقول لينين في مقدمة الطبعة الأولى: "إن الاهوال والنكبات المنقطعة النظير الناجمة عن الحرب (العالمية الاولى) تجعل الجماهير في حالة لا تطاق وتشدد سخطها. إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بيّنة (خاصة في روسيا وألمانيا وإيطاليا وهنغاريا). ومسألة موقفها (الثورة البروليتارية) من الدولة (سلطة الدولة) تكتسب أهمية عملية" (الدولة والثورة ص 3)
"إن عناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبياً. جعلت "زعماء الاشتراكية" يتكيفون بذلّة وحقارة ليس فقط وفق مصالح بورجوازيتـ"هم" الوطنية، بل وفق مصالح دولتـ"هم"" ص 4 "إن أكثرية ما يدعى بالدول الكبرى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل جملة كاملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة. وما الحرب الاستعمارية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنيمة. والنضال من أجل تحرير جماهير الشغيلة من نفوذ البورجوازية بوجه عام والبورجوازية الاستعمارية بوجه خاص يستحيل بدون النضال من الأوهام الانتهازية بصدد الدولة" ص 4
يقول لينين: "في البدء سننظر في تعاليم ماركس وانجلس بشأن الدولة متناولين بإسهاب خاص ما نُسي أو تعرض للتشويه الانتهازي من نواحي هذه التعاليم. وبعد ذلك سندرس بصورة خاصة الممثل الرئيسي لهذه التشويهات، كارل كاوتسكي، أشهر زعماء الأممية الثانية (1889-1914) الذي أفلس إفلاساً مشيناً خلال الحرب الراهنة (العالمية الاولى). وسنستخلص في النهاية الاستنتاجات الرئيسية من خبرة الثورتين الروسيتين، ثورة 1905 وثورة 1917 بوجه خاص. ويبدو أن هذه الاخيرة (ثورة 1917) تنهي في الوقت الحاضر (أوائل آب 1917) المرحلة الأولى من تطورها، لكن هذه الثورة (1917) بأكملها لا يمكن فهمها بوجه عام إلا باعتبارها حلقة من حلقات سلسلة الثورات البروليتارية الاشتراكية التي تثيرها الحرب الاستعمارية (الاولى). وهكذا فإن موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية فحسب، بل تغدو كذلك مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعل في المستقبل القريب للخلاص من نير رأس المال" (آب سنة 1917)
إن ما يثير الدهشة حقاً، هذا الوعي لدى لينين، وهذا التبصر لديه بالأحداث التاريخية وهي تجري أمامه. وهذا أمر فذّ ونادر في وعي التاريخ.
ونريد التعليق على عبارتين:
العبارة الأولى تقول: " ويبدو أن هذه الاخيرة (ثورة 1917) تنهي في الوقت الحاضر (أوائل آب 1917) المرحلة الأولى من تطورها “. حيث يشير لينين هنا إلى انتهاء فاعلية وصلاحية قيادة البورجوازية الليبرالية الضعيفة والبورجوازية الديمقراطية الصغيرة في روسيا للثورة الديمقراطية البورجوازية، حيث لم تستطع هذه البورجوازية الضعيفة أسيرة الاقطاع، ولا أختها الصغيرة، إنجاز أي مهمة من مهمات الثورة، وهي السلام والخبز. ما اضطر البلاشفة إلى الدفع باتجاه الانتقال إلى المرحلة الثانية للثورة، وهي مرحلة قيادة البروليتاريا الاشتراكية للثورة الديمقراطية البورجوازية. وهذه القيادة الجديدة سوف تحوّل طبيعة الثورة وفاعليتها بشكل جذري. يقول ماو تسي تونغ: " إذا نظرنا إلى عملية الثورة الديمقراطية البورجوازية في الصين، التي بدأت بثورة 1911 (بقيادة صُون يات صن)، وجدنا لها أيضاً مراحل خاصة متعددة. فالثورة في فترة قيادة البورجوازية لها والثورة في فترة قيادة البروليتاريا الاشتراكية لها تتمايزان على الأخص، كمرحلتين تاريخيتين مختلفتين اختلافاً كبيراً. ذلك أن القيادة التي مارستها البروليتاريا الاشتراكية غيرت وجه الثورة بصورة جذرية، وأدت إلى ترتيب جديد في العلاقات الطبقية، وإلى انطلاق عظيم في ثورة الفلاحين، ومنحت الثورة الموجهة ضد الامبريالية والاقطاعية صفة الحزم الذي لا يعرف المهادنة، وجعلت من الممكن الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية. وما كان يمكن أن تحدث هذه الأشياء كلها عندما كانت الثورة (الديمقراطية) بقيادة البورجوازية." (في التناقض)
والثورة الروسية هي سلسلة من الانتفاضات الشعبية حدثت في روسيا عام 1917، والتي كان لها الدور الأبرز في تغيير مجرى التاريخ المعاصر، وقد قامت بها أساسًا الجماهير الروسية الجائعة والمتورطة في الحرب العالمية الاستعمارية الأولى، منهيةً بذلك الحكم القيصري، ومقيمة مكانه حكومة بورجوازية مؤقتة. اندلعت الثورة الأولى في فبراير/شباط (مارس/آذار في التقويم الغربي)، أما الثورة الثانية التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الاول، فقد أزال على إثرها البلاشفة الحكومة المؤقتة واستبدلوها بحكومة اشتراكية، تلا ذلك الفصل الأخير من الثورة وهو الحرب الأهلية الروسية."
العبارة الثانية: " إن موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية فحسب، بل تغدو كذلك مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعل في المستقبل القريب للخلاص من نير رأس المال" (آب سنة 1917)"
تشير هذه العبارة إلى أن البلاشفة كانوا قد أخذوا القرار بالاستيلاء الفعلي المباشر على سلطة الدولة وإبعاد البورجوازية في آب/أغسطس سنة 1917. وكان القرار هذا قد اتخذ من حيث المبدأ اعتباراً من نيسان 1917 حين عاد لينين من المنفى الأوروبي وقدم أطروحاته الجديدة في "موضوعات نيسان" الشهيرة، بحيث اقترح على الحزب البلشفي الانتقال من موقع المعارضة اليسارية للبورجوازية إلى تحطيم سلطة الدولة البورجوازية واستلام السلطة من قبل البروليتاريا الاشتراكية. ففي الثالث من إبريل/نيسان عام 1917 وصل لينين إلى بيتروغراد بعد قضاء وقت طويل في منفاه بسويسرا؛ وفي اليوم التالي (4 نيسان) أطلع الحزب البلشفي على رسائله (موضوعات نيسان) قائلا بإعطاء كل السلطة للسوفييتات. ورغم أن حزب لينين البلشفي كان يمثل أقلية شديدة وسط السوفييت، إلا أن مظاهرة من خمسمائة ألف شخص خرجت على أثر هذه الكلمة (كل السلطة للسوفييتات) في الرابع من يوليو/تموز.
في 10 أكتوبر 1917 اللجنة المركزية للبلاشفة صوتت 10 ضد 2 لقرار قائلا ان" انتفاضة مسلحة أمر لا مفر منه، وبأن الوقت قد حان لذلك تماما" أي حان وقت الاستيلاء على سلطة الدولة البورجوازية وتحويلها إلى سلطة دولة اشتراكية.
إن مهمة الكتاب الأساسية تتلخص "في بعث تعاليم ماركس بشأن الدولة" ص 7 يترجم لينين عن انجلس في أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة": "الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره. الدولة هي افصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكن حلّه. قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع، مع ذلك، نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة" ص 8
إن تعبير "الدولة الأخلاقية" أو "المجتمع المدني" يعني إذن أن هذه "الصورة" صورة دولة بلا دولة، كانت ماثلة في أذهان معظم المفكرين والسياسيين والقانونيين، طالما أنهم يقفون على أرضية العلم المحض (المجرد) [هذا ينطبق على هيغل في حديثه عن الدولة على أنها "صورة وواقع العقل"]، لأنها تقوم على افتراض أن كل البشر متساوون حقيقة، في العقل والأخلاق، أي يمكن أن يقبلوا بالانصياع للقانون تلقائياً وطواعية، لا بالقسر والاكراه باعتباره مفروضاً عليهم من طبقة أخرى، أي كشيء خارجي بالنسبة لوعيهم" (كراسات السجن: 274)
وأقول لكم: إن هذا الارتفاع فوق المجتمع للدولة، والانفصال عنه أكثر فأكثر، وهذه الاستقلالية للدولة (Statolatory) له تبعات يجب استقصاؤها.
ما من شك أن سلطة الدولة تستولي عليها طبقة بعينها او تحالف طبقات، مع هيمنة واحدة عليها. وتتم هذه السيطرة على سلطة الدولة عبر أجهزة تقسم إلى: أجهزة إكراه (الجيش والشرطة والسجون) وأجهزة هيمنة وإقناع ذات طابع أيديولوجي (التعليم العام، والاعلام، والنقابات الحكومية). وإن تضخذم هذه الأجهزة يخلق مصالح ذات طابع بيروقراطي خاص. كما أن توازن القوى بين الطبقات المتصارعة المتضادة ودرجته يفسر شدة أو ضعف استقلال سلطة الدولة وهيبتها عن المجتمع. إن ما يسمى بالنظم البيروقراطية والفاشية والبونابرتية تقوم أصلاً على وجود توازن طبقي كهذا، توازن قوة الطبقات أو توازن ضعف الطبقات وإرهاقها بعد صراع تاريخي يستنزف قوى الطرفين. ولا بد أن يكون في ذهن القارئ أن الصراع الطبقي له جناحان؛ واحد داخلي محلي، وآخر خارجي دولي.
يكتب غرامشي: "هيبة الدولة/الحكومة باعتبارها قوة مستقلة لا بد ان تنعكس على الطبقة التي تستند إليها. هذه الحقيقة لها أهمية عملية ونظرية بالغة. تستحق تحليلاً مستفيضاً، إذا أردنا التوصل إلى تحليل أكثر واقعية (عينية) للدولة ذاتها." (كراسات السجن 280)
يكتب بولنتزاس: "لا يمكن لنظرية حول الدولة الرأسمالية أن تنشئ موضوعها بربطه فقط مع علاقات الانتاج" بل لا بد من الحديث في الوقت ذاته عن "الصراعات السياسية: أي الدولة كتكثيف لميزان قوى"(نظرية الدولة)، أي الطبقة كقوة اقتصادية موسّطة ومُعبّر عنها يقوى سياسية بفعل مثقفيها العضويين الذين قد يفدون إليها من طبقات ثانوية أخرى.
عند وجود راهنية ثورة اجتماعية كما هو الحال في آب/أغسطس 1917، فإن الحديث عن الدولة كتعبير عن سيطرة طبقة على سلطة الدولة أمر مبرر تماماً، خاصة أن المطلوب تغيير نوع هذه السيطرة بأخرى. أما فترات "السلم الطبقي" وابتعاد راهنية ثورة اجتماعية، وهيمنة حرب المواقع في أجهزة الدولة (خاصة أجهزة الهيمنة)، يكون المطلوب طرحاً أكثر تفصيلاً وعيانية لجهة القوى السياسية المشاركة في السلطة. بحيث يكون "علينا ان نفسر كيف يتموضع الصراع الطبقي، وبصورة أخص الصراع السياسي والسيطرة السياسية في الهيكل المؤسساتي للدولة" (نظرية الدولة: 126)
"يقوم دور الدولة حيال الطبقات السائدة، وخاصة منها البورجوازية، في التنظيم. إنها تمثل وتنظم الطبقة أو الطبقات السائدة، أي المصالح الطويلة الاجل للكتلة الممسكة بالسلطة، المكونة من الأجزاء المختلفة للطبقة البورجوازية. وتنجز الدولة دورها في تنظيم وتوحيد البورجوازية والكتلة الممسكة بالسلطة، فقط عندما تحافظ على استقلال ذاتي نسبي حيال هذا الجزء أو ذاك، هذا المكون أو ذاك، من مكونات الكتلة الحاكمة، وحيال مصالحها الجزئية. إن الاستقلال الذاتي يتسم بطابع تكويني بالنسبة للدولة الرأسمالية، وهو يشير إلى ماديتها في انفصالها النسبي عن علاقات الإنتاج (البنية التحتية الاقتصادية)، وإلى الخصوصية النوعية للطبقات والصراع الطبقي، التي يضمرها هذا الانفصال" (نظرية الدولة: 127)
يمكن ادراج استقلال الدولة كما يقول غرامشي "ضمن وظيفة النخب أو الطلائع، أي وظيفة الأحزاب بالنسبة للطبقة التي تمثلها، وقد لا تتمتع هذه الطبقة التي تعتبر عادة حقيقة اقتصادية (كل طبقة هي كذلك في جوهرها) باي نفوذ فكري أو أدبي، أي أنها قد تعجز عن تحقيق هيمنتها، ومن ثم تعجز عن تأسيس دولة." (كراسات السجن: 280-281) أي أنه لا يمكن لطبقة أن تحكم من دون مثقفين عضويين؛ من دون حزب أو أحزاب كنخب لها وطلائع وقادة سياسيين. أي كمنظمين لهيمنتها وسيطرتها.
يتميز فكر لينين بميزة فريدة وهي التركيز على الفروق الصغيرة في الصياغات، الفروقات الصغيرة بين أفكار البورجوازية الصغيرة وبين الصياغات الماركسية الكلاسيكية، وملاحظة أدنى فرق واختلاف، وهذه ميزة الثوريين العظام. لقد كان ماركس المثل الأكبر في التمييز هذا بين الصياغة الاشتراكية الماركسية الثورية وبين الصياغة الانتهازية المشبوهة، وتمتع ماو بميزة مماثلة. لنلاحظ كيف يفرق لينين بين صياغة ثورية وأخرى "انتهازية" شبهة أو مشبوهة بهدف تضليل جماهير العمال والكادحين عامة.
يكتب لينين: "ففي ثورة 1917، عندما طرحت بكل خطورتها مسألة معنى الدولة ودورها، عندما طرحت عمليا باعتبارها مسألة عمل (سياسي) مباشر وفي النطاق الجماهيري، انزلق جميع الاشتراكيين الثوريين (وهو حزب البورجوازية الصغيرة) والمناشفة (حزب اشتراكي اصلاحي) جميعهم دفعة واحدةـ ودون تحفظ، نحو النظرية البورجوازية الصغيرة القائلة إن "الدولة" "توفِّق" بين الطبقات. أما أن الدولة هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينها وبين قطبها المضاد (الطبقة المضادة لها) فهذا مالا تستطيع الديمقراطية البورجوازية الصغيرة “فهمه بأي حال" 10
لكن لماذا يشن لينين هذا الهجوم العنيف على "نظرية التوفيق" هذه التي تتبناها الديمقراطية البورجوازية الصغيرة ذات القاعدة الفلاحية الفقيرة بخصوص الدولة؟
إن "نظرية التوفيق" هذه تعني بالضبط أن الدولة عبارة عن كيان أو هيئة للتسوية بين الطبقات، وفض الخصومات والمنازعات، وكأنها جهاز قضائي تكون مهمته الفصل في المنازعات والخصومات. مع أن القضاء أحد أجهزة الدولة في الهيمنة، وله جهاز تنفيذي هو أجهزة الشرطة. نجد هذا الملمح لبروز القضاء في بدايات استعمار الأوروبيين للقارة الأمريكية. أما وجهة نظر ماركس في الدولة حسب قراءة لينين، فهي أن الدولة هيئة أو كيان لتنظيم سيطرة وهيمنة الطبقة المسيطرة على سلطة الدولة، ومهمتها الأساسية الحفاظ على هذه السيطرة وحمايتها وإدامتها، وقمع وتحطيم كل تمرد أو اضطراب يحاول زعزعة استقرار هذه السلطة. ولهذه الهيئة أجهزة تقسم إلى قسمين: أجهزة هيمنة (تعتمد الحجة والاقناع ضد الخصوم)، وأجهزة إكراه (تعتمد على احتكار العنف المنظم ضد الخصوم الطبقيين) تشمل الجيش وأجهزة الامن والشرطة والسجون وغيرها. ويمكن أن تلحق بها في أوقات الازمات مليشيات ذات طابع مؤقت كرديف.
لم يتكلم ماركس عن الدولة بشكل مفصَّل، بل اكتفى بوضع مخطط عام نشر كملاحق للأيديولوجية الألمانية لأول مرة سنة 1932، وكتب في كانون الثاني سنة 1848 تحت عنوان: "مشروع مؤلف عن الدولة الحديثة"، تحدث في بدايته عن أصل الدولة الحديثة أو (دولة) الثورة الفرنسية. وقال: التصور الذاتي للمجال السياسي (للبنية الفوقية السياسية)، يعتبر خطأ الدولة القديمة. وذكر موقف الثوريين من المجتمع المدني، وقال: جميع العناصر موجودة في شكل مزدوج، بوصفها عناصر مدنية وبوصفها عناصر الدولة" (الأيديولوجية ص 758). وكان أنطونيو غرامشي قد وسع هذه الفكرة في "كراسات السجن". وهذا الازدواج ينطبق بشكل خاص على أجهزة الهيمنة والاقناع في الدولة.
إن الحديث عن دولة نمط الإنتاج باعتبارها بنية فوقية تهدف أساساً إلى تنظيم وإدامة سيطرة الطبقة الحاكمة تشير إلى أنه لا يمكن الخوض في التفاصيل لأنها شأن تاريخي، خاصة وأن دولة نمط الإنتاج (بورجوازيّ، اقطاعيّ، عبوديّ، آسيويّ، الخ) أظهرت أشكالاً تاريخية غاية في التنوع. فها هي البورجوازية تفرز أشكالا متنوعة للدولة حسب الشروط التاريخية المعينة كالبورجوازية الليبرالية، والبونابرتية والبيروقراطية والفاشية، والدكتاتوريات العسكرية، مع تنوع في أشكال الحكم كالملكية المطلقة والملكية الدستورية، والجمهورية، والبرلمانية وغيرها من أشكال الحكومات. يكتب لينين مستشهداً بأنجلس: "ثمة حالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات االمتناضلة (المتصارعة) درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعاً من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما"16 ومن هذا القبيل كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع عشر والثامن عشر والبونابرتية في الامبراطوريتين الأولى والثانية في فرنسا، وبيسمارك في ألمانيا" 17 يضيف لينين: "ومن هذا القبيل نضيف نحن حكومة كيرنسكي في روسيا الجمهورية بعد الانتقال إلى ملاحقة البروليتاريا الثورية" 17
من هنا أهمية دراسة "الدولة" بشكل تاريخي محدد وعيني ملموس لفهم الشكل الذي تظهر فيه، والآلية المحددة التي تعمل بها. وبالطبع من دون دراسة جميع طبقات مجتمع بعينه، لا يمكن فهم دولة هذا المجتمع وتفسير سياساتها تجاه الداخل والخارج.
وكما أن الشركات الاحتكارية تقوم بمبادرات اقتصادية قد تخدع البلدان المتخلفة بحيث تظهر لها العطف الاقتصادي والمساعدات والاعانات، مع أن الهدف الرئيسي الأكيد هو تحقيق السيطرة والتحكم في اقتصادات هذه البلدان وإدامة تبعيتها وإلحاقها، كذلك الدولة بالنسبة للطبقة المسيطرة في سلوكها تجاه الطبقات الهامشية، بحيث يكون الهدف الأساس هو تنظيم هذه السيطرة وإدامتها وتكريسها كما لو كانت قانوناً من قوانين الطبيعة.
يقول لينين: "الموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيون-الثوريون والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على أنهم ليسوا باشتراكيين قط (الامر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام)، بل هم ديمقراطيون بورجوازيون صغار ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية (شبهة اشتراكية)"
يمكن تلخيص فكرة ماركس عن الدولة على النحو التالي: "الدولة هي هيئة للسيادة الطبقة، وهي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية وعدم القدرة على التوفيق بين المصالح المتناقضة لهذه الطبقات. تظهر الدولة كقوة فوق المجتمع، "مستقلة عنه" "تنفصل عن المجتمع أكثر فأكثر"، وكلما "استقلت" عنه أكثر استطاعت انجاز مهماتها في السيطرة الطبقية وتنظيم هذه السيطرة بشكل أسلس وأكبر. هكذا يكون من الواضح أن تحرير الطبقة المظلومة ومعها باقي الطبقات المهمشة في المجتمع، فضلاً عن أنه حسب الخبرة التاريخية لا يمكن أن يحصل بدون ثورة عنيفة، فإنه أيضاً لا يمكن أن يكون بدون القضاء على آلة الدولة التي أنشأتها الطبقة السائدة، أي تحطيم آلة الدولة القديمة، وبناء آلة جديدة تشمل جانبي الاكراه والهيمنة معاً.
يميز انجلس حسب لينين بين نظام "المشاعة العشائرية (جِنُس)" Genus وبين المجتمع الطبقي. في المشاعة العشائرية، حيث نواجه "منظمة السكان المسلحة العاملة من نفسها"، بينما نواجه في المجتمع الطبقي "القوة" التي تسمى الدولة، القوة التي نشأت من المجتمع، لكنها تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر، كسلطة عامة. وهي تحاول احتكار العنف عبر مجموعات خاصة (الجيش والشرطة) وهي فصائل مسلحة خاصة دائمة تحت تصرفها ملاحق مادية، كالسجون وكل مؤسسات القهر. في الدولة "الجيش الدائم والشرطة هما الاداتان الرئيسيتان لقوة سلطة الدولة" 12 وهنا يميز لينين بين "الدولة" و "سلطة الدولة" حيث الدولة تتكون من سلطة الدولة، وأجهزة الدولة، وهذه الأجهزة تنقسم إلى أجهزة إكراه، وأجهزة هيمنة وإقناع.
كانت القبائل في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام عبارة عن "مشاعات عشائرية" لديها مسلحيها من الفرسان وغيرهم، حيث تعتاش على الغزو وتعتمد على "منظمة السكان المسلحين العاملة من نفسها" نحن هنا نتحدث "عن سكانً مسلحين (البدو الرحل) يمثل فيهم الفرسان الرعاة قوة عسكرية رهيبة. " الأقلية المتميزة التي لم تزل إلى حد كبير مندغمة بالمجموعات القبلية. إن القائد الحربي في أغلب الحالات هو رئيس قبيلة، وقوته العسكرية كما يشير ابن خلدون تتعلق خاصة بالحذاقة التي يبذلها مساعدوه في مساندته. الملك نفسه ليس سوى رئيس قبيلة، تزعّم اتحادا ً لمجموعات قبلية" (أوَزُبُر جبرائيل 114، وأيضاً العلّامة ابن خلدون) "وكانت قريش تلقب باللَقاح لأنهم لم يدينوا لملك من الملوك" (أوزبر جبرائيل 115)
لقد غدا من الضروري وجود فصائل خاصة من رجال مسلحين (الشرطة والجيش الدائم) توضع فوق المجتمع الذي انبثقت منه وتنفصل عنه، نظراً لانقسام المجتمع إلى طبقات متعادية عداء مستعصياً. ولهذا نرى أنه مع تفكك سلطة الدولة وتقدم العمل الثوري في روسيا بعد نيسان 1917 ظهرت بشكل واضح لجان "سوفييتات العمال والجنود والفلاحين الفقراء" وهي لجان مسلحة بشكل ذاتي بعيداً عن أي سلطة دولة. هي "منظمات للسكان، المسلحة العاملة من نفسها" وقد باتت من جديد، ومع تقدم الثورة الاشتراكية أمراً راهناً وفعلياً. يقول لينين: كل ثورة بهدمها لجهاز الدولة القديم ترينا النضال الطبقي المكشوف" 13 حيث تتواجه الدولة بفصائلها المسلحة الدائمة الحامية لسلطتها مع "منظمات للسكان، المسلحة العاملة من نفسها" والتي تعبر عن القوة الصاعدة للطبقات الهامشية.
يلفت لينين الانتباه إلى تضخم وازدياد جبروت الدولة الامبريالية الرأسمالية الاستعمارية اعتباراً من 1880 والتي غزت العالم أجمع. "حيث اقتربنا من الكارثة الكبرى وهي ابتلاع جميع قوى المجتمع من قبل سلطة دولة ضارية " لقد استطاع انجلس أن يبين اعتباراً من 1891 (مقدمة كتاب ماركس: الحرب الاهلية في فرنسا) "التنافس على الفتوحات " بين حفنة من الدول الامبريالية الاستعمارية، في الوقت الذي يشيد فيه الانتهازيون والبورجوازيون الديمقراطيون الصغار "بالدفاع عن بورجوازيا تهم النهّابة الاستعمارية تحت شعار "انقاذ الوطن" و"الدفاع عن الجمهورية".
يكتب بوخارين: "إن الاتجاه نجو الامبريالية يوحّد بين ظاهرة اقتصادية وسلطة سياسية عظيمة"(لفهم الاقتصاد العالمي: 182) وإذا ازدادت أهمية سلطة الدولة على وجه العموم، فإن نمو تنظيمها العسكريّ: الجيش والبحرية، هو الذي يلفت الانتباه بشكل خاص. إن الصراع بين تروستات الدول الرأسمالية، يتقرر بالدرجة الأولى، بالعلاقة بين قواتها المسلحة. ذلك أن القوة العسكرية للبلاد هي المعقل الأخير الذي تلجأ إليه، مجموعات الرأسماليين "القومية" المتصارعة"(لفهم الاقتصاد العالمي 183)
"ومع تنامي أهمية سلطة الدولة (في المرحلة الامبريالية) تتغير بنيتها الداخلية، كذلك، وتصبح الدولة "لجنة تنفيذية للطبقات الحاكمة" أكثر من ذي قبل. ولا جدال في حقيقة أن سلطة الدولة عكست مصالح "المراتب الطبقية العليا" على الدوام. ولكن لأن الطبقة العليا نفسها كانت كتلة رجراجة (غير منظمة ولا متبلورة)، بهذه الدرجة أو تلك، فإن جهاز الدولة المنظم، واجه طبقة أو طبقات غير منظمة، كان هو من يجسد مصالحها. بيد أن الأمور اختلفت الان اختلافاً كلياً. فجهاز الدولة لا يجسِّد مصالح الطبقات الحاكمة بوجه عام فحسب، بل إرادتها المعبر عنها كذلك. لم يعد جهاز الدولة يواجه بعد، أعضاء مجزأين متفرقين من الطبقات الحاكمة، بل هو يواجه تنظيمات هذه الطبقات. وعليه فإن الدولة (الامبريالية) تحولت في الواقع إلى "لجنة" منتخبة من قبل ممثلي منظمات المقاولين، وأصبحت القوة القيادية العليا لترست الدولة الرأسمالية " (الامبريالية والاقتصاد العالمي: 186-187)
الدولة أداة (آلة) لاستثمار الطبقة المظلومة (وباقي الطبقات الهامشية). فللإنفاق على سلطة عامة مميزة تقف فوق المجتمع، تلزم الضرائب وتلزم القروض للخزينة العامة. يكتب انجلس: "إن الموظفين، إذ يتمتعون بالسلطة العامة وبحق جباية الضرائب باعتبارهم هيئات (سلطة الدولة)، يصبحون فوق المجتمع." 15
"الدولة كقاعدة عامة، هي دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصادياً. والتي تصبح عن طريق سلطة الدولة الطبقة السائدة سياسياً أيضاً، وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة الهامشية المظلومة (وباقي الطبقات الهامشية) واستثمارها" 16
إن اضمحلال الدولة لا يمكن تصوره إلا بعد أن تنتصر الثورة الاشتراكية على النظام الرأسمالي بشكل عالمي وكلي. لأنه رأينا أن الانتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد أو بلدين، كالصين وروسيا، لم يقد إلى اضمحلال الدولة، بل على العكس أفضى إلى تعملقها بشكل رهيب. يقول لينين مستشهداً بأنجلس: "في نهاية الامر، عندما تصبح الدولة حقاً ممثل المجتمع بأكمله، عندئذٍ تجعل نفسها بنفسها أمراً لا لزم له. وعندما لا تبقى أية طبقة اجتماعية ينبغي قمعها. عندئذٍ يصبح تدخل الدولة في العلاقات الاجتماعية أمراً لا لزوم له في ميدان بعد آخر ويخبو من تلقاء نفسه. وبدلاً من حكم الناس ينشأ توجيه الأمور وإدارة عمليات الإنتاج. الدولة لا "تلغى"، إنها تضمحل" 22
"إن تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع، هو في الوقت نفسه، آخر عمل تقوم به الدولة بوصفها دولة" 22. وهذا العمل شاهدناه بعد الثورات الاجتماعية الاشتراكية في القرن العشرين في روسيا والصين، "حيث تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة وتحول وسائل الإنتاج في بادئ الامر إلى ملك للدولة" 20-21 ومن هنا تأخذ الدولة اسمها التاريخي: "رأسمالية الدولة الاشتراكية" حيث تشرف الدولة الاشتراكية، لا الطبقة البورجوازية، على عملية التطور الصناعي والتحديث الاجتماعي وتجاوز التخلف التاريخي. "وعلى هذا الأساس ينبغي أن ينظر لعبارة "الدولة الشعبية الحرة" (والديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية الاشتراكية) عل أنها باطلة في آخر التحليل من وجهة النظر العلمية. وعلى هذا الأساس ينبغي ايضاً أن ينظر لمطلب من يسمون بالفوضويين القائل بإلغاء الدولة بين عشية وضحاها" 22 (راجع أيضاً: أنتي دوهرنغ)
وعلينا أن نؤكد أن اضمحلال الدولة لا يتم إلا بعد الانتصار النهائي والعالمي للثورة الاشتراكية، وزوال النظام الرأسمالي كلية، والقضاء على دولة البورجوازية بشكل تام وفي جميع الاقطار.
الدولة البورجوازية لا تضمحل وإنما يتم القضاء عليها وتحطيمها كآلة للطبقة البورجوازية عبر الثورة الاجتماعية العنيفة. الدولة الاشتراكية تاريخياً، هي التي تضمحل. وتضمحل معها الديمقراطية "لأن الديمقراطية هي سلطة دولة أيضاً، وأنها تزول تبعاً لذلك عندما تزول الدولة" 24
وهنا لابد من كلمة عن العنف في التاريخ، العنف المنتج، الشر الذي لا بد منه كالزواج في أيامنا هذه.
ينقل لينين عن انجلس: "إن العنف يلعب في التاريخ كذلك دوراً آخر (عدا ما يسببه من شر)، "بالضبط دوراً ثورياً “، وأنه كما قال ماركس، هو القابلة (المولّدة أو الداية) لكل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد، وأن العنف هو تلك الأداة التي تشق الحركة الاجتماعية بواسطتها لنفسها الطريق وتحطم الأشكال السياسية المتحجرة والميتة." 26
وهنا يتوجب التفريق بين الحرية، وبين الديمقراطية. فالديمقراطية دائماً تكون شكل من اشكال الحكم والسلطة، شكل من أشكال تنظيم السيطرة والهيمنة لطبقة مسيطرة على سلطة الدولة، أي مرتبطة أساساً بوجود شكل من أشكال الدولة. حتى ما يسمى بدكتاتورية البروليتاريا"، ليست في واقع الحال سوى ديمقراطية البروليتاريا وحكمها مهما كانت الاشكال التاريخية الفعلية والتشوهات البيروقراطية التي اصابتها. "الديمقراطية الاتم، هي وحدها التي يمكنها أن تضمحل وحسب" 24
كلمة لا بد منها عن الديالكتيك والمذهب الاختياري.
تاريخياً، وحسب تحليل خبرات جميع الثورات الاشتراكية، تبين أنه لا يمكن الاستيلاء على سلطة الدولة إلا بثورة عنيفة، بالتالي لا يمكن الاعتماد على فكرة اضمحلال الدولة البورجوازية بحيث ترميها البورجوازية متروكة على قارعة الطريق فتتسلمها البروليتاريا. هذه خرافة. لا بد للبروليتاريا من تحطيم آلة الدولة البورجوازية عبر ثورة اجتماعية عنيفة، والاستيلاء خلال ذلك على سلطة الدولة من أجل انجاز مهامها الجديدة وقمع خصومها من البورجوازيين الرجعيين.
هذا ديالكتيك تاريخي فعلي للانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي.
الدولة البورجوازية لا تضمحل، الدولة الاشتراكية في نظام اشتراكي عالمي، هي التي تضمحل.
فإذا قال قائل من الاشتراكيين الانتهازيين المداهنين للبورجوازية أو من البورجوازيين الديمقراطيين الصغار الذين يرفعون الشعار الاشتراكي وهم عبيد البورجوازية والملكية الخاصة الرأسمالية، أنه يمكن اختيارياً رفع شعار اضمحلال الدولة البورجوازية، أو شعار تحطيم آلة الدولة البورجوازية، خلال الدعاية للثورة الاشتراكية، في سبيل مداهنة السلطات البورجوازية وتضليل جمهور الاشتراكيين، أو في سبيل إرضاء جمهور الثوريين، فإننا أمام المذهب الاختياري المناهض للديالكتيك التاريخي.
الاختيارية الانتهازية التي تطرح مرة الاضمحلال لتطمئن البورجوازية الحاكمة، ومرة التحطيم العنيف لآلة الدولة البورجوازية لإرضاء الثوريين الاشتراكيين، هي ضرب من النفاق السياسي، ومن الانتهازية الاشتراكية لصالح الطبقة البورجوازية المسيطرة.
الديالكتيك يقول بأن التحليل الاجتماعي التاريخي العيني الملموس والعلمي يلزم برفع شعارات بعينها، ليس لها طابع الاختيار، بل طابع الالزام. هكذا يكون الحزب الاشتراكي الثوري فاعلاً حقاً وصانعاً للتاريخ.
مراجع قراءة الفصل الاول
1-لينين: الدولة والثورة (تعاليم الماركسية حول الدولة، ومهمات البروليتاريا في الثورة) دار التقدم، موسكو 1976
2-نيكولاي بوخارين: الإمبريالية والاقتصاد العالمي. ترجمة رجاء أحمد، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، الطبعة الأولى 1990
3-يوجين. فارغا: القضايا الاقتصادية/ السياسية للرأسمالية، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، دار الفارابي-بيروت 1975
4-بول أ. باران، بول م. سويزي: رأس المال الاحتكاري (بحث في النظام الاقتصادي والاجتماعي الأمريكي)، ترجمة: حسين فهمي مصطفى، مراجعة دكتور إبراهيم سعد الدين. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1971
5-ج. م. أ ألبيرتيني، آ. سيليم: لفهم الاقتصاد العالمي. ترجمة د. مصطفى عدنان السيوطي، مراجعة عيسى عصفور، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1986
6-أنطونيو غرامشي: كراسات السجن، ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي-القاهرة 1994
7-نيكولاس بولنتزاس: نظرية الدولة، ترجمة ميشيل كيلو، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية 2010
8-نايف سلوم: أوَزُبُر جبرائيل-تفسير رواية عزازيل، دار التوحيديّ، حمص 2016
9-إيف لاكوست: العلّامة ابن خلدون، ترجمة الدكتور ميشال سليمان، دار ابن خلدون الطبعة الأولى 1982، الطبعة الثانية دار الفارابي 2017، وقد اعتمدنا طبعة دار ابن خلدون وهي المُسمّاة باسمه.
10-ماركس-انجلز: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2016
11-لينين: موضوعات نيسان-رسائل حول التكتيك، دار الطبع والنشر باللغات الأجنبية، موسكو، من دون تاريخ.