خمسة دروس في -الأيديولوجية الألمانية-


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7709 - 2023 / 8 / 20 - 20:56
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

مقدمة
يشكل نص "الأيديولوجية الألمانية" في عملية تكوين المادية التاريخية، لحظة حاسمة، انفصاماً أو (قطيعة معرفية حقيقة) يعترف به ماركس بالذات. لقد كان عبورا من شاطئ إلى شاطئ لا عودة عنه تاريخياً، العبور من الإشكال الفلسفي لشباب ماركس المرتبط بصورة وثيقة بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية كما يمثلها كانط وهيغل وفيورباخ إلى الدرب الذي سيؤدي، بواسطة نقد الأسس الفلسفية العامة لتلك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، إلى الماركسية في فجر تشكلها الحق.
"من هنا كانت بعض الصعوبات في قراءة نص "لأيديولوجية الألمانية" وتحليله، من جراء موقعه الانتقالي في تطور أفكار ماركس وانجلز. إنه نص ربما أثارت "حرفيته" بعض الالتباس، لأن فيه إلى الماضي ما يشده إليه، وإن يكن هو في جوهره، توقع للمستقبل، توقع جريء، لكنه يعوزه بعد، من جراء طبيعة الأمور بالذات، الشيء الكثير من النضوج والدقة، والتماسك. ألا يقول انجلز نفسه عام 1888 وهو يعيد قراءة مخطوط الأيديولوجية الألمانية: كم من المعارف في التاريخ الاقتصادي كانت ناقصة وقت ذاك". ولم يكن بد من انتظار "رأس المال" (Das Kapital, Kritik der politischen Ökonomie) حتى تتخذ المادية التاريخية شكلها النهائي."
إن مفهوم "العمل" غير واضح بعد كل الوضوح، كما أن العلاقات لاجتماعية في عصر محدد يطلق عليها ماركس تعبير "التعامل" وهو الذي يستبدله في وقت لاحق في كتاب "رأس المال" بعبارة "علاقات الإنتاج" التي هي بكل تأكيد أعظم شمولاً"
إن العبور مثله مثل المخاض عملية شاقة، له مراحله المتعددة التي تستغرق فترة من الزمن يكفي لنضوجها، وهو بالنسبة إلى الماركسية سنوات عديدة. وكما أنه لا يمكن الانتقال في التاريخ الفعلي من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر بين ليلة وضحاها، كذلك لا يمكن الانتقال في تاريخ الأفكار من نظرية إلى أخرى بين ليلة وضحاها، بل لا بد من وجود مراحل انتقالية ربما خيّم عليها بعض الابهام والغموض"
تأتي الدروس الخمسة هذه لتساهم في إزالة بعض الابهام والغموض في فقرات بعينها من نص "الأيديولوجية الألمانية " ولتبين الحساسية الخاصة لترجمة "الأيديولوجية" إلى العربية. وأرجو أن تكون الدروس عوناً لدارسي لمناضلي الماركسية ودارسيها في سبيل فهم أعمق وأشمل لهذا الكتاب الخطير.

الدرس الخامس V
(وهو متقدم على الدروس الأربعة ومقدمة لها)
تحقيق: قال ماركس: البشر أسرى لعلاقات الإنتاج التي تعوق تطورهم الحر. إن تقسيم العمل الذي قام منذ فجر التاريخ، والذي يمكن أن نشاهد آثاره الأولى في العائلة، يفرض على كل فرد نشاطاً محدودا ومشوها ومنحرفا. ولذا كان لا بد في سبيل نقض هذه الأوضاع الشاذة، وفي سبيل تمكين الفرد الإنساني من تطوير جميع قدراته الخلاقة، من نقض العمل (العمل الإجير) وبالتالي نقض تقسيم العمل والملكية الفردية (لوسائل الانتاج). وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بفضل نشاط الافراد العملي لا بفضل تصوراتهم وأفكارهم. فليس المقصود أن نغير وعي البشر أولا كي نتمكن من تغيير أوضاعهم، بل أن نغير الواقع الاجتماعي الذي يصدر ذلك الوعي عنه" (الأيديولوجية الألمانية: ص 15)
تعليق: من الواضح أنه يوجد التباس في العبارة التي تحتها خط، التباس يقود إلى سوء فهم لوجهة نظر ماركس بما يخص علاقة العلم بالعمل والنظرية بالممارسة. فإذا أخذنا بحرفية العبارة التي تحتها خط كانت الثورة البروليتارية تقوم من دون نظرية ثورية، ويمكن أن يقوم بها جهلة أو أناس لديهم وعي بورجوازي لا اشتراكي.
إن عبارة لينين تأتي حاسمة في هذا السياق حين يقول: "لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية"، بهذا الشكل لا يمكن أن يتم "نقض العمل الاجير" من دون هذه "النظرية الثورية" التي تحتاج إلى تصور نظري جديد ووعي جديد مختلف كل الاختلاف عن الوعي البورجوازي وفي قطيعة معه. وهل يمكن تغيير الواقع الاجتماعي بالجهل والتصور القديم الافل؟! بالطبع لا يمكن ذلك وفق التصور الماركسي نفسه. وهنا نطرح السؤال: لكن من أين جاء التباس العبارة؟
أقو لكم: الالتباس قائم على نقص في العبارة لا في خطئها النظري. العبارة تقول: "ليس المقصود أن نغير وعي البشر جميعا في مجتمع بعينه حتى نتمكن من تغيير أوضاعهم الاجتماعية"، فهذا من الناحية التاريخية ضرب من العبث نظراً لسيطرة إيديولوجيا الطبقات السائدة والحاكمة". ليس المقصود أن نغير(نحن) وعي البشر أولا كي نتمكن من تغيير أوضاعهم"
لكن من هم هؤلاء ال(نحن)؟ بالطبع لا يمكن أن يكونوا جميع أفراد المجتمع لاستحالة ذلك كما ذكرنا. إذا (نحن) هم فئة من المجتمع لهم سمات ووعي وتصور جديد وتنظيم جديد تاريخي يميزهم عن باقي أفراد المجتمع، لكن تميزهم لا يعزلهم عن باقي الافراد والطبقات والفئات الاجتماعية بل يصلهم بطريقة جديدة مع باقي تشكيلات المجتمع وأفراده. إنهم برزخ أو وسيط يصلهم بأفراد المجتمع الاخرين ويفصلهم عنهم في نفس الوقت.
يصلهم بالمجتمع وطبقاته خاصة الطبقة الثورية التي هي الطبقة العاملة المنتجة لفائض القيمة في المجتمع البورجوازي "الحديث"، ويفصلهم بالوعي والتنظيم عن البورجوازية والطبقات المسيطرة بحيث يشكلون قوة أخلاقية مضادة لسياسات الطبقات الحاكمة وسلطتها على باقي الطبقات والمجتمع. هذا التنظيم سوف يطور ويطرح شكل وعي جديد مفارق للوعي البورجوازي ويعمل عبر هذا الوعي المفارق لتشكيل تنظيم سياسي مستقل عن وعي البورجوازية وسياساتها، بل هو يناهض هذا الوعي وهذه السياسات ويكون هدفه الأكبر تحطيم هذه السيادة التي ترتكز أساسا على احتكار سلطة الدولة من قبل البورجوازية.
إن الذين يقللون من شأن النضال النظري والتأسيس لوعي جديد، هم ليسوا أكثر من محتالين طامحين لركوب الموجات الثورية لتحقيق مطامح فردية تافهة على حساب النضال البروليتاري.
يكتب لينين في كتاب "ما العمل: المسائل الملحة لحركتنا" الكلام التالي:
لقد تجنبت هيئة تحرير "رابوتشييه ديلو" المسائل النظرية طيلة هذا الوقت، مع أن هذه المسائل قد استرعت اهتمام جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين في العالم بأسره. أما الإعلان الثاني فعلى العكس من ذلك: إنه يشير في البدء إلى ضعف الاهتمام بالناحية النظرية خلال السنوات الأخيرة ويطلب بإلحاح "انتباها يقظا حيال الناحية النظرية في الحركة البروليتارية الثورية" ويدعو إلى "توجيه نقد لا هوادة فيه إلى الميول البرنشتينية (نسبة إلى برنشتاين) وغيرها من الميول المعادية للثورة" في حركتنا. والأعداد التي صدرت من "زاريا" توضح كيف نُفذ هذا البرنامج. وهكذا نرى أن العبارات الطنانة عن تحجّر الفكر، وما إلى ذلك، تخفي وراءها عدم الاهتمام بتطوير الفكر النظري والعجز عن تطويره. وما مثال الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس إلا دليل جلي على ظاهرة أوروبية عامة أشار إليها الماركسيون الألمان أيضا منذ أمد بعيد، وهي أن حرية النقد الذائعة الصيت لا تعني استبدال نظرية بأخرى، بل تعني التحرر من كل نظرية متكاملة ووليدة التفكير، وتعني المذهب الاختياري وانعدام المبادئ. ولا بد لكل مُطّلع على وضع حركتنا الواقعي، وإن جزئيا، من أن يلاحظ أن انتشار الماركسية الواسع قد رافقه بعض الانحطاط في المستوى النظري. فبسبب النجاحات العملية التي أحرزتها الحركة وبسبب أهميتها العملية، انضم إليها كثيرون ضعيفون جداً أو صفر من حيث الإعداد النظري. ولذلك يمكننا أن نتبين مبلغ ما تظهر "رابوتشييه ديلو" من تفاهة عندما تستشهد، على غرار المنتصرين، بعبارة ماركس: "إن كل خطوة تخطوها الحركة العملية أهم من دستة من البرامج". إنّ تكرار هذه الكلمات في مرحلة الاضطراب النظري يشبه صراخ من يصرخ: "إن شاء الله دايمه!" عند رؤية جنازة. أضف إلى ذلك أن كلمات ماركس هذه مأخوذة من رسالته بصدد "برنامج غوتا"، حيث يندد بشدة بالمذهب الاختياري في صياغة المبادئ. فقد كتب ماركس إلى زعماء الحزب: إذا كانت هنالك من حاجة إلى الاتحاد، فاعقدوا معاهدات بغية بلوغ أهداف عملية تقتضيها الحركة، ولكن إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم و"التنازل" النظري. هذه هي فكرة ماركس. وها نحن نجد بيننا أناسا يستغلون اسمه للتقليل من أهمية النظرية! لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا."
من جهة أخرى وفي حديث للفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدغر عن كارل ماركس وتغيير العالم يقول: موضوع الحاجة لتغيير العالم موجود في العبارة الشهيرة لكارل ماركس التي وردت في مقالته "فرضيات حول فيورباخ"، أريد أن أقتبس لك بدقة واقرأ من الكتاب الآن: الفيلسوف حتى هذه اللحظة، فهم العالم وفسّره، لكن المطلوب هو تغييره. " من يقبل بهذه العبارة ويصدق معناها (من يقبل هذه الصياغة)، يكون قد غفل عن أن تغيير العالم، يستلزم أولاً تغيير التصور عن العالم، وتغيير التصور عن العالم يمكن إحداثه فقط عن طريق فهم العالم بشكل شامل وعميق".
وهذا عين ما فعله ماركس لاحقاً في سبيل فهم العالم البورجوازي فهماً شاملاً وعميقاً عبر كتاباته وخاصة كتابه الفذ والنابه "الرأسمال". من هنا يتوجب تعديل العبارة حتى تستقيم مع مجمل عمل ماركس النظري اللاحق بحيث تغدو كالتالي: "الفيلسوف (هيغل) حتى هذه اللحظة لم يفسر العالم البورجوازي ولم يفهمه حق فهمه، والمطلوب هو فهمه فهماً شاملاً وعميقاً وتغييره" (ماركس: فرضيات عن فيورباخ -11 )
"في ترجمة أخرى نقرأ: الفلاسفة فقط فسروا العالم بطرق متعددة، لكن الامر المهم على أية حال هو تغييره" (ترجمة فؤاد أيوب وهو مطابق للصياغة في الطبعة الإنكليزية الصادرة عن دار التقدم)
الفرضية 11 في صياغتها الأولى، وعبارة الأيديولوجية الألمانية الواردة أعلاه التي تحتها خط، تفترض أن العالم مُفسّر بشكل تام من قبل الفلاسفة (ممثلين بهيغل) عند مجيء ماركس إلى فضاء الصراع الفكري العالمي، بحيث لا تكون هناك ضرورة لدراسة التشكيلة الرأسمالية، بل يتوجب البدء والمباشرة بعملية التغيير فوراً، وهذا مناقض لمجمل عمل ماركس النظري بما فيه كتابه "راس المال"
يقول مترجم الكتاب إلى العربية: يشكل نص "الأيديولوجية الألمانية" في عملية تكوين المادية التاريخية، لحظة حاسمة، انفصاماً (قطيعة معرفية حقيقة) يعترف به ماركس بالذات. لقد كان عبورا من شاطئ إلى شاطئ لا عودة عنه تاريخياً، العبور من الإشكال الفلسفي لشباب ماركس المرتبط بصورة وثيقة بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية كما يمثلها كانط وهيغل وفيورباخ إلى الدرب الذي سيؤدي، بواسطة نقد الأسس الفلسفية العامة لتلك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، إلى الماركسية في فجر تشكلها الحق.
"من هنا كانت بعض الصعوبات في قراءة نص "الأيديولوجية الألمانية" وتحليله، من جراء موقعه الانتقالي في تطور أفكار ماركس وانجلز. إنه نص ربما أثارت "حَرْفيته" بعض الالتباس، لأن فيه إلى الماضي ما يشده إليه، وإن يكن هو في جوهره، توقع للمستقبل، توقع جريء، لكنه يعوزه بعد، من جراء طبيعة الأمور بالذات، الشيء الكثير من النضوج والدقة، والتماسك. " ولم يكن بد من انتظار "رأس المال" (Das Kapital, Kritik der politischen Ökonomie) حتى تتخذ المادية التاريخية شكلها النهائي.".
إن العبور مثله مثل المخاض عملية شاقة، له مراحله المتعددة التي تستغرق فترة من الزمن يكفي لنضوجها، وهو بالنسبة إلى الماركسية سنوات عديدة. وكما أنه لا يمكن الانتقال في التاريخ الفعلي من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر بين ليلة وضحاها، كذلك لا يمكن الانتقال في تاريخ الأفكار من نظرية إلى أخرى بين ليلة وضحاها، بل لا بد من وجود مراحل انتقالية ربما خيّم عليها بعض الابهام والغموض" (الأيديولوجية الألمانية: ص 17) وهذا ما ينطبق على (الفرضية 11 عن فيورباخ) حيث ما يزال سحر هيغل الفيلسوف الأكبر حاضراً عبر اعتقاد ماركس أن هيغل قد فسر العالم البورجوازي الحديث في كتابه "أصول فلسفة الحق" عبر تبيانه الجانب العقلاني للدولة البورجوازية الحديثة والمجتمع البورجوازي الحديث. ما يزال ماركس في هذه الفرضية مفتوناً بهيغل وعمله العظيم. يكتب هيغل في أصول فلسفة الحق: "هذا الكتاب إذن وهو يحتوي على علم الدولة، لا يريد أن يكون أكثر من محاولة لفهم الدولة ورسم صورة لها بوصفها شيئاً عقليا في ذاتها. ولا بد له بوصفه عملا فلسفياً، أن يكون بعيداً عن محاولة بناء دولة على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. والدرس الذي يتضمنه لا يمكن أن يعتمد على تعليم ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. إنه لا يبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالماً أخلاقياً. هنا رودوس هنا نقفز! (هنا الوردة فلنرقص هنا!)" (أصول فلسفة الحق ص 115)
ماركس في رده على عبارة هيغل هذه إنما يدعو لتغيير الدولة البورجوازية التي باتت لا عقلية ورجعية في السياسة والايديولوجيا، أي باتت لا أخلاقية بالمعنى التاريخي. هيغل الفيلسوف فسر واقع الدولة البورجوازية (عالم الدولة البورجوازية الحديثة) وأنا ماركس ادعو لتغييرها لكونها باتت عالما لا عقليّا ولا أخلاقيا بامتياز، لكن هذه الدعوة تطلبت من ماركس عملا تفسيريا عميقا وشاملاً للتشكيلة الرأسمالية الحديثة والمجتمع المدني البورجوازي الذي يقوم عليه كيان هذه الدولة، وجهداً نظريا جبارا متواصلاً تُوّج بـ “رأس المال" لفهم النظام الرأسمالي بشكل "شامل وعميق" حسب تعبير هايدغر. رودوس هيغل الاغتباط بالتفسير ورودوس ماركس الاغتباط بالتفسير العميق والشامل والتغيير معا، هي نظرية ثورية وممارسة ثورية قائمة عليها حسب قول لينين الشهير.
يتركز انشغال هيغل، إذاً، في العرفان أو التفسير، حيث يتوصل إلى نوع أصيل من التفسير بحيث يتوجب على الذات أن تكون متيقظة وفاعلة في سبيل إنتاج واقعية حقيقية، وهو ما يسميه هيغل فاعلية المفهوم أو الذات في بناء هذه الواقعية الحقيقية (بالنظر إلى الواقعية الحادثية). وهو ما يسمى بديالكتيك العيني في الهيغلية والماركسية على السواء: الموضوع؛ المعطى منقول إلى الرأس ومحوّل فيه"
يكتب ماركس في مقدمة رأس المال-تذييل الطبعة الثانية: "فالمثالي ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحوَّل فيه". هذا التحويل بعد النقل خطوة جبارة وحاسمة، والتغطية عليها بعبارة ماركس الشهيرة التي تقول: "لم يفعل الفلاسفة حتى اليوم سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن الأمر الهام هو تغييره “. إن التغطية على التفسير الديالكتيكي العيني بحجة تغيير للعالم قائم على انطباعات حسية أو على تفسير وضعي-جسدي هو ماركسية مدعية وسطحية وهي "التفاهة" عينها التي تحدث عنها ماركس في نقده للاقتصاد السياسي السطحي. (قراءة نقدية في مقدمة العقل والثورة)
مراجع الدرس الخامس
1-ماركس انجلس: الأيديولوجية الألمانية، طبعة دار الفارابي ترجمة الدكتور فؤاد أيوب
2-ماركس: فرضيات عن فيورباخ؛ الفرضية 11
3-لينين: كتاب ما العمل: المسائل الملحة لحركتنا
4-هيغل: أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام طبعة 1996
5-نايف سلوم: قراءة نقدية في مقدمة "العقل والثورة "لماركوزه
الدرس الأول I
تحقيق؛ يقول ماركس: الإيمان الديني؛ (الطريقة اللاهوتية الحقيقية) نقد متكافئ مع ذاته. إخفاء الإيمان كغرض أناني" إنه صامد في مكانه يقاتل عن داره وأرضه".
تعليق: الإيمان الديني تعني حماية الفرد نفسه ضد نكران الجمهور (انسحاب الوعي من الحياة)؛ انكفاء الوعي حتى حدود الفردية الخاصة. لم يعد الفرد في علاقة فاعلة مع محيطه الاجتماعي، بل علاقته باتت علاقة وجدانية مع نفسه (مع السماء)
تحقيق. يقول ماركس: برونو باور يسهو عن مقالة فيورباخ: "ضد الفلاسفة الإيجابيين" في حوليات هال* "
تعليق: مؤلفات فيورباخ: "تاريخ الفلسفة الحديثة" عرض وتحليل ونقد فلسفة ليبنتز، بيربايلي؛ إسهام في تاريخ الفلسفة والبشرية، "جوهر المسيحية" ومقالته: "إسهام في نقد الفلسفة الإيجابية" نشر دون توقيع في حوليات هال 1838. في هوامش الكتاب "تشير عبارة "الفلسفة الإيجابية" هنا إلى الاتجاه الديني والصوفي في الفلسفة الذي يمثله ك.هـ. ويس، والشاب ج.غ. فيخته، أ. غونتر، و ف. بادر، وف. و. شيلينغ خلال السنوات الأخيرة من حياته، وكان هذا الاتجاه ينتقد فلسفة هيغل من جهة اليمين. وكان "الفلاسفة الإيجابيون" يسعون إلى إخضاع الفلسفة للدين، وينكرون إمكانية المعرفة العقلانية، وينظرون إلى "الوحي الإلهي" على أنه مصدر المعرفة "الإيجابية" وكانوا يسمون جميع الأنظمة (الأنساق) القائمة على المعرفة العقلانية أنظمة (أنساق) سلبية"
لكن، من أين تأتي "السلبية" في المعرفة العقلانية وفق الاتجاه الفلسفي الديني والصوفي؟ يبدو أن الامر متعلق بدرجة الإيمان الوجداني بالأفكار العقلية، وبالممارسة التاريخية و"السياسية". فليس امام الفلسفة العقلية طريقاً نحو الممارسة العملية (العمل) سوى الدين والسياسة التاريخية (الحزب الثوري). الدين (خاصة الاسلام) يتحدث عن العلم والعمل، والماركسية تتحدث عن النظرية والممارسة الثوريتين. إن فلسفة هيغل حسب تعبير ماركس نفسه، طورت الممارسة على نحو مثالي (سلبي) لا على نحو إيجابي عملي فاعل تاريخياً، أي أنها لم تبن أحزاب وفق فكرتها النظرية، بل ظهرت تيارات هيغلية من كل الاشكال لجهة اليمين واليسار. من هنا يكون القصد من تعبير "فلسفة إيجابية" أن الدين هو الممارسة التاريخية الوحيدة في ذلك الزمن مجسداً "بالوحي الإلهي"، وبالتالي على الدين أن يهيمن ويقود الفلسفات العقلية بما فيها فلسفة هيغل. وهذه علامة على تأخر البورجوازية الألمانية، ومعها التأخر في الظهور السياسي للبروليتاريا الألمانية على المسرح الأوروبي، مقارنة ببريطانيا وفرنسا.
ولكن ما أن ظهرت البروليتاريا الألمانية كحزب سياسي (الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني SPD 1875) ) وأممية ثانية (الأممية الثانية: (1889 -1916) حتى اختفى مفهوم "الفلسفة الايجابية"، واختفى اختزال الممارسة التاريخية "السياسية" "بالوحي الديني"
أما في القرن العشرين، ومع ظهور "فلسفة العلم"، فقد أخذت الفلسفة الإيجابية أو الوضعية معنى آخر مختلفا تماماً. ذلك أن الفلسفة الوضعية Positivism: هي إحدى فلسفات العلوم التي تستند إلى رأي يقول إنه في مجال العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الطبيعية، فإن المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات والتي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات بينها والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية.
جاءت الوضعية رداً على الفكر الدوغمائي الاعتقادي اللاهوتي والغيبي (الميتافيزيقي)، والذي يغيب عنه الفكر الديالكتيكي. ذلك أن الاعتقادات الجامدة الميتافيزيقية تفصل بين المقولات بشكل كامل وقطعي ونهائي، وتنكر فكرة تحول الاضداد الواحد إلى الاخر حسب الشروط المتغيرة.
فلسفة العلم، كمقولات قطعية وإيجابية مبرهنة، تتحول هي الأخرى إلى ضرب من الميتافيزيقا، بتحديدها للمقولة العلمية على انها نهائية ومطلقة، وخالصة من كل أثر للأيديولوجيا أي تنظر إلى تناسقها على أنه نهائيّ، وتراها مفصولة بشكل مطلق عن كل اعتقاد وكل صراع اجتماعي سواء كان دينياً أم سياسياً. وهي الفلسفة التي نشأت أصلاً كنقيض لعلوم اللاهوت والميتافيزيقا الذين يعتمدان المعرفة الاعتقادية غير المبرهنة.
وضع الفيلسوف والعالم الاجتماعي الفرنسي الشهير أوغست كونت هذا المصطلح في القرن التاسع عشر وهو يعتقد بأن العالم سيصل إلی مرحلة من الفكر والثقافة، سوف تنتفي فيها كل القضايا الدينية والفلسفية، وسوف تبقى القضايا العلمية التي أثبتت بالحس والخبرة الحسية أو بالقطعية والوضعية (positive). وفي ذلك العصر (القادم) سوف يُمحى الدين والفلسفة من ساحة المجتمعات البشرية.
لكن خبرة البشرية بعد ويلات الحرب العالمية الثانية وظهور السلاح النووي كتهديد بالفناء للجنس البشري، وتعاظم عسكرة الاقتصادات الرأسمالية الامبريالية المتطورة، وتنامي عدوانية الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خسف مقولة فلسفة العلم، وفكرة ان يشكل العلم بديلاً عن الدين والسياسة. وقد أدى انحطاط السياسة البروليتارية بتأثير البيروقراطية السوفياتية، وأفول السياسة البورجوازية الليبرالية إلى عودة الدين للعمل في الحقل السياسي عبر الحزب الديني، خاصة أحزاب الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. وقد ترافقت هذه العودة للجماعة الإسلامية كحزب سياسي باشتداد العنف أحياناً وظهور الارهاب أحياناً أخرى، حيث ظهرت الجماعة السياسية الدينية الإرهابية كدين غاضب يسعى لتكفير المخالفين وتصفيتهم جسدياً في ملمح فاشي واضح. هذه الفاشية الدينية مرتبطة جوهرياً بانحطاط الرأسمالية الامبريالية وبأزمة تقدم الحركة الاشتراكية الأممية، وبانسداد آفاق التنمية فيما يسمى بالبلدان "المتخلفة" أو بلدان "العالم الثالث".
* هامش: الحول: السنة ، والاستحالة: الحَوْلة /الإزالة. والإزالة تعني أن الكلمة هي أمر مجتمع متناقض المصالح تظهر على لسان الفرد كأنها خاصته الفردية!
(إضافة)
الوحي يعني الخطاب المباشر؛ قد يكون في البدء مسارّة بين الخواص، ويكون التنظيم الاخوي سري، وما أن يتقرر إعلان الدعوة التاريخية الجديدة، حتى يتحول الوحي إلى قول مبين، وخطاب إلى قوم النبي الاقربين، ومن ثم إلى العالمين. فإذا أوحى النبي إلى قومه تعني أنه خاطبهم مباشرة إما بالقول والاقوال (Logia) أو كلمهم إشارة ورمزاً كما فعل زكريا مع قومه (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [آل عمران: 41]
والوحي يعني هبوط النظرية من سماء الأفكار إلى أرض الممارسة العملية، أي تكملة العلم بالعمل، لأن كمال العلم نقص، فمن دون ممارسة عملية وعمل (العمل من جنس العلم) يتحول العقل العالم إلى شيطان اخرس ينكفئ عن مواجهة الباطل والظلم والجور، ويكون في وضع المتواطئ مع العالم القائم الظالم.
بالطبع يتضمن الوحي المدوّن في النص القرآني كل ما يتطلبه العمل من رد على الخصوم وبيان في العقائد الأساسية، وكلام في التشريعات والمواريث والتحريمات وآداب السلوك الاخوي وفي العبادات وكيفية الحفاظ على الاعتقاد وتعزيزه يومياً. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الاسراء: 12]
ويلاحظ القارئ أنه يستخدم في نزول الوحي كلمة الهبوط (هبط عليه الوحي) وهي تنويه إلى كمال العلم وبدء الهبوط إلى العالم للتبشير بحل مشكلاته الأساسية، ولتحقيق الحق والعدل ورفع الظلم عن العباد وتيسير أمور معاشهم وأرزاقهم وكراماتهم.
تفرض مناقشة الوحي الاسلامي، افتراض وجود جماعات سرية مرتبطة بالإعداد للدعوة الجديدة، موجود قبل وقت طويل من إعلان النبي الدعوة. وما أن تقرأ الريح ويصبح الوقت مناسباً للإعلان ويقوم النبي بالدعوة الظاهرة، حتى تغيب الجماعات السرية في غياهب النسيان ويتم تجاهل الحديث عنها وكأنها (نون) لم تكن فتبقى في كُنّها الذي كانت فيه.
الدرس الثاني II
أقول لكم: عند ذكر كلمة "تحقيق"، تكون العبارة لماركس
تحقيق: الممثلون "الإيجابيون" للـ “جوهر" والفلسفة “الإيجابية" (برونو باور)
تعليق: كنا قد شرحنا في (الدرس الأول) معنى "الفلسفة الايجابية" في ذلك الوقت (النصف الأول من القرن التاسع عشر)، والتي مفادها الاتجاه الديني والصوفي في الفلسفة، والرغبة في إخضاع الفلسفة لهيمنة الدين. وهنا في عبارة ماركس يكون "الجوهر" و"الفلسفة الإيجابية" في تماثل من حيث المعنى.
وكنا قد بيّنا في مقالة سابقة تحت عنوان "الماركسية في عود إلى نقد الدين" إلى أن نقد الدين "وهو الشرط الممهد لكل نقد آخر، قد انتهى من حيث الأساس، في ألمانيا" وفق المعطيات والوثائق المتوفرة لتلك الفترة، ولم يمض أربعون عاماً (1883) حتى أثار انجلز الانتباه مرة أخرى لعمل برونو باور في نقده للأناجيل ونقده للمسيحية المُبْكرة. ومع هذا فإن نقد الدين في أوربا وخاصة ألمانيا في القرن التاسع عشر لم يصل إلى خواتيمه المنطقية، أي أنه بقي سلبياً ولم تتم الهيمنة على معطياته الإيجابية من قبل الماركسية الوليدة ، فبقي الدين محروماً مطروداً بقوة النقد الألماني من حظيرة الفكر الاجتماعي الفلسفي النقدي الجديد، أي أنه بقي خارج حظيرة الفكر الاجتماعي الاقتصادي النقدي والثوري كما ألمح إلى ذلك بدهشة واستغراب كبيرين دستويفسكي في روايته العظيمة "الأخوة كارامازوف" حيث يقول: "إن رجلاً يجمع بين الاشتراكية والمسيحة لهو أخطر كثيراً من اشتراكي ملحد" ويضيف: "قال الاب بائيسي لإلكسي كارامازوف: تذكر أيها الفتى أن المعرفة العلمانية التي نمت نمواً كبيراً وأصبح لها سلطان عظيمٌ ، قد هجمت، في خلال هذا القرن خاصة (القرن التاسع عشر) ، على كل ما تركته لنا النصوص المقدسة من حقائق سماوية. فعلماء هذا العالم بعد أن قاموا بنقد حاقد لا يُشفى غليله، لم يحتفظوا بشيء، لم يحتفظوا بشيء البتة مما كان يعد مقدساً في القرون الماضية. لقد حللوا بكثير من التدقيق والامعان كل جزء من أجزاء التعليم الديني على حدة، ولكن فاتهم إدراك الدين في مجموعه، وبلغوا من ذلك أن المرء تذهله فيهم هذه العماوة حقاً، ذلك أن الحقيقة هي في الكل " هذه "المعرفة العلمانية هي معرفة البورجوازية العلمانية الليبرالية" وهذا النقد للدين شبيه لنقد الميثولوجيا بعد هوميروس ونزع الطابع الميثي عن الفكر اليوناني. وهذا علامة نقص في هذا النقد العلماني البورجوازي (ومن قبله الاغريقي)، وعلامة نقص في الفكر الماركسي الاجتماعي التاريخي، لأن على هذا الاخير وحده اكمال هذا النقد ودمج المخرجات الإيجابية لهذا النقد في نظريته الاجتماعية الاقتصادية الثورية. بهذا الدمج للمخرجات الإيجابية لنقد الدين تتم هيمنة الماركسية كنظرية للتغيير الاجتماعي التاريخي على الدين وتكون هي الوارث للدين كفكر اجتماعي تاريخي غابر. خاصة بعد أن تحول الدين إلى عصب متقاتلة متخاصمة تحمل فكراً وظيفياً متشيعاً ضيقاً يعمل في خدمة الوضع القائم الرأسمالي الامبريالي. حتى عندما يعمل هذا الفكر الديني الاعتباطي كحزب سياسي، فهو يأخذ طابعاً اعتباطيا رجعياً في خدمة السياسة الامبريالية واستراتيجيتها.
لقد لعب الدين دوراً اجتماعياً تاريخياً فجر صعوده، هكذا المسيحية المُبْكرة قبل ان تتحور وتصبح ديناً في كنف الإمبراطورية الرومانية (دين دولة) وتعمل خادماً لها. كذلك الإسلام في فجره وصدره لعب دوراً تاريخياً متقدماً حين نقل حياة العرب الاجتماعية من حياة القبيلة إلى حياة الدولة المركزية.
قلنا إن الفلسفة عبد، أي هي واسطة ووسيلة يمكن أن تكون في خدمة الدين والوحي كما كانت في العصور القديمة والوسطى، ويمكن أن تكون في خدمة الحركة الاجتماعية التاريخية الثورية (الماركسية). وإذا أُخذت مجردة لوحدها زادت في مرض الأمة المريضة كما قال الفيلسوف الألماني المتهكم نيتشه. وإذا اخذت مجردة من دون اعتبار لحياة المجتمع وتناقضاته وصراعاته التاريخية الفعلية، كانت شيطاناً أخرس: تعرف الحق وتجحده بتغطيته بعد كشفه، وتتحول إلى فكر مداهن للوضع الرأسمالي القائم.
وكما قلنا في الدرس الأول، الفلسفة نتاج ذو طابع سلبي، لا تتحول إلى عمل اجتماعي إيجابي إلا عبر طريقين: الأول هو خضوعها للدين والوحي، والثاني خضوعها للفكر الاجتماعي التاريخي الثوري وفلسفة الممارسة الماركسية ( praxis)
والفلسفة عبد كما هو حال العقل النظري على هذا الأساس، حيث النظرية في خدمة الممارسة.
يقول ماركس: لقد قُدّمت الفلسفة الهيغلية في "العائلة المقدسة" على أنها وحدة سبينوزا وفيخته، وقد أكد المؤلفان [ماركس وانجلز] على ما تنطوي عليه هذه الوحدة من تناقض. هذه نقطة خلافية ضمن التأمل الفلسفي الهيغلي"، برونو باور: أخذ التعبير المجرّد للنزاع ضمن فلسفة هيغل على أنه النزاع الفعلي “هيغل يعطي عن النزاعات الفعلية تعبيراً مجرداً أو سديمياً يشوهها به حين يضعها في السماء". بينما "الجوهر" في الحقيقة هو العلاقات الاجتماعية القائمة، والطبيعة الواقعية، والتناقضات ضمن المجتمع الواحد."
بالنسبة لبرونو باور: وعي الذات أو العبارة ؛ أو الصياغة الفلسفية للمسألة الفعلية هي المسألة الفعلية بالذات". "العبارة" تغدو هي المسألة الفعلية بالنسبة لبرونو، وتحل محل المجتمع الفعلي.
تحقيق (ماركس): الناس الواقعيون ووعيهم لعلاقاتهم الاجتماعية القائمة بصورة فعلية"
تعليق: توجد مسافة لا يمكن إغفالها بين شكل وعي الناس لعلاقاتهم الواقعية وبين حقيقة هذه العلاقات الواقعية. وفي هذه المسافة يقيم العلم الاجتماعي التاريخي حياته. المسافة بين الوجود الاجتماعي وبين وعي هذا الوجود. هنا يظهر الدين كأحد أشكال وعي الناس لعلاقاتهم الاجتماعية الفعلية؛ "الدين كتعبير فكري مؤقنَم عن العالم"؛ الدين كوعي مقلوب للحياة الواقعية. والدين هنا المقصود منه "المسيحية القويمة" المكرسة.
إن التحولات الكبرى للمجتمعات، والتي تنتج عن فعالية ذاتية للبشر ضمن هذه المجتمعات، تظهر على أنها من فعل فاعل من خارج المجتمع (الله). يكتب إمبرتو إيكو في "اسم الوردة" على لسان الراهب أدسو: "عندما نظرنا إلى الورقات كان كتاب تراتيل رُسم على حاشيته عالم مقلوب بالمقارنة مع العالم الذي عودنا عليه حسّنا. فكأنما يدور في بداية حديث هو مبدئياً حديث الحقيقة وفي اتصال عميق به من خلال تلميحات رائعة وغامضة، حديث كاذب قلب راسه إلى أسفل، حيث تفر الكلاب أمام الارانب وتصيد الايائل السباع" قردوح Babouins كما يسمونها في بلاد الغال، قرادح أو قرود افريقيا. صور عالم معكوس (مقلوب)، حيث تقف الديار فوق شوكة ابرة وتقوم الأرض فوق السماء"
إن الأيديولوجية بمعنى زيف الوعي هي كالأحاديث السيئة "وكما توجد أحاديث سيئة توجد صور سيئة. وهي تلك التي تكذب حول شكل الخلق وتظهر العالم على عكس ما ينبغي ان يكون عليه" (اسم الوردة)
وأريد أن أعلق إلى أن فعل الفاعل من خارج المجتمع والذي أحدث التحول (الله) يشبه بطريقة ما فعل المثقفين البورجوازيين في الطبقة العاملة وتحويل شكل وعيها، وهي الفكرة الأساسية القائمة في عمل لينين الشهير (ما العمل؟ المسائل الملحة لحركتنا) والتي نقلها عن كاوتسكي، وهي أن الوعي الاشتراكي يصل البروليتاريا من المثقفين خارجها . ولكن توسيع دائرة الرؤية تبين أن هذا الوعي مشمول ضمن الفعالية الذاتية للمجتمع وتحولاته التاريخية، حيث ينتقل قسم من المثقفين البورجوازين بحكم شمولية وعيهم إلى موقع الطبقة الجديدة (البروليتاريا)
لكن علينا أن نشير إلى أن عمل الدين الفكري في هذا السياق أكثر تعقيداً، حيث يُحجب الخلق الذاتي للمجتمع وتحويله، ومعه تأله أشخاص الانسان بالعرفان، عن العامة من المتدينين ويترك الباب مفتوحاً لخاصة الخواص. وعملية الحجب هذه وتغطية الاسرار أمر أساسي في الفكر الديني. أما المقصود بتأله أشخاص الانسان فتعني أن الالوهية للبشر، حيث يشخص الصفوة منهم بمعارف عصرهم حتى درجة التألّه والقداسة. قال أفلاطون: من عرف نفسه؛ أي عين عصره، فقد تألّه!"
(إضافة)
في مسألة "الدين كتعبير فكري مؤقنَم عن العالم" وفكرة: الدين كوعي مقلوب للحياة الواقعية". أقول:
يكتب ماركس في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل –مقدمة: "الانسان يصنع الدين. إن الدين هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الانسان الذي لم يجد ذاته بعد، أو الذي فقدها. الانسان ليس كائناً مجرداً جاثماً في مكان ما خارج العالم. الانسان هو عالم الانسان، الدولة والمجتمع (المدني) وهذا المجتمع وهذه الدولة ينتجان الدين كوعي مقلوب للعالم لأنهما بالذات (الدولة والمجتمعالبورجوازي) عالم مقلوب"
تعليق: الانسان الذي ظلمه مجتمع ظالم وسحقه طغيان الامبراطوريات والدول، بات هاربا من التاريخ غير منخرط في صنعه (فاقداً لذاته)، خاصة وأن المجتمع الذي يعيش فيه لم ينتج إمكانية بناء تنظيمات سياسية تاريخية قادرة على قلب الوضع القائم. فكان الوعي الديني في السماء مقلوبا فارا من الواقع الظالم، حيث المثل المكرسة كأقانيم (الاب والابن والروح القدس)، حيث مملكة الانسان العادلة في السماء، ولكن هذا العدل يتوجب تحقيقه في مملكة الأرض، حيث الانسان الفعلي الاجتماعي التاريخي.
"الدين فكر مؤقنم " ووعي مقلوب، هذا ينطبق تماماً على المسيحية القويمة المكرسة، مع استثناء بعض تياراتها الشرقية المكافحة المناضلة. يكتب ياسين الحافظ مترجم كتاب "حول الدين" : يقيناً إن التوليفة الماركسية حول الظاهرة الدينية عموماً ذات أهمية بالغة . لكن ما دام هذا الكتاب، هو بالأساس، مجموعة مقالات ودراسات في المسيحية الغربية وتاريخها، لذا لن نجد فيه جواباً شافياً على التساؤلات التي تطرحها قوى التغيير الجذرية العربية حول الإسلام والمسيحية الشرقية (الآسيوية) في شتى تلاوينها وتشعباتها"
إن الابن الذي هبط على الأرض حيث البشر المعذبون صعد إلى السماء ثانية وأشار إليها على أنها مملكتهم الحقة. أما الإسلام فيخرج من دائرة الاقنمة والفكر المؤقنم لأنه بالأساس هو تكملة للتيارات المكافحة والمناضلة في المسيحية الشرقية (الاسيوية) والتي اعترضت على قانون الايمان والمسيحية القويمة التي باتت في خدمة الإمبراطورية البيزنطية. من هذه التيارات التي ورثها الإسلام نذكر الابيونية والنسطورية والاريوسية، حيث انتشرت النسطورية والابيونية شرق الفرات وفي جنوب سوريا والحجاز وشرق نهر النيل.
الإسلام علم وعمل، دين(وحي) ودولة، لقد كان من مهمات الدين الجديد بناء دولة للعرب.
إن المسيحية التي اعتبرت الاقانيم الثلاثة أساس العالم ومبادئه، كانت تقلب الوعي لأن الشروط الظالمة المقلوبة لحياة البشر هي التي أبعدت الاقانيم (لمبادئ الفكرية) إلى السماء؛
أبعدتها عن العمل لصالح البشر على الأرض.
إن مجيء القائم بالدعوة النبي العربي محمد، حجب الاقانيم (المبادئ الثلاثة) وأزالها وظهر على صورتها في دعوة تاريخية فعلية تهدف إلى بناء دولة العرب الأولى.Hypostasis أقنوم هي كلمة يونانية تعني : ما تحت القائم، أي الذي يحجبه القائم ويزيله بمجيئه وظهوره، حيث تتوحد الأقانيم الثلاثة في شخصه وممارسته التاريخية كمهيمن وسيد ونبي . فنفس محمد مهبط الوحي الذي هو الروح القدس (جبريل) في الجدل الصاعد، وشخص النبي هو مصدر الوحي لقومه في الجدل الهابط، فهو سيدهم وصاحب دعوتهم وقائدهم في المشروع الجديد. وفي المسيحية الموقنمة يكون الروح القدس هو الوحي الهابط على نفس يسوع، ويسوع الابن الهابط إلى الناس كمعزي (فارقليط) ومخلص لهم من الالام بتعزيتهم وتألمه بآلامهم وبأن لهم مملكة السماء (المُثل المجردة)، أما الأرض فقد تُركت للطغاة والظلمة من القياصرة والاباطرة والحكام.
لقد تجلى الدين التاريخي أو دين الأنبياء والاباء في ثلاثة أشكال:
الأول الدين اليهودي وهو دين أقوامي محلي (إثني)، دين متواطئ مع الامبراطوريات باستثناءات، حيث حصلت انتفاضات يهودية ضد الاشوريين والرومان. لكن الخط الطاغي هو التواطؤ مع الوضع القائم. بالطبع كانت التيارات اليهودية النصية والحرفية في التفسير (الاسطورية) هي الأكثر تواطؤاً، (وهذه سمة كل نصية أو حرفية)، بينما تميز التيار التأويلي الرمزي الباطني بالكفاح والنضال. وكان على رأس هذا التيار التأويلي فيلون الإسكندري مع فجر المسيحية. ويعتبر أحد مؤسسي المسيحية ذات النزعة العالمية. وهي سمة أخذها الإسلام. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]
وقد تزامنت هذه الظاهرة مع بدايات المسيحية، حيث تعج الكتابات المقدسة بالشكوى من ظلم الإمبراطورية ومثال ذلك حبقوق النبي، حيث يقول: (حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟) [حبقوق: 1-2]
كانت المسيحية المبكرة الخارجة من اليهودية المحلية تحمل هذه السمة، قبل أن تدجنها الإمبراطورية وتصبح دينا لها وفي خدمتها كمسيحية قويمة مكرسة رسمية بقوة الإمبراطورية وقانون الايمان.
الشكل الثاني للدين التاريخي هو المسيحية: وهي دين أنبياء هارب من التاريخ وفار إلى مملكة السماء حيث تعيش الاقانيم الثلاثة (المثل المجردة) في سلام. المسيحية دين عزاء ودموع وعزلة وانفراد حيث شاعت الرهبنة وعزلة المترهب عن حياة الدولة والمجتمع.
يقول ماركس في وصف هذا الشكل للدين التاريخي: الدين زفرة المخلوق المضطهد، روح عالم لا قلب له، روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح، فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع، الذي يؤلف الدين هالته العليا" (حول الدين؛ نقد فلسفة الحقوق-مقدمة)
هذا الوصف لا ينطبق على الشكل الثالث من أشكال الدين التاريخي أو دين الأنبياء والذي يمثله الإسلام
الشكل الثالث؛ الإسلام، حيث الدين دين ودنيا علم وعمل، العمل من جنس العلم الذي فرضه كتكملة عملية (كممارسة اجتماعية تاريخية)، حيث العمل يزيل العلم ويظهر على صورته شخصاً عالماً وتنظيماً تاريخياً فعالاً، فالإسلام ليس مشروع دين جديد ودعوة جديدة للبشرية فحسب، بل هو مشروع بناء دولة للعرب لأول مرة في تاريخهم. والإسلام هو الوارث لجميع التيارات المسيحية المكافحة والمناضلة ضد الإمبراطورية الرومانية وضد الإمبراطورية الفارسية. فهو الوارث للأريوسية والابيونية والنسطورية وللهرمسية الإسكندرية والحرانية (الفرات الاعلى). هذا الشكل لديانة الأنبياء متجاوز للاقنمة وللسلبية التاريخية وللتواطؤ التاريخي مع الامبراطوريات. فقد بنى الإسلام دولته العربية في مواجهة مع الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية.
مراجع الدرس الثاني
1-ماركس-انجلس: الأيديولوجية الألمانية (نقد الفلسفة الألمانية الاحدث في أشخاص ممثليها لودفيغ فيورباخ ، برونو باور ، ماكس شترنر)
2-فيدور دستويفسكي: الاخوة كارامازوف (رواية)
3-إمبرتو إيكو: اسم الوردة (رواية)
4-نايف سلوم: الماركسية في عود إلى نقد الدين (الحوار المتمدن)
5-ماركس –انجلس: حول الدين، ترجمة ياسين الحافظ.
الدرس الثالث III
تحقيق(ماركس): يصور شترنر الفرد الواحد على أنه "عمله الخاص" مع أنه هو نفسه للطرافة يدّعي أنه من عمل برونو بارو. هذه خطوة إلى الأمام."
تعليق: هذه ملاحظة مقتضبة عن عمل شترنر. شترنر يجرّد الفرد عن أمر الجماعة الاجتماعية، بالتالي يحرمه من تفسير سر عمله النظري والعملي.
تحقيق(ماركس): إنسان المسيحية المجرّد ليس إنساناً فعلياً "
تعليق: الروح المطلق الهيغليّ (كتجريد) و "الجنس البشري" الفيورباخيّ (نسبة إلى فيورباخ وفكرة الجنس البشري المجرَّدة لديه)، وترابط هذه الأفكار مع العالم القائم؛ علاقتها مع العالم المعطى لنا بالفعل. العلاقة القائمة بالفعل، أي ضمن المجتمع المعني، تعليل هذه العلاقة وتفسيرها. بتعبير آخر وعيها في الأفراد وفوق الأفراد، أي فهمها كسيكولوجيا فردية وشكل وعي الافراد لعلاقاتهم الاجتماعية، ووعيها كبنية اجتماعية اقتصادية محددة وشروطها التاريخية. هذه بالضبط مهمة العلم الاجتماعي التاريخي
تحقيق (ماركس): "كل حاجة تؤكد ذاتها في أيامنا هذه على أنها قوة في الأفراد وفوق الأفراد، حالما تعترض الظروف إرضاءها!"
تعليق: نلاحظ هنا أن شكل الحاجة وشكل إرضائها، يتوجب أخذهما في تاريخيتهما؛ أي في شرطهما التاريخي، وهذا ما تشير إليه عبارة ماركس: "كل حاجة في أيامنا هذه “، لأنه سوف تظهر حاجات جديدة "في أيام أخرى"! هذه العلاقة الاجتماعية تظهر في الأفراد كسمات فردية لهم وتظهر كأنها قدرة حاكمة لهم تعبر من فوقهم (قدر)، وهم في الغالب لا طاقة لهم على وعيها وردها.
تحقيق(ماركس): ليس للدين "ماهيته" الخاصة "، بل يتوجب البحث عن جوهر الدين خارجه في السياسة والتجارة! في نمط الإنتاج أو أسلوب الإنتاج" (حسب الترجمة العربية)
تعليق: إذن الدين مثله مثل جميع العقائد والايديولوجيات والأفكار هو بنية فوقية لها أساسها في نمط الإنتاج، وهي إحدى تمظهرات التاريخ الفعلي للجماعة البشرية. إن معاملتها "كجوهر" بحد ذاته يفقدها طابعها التاريخي حيث ولدت، ويصعب فهم طابع بعض العقائد العابرة للتاريخ. كالمسيحية في العصور الوسطى وفي العصر الحديث، والمسيحية المُبْكرة.
الدين يجرّد الدوافع المتعددة في الفرد الواحد ويجسّدها أشخاصاً متصارعين! على طريقة "الأنف" لغوغول (المجاز المُرْسَل؛ أو تشخيص الصفة أو الخاصيّة)
تحقيق: برونو باور يتصارع مع إحدى عباراته؛ الله خلّع أوصال أيوب بينما برونو باور خلّع أوصال عبارته."
تعليق: يتوجب أخذ الإنسان بكل خصائصه بما في ذلك الفكر كفعالية واقعية وفعلية
تحقيق (ماركس): "إن عام 1842 عام أوج الليبرالية في ألمانيا "؛ الحاجة الناشئة عن الشروط الاقتصادية للسلطة السياسية"
تعليق: أي أن الأفكار الليبرالية مشروطة بالأوضاع الاقتصادية السياسية الجديدة في ألمانيا لتلك الفترة، حيث لا يمكن فهم حقيقة هذه الأفكار بمعزل عن شروط ظهورها. كذلك هي العقائد والايديولوجيات في التاريخ.
في العبارة الدينية: الزنا والدنس والوثنية .. من أعمال الجسد؛ صادرة عن الحسي والشهوة (وهي سبيل قايين أو قابيل)
تعليق: العقبة الحسية (الجسدية) هي أولى عقبات المعرفة، كل معرفة مباشرة أولى، هي انطباع حسي وضرب من الوثنية. يؤكد لينين أن المعرفة الحقة تحتاج إلى عدة ضربات، أي تحتاج إلى توسطات عقلية. طريق المعرفة والعلم ليس طريقا مباشرا بل هو موسّط ومتعرج، فيه سلب(نفي) وإيجاب (تأكيد). يؤكد باشلار أن كل معرفة أولى "هي خطأ أول". في القرآن الكريم تأكيد على أن الجسدية فتنة وعقبة أمام المعرفة العلمية، ولا بد من توبة عقلية ورجوع لتحقيق المعرفة الحقّ. جاء في سورة (ص): (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) [ص: 34]
هوامش:
في الهامش: tollkeeper المكّاس: مُحصّل المكوس على طريق أو جسر؛ والمكْس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو ما يأخذه أعوان السلطان ظلماً عند البيع والشراء ، أو ضريبة تؤخذ عن أشياء معينة عند بيعها أو عند إدخالها المدن" ( معجم الرائد)
"قالت ماريا القبطية في سيرتها ومسيرتها من بلاد النبط شرقي النهر إلى بلاد العرب: صباح يومي السوق يزدحم المكان، ويجلس بطرس الجابي وأعوانه عند مدخل الساحة من جهة الغيطان ، في الموضع الذي نسميه ماكسو، ويسميه العرب المَكْس ، يُحَصِّل الضرائب والمكوس، من يدخل السوق ببضاعة يدفع، ومن يخرج منه وقد اشترى يدفع، والجمّال الذي يوصل البضاعة يدفع، والذي يبيع الطعام للناس يدفع" (النبطي)
في الهامش أيضاً: الشّادرن من شَدُو: shadow : ظلّ، خيال صورة منعكسة (عن مرآة) وقاء، ستر، صورة باهتة، صورة زائفة عن ؛ شبح، طيف ، الظلّ.. حزن كآبة " (المورد طبعة 1991
مثل مضروب: هذا هو الميدان وهذا هو العدو! (الماء يكذّب الغطّاس)
في الهامش: corpus delicti الواقعة الأساسية (باللاتينية)
مراجع:
1-ماركس –انجلس: الأيديولوجية الألمانية
2-يوسف زيدان: النبطي (رواية)
3-معجم الرائد(عربي-عربي)
4-المورد الكبير (إنكليزي-عربي)
5-باشلار: تكوين العقل العلمي

الدرس الرابع IV
تحقيق: التحرر السياسي والتحرر الانساني"
تعليق: التحرر السياسي الاجتماعي التاريخي يعني التحرر من أسلوب الإنتاج الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
والتحرر الثاني؛ التحرر الإنساني، وهو تحرر الانسان من الاغتراب الديني، وجميع أنواع الاغتراب.
ماركس يؤكد على عدم تحويل الواحد إلى الآخر؛ وعدم الخلط بينهما. وفي نقده لباور في "المسألة اليهودية" يشير إلى أن باور يخلط بين الاثنين.
في الاغتراب الديني؛ الانسان غريب عن انتاجه النظري الهائل، حيث يقف أمامه كأنه قوة غريبة وقدر لا رادّ له. في الاغتراب الاجتماعي الاقتصادي يقف العامل أمام منتجات قوة عمله كما لو أنه أمام قوة غريبة، يقف كغريب محروم من تملك السلع التي أنتجها، حيث هي فعلياً تعود لرب العمل مالك وسائل الإنتاج.
تحقيق: (ماركس): الناموس: سلطان الصيغ العقائدية (عالم العهد القديم: سيطرة الشريعة).. لابد لنا هنا أن ندرس حتى درجة ما تاريخ الكنيسة، وننظر إلى "الكتاب" عن كثب أعظم. أو إذا شئنا أن نستخدم لغة القديس ماكس: يجب علينا أن نحشر في "هذا الموضع" "تأملاً" عن "الأوحد وخاصته" هو فصل من تاريخ الكنيسة .. "الكتاب" كتاب شترنر "الأوحد وخاصته"، والكتاب المقدس .. الأوحد وخاصته هو ربّ الجنود"
تعليق: تكمن قيمة "الكتاب"، كتاب شترنر "الأوحد وخاصته"، في كونه اسهاماً في دراسة فصل من تاريخ الكنيسة. ولا يمكن الحكم على "الكتاب" من دون دراسة إلى درجة ما، لتاريخ الكنيسة الرسمية.
تحقيق: (ماركس): ن البورجوازي الصغير الألماني، الذي لم يسهم بصورة فعالة في الحركة البورجوازية إلا على صعيد الأفكار وحدها، والذي لم يفعل فيما عدا ذلك سوى عرض حياته على من يدفع أكثر... يتوهم أن قضيته الخاصة وحدها هي القضية العادلة"
تعليق: هذا هو حال ماكس شترنر وكتابه "الأوحد" السالف الذكر.
قول: قدرة الله تماماً (تعني) عدم قدرة كل شيء آخر. هذا الفصل وهذا التجريد بين قدرة الله وقدرة الانسان، ينزع إنسانية الإنسان، واحياناً يمزقه.
تعليق: يفترض حسب "ديالكتيك الظهور بالأشخاص"، أن تكون قدرة الله ظاهرة في الرجال الأشخاص؛ رجال الله أو رجال الرحمن.( وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]
فأذَّن مؤذِّنٌ لا يدخلَنَّ على أميرِ المؤمنين إلا رجلٌ قد حملَ القرآنَ، فلما أنِ امْتلأ من قرَّاءِ* الناسِ الدارُ دعا بمصحفٍ عظيمٍ فوضعه عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ بينَ يدَيه فطفِق يصُكُّه بيدِه ويقولُ: أيُها المصحفُ! حدِّثِ الناسَ، فناداه الناسُ فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ! ما تسألُه عنه إنما هوَ ورقٌ ومدادٌ ونحنُ نتكلمُ بما رَوينا منه فماذا تريدُ؟
وأريد أنا أن أقول كما قال علي في مكان ما: القرآن في صدور الرجال!
*هامش: كان أغلب الخوارج من "القراء" أي حفظة القرآن الكريم، وقد بايعوا علي بن أبي طالب بعد مقتل عثمان بن عفان، وخرجوا معه لمحاربة معاوية في صفين، ثم ما لبثوا أن كفّروا علي وانشقوا عن جيشه لرفضهم "التحكيم" بين علي ومعاوية، فقتلهم علي في النهروان.
تحقيق وتعليق: "إن الكتاب نفسه-كتاب شترنر – مُقسّم، مثله مثل الكتاب [المقدّس] إلى عهد قديم وعهد جديد – يعني مقسم إلى التاريخ الأوحد للإنسان (الناموس والأنبياء) والتاريخ اللاإنساني للأوحد (إنجيل ملكوت الله). والكتاب الأول هو التاريخ في إطار المنطق، (حيث)المنطق هو الكلمة المقيّدة إلى الماضي. والكتاب الثاني هو المنطق في التاريخ، الكلمة المحررة التي تتأصّل ضد الحاضر، وتتغلب عليه بصورة ظافرة بالهروب منه إلى السماء"
تعليق؛ يقول هيغل في "علم المنطق": "المنطق حكم مسبق وباطل!".
المسيحية الرسمية القويمة تغلبت على التاريخ بالهروب منه إلى ملكوت السماء وهجرت ملكوت الأرض.
والمنطق الذي هو آلة الفكر في تعامله مع نفسه ومع الطبيعة، يأخذ في اللغة العربية معنى النُّطْق، حيث "نطق يَنْطِق مَنْطقاً تكّلم بصوت وحروف تُعرفُ بها المعاني". (القاموس المحيط)، فيكون المنطق تدبير "المعنى" وانتاجه. والآلة تنتج بضاعة بقوة عمل العمال، لكنها ليست هي البضاعة في هذا المقام. لأنها في مقام آخر حين ينتج معمل ماكينات خياطة، تكون ماكينة الخياطة هي منتوج للتبادل. وهذا مقام آخر.
تحقيق(ماركس): "ذلك " تعطى للإشارة وللتفريق. والمرء (هنا) هو الفرد اللاشخصي!
لم يرغب الروح بعد في أي شيء كان، لم يمثل "الروح" على أنه شخص"
تعليق: في العربية "ذلك" اسم إشارة للبعيد
تعليق آخر: تشخيص الروح والفكرة الدينية. الحديث عن "أشخاص الرحمن" أو "رجال الرحمن". هذه مرحلة متقدمة في حركة الروح، لأنها تشير إلى أخوية دينية أو تنظيم تاريخي سري متقدم.
يتحدث أبو العلاء المعري عن "إياك نعبد وإياك نستعين في كتابه المغمور "رسالة الملائكة"
حيث ترد العبارة في فاتحة القرآن الكريم. أقول: إيّاك نعبد على الحق (روح)، وإياك نستعين على الشخص (شبح).
ولأبي مدين وهو أحد شيوخ محي الدين بن عربي أبيات من الشعر يخاطب فيها النبي محمد:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبّل الأرض عني فهي نائيتي
وهذه نوبة الاشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
والاشباح هنا تعني الأشخاص.
ماركس لا يعترض على فكرة "الشبحية" وتحول الأرواح إلى أشباح ظاهرة بالأشخاص، لكنه يتهكم من طريقة شترنر في التعاطي مع الشبح، حيث يحول شترنر الأرواح إلى أشباح (إلى أجساد) ثم يعود فيحطم هذه الاجساد ويمتص الروح في جسده الخاص، هو شترنر جسد الاشباح. هذه الألعاب الصبيانية مع فكرة الشبح هي التي تثير تهكُّم ماركس. يكتب ماركس: “إن الرجل، الموحَّد (المتماهي) ها هنا مع "الأوحد" بعدما أعطى الفِكَر بادئ الأمر وجوداً جسدياً، يعني بعدما حولها إلى أشباح، يدمر الآن هذا الوجود الجسدي من جديد، وذلك بإعادة احتوائها في جسده الخاص، الذي يجعله من جرّاء ذلك جسد الأشباح، الأمر الذي يبين الطبيعة الحقيقية لهذا الإنشاء التجريدي"
الجسد؛ جسد شترنر: إنكار للشبح كما إبليس إنكار لظهور الله في جسد آدم. لقد تحول شترنر إلى “ظل شبحي مقارنة بجسده المفقود"
يكتب جاك ديريدا في "أطياف ماركس" أو "أشباح ماركس": "فالمنظرون أو الشهود، والمشاهدون والملاحظون، والعلماء والمثقفون، واللاهوتيون يعتقدون أن النظر يكفي، وأنهم لن يكونوا منذئذٍ دائماً في الوضع الأكثر كفاية للقيام بما يجب، والكلام عن الطيف (الشبح): وربما يكون هذا درساً للماركسية لا يمحى من بين دروس أخرى." (أطياف ماركس)
مراجع الدرس الرابع:
1-ماركس-انجلس: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب مع مقارنتها بالطبعة الإنكليزية
2-برونو باور-ماركس: حول المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص
3-نايف سلوم: المُعْجزة، الشذرات والنُّكت في السيرة المحمدية (مقدمة جديدة)
4-جاك ديريدا: أطياف ماركس، ترجمة منذر عياشي
5-وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 212 هـ
6-رسالة الملائكة لأبي العلاء المعري
7-القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت: 817 هـ)