نقد المنهج الظاهراتيّ الاجتماعي


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 1448 - 2006 / 2 / 1 - 11:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

"في أول أمرنا"، عند أول كلمة، يكون النقد. فإذا اشترى الرجل الفرس قال له صاحبه: النقد عند الحافر، أي عند حافر الفرس في موضعه قبل أن يزول. (1)
والنقد: خلاف النسيئة..(2).."فقال أنا الذي لا أعاب ولا يُردُّ لي قضاء، فيقولون له أنسئنا شهراً، أي أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر وذلك أنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا تمكنهم الإغارة فيها ، لأن معاشهم كان من الإغارة فيحل لهم المحرم ويحرم عليهم صفراً، فإذا كان في السنة المقبلة حرم عليهم المحرم وأحل لهم صفراً. جاء في سورة التوبة: "إنما النسيء زيادة في الكفر".(3) .
النقد: الأمر في موضعه ووقته من دون تأخير. والنسيء: هو التبديل الاعتباطي ، والأمر خارج وقته وموضعه: "ألسنا الناسئين على معدٍّ شهور الحل نجعلها حراماً.."(4)
ودفعاً للالتباس، ننقل عن "أدب الكاتب" قوله:
"النقد في الرِجل أن تراها تتقشر" ، و"النقد في الحافر أن تراها كالمتقشر
ويقولون:"النقد عند الحافر" يذهبون إلى أن النقد عند مقام الإنسان، ويجعلون القدم ها هنا الحافر" ، وإنما هو "النقد عند الحافرة، أي عند أول كلمة ، جاء في سورة (النازعات/10):"أئنا لمردودون في الحافرة"، أي في أول أمرنا، ومن فسرها الأرض فإلى هذا يذهب، لأن منها بدئنا.." (5).
والنقد: "دابة الأرض". جاء في سورة (سبأ/14) :"فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته.."وجاء في سورة (النمل/82): "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم..". والمنسأة هي العصا، والعصا هي اللسان، وشق العصا:مخالفة الجماعة. و"ألقى عصاه ، بلغ موضعه وأقام، أو أثبت أوتاده وخيم". وفي القاموس المحيط أن: "النقد: خلاف النسيئة..". والنسء: الشراب المزيل للعقل..و"النسيء: شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عنه، :"إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرّم الله.." (التوبة:37).
والنقد: اختلاس النظر نحو الشيء. ..و"انتقد الدراهم:قبضها،..وأنقد الشجر: أورق" (6)
أما بعد:
وبعد هزيمة حزيران، يحاول الدكتور حسن حنفي في كتابه "في الفكر الغربي المعاصر"(8) أن يعبر عن الوضع الراهن للأمة العربية" بالقول:"الهزيمة كانت في الروح وفي الوعي...قبل ساحة القتال" ص(7).
يحاول د.حسن حنفي، في هذا الكتاب، إقامة نوع من "فينومينولوجيا" اجتماعية، الهدف منها –حسب زعمه-"مخاطبة الجماهير العربية بأسلوب مباشر"، هذا من جهة، و"من أجل اتصال مباشر بالفكر ورؤية مباشرة للواقع" ؟
الواقع ، هنا ، هو هذه "الواقعة" الشعورية، أي هذه العاطفة الدينية، أي هذا الوجدان الديني فحسب! بحيث يغدو الفكر متماهياً مع العاطفة الدينية الكاسحة. فالواقع الوحيد الذي تعترف به هذه الفينومينولوجيا (الظاهراتيّة) الاجتماعية، هو هذا الشعور، هذا الوجدان فحسب!.
وإذا كان الحديث يجري عن الروح ، نقول مع هيغل: "إن الروح تستطيع أن تهبط إلى مرتبة الوجدان والحس، كما هي الحال في الدين.."(9).
فإذا اعتبرنا أن الروح ليست "الواقعة" [واقعة في ذات النفس بالعقل] الوحيدة ، وأن الواقع أكثر من الروح، يغدو الواقع بالنسبة لـ د.حسن حنفي ومنهجه الظاهراتيّ-الاجتماعي، أحد المراتب المتدنية للروح فحسب، أي يغدو هذا الوجدان كوجدان: "وهو الصورة العامة للطبيعة الحسية.." (10) هو الواقعة الوحيدة . يكتب هيغل في "موسوعة العلوم الفلسفية" :"وعلى الرغم أنه من الصواب أن نقول: إن الروح تستطيع أن تهبط إلى مرتبة الوجدان والحس، كما هي الحال في الدين، إلا أن الوجدان المحض، بوصفه نمطاً من الوعي، شيء، ومضامينه شيء آخر. والوجدان كوجدان، هو الصورة العامة للطبيعة الحسية التي نشترك فيها مع العجماوات. وهذه الصورة أعني الوجدان، يمكن أن تستحوذ على الحقيقة العضوية كاملة وتستولي عليها، إلا أن الصورة ليس بينها وبين مضمونها تطابق حقيقي، فصورة الوجدان هي أدنى الصور التي يمكن للحقيقة الروحية أن تعبر فيها عن نفسها، فعالم الموجودات الروحية، والله نفسه، يوجد في الحقيقة المناسبة له، في الفكر وحده، وبوصفه فكراً فحسب" (11).
لقد غدا الفكر –عند حسن حنفي-حدساً، و"الواقع" الوحيد هو هذا الوجدان الديني. هذه "الواقعة" الشعورية.!
لقد تحولت المعرفة حدساً-مع هذه الواقعة الشعورية بأدنى أشكالها. وأصبح الطريق الوحيد للمعرفة –معرفة هذا الشعور- هو المشاركة الصوفية الشخصية للباحث، مشاركته للجمهور المنفعل وجدانه المستحوِذ.
لكن، بالرغم من فساد هذه المنهجية الظاهراتيّة- الشعورية كمنهجية وضعيّة في مقاربة الوضع الراهن للغرب وللأمة العربية معاً، فإنها تشكل علامة على ابتداء حركة "نقد الدين"، أو هي إشارة غامضة وأولية إلى أهمية هذا النقد "كمقدمة لكل نقد آخر" (12).
لا يوجد "في كتاب الفكر الغربي المعاصر" اتصال مباشر بالفكر ورؤية مباشرة للواقع" إلا بمقدار ما نفهم من "المباشرة": أنها المعطى الأولي البسيط والمجرّد، الزائف، في عزلته، كبديل للفكرة. لكن ، "الموضوعي" إذا ما أخذ كلحظة أولى ضرورية من لحظات الكل العيني.
هذه "المباشرة" هي أول مقابلة أو مواجهة للفكر التحديثي مع الأيديولوجيا الدينية السائدة.
إن الصدام مع "الأرض" يتطلب نسيان "السماء"-نسياناً فعالاً-كما يقول "جاك دريدا" في "أطياف ماركس"(13)، أي لا بد من اختراق الفكرة الدينية من أقصاها إلى أقصاها، من ثم ، إعادة صياغتها من وجهة نظر الفكرة الجديدة، أي يجب النزول إلى "العالم السفلي"، عالم الفكرة الدينية. لكن، يجب الانتباه إلى أن "العالم السفلي" لم يعد في باطن الأرض بل أضحى في "السماء".
على هذا الأساس، يتوجب على الفكر العربي الديمقراطي أن يمر بـ"عالمه السفلي"! وأن يخوض صراعاً مع "السماء".
"الفينومينولوجيا" الاجتماعية-عند حسن حنفي- إن هي إلا إشارة إلى بدء الصدام بين فكر تنويري على مستوى التفلسف وبين الأفكار الأكثر سيادة في المنطقة العربية.
إنها كما يقول حسن حنفي: "فترة إعداد الأمة بعد الهزيمة وتحقيق النصر للشعوب".
إن كاتب "في الفكر الغربي المعاصر" وهو يحاول الوقوف عند عتبة العلم، تصيبه عدوى وجدانية تجعله يتماهى شعورياً مع الجمهور العاطفي المتدين، والمنشغل كل الوقت بعاطفته المستحوذة. لهذا فهو يتبنى منهجاً في البحث يسميه "المنهج الشعوري الاجتماعي" : "الذي يقوم بتحليل الظواهر الاجتماعية باعتبارها ظواهر شعورية حية في شعور الباحث".
على هذا الأساس لا يستطيع أي باحث غير متعاطف ، وغير متوحِّد شعورياً مع الجمهور، أن يعالج قضايا هذا الجمهور ومشاكله!
وعلى هذا الأساس ، يتعرف د.حنفي، على قضايا الجمهور ومشاعره وقضاياه "ظواهره" عن طريق الحدس والمشاركة الصوفية ، الحدس الذي يصيبه كوجدان مشترك شاعر.
بهذا الشكل يهبط الفكر ، وتهبط الفكرة عند الباحث ، في حركة مؤسفة ، من النقد الاجتماعي الاقتصادي الجذري إلى مرتبة صورة الوجدان الديني الساذج.
إن غياب أي مسافة أو انزياح بين فكر الباحث (الذي ظهر كشعور ديني فحسب) وبين المشاعر الدينية للجمهور تجعل الباحث منفعلاً، أي أكثر سلبية من السلبية، كما كان بلانشو سيقول، "السلبية" كما توضع مقابل "الفعالية"(14)، تجعله سلبياً أو "محتضراً " -مونويّاً ، نسبة إلى الفيلسوف الوجودي-المسيحي الإسباني- ميغيل دي أونامونو"
ألم يصرح ميغيل دي أونامونو تصريحه الشهير الذي يعلن فيه عن أحد أشكال الكوجيتو المضاد: "أنا أنفعل فأنا إذن موجود"...وأنا أنفعل تعني أنا أحتضر.."هذا في مواجهة كوجيتو البورجوازية الصاعدة (كوجيتو ديكارت) : "أنا أفكر ، أنا إذن موجود" (15).
أقول : بالرغم من فساد هذه "الظاهراتيّة" في مقاربة الوضع العربي المعقد، والوضع الغربي المنحط والمتقهقر، يبقى هذا العرض "في الفكر الغربي المعاصر" لكيفية تعاطي الميتافيزيقيا الغربية مع الدين (المسيحية) اعتباراً من سبينوزا حتى ياسبرز، تبقى ذات مغزى.
يبدأ حسن حنفي كتابه بـ "العقلانية والغرب" لينتهي بـ "العقل والثورة" عند ماركوز..، هذه الحركة الأولى الهابطة من (العقلانية؛ الموضوعية) إلى (العقل؛ الذاتية) متزامنة مع حركة صاعدة مشار إليها حدْسيّاً بعبارة "من التراث إلى الثورة" .وهذا الحدس نراه عند د. طيب تيزيني عبر العنوان الأساسي لمشروعه الفكري: "من التراث إلى الثورة.
من "العقلانية إلى العقل"، إنها حركة تقهقر تاريخي من "الخارجية إلى الداخلية"(16)، ومن الطبقة إلى الفرد، إنه تقهقر الديالكتيك الألماني نحو الظاهراتيّة (كمنهج وضعي- شعوري) ، ونحو الوضعية السيكولوجية (التحليل النفسي) ، وعلوم اللغة. إنه المخطط البياني لحركة الروح البورجوازية في تعاطيها مع التحديات التي واجهتها. وهي المؤشر لانحطاط الطبقة البورجوازية كطبقة عالمية وتقهقر روحها، بالميل أكثر فأكثر إلى تعريف نفسها بشكل جوّانيّ أو إذا شئت بشكل هذيانيّ.
عبر هذا الانحطاط وذاك التقهقر للعقلانية البورجوازية تتخلى هذه البورجوازية عن أكثر نتاجاتها العقلية أصالة ألا وهو الديالكتيك الألماني. لم يعد العقل الأوربي الغربي يتعرف على نفسه بتوسط منتوجاته، بل بات يميل إلى تعريف ذاته صوفياً.
في كتابه السابق الذكر، يستعرض د. حسن حنفي، آراء وأفكار ومواقف فلاسفة أوربيين على درجة كبيرة من الأهمية، آراء ومواقف هؤلاء حول الدين، إنها الحركة الفكرية الأوربية في نقدها للدين وخاصة اللاهوت المسيحي اعتباراً من سبينوزا، مروراً بقاموس فولتير، فالدين في حدود العقل عند كانط، تعريجاً على فلسفة الدين عند هيغل، ثم الدين والرأسمالية عند ماكس فيبر.
بعد ذلك ، يستعرض حسن حنفي آراء اثنين من فلاسفة الظاهراتيّة هما هوسرل وكارل ياسبرز.
تحاول هذه الظاهراتية تجديد السؤال الأنطولوجي (الوجودي العام) ، بعد أن استهلكت الأنطولوجيا وأزيحت إلى التخوم الهامشية في عصر الفلسفة العملية النقدية (praxis)، إن الأنطولوجيا تعود هنا ، في ألمانيا ، للظهور كعلم وضعي، أي كنوع من أنواع الإبستمولوجيا. إنها نوع من أنواع فلسفة عصر الانحطاط البورجوازي.
في (ص261)، وتحت عنوان :"الظاهريات" و"أزمة العلوم الأوربية". يظهر لنا، أن الظاهراتيّة هي تعبير عن أزمة في العلوم الطبيعية ومنهجها المعتمد حتى أواخر القرن التاسع عشر.
بالطبع، لا تستطيع الظاهراتية أن ترى نفسها إلا على شكل حدس، أيضاً، لا يستطيع د.حسن حنفي أن يرى في الظاهراتية سوى "بداية أزمة العلوم الإنسانية وبدء أزمة الضمير الأوربي نفسه" (17). بينما اطمأن [هوسرل] إلى أنه عثر في النهاية [بعد أن أسس الفينومينولوجيا] على هذا العلم الشامل[؟] الذي طالما راود الفلاسفة الأوربيين"(18).
إن هوسرل – ومعه د.حسن حنفي يرى أن "الظاهرة الإنسانية ليست كالظاهرة الطبيعية"(19).."وأن الظاهرة الاجتماعية ليست شيئاً ملموساً يقاس كماً"(20). إن هذه التصريحات التي تحمل شيئاً من المعنى والحقيقة إذا أخذت على مستوى الفرد، تقف في مواجهة الفهم الموضوعي للتاريخ (فهم التاريخ كقانون اجتماعي/ تاريخي) . يكتب ماركس: "وأنا أنظر إلى تطور التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية كما إلى عملية تاريخية طبيعية ، ولذلك فمن وجهة نظري يمكن إلى درجة أقل من أية وجهة نظر أخرى اعتبار الفرد مسؤولاً عن تلك الظروف التي يبقى هو نفسه ناتجاً لها من حيث المغزى الاجتماعي، مهما ارتفع فوقها ذاتياً"(21).
لا يستطيع د.حسن حنفي أن يرى في الظاهراتية هذا التقهقر من الطبقة إلى الفرد ، ومن الموضوعية إلى الذاتية. لا يستطيع أن يرى فيها [الظاهراتية (الفينومينولوجيا)]، في آخر تحليل، تعبيراً فلسفياً عن انحطاط الطبقة البورجوازية وتقهقرها مخالطة إلى حد ما مع انحطاط نقيضها التاريخي انحطاطاً إيديولوجياً وسياسياً كبروفا أولية . كما أن هذا الفهم يقوم بحركة إرجاعية ذات طابع وضعي بحيث يرجع العلم الاجتماعي التاريخي إلى درجة العلوم الطبيعية محاولاً إخضاع العلم الاجتماعي/ التاريخي لمقاييس تلك العلوم الطبيعية . وهذه الحركة الإرجاعية من الديالكتيك إلى الوضعية العلموية والتقنوية كان كرس لها كارل بوبر جل جهده في حركة نقدية مفتعلة ، أو في قول يمجد النقد ظاهراً ويعادي النقد الجذري القائم على الديالكتيك والمناهض للفلسفة الوضعية باطناً.
لا تستطيع "الفينومينولوجيا" (الظاهراتية) رؤية هذا التحول من فلسفة النفي إلى الفلسفة الوضعية."والفلسفة الوضعية على نقيض الفلسفة النافية: الأولى تبرر والثانية تنفي، الأولى تثبت الأوضاع القائمة ، والثانية تنفي الأوضاع القائمة. الأولى أساس كل فلسفة رجعية والثانية شرط كل فكر تقدمي"(22).
في استعراضه للفكر الغربي المعاصر، وموقف هذا الفكر من الدين، اعتباراً من اسبينوزا، يعرج د.حسن حنفي على أفكار وآراء الوجودي-المسيحي الإسباني "ميغيل دو أونامونو". يقول د.حنفي: "إذا كان ديكارت قد قال من قبل" أنا أفكر ، فأنا إذن موجود" فإن "أونامونو" يرد عليه قائلاً: "أنا أنفعل ، فأنا إذن موجود". وأنا أنفعل تعني، أنا أصارع، أنا أحتضر، أي أنه يستمر [يعيد إنتاج] فيما قاله كيركيغارد من قبل [ما قاله هذا الوجودي-المسيحي الدانماركي]: "أنا أفكر أنا إذن غير موجود، أو أنا موجود فأنا إذن لا أفكر"(23) وإذا شئتم أقول: أنا أفكر ، فأنا إذن أهلوس.
يشير هذا الكوجيتو المضاد إلى الحركة الأوربية الغربية اعتباراً من "حضور" الأنا البورجوازية البديهي عند فجر صعود الطبقة إلى انحلال هذه الأنا وتفككها زمن انحطاط الطبقة العالمي وتقهقر التاريخ.
إن المسيرة من العقلانية الغربية إلى العقل الغربي، من أنا أفكر، فأنا إذن موجود، إلى أنا أحتضر، فأنا إذن موجود. هذه المسيرة هي المسافة بين الحضور والاحتضار، من ثم الهذيان لأنا بورجوازية منحلة وآفلة.
يقول د.حسن حنفي: "لقد أصبح الانفعال [الاحتضار] عند أونامونو إله القرن العشرين"(24) إن الاستعراض الذي يقدمه حسن حنفي في "الفكر الغربي المعاصر" يشير إلى أن سيرورة "نقد الدين" التي بدأت في أوربا لم تنته بعد. صحيح أن "نقد الدين قد انتهى من حيث الجوهر بالنسبة لألمانيا"(25) –بالرغم من ظهور وجوديات ألمانية بين الحربين، وبالرغم من محاولة هايدغر تجديد السؤال الأنطولوجي (الوجودي العام ). إلا أن هذا النقد لم ينته بالنسبة لقوميات أخرى، ومنها الحركة القومية العربية-هذا إذا قلنا : أنه بالكاد يبدأ. إن استعراضنا النقدي السابق يشير إلى أن "نقد الدين" ما يزال في بدايته بالنسبة لحركة القومية العربية، وإن استكمال هذا النقد سوف يكون من مهام المفكرين العرب الديمقراطيين.
فإذا أخذنا بالاعتبار أن"نقد الدين هو مقدمة لكل نقد آخر"، وإذا اعتبرنا أن هذا النقد "لم يخلع عن السلاسل الزهور الزائفة التي تزينها لكي تواصل البشرية حمل هذه السلاسل في شكلها الخالي من كل فرح ومتعة، بل لكي تخلع السلاسل وتمد يدها للزهرة الحية"(26).
إذا اعتبرنا كل هذا ، يكون الفكر العربي الديمقراطي بدأ يتلمس طريقاً طويلة وشاقة، لكن مع كل هذا ، تبقى طريقاً أصيلة.
هنا "على عتبة العلم كما في مدخل الجحيم" (27). تأتي هذه المقالة لتقدم إسهاماً عند ذلك المدخل، إسهاماً أرجو أن يكون ذا مغزى، المدينة تأبه له حيثما سقط، إسهاماً في المسيرة العربية الطويلة. وهنا على عتبة العلم ، كما في مدخل الجحيم، يفرض [جزء] من هذا الالتزام نفسه، ألا "فليزل، هنا كل خوف"(28).

الهوامش والمراجع:
(1) "كتاب الأمالي" للعالم الكبير أبي علي إسماعيل بن القاسم –منشورات المكتب الإسلامي. من دون تاريخ. ص(28)
(2) "القاموس المحيط" تأليف العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي.
تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف محمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة .الطبعة الخامسة 1996. ص(412)
(3) "كتاب الأمالي"- مرجع سابق. ص(6). سورة التوبة /37
(4) "كتاب الأمالي" –مرجع سابق. ص(6)
(5) "أدب الكاتب" تأليف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة". حققه وعلق حواشيه ووضع فهارسه محمد الدالي. مؤسسة الرسالة.الطبعة الثانية 1985. ص 120-123 ص414-415
(6) "القاموس المحيط"-مرجع سابق... ص1692. ص412
(7) "القاموس المحيط" –مرجع سابق.ص...412
(8) د.حسن حنفي "في الفكر الغربي المعاصر".الطبعة الأولى 1982. دار التنوير للطباعة والنشر.
(9) هيغل "موسوعة العلوم الفلسفية"-المجلد الأول-الطبعة الأولى 1983. ترجمة وتقديم وتعليق.د.إمام عبد الفتاح إمام. دار التنوير للطباعة والنشر.ص (83)
(10) هيغل-مرجع سابق.ص(83)
(11) هيغل-مرجع سابق.ص ص (83-84).
(12) ماركس-أنجلز "منتخبات في (15) مجلداً. المجلد (1). ترجمة الياس شاهين. دار التقدم.1988. ص(43). أخذت المقتطفات من "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل" –المقدمة-ماركس.
(13) جاك دريدا "أطياف ماركس" .ترجمة د.منذر عياشي. دار الحاسوب للطباعة-حلب-الطبعة الأولى 1995.
(14) جاك دريدا "الكتابة والاختلاف" –ترجمة كاظم جهاد .تقديم علال محمد سيناصر. دار توبقال-الدار البيضاء-الطبعة الأولى 1988.ص(61).
(15) د.حسن حنفي-مرجع سابق.ص(306).
(16) راجع "جان بول سارتر"الماركسية والوجودية"-ترجمة جورج طرابيشي. دار اليقظة العربية 1964. ص (101).
(19و18) د.حسن حنفي-مرجع سابق.ص(261).
(19و20) د.حسن حنفي-مرجع سابق.ص(262).
(21) كارل ماركس "رأس المال" .ترجمة الدكتور فهد كم نقش. دار التقدم 1985. ص(15).
(22) د.حسن حنفي-مرجع سابق. ص (433).
(23) د.حسن حنفي-مرجع سابق. ص ص(306-307).
(24) د.حسن حنفي-مرجع سابق. ص(307).
(25) ماركس-منتخبات-مرجع سابق.ص(43).
(26) ماركس-منتخبات-مرجع سابق.ص (44).
(27) ماركس "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي" ترجمة أنطوان حمصي-منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي. دمشق 1970. ص(28).
(28) ماركس "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي"-مرجع سابق.ص(28).
* يكتب جاك ديريدا : "إن الأنطولوجيا لن تعترض إلا من خلال حركة تعزيمية .ذلك لأن الأنطولوجيا هي تعزيم" "أطياف ماركس".ص(297).
حدث هذا بعد ظهور الهيغلية ومعها الديالكتيك الألماني وتكرست هذه الحركة الفلسفية مع ظهور النقد الاجتماعي /التاريخي الجذري الماركسي وفلسفة البّراكسيس(الممارسة)