الماركسيّة في عود إلى نقد الدين


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7248 - 2022 / 5 / 14 - 19:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

1-
كتب ماركس في "مقدمة" "نقد فلسفة الحقوق عند هيغل" قائلاً: فيما يتعلق بألمانيا، لقد انتهى من حيث الأساس، نقد الدين، ونقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد" (حول الدين:33)
لكن ظهور مقالات لانجلز بخصوص نقد الدين واستحضار برونو بوير من جديد، يشير إلى أن هذا النقد للدين في اوروبا لم ينته، فكيف والحال عندنا نحن العرب. وما مقالتي انجلز "برونو بوير والمسيحية الأولية 1882"، و "اسهام في تاريخ المسيحية الأولى الأولية 1894" إلا دليل على ذلك. إضافة إلى أقوال كاوتسكي سنة 1908 في تقديمه لكتابه "دراسة في أصول المسيحية" حيث يكتب: "كنت مهتماً لفترة طويلة بالمسيحية وبالنقد الإنجيلي. وقد أسهمت منذ خمسة وعشرين عاماً بتمامها بمقال بمجلة كوزموس حول أصل ما قبل تاريخ الانجيل، يقول: وبعد ذلك بعامين كتبت مقالا آخر لمجلة الأزمنة الحديثة حول أصل المسيحية. إنها من ثم لهواية قديمة تلك التي أعود إليها الآن. ومناسبة هذه العودة كانت ضرورة إعداد الطبعة الثانية من كتابي رواد الاشتراكية " (دراسة في أصول المسيحية:5)
لهذه الأسباب يتوجب إعادة قراءة عبارة ماركس على أرضية أنه وفي نهاية سنة 1843 وبداية 1844 كان النقد الألماني للدين خاصة للمسيحية وللأناجيل قد قدم اسهامه الأساسي، في شروط مستوى تطور العلوم وتوفر الوثائق اللازمة في ذلك الوقت، ممهداً الطريق لنقد الدولة والمجتمع المدني البورجوازي، والتي باشرها ماركس بعد فشل ثورات 1848 في أوروبا القاريّة (فرنسا وألمانيا) بالإعداد لرأس المال. وتكون عبارة انجلز صائبة تماماً حيث يقول: إذا كانت مدرسة توبنغه قد قدمت لنا، في البقية الباقية التي لا يمارى فيها من تاريخ أدب العهد الجديد، الحد الأقصى لما يستطيع العلم، في أيامنا هذه(1883) أن يقبله بصفته عرضة للمجادلة، فقد قدم لنا برونو بوير الحد الأقصى لما يمكن للعلم أن يعارضه. ولنبدأ بمقالة انجلز الأولى.
"برونو بوير والمسيحية الأولية"
لقد مهد بوير الأرض للإجابة عن مسألة ما هو منشأ التمثيلات والأفكار التي جمعت في المسيحية في ضرب من منظومة عقائدية، وكيف توصلت إلى الهيمنة على العالم؟
هذه المسألة هي التي عني بها برونو بوير حتى النهاية. تجلت ذروة أبحاثه في هذه النتيجة: إن اليهودي الاسكندري "فيلون" الذي كان ما يزال على قيد الحياة في سنة 44 م، لكن الذي بلغ من العمر عتياً آنئذ، هو أبو المسيحية الحقيقي، وأن الفيلسوف الروماني " سينيكا" كان عم المسيحية تقريباً. إن الكتابات العديدة التي نقلت إلينا والتي تنسب إلى فيلون، قد نشأت في الواقع من اندماج تقاليد يهودية مفسرة بمنظور عقلاني مرمّز (استعاري Allégoriqe) [تأويلي رمزي] بالفلسفة اليونانية، والرواقية منها على الأخص. هذه المصالحة (الجمع) بين مفاهيم شرقية وغربية كانت تتضمن منذ ذلك الحين سائر الأفكار الأصلية الذاتية في المسيحية. (حول الدين: ص 147-148)
الفلسفة الدينية الجديدة قد قلبت النظام أو الترتيب السابق للعالم، فتشت عن أنصارها بين الفقراء، البؤساء العبيد الأرقاء والمنبوذين، وازدرت الأغنياء الأقوياء والمحظوظين، بالتالي أعلنت بمثابة قاعدة أساسية: ازدراء سائر المباهج الدنيوية وإماتة الجسد. يضيف انجلز: أصبح الأمر واضحاً(؟) لكي تكتمل المسيحية في خصائصها الرئيسية لم يكن ينقصها سوى حجر الغلق: تجسد الكلمة في شخص معين والتضحية التكفيرية لهذا الشخص على الصليب لاسترجاع الإنسانية الخاطئة. (حول الدين: 148)
هذا الحجر الذي يتحدث عنه انجلز هو الإضافة التي جاءت بها المسيحية المكرسة (القانونية) وآباء الكنيسة لكي تتلاءم الديانة الجديدة مع الإمبراطورية الرومانية، فجاؤوا بالخشبة ووضعوا عليها "يسوع". أما التيارات الغنوصية المناضلة ضد هذا الاخضاع الامبراطوري للدين الجديد فليس له عند بوير وانجلز أي ذكر.
الأمر الآخر يتم ذكر فيلون ويهوديته والفلسفة الرواقية الرومانية (سينيكا) وليس هناك أي أثر للشطر الآخر الشرقي في فلسفة فيلون وتدينه (الدين المصري والجماعات المترهبة اليهودية كالايسينيين والترابيتيين)، إضافة إلى غياب كل التيارات الغنوصية المسيحية والهرمسية المناضلة.
يقول انجلز: كيف اندرج تاريخياً حجر الغلق هذا في تعاليم فيلون الرواقية؟ في هذه المسألة تعوزنا المصادر الجديرة بالثقة حقاً. لكن ما هو مؤكد هو أن هذا الحجر لم يدرج من قبل الفلاسفة أنصار فيلون أو الرواقيين. كما أن هذا الحجر لم يدرج من قبل الدين التوحيدي الباطني في الشرق والذي كان مناهضاً بشدة لحادثة الصلب، بل هو نفيها.
ويضيف، من دون بحث إضافي ووثائق إضافية: هكذا حدث لقاء بين الفلسفة العامية التوحيدية (القائلة بإله واحد) وبين الدين العامي الذي قدم لها إلها وحيداً واحداً جاهز."(حول الدين: 149)
لقد تحدرت المسيحية من التمثيلات المقتبسة من فيلون ولكن المشبعة بروح شعبية لا من كتابات فيلون مباشرة، وبرهان ذلك قدمه واقع أن "العهد الجديد" يهمل تماماً تقريباً في القسم الرئيسي من كتاباته، أي التفسير الاستعاري (التأويلي الرمزي) لقصص العهد القديم. هذا جانب لم يأخذه بوير باعتبار كاف"، لأن بوير لا يعرف شيئاً عن الغنوصية المسيحية والهرمسية والدين المصري التوحيدي، ولا عن نفور الغنوصيين المسيحيين "من النمط الآسيوي" من العهد القديم جملة.
توجد مراجعات مستمرة للمسيحية، بغية تكييفها مع تطلعات وطموحات الإمبراطورية ومصالحها العليا. "إن الإعداد النهائي للمعتقدات والأخلاق كان صنيع مرحلة لاحقة كتبوا خلالها الأناجيل وما يسمونه " رسائل الرسل". لقد استخدموا آنئذ بالنسبة للأخلاق على الأقل، بدون أدنى حرج الفلسفة الرواقية وبخاصة "سينيكا". لقد برهن بوير أن "رسائل الرسل" قد سرقت من الأخير سينيكا"، وأحياناً حرفياً. والحقيقة أن هذا قد أدهش قبلاً المؤمنين مستقيمي الرأي (الأورثوذوكس)، غير انهم كانوا يدّعون أن سينيكا هو الذي نسخ "العهد الجديد" قبل ان يُكتب. أما المعتقدات فقد تطورت من جهة بترابط مع سيرة المسيح الانجيلية، التي كانت آنئذ قيد الإعداد، ومن جهة أخرى في الصراع بين مسيحيين من أصل يهودي (كنيسة الختان) ومسيحيين من أصل وثني. (حول الدين: 149)
يقول انجلز: بالنسبة للأسباب التي أتاحت للمسيحية إحراز النصر ومد سيطرتها إلى العالم فإن بوير يعطي تواريخ ثمينة، لكن هنا تأتي الفكرانية (التأملية) الخاصة بالفلسفة الألمانية لتعيق وتمنع تكون رؤية واضحة جداً وصياغات جلية لديه. لذا بدلاً من الدخول في تفاصيل وجهات نظر بوير نفضل تقديم مفاهيمنا الخاصة حول هذه النقطة، المبنية على مؤلفات بوير وكذلك على دراساتنا الشخصية"(حول الدين:150)
شأن سائر الحركات الثورية الكبرى، المسيحية من صنع الجماهير. لقد ولدت بكيفية نجهلها كلياً، في فلسطين، في فترة كانت تظهر فيها عُصب جديدة، ديانات جديدة وأنبياء جدد. والواقع اننا لسنا إلا أمام ظاهرة محصِّلة، ولدت تلقائياً من الاحتكاكات المتبادلة الأكثر تقدمية لهذه العُصب. والتي تحولت فيما بعد إلى مذهب. بانضمام نظريات لليهودي الاسكندري "فيلون"، إلى ترشحات قوية جاءت فيما بعد من الفلسفة الرواقية. والواقع أننا إذا ما تأملنا المذهب يمكن أن نسمي فيلون أب المسيحية و "سينيكا" عمها. ثمة مقاطع كاملة من "العهد الجديد" يبدو أنها منسوخة كلمة كلمة تقريبا، من مؤلفاتهما. من الممكن أن نجد في أهاجي "برسيوس" مقاطع يبدو أنها مقتبسة من العهد الجديد الذي يبدو انه لم يكن قد كتب بعد" (حول الدين: ص 156-157)
من كل هذه العناصر المتعلقة بالمذهب، لا يوجد أثر في سفر "رؤيا القديس يوحنا"، بل نجد فيه المسيحية في أقدم اشكالها الأولى الأولية، حيث حفظه لنا. لا نجد فيه من تشديد سوى نقطة واحدة من المعتقد: إن تضحية المسيح هي التي أنقذت المؤمنين. وليس العالم أو عامة البشر.
الخطيئة الأصلية لا أثر لها، لا شيء البتة عن الثالوث، يسوع هو الحمل لكنه تابع لله. وهو قد وضع في مقطع واحد مع موسى، وبدلا من الروح القدس الواحد توجد أرواح الله السبعة " نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عنده تنادي" حتى متى أيها القدوس لا تقضي ولا تنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض". (157) وهذه الأقوال تشبه أقوال "1-اَلْوَحْيُ الَّذِي رَآهُ حَبَقُّوقُ النَّبِيُّ. 2-حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟"
" إن شعوراً كهذا قد استبعد فيما بعد بعناية من شرعة الأخلاق النظرية المسيحية، ولكنه طبق عمليا بشدة لا سيما منذ انتصر المسيحيون على الوثنيين. ( 157 )
ينقل انجلز عن إيرينيه وفرديناند بيناري:
قبل حوالي ثلاثمائة عام من عصرنا، أخذ اليهود يستعملون حروفهم بمثابة رموز للأعداد. أحبارهم المنصرفون إلى التأمل رأوا فيها منهجاً للتفسير الصوفي (القبّالة La Kabbale) كانوا يعبرون عن كلمات ملغزة بواسطة الأعداد الناجمة عن جمع القيمة العددية للأحرف التي تتضمنها. أطلقوا على هذا العلم الجديد كلمة Ghematriah، علم الهندسة، هذا العلم بالتحديد هو الذي استخدمه صاحبنا يوحنا (159). وهو ما تسميه العرب بحساب الجُمَّل، وله أنواع منها الكبير ومنها الصغير ومنها الفهلوي. وهو مستخدم خاصة بشكله الكبير لدى ابن عربي في "الفتوحات المكية"، حيث يطلق عليه اسم "الجَزْم الكبير". وتأخذ حروف العربية نفس القيم العددية وفق نظام ترتيب الحروف القديم: أبجد هوز -حطي كلمن -سعفص قرشت -ثخذ ضظغ، في ثمانية وعشرين حرفاً.
أبجد هوز حط
1 2 3 4 5 6 7 8 9 (آحاد تسعة)
ي كلمن سعفص
10 20 30 40 50 60 70 80 90 (عشرات تسعة)
قرشت ثخذ ضظ
100 200 300 400 500 600 700 800 900 (مئات تسعة)
غ (ألف:1000)
هذا نظام الجزم الكبير أو الجُمّل الكبير.
يتابع انجلز: علينا أن نبرهن أن 1-العدد يتضمن اسم إنسان وأن هذا الاسم هو "نيرون" 2-أن الحل يصح على رواية العدد 666 وعلى رواية العدد القديمة التي تعطي الرقم 616 لنأخذ الأحرف العبرية وقينها:
(نون) ن = 50
(ريش) ر= 200
(فو) مقابل و = 6
(نون) ن = 50
قيسر أو قسر
ق = 100
س =60
ر = 200
حيث نيرون باليونانية نيرون كايسر، وباللاتينية نيرو كايسر وبالعبرية تختفي النون الأخيرة من نيرون ومعها قيمة 50 وهكذا ننتهي إلى الدرس القديم 616 فيكتمل البرهان حتى القدر المرجو. إن لغز هذا السفر ينحل بنبوءة يوحنا لعودة نيرون سنة 70 م إلى الحكم
إن هذا السفر بصفته لوحة صحيحة عن مسيحية شبه أولية رسمها أحد أعضاءها (وهو يهودي)، له قيمة تنوف على سائر الأسفار الأخرى للعهد الجديد. ( 160 )
(فريدريك انجلز: سفر "رؤيا القديس يوحنا" نشر لأول مرة سنة 1883 في مجلة التقدم)
المقالة الثانية لانجلز هي "اسهام في تاريخ المسيحية الأولى الأولية"
نشرت في "العصور الحديثة" 1894
يقول انجلز: يعرض تاريخ المسيحية الأولى نقاط تماس طريفة مع الحركة العمالية الحديثة. مثل هذه، كانت المسيحية في الأصل حركة المضطَهَدين: ظهرت في البدء كدين للعبيد والمعتوقين، الفقراء والناس المحرومين من الحقوق، الشعوب التي أخضعتها وشتت شملها روما.
كلتاهما، المسيحية والاشتراكية العمالية على حد سواء تبشر بخلاص مقبل من العبودية والبؤس، حيث كان يسود عمل العبيد في اقتصاد أسري منزلي، حيث الاستهلاك المباشر هو القاعدة العامة، والإنتاج من أجل البيع كان ما يزال في طفولته. "كان للحرفيين والتجار في حالات كثيرة مزارع (كبيرة) تخصهم، وكانت هذه مرتبطة بوثوق مع الحياة المنزلية، وكانت مهمتها الرئيسية الإنتاج من أجل الأسرة ". (كاوتسكي: أصول المسيحية، ص 39) كان هذا الشكل من العبودية الأكثر اعتدالا "ولكن تغير طابعه حين أصبح وسيلة للحصول على النقود، خاصة عندما بدأت الملكيات العقارية الكبيرة في توظيف كثير من العمال (العبيد) بعد أن انفصلت عن الاقتصاد المنزلي للسيد" (كاوتسكي: ص 44)
المسيحية تنقل هذا الخلاص وتضعه في السماء، والاشتراكية تضعه في هذا العالم، في تغيير المجتمع. كلتاهما مطاردتان ومضيق عليهما، مشايعوهما معذورون وخاضعون لقوانين استثنائية، الأولون كمعادون للجنس البشري، والآخرون كأعداء للحكومة للدين، للعائلة، للنظام الاجتماعي. ورغم كل الاضطهادات، بل وبخدمة مباشرة منها، تشق هذه وتلك طريقها على نحو ظافر، لا يقاوم. بعد ثلاثة قرون من ولادتها، اعترف للمسيحية بوصفها دين دولة بالنسبة للإمبراطورية الرومانية. خلال أقل من ستين سنة احتلت الاشتراكية موقعاً بحيث أضحى انتصارها النهائي مؤكداً بالقطع."(حول الديم: 236) واضح أن انجلز يريد أن ينشر نوع من البشرى والتفاؤل الاشتراكي قبيل وفاته 1895 لأن مسار الاشتراكية العمالية سوف يأخذ منحى أكثر طولاً وتعقيداً أكثر بكثير مما بدا لانجلز وقتها. وهذا التفاؤل و "الاستعجال" سوف يدفع انجلز للإعجاب بمسيحية الدولة (دين الامبراطورية)
يأخذ انجلز من الأستاذ أ. مينجر في كتابه "الحق في النتاج الكامل للعمل" مماثلة زائفة رغم قوله، بل بسبب رده على قول مينجر بالقول: "فذلك لم ير أن هذه "الاشتراكية (المسيحية المكرسة؛ مسيحية مكيفة مع مصالح الامبراطورية) بالضبط، في حدود ما كانت ممكنة عصرئذ، كانت موجودة فعلاً وأنها وصلت إلى السلطة مع المسيحية (مع أنه تم تبنيها من السلطة الإمبراطورية بعد تكييفها) "" ورغم تعقيبه الذي يقول فيه: بيد أن المسيحية كما هو مفروض حتما، نظراً للشروط التاريخية لم تكن تريد التحويل الاجتماعي في هذا العالم بل في السماء"(حول الدين: 237 )
في العصر الوسيط منذ الانتفاضات الأولى للفلاحين، ولعامة المدن بخاصة، هذه الانتفاضات شأن كل حركات الجماهير في العصر الوسيط، حملت بالضرورة قناعاً دينياً، ظهرت كترميم للمسيحية الأولى الأولية إثر انحطاط متفاقم"(ص237) ويعلق انجلز في الهامش بالقول: إن انتفاضات العالم المحمدي، بخاصة في إفريقيا تشكل حالة مناقضة فريدة، مع هذا فالإسلام هو دين صيغ على قد الشرقيين، وعلى العرب بشكل أخص“، لكن شكل انتشار الإسلام يشير على أنه دين ذو "نمط آسيوي"؛ آسيوي –شمال افريقي يتجنب أوروبا.
هذه الراية الدينية بقيت موجودة طوال العصر الوسيط، حتى اضمحلت شيئاً فشيئاً بعد حرب الفلاحين في ألمانيا، ثم عاودت ظهورها عند العمال الشيوعيين بعد العام 1830. إن الشيوعيين الثوريين وفايتلنغ وأنصاره، قد انتسبوا إلى المسيحية الأولى الأولية قبل زمن طويل من قول رينان: "إذا أردتم أن تكونوا فكرة عن الجماعات المسيحية الأولى، انظروا إلى أحد الفروع المحلية للرابطة الأممية للشغيلة"(ص 237-238)
إن جميع العناصر التي كان سير تفسخ العالم القديم قد حررها، أي التي طردها، قد اجتذبت الواحد إثر الآخر إلى دائرة جذب المسيحية. هذه الأخيرة هي العنصر الوحيد الذي صمد أمام هذا الانحلال، بالضبط لأنه كان بالضرورة نتاجه الخاص، والذي بالتالي كان يستمر ويكبر بينما العناصر الأخرى لم تكن سوى ذباب زائل. ما من إثارة، من هوس من خبل، أو تدجيل إلا وجرب حظه مع الجماعات المسيحية الناشئة والتي لم تلق وبشكل مؤقت وفي بعض الأماكن آذاناً صاغية ومؤمنين طيعين. ومثل شيوعي جماعتنا الأولى، كان أوائل المسيحيين على سذاجة غريبة إزاء كل ما كان يبدو ملائماً لمذهبهم، بحيث أننا لا نعرف بصورة موضوعية ما إذا كان من أصل العدد الكبير من الكتابات التي وضعها بيريغرينوس للمسيحيين لم يتسرب عدد من المقاطع إلى هذا المكان أو ذاك من العهد الجديد. (ص: 241)

2-
إن النقد الألماني الخاص بالكتاب المقدس، وهو حتى الآن (1894) القاعدة العلمية الوحيدة لمعرفتنا بتاريخ المسيحية الأولى الأولية، قد اتبع اتجاهاً مزدوجاً. إن أحد هذين الاتجاهين يتمثل بمدرسة توبنغه، التي ينتمي إليها بالمعنى الواسع دافيد. ف شتراوس أيضاً، هذا الاتجاه يمضي بعيداً في الفحص النقدي بقدر ما تستطيع أن تمضي مدرسة لاهوتية. إنها تقر ان الأناجيل الأربعة ليست روايات لشهود عيان، بل هي كتابات محورة ومعدلة لاحقاً عن كتابات مفقودة، (أقوال؛ لوجيا) وإن أربعة فقط من الرسائل المنسوبة إلى القديس بطرس هي الصحيحة.
يكتب فراس السواح في "الوجه الآخر للمسيح" وتحت عنوان "نموذج من الأدبيات الغنوصية؛ انجيل توما، النص الكامل مع الشرح والتعليق؛ مقدمة: لعل الأثر الوحيد الذي تركه لنا يسوع، هو مجموعة من الأقوال والحكم والأمثال التي تعبر عن جوهر رسالته. وقد كانت هذه الأقوال متداولة على ما يبدو قبل تدوين الأناجيل، وشكلت الأساس الذي اعتمد عليه الانجيليون في صياغة نص مطرد عن حياة يسوع، وذلك من خلال البحث عن مناسبة لكل قول استناداً إلى الذكريات الغامضة والمبعثرة عن سيرة المعلم وأعماله (قارن مع تدوين الأحاديث النبوية لاحقاً). وعلى الرغم من أن هذه الأقوال لم تصلنا في سفر واحد يجمع بينها قبل اكتشاف مكتبة نجع حمّادي، إلا أن البحث الحديث في العهد الجديد قد افترض وجودها" (ص 182)
إن هذه المدرسة تلغي من السرد التاريخي جميع المعجزات والتناقضات كأمور غير مقبولة. وما تبقى تسعى لإنقاذ كل ما يمكن إنقاذه، ومنا هنا يتراءى طابعها كمدرسة لاهوتية. وبفضل هذه المدرسة استطاع رينان إلى حد كبير مطبقاً نفس المنهج أن يقوم بعمليات انقاذ أخرى، بأن فرض علينا كمية من سير القديسين الشهداء كأمور صحيحة مسندة تاريخياً"(ص 241)
على كل حال فإن كل ما استبعدته مدرسة توبنغه من العهد الجديد باعتباره مزوراً، أو باعتباره غير تاريخي، يمكن اعتباره مستبعداً بصورة نهائية من قبل العلم. من هنا يتضح أن دراسة القصص الميثولوجي والأقوال Logia الواردة في حكايات الأناجيل غير منظورة وهي مستبعدة من التصنيف العلمي من قبل هذه المدرسة "التاريخية". وهنا يظهر النقص الخطير في النقد التاريخي للأقوال الدينية الميثولوجية الطابع.
يتمثل الاتجاه الثاني برجل واحد: برونو بوير. إن فضله الكبير أنه قد نقد بلا رحمة الأناجيل والرسائل الرسولية. إنه أول من اهتم بفحص لا العناصر اليهودية واليونانية – الاسكندرانية فقط، بل أيضاً العناصر اليونانية واليونانية-الرومانية التي اتاحت للمسيحية أن تصبح ديناً كونياً. عن مجموعة أساطير legend المسيحية المولودة بكل أجزائها من اليهودية ، منطلقة من فلسطين لفتح العالم بعلم للأخلاق وبشروح ومعتقدات لاهوتية محددة في خطوطها الكبرى ، أصبحت بعد برونو بوير محالاً غير معقول، من الآن فصاعداً سيمكنها على الأكثر العيش في كليات اللاهوت وفي أذهان الذين "يريدون الاحتفاظ بالدين لأجل الشعب" حتى على حساب العلم (العلم التاريخي) في تكون المسيحية ، بالشكل الذي رفعها فيه قسطنطين إلى مرتبة دين للدولة ، "(ص 242) وهذا استعجال من انجلز ومفارقة ، لأنه وبعد خمسين عاماً من أبحاث بوير عاد انجلز نفسه إلى الاسهام في مقاربة الموضوع عينه وبحثه من جديد. كما أن الأبحاث اللاحقة بعد موت انجلز وخاصة مكتشفات نجع حمادي، تظهر هذا الاستعجال في دفن المسيحية وتأثيرها على الفكر السياسي الحديث ومنه العمالي. وتظهر وجود مسيحية أخرى ووجوه أخرى غنوصية باطنية للمسيح، ومناضلة غير تلك التي رفعها قسطنطين إلى مرتبة دين دولة.
كان لمدرسة فيلون الاسكندراني وللفلسفة العامية اليونانية-الرومانية (الأفلاطونية وبخاصة الرواقية) قسط كبير في هذا التكوين. هذا القسط لم يحدد بعد بالتفاصيل، لكن الواقع قد أثبت، وهذا صنيع برونو بوير بصورة رئيسية، إذ أرسى قواعد البرهان على أن المسيحية لم تستورد من الخارج، من فلسطين، وفرضت على العالم اليوناني-الروماني، بل هي على الأقل في الشكل الذي ارتدته كدين كوني (كدين دولة) النتاج الأصيل لهذا العالم [في هذا الشكل بالتحديد وليس في الأشكال الأخرى الغنوصية المناضلة. وهنا انجلز مع بوير ينظر إلى المسيحية ليس كديانة توحيدية شرقية بل كدين كوني للإمبراطورية الرومانية الشرقية، كما أنه محق بحيث يوجد نقص في الوثائق في هذا الموضع]
في هذا الشكل للمسيحية كديانة كونية للإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة)، حدد بوير حتى من وجهة نظر أدبية، تأثير فيلون وبخاصة سينيكا على المسيحية (الوليدة؟) المكرسة هذه. 242 ونحن نعترض على كلمة "الوليدة " هذه لأن انجلز يتابع قوله: ولكي يظهر (بوير) بصورة قاطعة مؤلفي العهد الجديد كمنتحلين لأفكار هذين الفيلسوفين، اضطر إلى تأخير ظهور الدين الجديد مدة نصف قرن ورد الحكايات المعارضة لذلك التي جاء بها المؤرخون الرومانيون وتصرف بالتاريخ الذي وصل إلينا" 242 وهذا دليل على أن المسيحية "الكونية" المكرسة بجهود آباء الكنيسة (ذوي النزوع الامبراطوري السلطوي) احتاجت هذا الوقت لتدون أسفار العهد الجديد الأربعة المكرسة (القانونية) والتي اعتمدتها الإمبراطورية لاحقاً.
يقول فراس السواح: وعلى الرغم من أن الأقوال لم تصلنا في سفر واحد يجمع بينها قبل اكتشاف مكتبة نجع حمادي، إلا أن البحث الحديث في العهد الجديد قد افترض وجودها، واعتقد عدد كبير من الباحثين بأنها كانت وراء تأليف إنجيلي متّى ولوقا، اللذين اعتمد مؤلفيهما على انجيل مرقص، وهو أقدم الأناجيل، وعلى هذه الأقوال التي دعوها باللوجيا (صيغة الجمع من لوغوس والتي تعني قول باللغة اليونانية) ودعوا السفر الذي تضمنها (جمعها) بالمصدر (كويللا بالألمانية). وقد كان لهذا الاعتقاد ما يبرره، لأن إنجيلي متى ولوقا قد تضمنا معظم المادة الموجودة في انجل مرقص، إضافة إلى عدد كبير من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم ترد في انجيل مرقص، ولا بد أنها جاءت من مصدر آخر مشترك بين الانجيلين.
لقد تعززت هذه الفرضية بعد اكتشاف مكتبة نجع حمّادي التي عثر في أحد مجلداتها (ال 13) على انجيل يعزى إلى التلميذ يهوذا توما ، لا يسرد سيرة يسوع من الميلاد إلى الصلب ، بل يقدم مسرداً بأقوال يسوع ، بلغ عددها 114 وفق التقسيم الأصلي للنص القبطي." 181-182 قد لا يكون انجيل توما هو "المصدر"[كويلا] الذي استند إليه متى ولوقا ، ولكن هذا الاكتشاف الجديد يدعونا إلى الاعتقاد بوجود أكثر من "مصدر" لأقوال يسوع كانت متداولة قبل وخلال فترة تدوين الأناجيل الأربعة (الرسمية المعتمدة) التي ظهرت تباعاً فيما بين 70-110 م ذلك أن البحث الأكثر جدة اليوم يميل إلى القول بقدم انجيل توما ، والباحثون يرجعونه إلى النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، أي إلى الفترة السابقة لتدوين الأناجيل الرسمية"(الوجه الآخر للمسيح: 184)
سوف يظهر انجلز حذره من نتائج عمل الاتجاهين في النقد الألماني للدين، وسوف نخرج بنتيجة أولية مفادها: أن نقد الدين في ألمانيا وفي غيرها لم ينته بناء على حذر انجلز المصيب.
يقول: إذا كانت مدرسة توبنغه قد قدمت لنا، في البقية الباقية التي لا يمارى فيها من تاريخ أدب العهد الجديد، الحد الأقصى لما يستطيع العلم، في أيامنا هذه أن يقبله بصفته عرضة للمجادلة، فقد قدم لنا برونو بوير الحد الأقصى لما يمكن للعلم أن يعارضه. الحقيقة موجودة بين هذين الطرفين. كون قابلية هذه الحقيقة، بما نملكه الآن من وسائل، يبدو أمراً مشكوكاً فيه "(حول الدين: 242). واضح أن انجلز يرى الحدود التاريخية لمفهوم العلم في زمنه. فمدرسة توبنغه تريد اخضاع نصوص وأقوال العهد الجديد لمنهج تاريخي –جغرافي صارم وهذا النمط من العلوم العقلانية الطبيعية لا يستطيع مقاربة الطابع الرمزي والمجازي للنصوص الدينية الميثولوجية، من هنا يضيف انجلز قوله النبوئي الفذ بما يخص مستقبل البحث العلمي بخصوص "الأناجيل": إن لقيات جديدة بخاصة في روما، في الشرق وفي مصر قبل كل شيء، سوف تسهم في ذلك أكثر بكثير من كل نقدنا"(حول الدين: 242)
ففي عام 1945، بالصدفة، تم العثور على مخطوطات مسيحية مبكرة في بلدة نجع حمّادي الصغيرة، ولكن منذ ذلك الحين غطى الصمت الشديد هذه النصوص، بل أكثر من ذلك في العالم الناطق بالفرنسية، ويرجع ذلك أساساً إلى أنها تقدم وجهة نظر أخرى حول التاريخ المسيحي بشكل عام وفي حلقات معينة من حياة يسوع بشكل خاص، على سبيل المثال تم تجاهل انجيل مريم المجدلية. وساهم نجاح رواية "شيفرة دافنشي" في لفت انتباه الجمهور إلى هذه المخطوطات.
مخطوطات نجع حمادي أو مكتبة نجع حمادي هي مجموعة من النصوص الغنوصية التي اكتشفت بالقرب من نجع حمادي في صعيد مصر سنة 1945 م. تتألف تلك المخطوطات من ثلاث عشرة بردية وجدها مزارع يدعى محمد السمّان مدفونة في جرار مغلقة.
اشتملت تلك المخطوطات على اثنين وخمسين مقالة معظمها غنوصيّ، ولكنها اشتملت أيضًا على ثلاثة أعمال تنتمي إلى متون هرمس وترجمة جزئية لكتاب الجمهورية لأفلاطون.
في مقدمته لكتابه «مكتبة نجع حمادي»، أشار جيمس روبنسون أن هذه المخطوطات قد تنتمي إلى دير القديس باخوم القريب، ودفنت بعد أن أدان البابا أثناسيوس الأول استخدام الكتب غير الكنسية في خطابه لعيد الفصح سنة 367 م. أثّر اكتشاف هذه النصوص بشكل كبير على الدراسات الحديثة حول المسيحية الأولى والغنوصية.
كتبت تلك المخطوطات القبطية، ويعد أبرز محتوياتها نسخة من إنجيل توما، التي تعد النسخة الوحيدة المكتملة من هذا الإنجيل. بعد اكتشافها، اعتمد الباحثون أجزاء الأقوال المنسوبة ليسوع التي اكتشفت في أوكسيرينخوس سنة 1898 م المعروفة ببردية أوكسيرينخوس الأولى، وقارنوا محتويات المخطوطات بالاقتباسات الموجودة في المصادر المسيحية التي ترجع إلى عصور المسيحية الأولى. كما ربطوا تلك النسخة من إنجيل توما بالنسخة اليونانية الأصلية الناقصة. ترجع تلك المخطوطات إلى القرنين الثالث والرابع الميلاديين، وهي محفوظة الآن في المتحف القبطي في القاهرة.
يقول انجلز: والحال يوجد في "العهد الجديد" سفر واحد يمكن تحديد تاريخ كتابته بفارق لا يزيد عن بضعة أشهر؛ من الممكن أن يكون قد كتب بين حزيران 67 م وكانون الثاني 68 م، بالتالي فهو سفر يعود إلى أولى أوائل الأزمنة المسيحية يعكس أفكار تلك الحقبة بأكثر ما يمكن من الإخلاص الساذج وباللغة الاصطلاحية المطابقة لها، لكنه في رأيي (انجلز) أكثر أهمية بكثير لتحديد ما كانته فعلا المسيحية الأولى الأولية من كل باقي أسفار العهد الجديد، والمتأخرة كثيرا في التاريخ في صياغتها الحالية. هذا الكتاب هو ما يسمونه "رؤيا يوحنا" وهو في الظاهر الأكثر غموضاً من كل أسفار الكتاب المقدس. أصبح اليوم بفضل النقد الألماني، أكثر قابلية للفهم وأكثر شفافية.
يكفي القاء نظرة على هذا السفر حتى نقتنع بحالة الحماسة الدينية، التي تملأ لا المؤلف فقط بل "الوسط" الذي كان يعيش فيه أيضاً. إن رؤيا يوحنا ليس الوحيد من نوعه ولا في زمنه، فمنذ العام 164 ق.م تاريخ الرؤيا الأولى التي حفظت لنا –سفر دانيال-حتى حوالي العام 250 م التاريخ التقريبي لكارمن الكومودي (أغنية موجهة لليهود والوثنين) حتى أحصى رينان خمسة عشر رؤيا كلاسيكية وصلت إلينا، ناهيك عن النصوص اللاحقة (أستشهد برينان لأنه الاسهل منالاً والأشهر خارج دوائر الاختصاصيين)243 وسيكون لذلك تأثير سلبي على راي انجلز بما يخص الغنوصيين. يقول انجلز معتمداً رأي رينان:
جاء وقت حيث في روما وفي اليونان، بل وأكثر من ذلك في آسيا الصغرى وفي سوريا ومصر، كان يقبل مزيج اعتباطي تماماً من أحط الخرافات التي لشعوب مختلفة جداً بدون روية ويكمل بخدع ورعة وشعوذة مباشرة، حيث المعجزات، حالات الوجد، حالات الكشف (الظهورات) والتنجيم، السيمياء (الكيمياء الصوفية) والقبلانية (قابّالا)، وغيرها من الشعوذات السحرية التي كانت تلعب الدور الأول. هذا هو الجو الذي ولدت فيه المسيحية الأولى الأولية. وذلك داخل طبقة من الناس مستعدة، أكثر من غيرها، لتقبل هذه الأوهام. لهذا فإن الغنوصيين المسيحيين المصريين(الاسكندرانيين) كما تثبت في جملة ما تثبت أوراق البردي، قد تعاطوا باهتمام في القرن الثاني من العصر المسيحي السيمياء، وأدمجوا أفكار سيميائية في مذاهبهم. إن الحسابين (علم الهندسة: الجُمَّل) الكلدانيين واليهود، الذين حسب قول تاسيتوس، طُردوا مرتين، في عهد كلوديوس وكذلك في عهد فيتيليوس، من روما بسبب ممارستهم السحر، لم يتعاطوا "حيلاً " هندسية أخرى غير تلك التي سوف نجدها في قلب رؤيا يوحنا" 243 وكنا قد انتقدنا هذا الراي في كتابنا "رسالة في الغنوصية"، وهذا الرأي ليس سوى رأي آباء الكنيسة الأورثوذكسية المناوئة للمناضلين الغنوصيين الكبار والتي اتهمت الدعاية المضادة للكنيسة الإمبراطورية المكرسة بانها هرطقة وضرب من السحر والشعوذة الهدامة. ويأتي هامش الترجمة العربية ليزيد الطين بلة بالقول بحق الغنوصيين المسيحيين السكندريين كلاماً كأنه وحي هبط من برج الكنيسة المكرسة: "الغنوصيين أتباع اتجاه ديني صوفي في فترة المسيحية الأولى الأولية: اتجاه انتقائي رجعي في الفلسفة يجمع الأفلاطونية الجديدة مع أفكار فيثاغورية ومسيحية. وقد مهد الطريق لظلامية القرون الوسطى" هامش (حول الدين ص 243)
والغريب بالأمر والذي يشير إلى سذاجة واضع الهامش أن العصور الوسطى وظلاميتها كانت تحت هيمنة آباء الكنيسة الرسمية المكرسة صاحبة محاكم التفتيش في العصور الوسطى وهي التي أحرقت الفلاسفة والمهرطقين. كما أن اكتشافات مكتبة نجع حمادي تكذب هذه الدعاية الكاثوليكية الموغلة في القدم والمعادية للمناضلين الغنوصيين كآريوس ونوسطوريوس وأوريجين وفم الذهب وغيرهم كثير وللفلاسفة المتنورين لاحقاً في العصور الوسطى كجوردانو برونو وغاليليو. كما أن الخليط المنحط الذي يتحدث عنه رينان وينقله انجلز هو نتاج اختلاط ثقافات اليونان الكبرى (الافلاطونية والرواقية) مع الدين الشرقي في مصر وبلاد الكلدان وآسيا الصغرى وسوريا بما فيه اليهودية والزرادشتية.
يتألف كتاب الرؤيا من سلسلة من الكشوف. في الكشف الأول يظهر المسيح مرتدياً مسوح كاهن كبير، سائراً بين سبعة شمعدانات ذهبية، التي تمثل الكنائس السبع في آسيا، ويملي على يوحنا الرسائل إلى الملائكة السبع لكنائس آسيا هذه. (حول الدين ص 244)
يوحنا رسول يتلقى الوحي ويلقيه على الرسل السبعة إلى كنائس آسيا، إنهم الرسل جنود السماء أو الجيوش السماوية الملائكة الدعاة الذين يكرزون بالدعوة الجديدة.
يقول انجلز بحق: منذ البدء، يتجلى الفرق بصورة صارخة بين هذه المسيحية (الآسيوية؛ الشرقية) والدين الكوني (اليوناني-الروماني) الذي تبناه قسطنطين وصاغه مجمع نيقية (مع تكريس قانون الايمان المسيحي الشهير). الثالوث ليس غائب فحسب، بل هو شيء مستحيل هنا. بدلاً من الروح القدس الأوحد اللاحق، نجد أمامنا أرواح الله السبعة التي قال بها حاخامات يوشع(11/2) [الرسل الملائكة السبعة] المسيح هو ابن الله (بالتبني أو على المجاز)، الأول والأخير، الألف والياء، لكنه ليس البتة الله بالذات، أو مكافئاً لله. إنه على العكس بداية خلق الله (المخلوق الأول، بالتالي هو فيض من الله الموجود من الأزل،[لم يزل هو هو])، لكنه خاضع ومماثل للأرواح المذكورة من قبل" 244 نحن هنا أمام دين توحيدي يماثل فيه المسيح الحقيقة المحمدية أو المشيئة الإلهية التي تشمل الحقيقة من الألف إلى الياء؛ هو الأول والآخر، وهو النفس الكبرى الصادرة عن الأحد أو الذات الإلهية [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)] [الاخلاص]
إن يسوع المسيح (عيسى المسيح) يظهر هنا لا كتابع لله فحسب، لكن يوضع على قدم المساواة مع موسى"(ص 244) هنا يسوع المسيح نبي مرسل مثله مثل موسى، وليس إلهاً ولدنه إلهة (ثيوتاكوس) كما ادعت مسيحية نيقية، وهذا يتوافق مع طرح القرآن بخصوص نفي ألوهة عيسى. جاء في سورة النساء قول القرآن الكريم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا)[النساء:171]
نحن في رؤيا يوحنا، مرة أخرى أمام دين توحيدي جديد، مختلف تماماً عن دين مجمع نيقيا وقانون إيمانه.
يسوع المسيح يصلب في القدس (11/8) لكنه يبعث حياً (1/5،8) 244 جاء في سورة مريم:(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:33]
هذا الدين التوحيدي لديه نزعة كونية ، فهو دين للإنسان وللبشرية جمعاء ، ورحمة للعالمين وخلاص لهم. يقول انجلز: يسوع المسيح هنا هو الحمل الذي ضحي به(قربان) تكفيراً عن خطايا العالم وبدمه يشتري الله من المؤمنين أنفسهم من كل الشعوب ومن كل اللغات" 244 (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111]
يعلق انجلز بالقول: هنا نجد المفهوم الذي أتاح للمسيحية أن تتفتح إلى دين كوني"(ص 245) هذا يعني تماماً أن الروح الكونية لم تكن من جهة الغرب فقط أو العالم اليوناني-الروماني، فقد كان الدين الجديد بأصوله الشرقية (الآسيوية) يهيئ الأرض لذلك.
يقول انجلز: لا أثر في سفرنا (رؤيا يوحنا) لمعتقد الخطيئة الأصلية. بالتالي إن القول بالتضحية الفريدة لمرة واحدة هي الفكرة الثورية الأساسية الأولى في المسيحية، وأن هذه الفكرة مستمدة من مدرسة فيلون تخلق بلبلة مرة أخرى، وخلط بين الدين الأولي الشرقي والمراجعات الكاثوليكية اللاحقة.
إن فكرة الأضاحي والقرابين كانت موجودة بين كل الأديان السامية(الشرقية) والأوربية. إن الفكرة الثورية الأساسية الأولى في المسيحية والمستمدة من فيلون تقول إنه بواسطة التضحية العظيمة الطوعية لوسيط ما (رسول نبي) قد جر المؤمنين إلى طريق التضحية في سبيل خلاص البشرية والانسان، ويكون الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم بأنهم هم أنفسهم أداة الخلاص وواسطتها كالحزب الماركسي الثوري الحديث.
أما الحديث عن التضحية العظيمة الفريدة الطوعية لوسيط (بين الله والانسان) ما قد جرى التكفير عن خطايا كل الازمان وكل البشر مرة واحدة وإلى الأبد"(ص 245) فهذا اقحام واضح ومراجعة من الكنيسة المكرسة الأرثوذكسية، وذلك لتقطع الطريق على المناضلين من الغنوصيين المسيحيين ضد ظلم الإمبراطورية وطغيانها بواسطة كنيستها المكرسة. هو قطع الطريق على المؤمنين السائرين على درب المسيح يسوع في سبيل التحرر والخلاص من طغيان الإمبراطورية وقانون الايمان. لأنه بهذا الادعاء الجديد للكنيسة المكرسة الرسمية "كانت تزول ضرورة كل تضحية لاحقة، ويزول بالتالي أساس العديد من الطقوس الدينية"245 هكذا كان الهدف الثاني من هذه المراجعة الرسمية التخلص من الطقوس التي تعرقل أو تمنع التعامل مع البشر ذوي المعتقدات المختلفة، وكان هذا الشرط الأول لدين كوني. " 245 أما فيلون فقد نقل الدين من المحلية والعنصر الأقوامي المحلي عبر منهجه التأويلي الرمزي المجازي في مواجهة مع التفسيرات الحرفية النصية لليهود التي كانت تكرس ضيق الأفق وعنصرية الدين اليهودي. يكتب انجلز: "بيد أن عادة تقديم الأضاحي كانت على درجة كبيرة من الرسوخ في العادات الشعبية بحيث أن الكاثوليكية –التي استعادت كثيراً من العادات الوثنية (وهي عادات الدين الأقوامي عند الشعوب الأوربية) -رأت أنه من المفيد أن تكرسها بإدخال القربان الرمزي على الأقل في القداس “ (ص 245) وهنا بالتحديد استعيرت بشكل خبيث تقنية التأويل الرمزي من فيلون السكندري؛ على طريقة المثل القائل: كلمة حق يراد بها باطل.
إن بعض تيارات اليهودية، خاصة المتأثرة بالتفسير الرمزي أو المنهج التأويلي لفيلون باتت تتحرك نحو دين كوني لجميع شعوب الأرض. يقول انجلز: ما يسم بشكل رئيسي الرسائل هو أننا هنا لسنا أمام مسيحيين واعين، بل أناس يعتبرون أنفسهم يهوداً؛ إن يهوديتهم على الأرجح، مرحلة جديدة في تطور اليهودية القديمة؛ لهذا بالتحديد فهي وحدها اليهودية الحقة" 245 وهي مناهضة لليهودية "السنية" النصية أو الحرفية الضيقة التي تكرس عنصرية الدين ومحليته.
يقول انجلز: إن مؤلفنا (مؤلف رؤيا يوحنا) في العام 69 م كان على دراية قليلة في انه يمثل مرحلة جديدة تماماً في التطور الديني، مرحلة مدعوة لأن تصبح إحدى العناصر الأكثر ثورية في تاريخ الفكر الإنساني.
وهذه الفقرة شوهتها الترجمة السيئة التي وردت فيها العبارة كالتالي: "إن مؤلفنا كان بعيداً عن الشك في أنه يمثل مرحلة جديدة"(ص 245)
من هنا تأتي عبارة انجلز لكي تؤكد تصحيحنا للعبارة السابقة: "ولهذا كما نرى، فإن مسيحية ذلك الحين، التي لم تكن بعد على وعي بنفسها، كانت على بعد ألف فرسخ من الدين الكوني (الرسمي المكرس) الذي تحدد معتقدياً في مجمع نيقيا؛ من المستحيل التعرف على تلك في هذا. لا الشروح والبراهين المعتقدية اللاهوتية، لا علم الأخلاق المسيحي اللاحق نجدها فيها، بالقابل نجد فيها الشعور بأنها في صراع ضد عالم برمته وأنها ستخرج منتصرة من هذا الصراع؛ فإن فيها حمية مقاتلة ويقين بالنصر تلاشيا كلياً لدى مسيحيي أيامنا " 245 هذه الحمية كان قد ورثها الإسلام كتيار غنوصي مناهض للكاثوليكية وقانون الايمان وللمسيحية المكرسة. ويضيف انجلز: لم نعد نجد هذه الحمية إلا لدى الاشتراكيين. ومن هنا فالاشتراكية الماركسية هي الوريث النقدي الأكبر للدين التاريخي أو ديانات الأنبياء.
يقول انجلز: كلتا الحركتين (المسيحيون الأوائل والاشتراكيون الأوائل) لم يصنعهما زعماء وأنبياء –مع أن هذه وتلك لا تخلوان من أنبياء-إنهما حركتا جماهير. وكل حركة جماهير تكون في البداية مشوشة بالضرورة؛ لأن كل فكر جماهيري يمور، في البداية، في تناقضات، لأنه يفتقر إلى الوضوح وإلى التلاحم؛ مشوشة بالضبط بسبب الدور الذي يلعبه فيها الأنبياء في البدايات. هذا التشويش يتجلى في تكوّن العديد من العصب التي تتصارع فيما بينها بنفس الضراوة التي تصارع به العدو المشترك الخارجي.246 وهذا الصراع أحزن الناس الشرفاء حسني النية والذين راحوا يدعون إلى الاتحاد أو الوحدة، مع أن الاتحاد لم يكن ممكناً.
الانقسام إلى عصب لا تحصى، الذي حصل للحركة الاشتراكية في بداياتها: شيوعيون بتلاوين مختلفة حسب التقليد الفرنسي لما قبل 1848، شيوعيون من رابطة فايتلنغ، آخرون ينتمون إلى رابطة مجددة للشيوعيين، برودونيون كانوا العنصر المهيمن في فرنسا وبلجيكا، الفوضويون الباكونيون كانوا في الواجهة لفترة في أسبانيا وإيطاليا (ص 246)، نفس الانقسام حصل لدى المسيحيين الأوائل، انقسام كان بالضبط وسيلة إجراء نقاش والحصول على وحدة لاحقة. ففي هذا السفر الذي هو بلا ريب أقدم وثيقة مسيحية، يدين مؤلفه الوحدة بنفس العنف الذي يدين به عالم الخطاة غير المسيحيين.
إن "أعمال الرسل والرسائل" المنسوبة إلى بولس الرسول، وهي كتابات قد دبجت على الأقل في صياغتها الحالية، بعد ستين عام من سفر يوحنا اللاهوتي، ولذا فإن المعطيات الخاصة بها أكثر من مشكوك بها، وتتناقض بالإضافة إلى ذلك، فيما بينها تناقضاً مطلقاً.
في التفاصيل؛ اتهام العصب أو الشيع الخمسة بوصفهم البولسيين وتمثيل كل هذه الرسائل باعتبارها موجهة ضد بولس الرسول الدجال أو المزيف أو المزعوم بلعام أو نيقولاوس، يقتصر الاتهام على استهلاك لحوم القرابين المقدمة إلى الأصنام وعلى الفسق. وهما نقطتان كان اليهود، القدماء واليهود المسيحيون على حد سواء، على خصام مستمر حولهما مع الوثنيين المهتدين إلى المسيحية. واللحم الآتي من الأضاحي الوثنية لم يكن يستخدم في الموائد فحسب، بل كان يباع في الأسواق العامة ولم يكن يمكن تمييزه عن اللحم المحلل لليهود.
أما الفسق فلم يكن المقصود منه تعاطي العلاقة الجنسية خارج الزواج فحسب، بل أيضاً الزواج بين الأقارب في درجات حرمها الشرع اليهودي، وأيضاً المقصود بالفسق الزواج بين اليهود والوثنيين. هذه هي عادة المعاني المعطاة لكلمة فسق في سفر "أعمال الرسل".
يقول انجلز: لكن لصاحبنا يوحنا نظرته الخاصة، حتى فيما يتعلق بالممارسة الجنسية المسموح بها لليهود القويمين(الارثوذكس). يقول (89/4) عن 144000 يهودياً سماوياً: أنهم هم الذين لم يتدنسوا مع النساء، وذلك لأنهم بكارى" والحقيقة أنه لا توجد في سماء صاحبنا يوحنا ولا امرأة واحدة. وعلى هذا فهو ينتمي إلى هذا الاتجاه الذي يتجلى أيضاً في كتابات أخرى للمسيحية الأولى الأولية، وتعتبر بمثابة خطيئة الممارسة الجنسية بصورة عامة"(ص 247) وهذا ما يلاحظ في مخطوطات جماعة قمران المكتشفة في كهوف البحر الميت، ولدى الرهبان الزهاد من الإيسينيين والترابيتيين. ففي مخطوطات قمران ترد كلمة امرأة (عيشة؛ عائشة) مرة واحدة، وهي الامرأة التي ولدته.
وفضلاً عن ذلك، إذا أخذنا بالاعتبار واقع أنه يطلق على روما اسم العاهرة الكبيرة التي مارس معها الفسق ملوك الأرض وسكروا بخمرة فسقها، واغتنى تجارها بعظمة بذخها، يغدو مستحيلاً بالنسبة إلينا أن نفهم معنى الرسائل بالمعنى الضيق الذي يريد التقريظ اللاهوتي أن ينسبه إليها، بغرض وحيد هو أن يستجر منها تأكيداً لمقاطع أخرى من العهد الجديد. بل الأمر على العكس من ذلك تماما. هذه المقاطع من الرسائل تشير بوضوح إلى الظاهرة المشتركة بين كل العصور القلقة بعمق، وهي أنه في نفس الوقت التي تزعزع جميع الحواجز، يحاولون إرخاء القيود التقليدية للممارسة الجنسية. كذلك ففي القرون المسيحية الأولى، إلى جانب الزهد الذي يميت الجسد، يتجلى في كثير من الأحيان اتجاه يرمي إلى توسيع الحرية المسيحية، بحيث تشمل العلاقات الحرة إلى هذا الحد أو ذاك، بين الرجال والنساء. ولقد حدث نفس الشيء في الحركة الاشتراكية الحديثة. أي نقمة مقدسة أثارت بعد العام 1830 في ألمانيا ذلك الحين (والتي سماها هاينه "دار الحضانة التقية") ضد إعادة الاعتبار السان سيمونية للجسد! ترى ماذا كان قول الأشخاص الطيبين لو عرفوا فورييه؟!
ذلك هو كل المضمون الاعتقادي للرسائل، أما الباقي فيحرض الرفاق على الدعاية النشطة، على المجاهرة المعتزة الشجاعة بإيمانهم إزاء خصومهم، على النضال بلا انقطاع ضد أعداء الداخل والخارج. وحول هذه المواضيع كان يمكن أن يكتب هذه الرسائل، وبنفس السوية، متحمس على حد أدنى من النبوءة الأممية. (ص 248)
3-
إن الرسائل ليست سوى مدخل إلى الموضوع الحقيقي لبيان صاحبنا يوحنا إلى الكنائس السبع في آسيا الصغرى، وعبرها إلى جميع اليهود الذين تأثروا بحركة الإصلاح لعام 69 م التي خرجت منها المسيحية فيما بعد. هنا ندخل الحرم الداخلي للمسيحية الأولى الأولية.
من بين أي ناس جاء المسيحيون الأوائل؟ بصورة رئيسية من بين الكادحين والرازحين، المنتمين إلى أدنى شرائح الشعب. على نحو ما ينبغي لعنصر ثوري. في المدن رجال أحرار ساقطين أناس من مختلف الأنواع، ثم من معتقين وبخاصة أرقاء من لاتيفونديات latifundia إيطاليا (مزارع كبرى تعتمد على عمل العبيد) جاءها أرقاء صقلية وأفريقيا من المناطق الريفية في ومن الأقاليم جاءها فلاحون صغار استرقتهم الديون. لم يكن هناك من طريق مشترك للانعتاق لكل هذه الكثرة من العناصر المختلفة التي كانت اليد الحديدية للروماني الفاتح قد أطاحت به، أي ملجأ للمضطهدين للمستعبدين للمفقرين، أي مخرج لهذه الجماعات البشرية المختلفة لهذه المصالح المختلفة بل المتعارضة، كان ينبغي على كل حال العثور على مخرج، كان ينبغي قيام حركة ثورية كبيرة تحتضنهم جميعهم.
هذا المخرج وجد لكن ليس في هذا العالم، كان الدين وحده يمكن أن يقدمه. لقد اكتشف عالم جديد. جاءت المسيحية التي قبضت جدياً العقاب والثواب في العالم الآخر وخلقت الجنة والجحيم، وبهذا وجدت الطريق التي يقاد منها كادحو ومسحوقو وادي الدموع هذا إلى الفردوس الأبدي. والواقع أنه كان لابد من أمل في ثواب في العالم الآخر واليوم الآخر للوصول إلى رفع الزهد وتقشف مدرسة فيلون الرواقية إلى مصاف مبدأ أخلاقي أساسي لدين جديد كوني قادر أن يجر الجماهير المضطهدة.
في رؤيا يوحنا لم نكن أبداً إزاء دين المحبة، إزاء "أحبوا مبغضيكم وباركوا لاعنيكم"، هنا الدعوة جهاراً إلى الانتقام العادل الشريف الذي يجب أن يصيب مضطهدي المسيحيين. كل هذا البناء للسفر قد أقيم بمواد يهودية وما قبل مسيحية، كذلك يعرض بصورة حصرية تقريباً مفاهيم يهودية خالصة. منذ أن أخذت الأشياء تسير بشكل سيء بالنسبة لشعب إسرائيل، بدءا من اللحظة التي أصبح خاضعاً للآشوريين والبابيليين، منذ تدمير مملكتي إسرائيل ويهوذا حتى خضوعه للسلوقيين من أشعيا حتى دانيال كان ثمة على الدوام في ساعات المحنة نبوءة بمخلص إلهي. كثير من الأموات سيبعث، كان ثمة ضرب من يوم قيامة، وإن هؤلاء الذين علموا الدالة للجمهور سيلمعون كالنجوم خالدين. (حول الدين، ص 251)
عما هو مسيحي لا نجد سوى التأكيد بإلحاح على المجيء الوشيك لمملكة يسوع المسيح وعلى سعادة المؤمنين المبعوثين والشهداء منهم بخاصة.(ص 252 )
يقول انجلز: يستخلص من النقد الألماني أن رؤيا يوحنا قد كتب في عهد غالبا خلال الأشهر الثلاثة من نهاية حكمه حوالي 15 نيسان 69 م
ويضيف بين ساميي تلك الحقبة من كلدانيين ويهود كان شائعاً فن السحر المبني على المعنى المزدوج للأحرف (حرف وعدد) منذ حوالي 300 ق.م كانت الأحرف العبرية تستخدم كأرقام أيضاً : أ=1 ب=2 ج=3 د= 4 (أبجد هوز)(ص 253 ) وهو نفس الحساب المستخدم في الحروف العربية والذي يسمى حساب الجُمَّل أو الجزم حسب عبارة ابن عربي. والحال أن العرافين القبلانيين (القبّالا اليهودية) كانوا يجمعون القيم العددية لأحرف اسم ما ويسعون للقيام بتنبؤات على هذا الأساس. نجد قصة مشابهة لدى ابن عربي بخصوص التنبؤ بتاريخ فتح بيت المقدس بناء على حسابات البِضع والجمل. كذلك كان يجري التعبير عن كلمات سرية بهذه اللغة المرقومة. كان هذا الفن موجود لدى اليونان وله اسم يونانياً (جيوماتري) This art was given the Greek name gematriah أو الهندسة. قال أفلاطون: لا يدخل علينا من لم يتهندس. الكلدانيون الذين كانوا يمارسونه كمهنة، والذي كان تاسيتوس يسميها (الحساب أو الرياضيات) طردوا من روما في عهد كلوديوس، وطردوا مرة أخرى في عهد فيتيليوس بسبب ما يحتمل انه "جرم خطير" 253 وقد يكون هذا الجرم هو الدعوة إلى الدين الجديد تحت ستار السحر العددي للحروف.
إذن على هذا النحو تكونت المسيحية في آسيا الصغرى، بؤرتها الرئيسية حوالي العام 68 م بالقدر الذي نعرفها فيه. لا إشارة البتة إلى ثالوث ما، بالمقابل فإن يهوه اليهودية المنحطة ارتفع من مستوى الإله القومي لليهود إلى مستوى الإله الواحد؛ الإله المتعالي الأسمى للسماء والأرض حيث يزعم الملك على كل الشعوب. واعداً بالرحمة المهتدين ومبيداً المتمردين بدون شفقة. ولهذا فإن الله نفسه هو الذي يقضي يوم القيامة لا يسوع المسيح كما ورد في الروايات اللاحقة للأناجيل ورسائل الرسل"(ص 255 )
جاء في القرآن الكريم: (وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الجاثية:17]
يقول انجلز: طبقاً للمذهب الفارسي(الزرادشتي) في الفيض، الذي انبث في اليهودية المتأخرة اللاحقة، المسيح هو الحمل، فاض من الله منذ الأزل (صدر) وكذلك فاضت أرواح الله السبعة وإن كانت تحتل مرتبة أدنى. 255 يقول انجلز: أرواح الله السبعة، التي تدين بوجودها لمقطع شعري في اشعيا (11/2) فإنها عصية على الفهم. ما من روح من هذه الأرواح هو الله ولا بمساو له أو مكافئ، بل خاضع له. (ص255)
"هذه الأرواح السبعة هي "الفيوض السرمدية الستة وعلى رأسها فوهومانو كبير الملائكة أو بَهْمَن المزدكي، هو جبريل أو العقل الفعّال " أميشاسبيندات أو أميشا سبينتا (الفيوض السرمدية الستة أو الملائكة الستة). كانت موجودة قبل زرادشت. الشيء الوحيد الذي أضافه زرادشت هو (فوهو مانو؛ بَهْمَن أو فوهومِنْ المَزْدكي) جبرائيل أو العقل الفعّال وهو رأس الفيوض السرمدية الستة والمهيمن عليهم. والفيوض السرمدية الستة هم أساطين عرش أهورامزدا" (نايف سلوم: رسالة في الغنوصية، ص 15)
إن سفرنا سفر الرؤيا لا يعرف كذلك معتقد الخطيئة الأصلية، ولا النعمة الإلهية بالإيمان. إن إيمان تلك الجماعات الأولى المقاتلة يختلف اختلافاً تاماً عن إيمان الكنيسة الظافرة اللاحقة (الكنيسة المكرسة بقانون الايمان). إلى جانب تضحية الحمل التكفيرية (الحمل كقربان)، فإن عودة المسيح القريبة (المخلص) والملك الألفي الوشيك تشكلان مضمونها الأساسي، وما كانت تتجلى به هو الدعاية النشطة، والصراع الذي لا يكل ضد عدو الداخل والخارج، الاعتراف المعتز بقناعاتها الثورية أمام القضاة الوثنيين، الاستشهاد المعاني بشجاعة مع اليقين بالنصر.
إن مؤلف السفر لم يشك في أنه شيء آخر، سوى أنه يهوديّ، بالتالي لا نجد في كل السفر أي تلميح إلى التعميد، بل أكثر من ذلك فإن ثمة علائم عديدة على أن التعميد هو مؤسسة تكونت في المرحلة المسيحية الثانية. 256 إن ال 144000 من القديسين مختونون غير معمدين (لأن التعميد هو معادل الختان). يقول انجلز: من حقنا أن نستخلص بشبه يقين أن المؤلف لم يكن يعرفه، وأن التعميد لم يدخل إلا عندما انفصل المسيحيون نهائياً عن اليهود. 256 إن مؤلفنا على جهل بالسر الثاني سر القربان المقدس. عن العشاء السري الأخير لم يرد شيء البتة هنا.
اللاهوتيون المحترفون وحدهم أو مدونو التاريخ المحترفون المعنيون ما يزالون ينكرون أن الأناجيل وأفعال الرسل هي تحويرات لاحقة لكتابات مفقودة اليوم.(حول الدين: 256 )
لقد تعززت هذه الفرضية بعد اكتشاف مكتبة نجع حمادي التي عثر في أحد مجلداتها على انجيل يُعزا إلى التلميذ يهوذا توما، لا يسرد سيرة يسوع من الميلاد إلى الصلب، بل يقدم مسرداً بأقوال يسوع، بلغ عددها (114) قولاً وفق التقسيم الأصلي للنص القبطي " (السواح: 183-184) هذا الاكتشاف الجديد يدعونا للاعتقاد بوجود أكثر من "مصدر" لأقوال يسوع كانت متداولة قبل وخلال فترة تدوين الأناجيل الأربعة التي ظهرت تباعاً يما بين 70-110 ميلادية. ونشير إلى أن عام 110 هجرية شكل بداية البحث عن أسانيد للأحاديث والأقوال المنسوبة للنبي محمد.
هذا الاكتشاف الجديد يدعونا للقول إن الأقوال أو (Logia) هي "الكتاب الأول" والأناجيل أحاديث وشروح وتدوينات لاحقة وكتابة سيرة عن حياة يسوع، ولنقول أيضاً أن عدد الأقوال في انجيل توما التوأم 114 قولاً وهي عدد سور القرآن الكريم (114 سورة) تبدأ بسورة البقرة وآياتها 286. ونعلم أن السور المكية 86 والمدنية 28 والمجموع 114 سورة.
يقول انجلز: الأكثر أهمية بالنسبة إلينا أن نمتلك مع مؤلفنا، الذي نعرف فترة تدبيجه بالشهر تقريباً، سفراً يقدم لنا المسيحية في شكلها الأكثر أولية، في الشكل الذي لا تجده فيه، بالنسبة لدين الدولة في القرن الرابع الميلادي، أكثر اكتمالاً في شروحه وبراهينه المعتقدية اللاهوتية وميثولوجيته من ميثولوجية تاسيت الجرمانية قياساً بمثولوجيات الإيدا المصاغة تماماً تحت تأثير عناصر مسيحية وعناصر من العصر القديم.
إن جنين الدين الكوني هو هنا، لكنه ما يزال يحتوي على ألف إمكانية للتطور الذي تحقق في عدد لا يحصى من العصب اللاحقة. إذا كان الشطر الاقدم من سير إعداد المسيحية يملك قيمة خاصة جداً بالنسبة إلينا (الاشتراكيين الماركسيين)، فذلك لأنه يقدم إلينا بصورة كاملة ما حملته اليهودية المتأثرة بقوة بمدرسة الإسكندرية (فيلون)، إلى المسيحية. وكل ما هو لاحق إضافة غربية يونانية-رومانية. لقد لزمت وساطة الدين اليهودي التوحيدي لإلباس التوحيدية المُنقّبة للفلسفة اليونانية العامية الشكل الديني الذي بواسطته وحده استطاعت التأثير في الجماهير.
ونحن نختلف مع انجلز في قوله: ما إن وجدت هذه الوساطة، حتى لم يعد في وسع هذا التوحيد أن تصير ديناً كونياً إلا في العالم اليوناني -الروماني"(حول الدين: 257 ) لأن التيار المناهض لدين الدولة المسيحي والمتهم بالهرطقة والذي مثله بشكل لامع كلا من آريوس ونسطوريوس قد حمل كونية التوحيد وإن كان في أساسه آسيوياً- مصرياً ("آسيوي نمط الإنتاج " في تجاهل لأوروبا كرد فعل على "غربية" المسيحية المكرسة المختلطة بشيء من الوثنية، هذا التوحيد الجديد تحقق لاحقاً في الإسلام المحمدي في القرن السابع الميلادي على يد العرب في الحجاز، متسماً بالنفور من أوروبا.
مراجع
1-كارل ماركس، فريدريك انجلس: حول الدين، ترجمة ياسين الحافظ دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 1974، والطبعة الثانية 1981
2-نايف سلوم: رسالة في الغنوصية، الطبعة الأولى دار التوحيدي حمص- سوريا 2021
3-فراس السواح: الوجه الآخر للمسيح، منشورات علاء الدين دمشق، الطبعة الأولى 2004
4-كارل كاوتسكي: الدين والصراع الطبقي في المجتمع الشرقي العبودي القديم (العنوان الأصلي: أسس المسيحية-دراسة في أصول المسيحية) ترجمة: سعيد العليمي، روافد للنشر والتوزيع، ط1 القاهرة 2014
5-نايف سلوم: الوجه الآخر للمسيح (عرض كتاب فراس السواح) مقالة منشورة في موقعنا الفرعي في الحوار المتمدن.
6-الكتاب المقدس
7-القرآن الكريم