مستقبل العلمانية والحداثة في الشرق الأوسط

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4849 - 2015 / 6 / 26 - 00:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في خلال سنوات قليلة شهدت منطقة الشرق الوسط تطورات لم يتوقعها أي من المحللين أو مراكز الأبحاث السياسية في العالم، حيث توارى عدد من اللاعبين الاساسيين في المنطقة مثل مصر والعراق وسوريا وحل محلهم لاعبين كانوا دائماً على مقعد الاحتياطي وهم السعودية وإيران وتركيا وإذا ما أضفنا اسرائيل ذات الحضور الدائم إلى هؤلاء فإن مصير المنطقة وتوجهها العقائدي والفكري لسنوات طويلة قادمة أصبح مرتبطاً بنتائج الصراعات والتحالفات المتناقضة بين هؤلاء الأربعة خاصة مع توجه الولايات المتحدة إلى الابتعاد التدريجي عنها.

ولابد أن نتذكر دائما أن هوية اللاعبين المعتزلين – مصر وسوريا والعراق – كانت في الأصل علمانية اشتراكية مقابل هوية دينية كاذبة للاعبين الجدد وشيوخهم الذين يدعون شعوبهم للسماء وهم يتشبثون بالأرض وخيراتها كما سوف نوضح.

خلفية تاريخية سريعة

مع تولي مبارك الحكم بدأ نجم مصر في الأفول حيث قادها الى مستنقع الفساد وحولها من دولة الى عزبة خاصة به وأسرته وأصدقاءه أو ما نطلق عليه بالإنجليزية Crony Capitalism” “وعندما اندلعت ثورة شعبها في يناير 2011 انتعشت الآمال في ان تخرج مصر من مستنقع مبارك وتقود المنطقة الى نموذج دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولكن سرعان ما نجح جيشها بدعم من مؤسسات مبارك العتيقة ودول الخليج في قمع الثورة بشكل عنيف وحاسم وساعد الجيش على هذا النجاح الباهر رعونة وعدم خبرة الإخوان المسلمين في مصر.
والآن تنكفئ مصر على مشاكلها الاقتصادية المعقدة والصعبة الحل والتي حولتها الى لاعب احتياطي يستجدي العطاء من دول الخليج مقابل ان يلعب اي دور يطلب منه.

أما العراق فقد نجحت امريكا بعد اختفاء صدام حسين عن الساحة في تحويله الى دولة فاشلة وساحة للفوضى والخراب. وعندما نذكر مصطلح العراق الان فإنه ينبغي أن نحدد عن أي عراق نتحدث، عراق الأكراد أم عراق الشيعة أم عراق داعش.
وقد ادى غياب العراق عن الساحة الى بزوغ نجم إيران وتمددها في المنطقة العربية بشكل غير مسبوق.

أما سوريا فقد تحولت هي الأخرى إلى دولة فاشلة بفضل عدم مرونة وتصلب الأسد ولجؤه إلى العنف المفرط في التعامل مع المظاهرات الشعبية السلمية التي اندلعت ضد نظام حكمه الاستبدادي والفاسد واصراره على البقاء في الحكم ضد إرادة الأغلبية حتى ولو كان الثمن تدمير سوريا وتفكيكها إلى دويلات صغيرة وتشريد شعبها الطيب صاحب واحدة من أقدم وأرقى الحضارات.

وكما ذكرنا سابقا فأن هوية الدول الثلاث كانت في الأصل علمانية اشتراكية وهي في هذا تتناقض تماما مع الهوية الدينية الأصولية للسعودية الوهابية السنية وإيران الشيعية وإسرائيل اليهودية "وإن كانت علمانية الطابع" وتركيا التي كانت علمانية الطابع أيضا ولكنها الآن وفي ظل نظام أردوجان تلتفت إلى الماضي وتراودها أحلام بعث الخلافة العثمانية من جديد كما ورد في تلميحات الرئيس أردوغان قبل انتكاسته الانتخابية.
وينبغي هنا التأكيد على أن مشاريع هذه الدول دينية سياسية بامتياز بمعنى أن أنظمتها تستخدم الدين كواجهة تخفي وراءها مصالح دنيوية بحتة.

وللأسف فإن سقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل سندا قويا للاعبين القدامى وانفراد الولايات المتحدة بعملية التحكيم في المنطقة أدى إلى زيادة قوة ونفوذ حلفائها التقليديين في المنطقة ممثلين في السعودية ومن ورائها دول الخليج وبالطبع إسرائيل. وفي المقابل تم شغل العراق بحرب طويلة مع إيران لم تسفر عن أي شيء سوى إنهاك الخصمين وهو ما يصب في صالح دول الخليج وإسرائيل في النهاية.
كما نجحت أمريكا في إخراج مصر من معسكر الاتحاد السوفيتي وتطبيع علاقاتها مع إسرائيل مقابل استعادتها لسيناء المحتلة.

ونتج عن كل هذه التطورات السريعة انهيار منظومة العلمانية والتوجهات الاشتراكية والعروبية في المنطقة، وكذلك لم تعد القضية الفلسطينية تمثل أولوية في أجندة الدول العربية وتحولت إلى مسألة علاقات عامة خاصة بعد ارتكاب ياسر عرفات خطأ جسيما بتأييده صدام حسين بعد غزوه للكويت. ولان عرفات كان محسوبا على التيار الاشتراكي العلماني فقد بدأ يعاني هو الاخر وحركته "فتح" من تبعات انهيار الاتحاد السوفيتي وبات منبوذا من كل الأطراف.
وهذا ما دعا حركة حماس الى الانفصال بقطاع غزة عن حركة فتح وتبني منظومة دينية في كفاحها ضد الحصار الإسرائيلي عسى ان تجد في الجماهير العربية الإسلامية سندا لها وكان هذا التوجه واضحاً جداً في خلال العام اليتيم الذي امضته حركة الإخوان المسلمين في حكم مصر ولكن سرعان ما عاد الحصار الصارم على الحركة وقطاع غزة بعد الانقلاب العسكري ضد مرسي وجماعته.

وبشكل عام يمكن القول ان سقوط الاتحاد السوفيتي كداعم اساسي لكل الحركات الاشتراكية والتحرر من النفوذ الغربي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص لم يترك بديلاَ امام هذه الحركات سوى ارتداء عبأة الإسلام كآلية لتحقيق نوع من الزخم الشعبي والتعبوي وقد نشا تنظيم القاعدة على هذا الأساس أي اللعب على وتر الدين وتحدي أمريكا والنظم الرجعية في المنطقة العربية املاً في التفاف المسلمين حوله.

ثم جاءت داعش أو التنظيم الإسلامي ليكون أكثر مهارة من تنظيم القاعدة حيث نجح في وضع هذا الزخم في إطار تاريخي ممثلاً في الإسلام في قمة نجاحه في عصر الخلافة الإسلامية والإلحاح على أن الخلافة هي النموذج الوحيد للخلاص من الظلم الاجتماعي والفقر والفساد الذي يتعرض له المسلمون في العالم.

داعش والقوى الإقليمية الجديدة في المنطقة

اسرائيل والسعودية

اسرائيل تتابع تحركات داعش باهتمام وهناك تنسيق خفي بينها وبين السعودية ودول الخليج والولايات المتحدة للتدخل بقوة في لحظة معينة ضد داعش إذا ما قررت الأخيرة على سبيل المثال مهاجمة السعودية تحت شعار تحرير الحرمين الشريفين في كل من مكة والمدينة من الأسرة المالكة ولكن يبدو أن هذا الهدف ليس في أجندة داعش الآن التي تركز عملياتها في كل من سوريا والعراق.

ولذلك فإن البند الأول في أجندة حلف اسرائيل والسعودية الآن هو احتواء البرنامج النووي الإيراني ووقف تمدد النفوذ الإيراني في دول الخليج واليمن ولبنان وكما أسلفنا فإن هذا البند أهم بكثير من تحركات داعش في العراق وسوريا والذي تسعى الولايات المتحدة مع عراق الأكراد وعراق الشيعة لوقفه من خلال الضربات الجوية والعمليات البرية في مقابل تركيز السعودية على ضرب الحوثيين في اليمن لدرء خطر التمدد الشيعي الى داخل السعودية نفسها.

ولكن الغريب في الأمر ان السعودية تسعى في ذات الوقت الى اسقاط نظام الأسد في سوريا رغم عدم موافقة اسرائيل على أساس أن نظام الأسد أقل خطورة من تنظيم داعش الذي يمكن أن يمثل خطراً مباشراَ على اسرائيل في حال تمكنه من تحقيق نوعاَ من التحالف مع جبهة النصرة والسيطرة على سوريا بالكامل.

والسعودية تتناقض مع إسرائيل في هذا حيث ترى أن إيران والشيعة في العراق واليمن ولبنان والبحرين وداخل السعودية نفسها يمثلون أكبر خطر يهدد استقرارها وترى أن داعش السنية تقوم حالياً بتقديم خدمات جليلة لها من خلال ضغطها على الشيعة في كل العراق ولبنان وحزب الله، وعلى ما يبدو فإنها ترى أيضاً أن قيامها بقصف داعش جوياً كما تفعل في اليمن يعني بشكل تلقائي دعما غير مباشر للشيعة وهو ما تحاول السعودية تجنبه.

ولكننا نرى أن تأجيل مواجهة خطر داعش ربما يكلف السعودية الكثير لاحقاَ.

تركيا

تسعى تركيا منذ بداية الثورة الشعبية في سوريا في عام 2011 إلى اسقاط نظام الأسد وهناك اتهامات في الغرب لتركيا بأنها تدعم داعش بالأسلحة من أجل القيام بمهمة القضاء على الأسد نيابة عنها وبالطبع فإن تركيا تنفي هذا الاتهام الذي لا يمكن استبعاده كلياَ وإلا فمن أين تأتي داعش بكل هذه الأسلحة والذخيرة على جبهتين كبيرتين كسوريا والعراق ولا ينبغي أن ننسى هنا أن داعش تقوم أيضاً بخدمات جليلة لتركيا من خلال مواجهتها مع الأكراد الذين يسببون صداعاَ دائماَ لتركيا ويخططون لدولة مستقلة.

وتلتقي تركيا في هدف القضاء على نظام الأسد مع السعودية باعتبار أن نظام الأسد حليف لكل من إيران وحزب الله. وكما هو معلن فإن هناك لقاءات دائمة وتنسيق بين تركيا والسعودية والذي من خلاله بدأت تركيا في إفساد العلاقة بين السعودية ونظام السيسي في مصر الذي تعاديه تركيا وتدعمه السعودية بحرص.

بالإضافة الى هذا فإن الشعار المشترك بين داعش وتركيا هو احياء الخلافة الإسلامية كل على طريقته ومن ثم فإنه ليس من المستبعد أن يكون لتركيا طموحات اقليمية من خلال اسقاط نظام الأسد عن طريق داعش على اساس أنه سيكون بمقدور تركيا ومعها السعودية السيطرة على داعش والتنسيق معها من أجل احياء مشروع الخلافة الإسلامية بهوية تركية عثمانية وبدعم من السعودية ورغم صعوبة تصور هذا السيناريو إلا أنه لا يمكن استبعاده بالكامل.

إيران

منذ ثورتها ضد الشاه وتثبيت حكم الملالي الشيعي وإيران تعاني من عزلة قاتلة من جيرانها العرب وعقوبات اقتصادية من الغرب ولذلك سعت بهمة لامتلاك التقنيات النووية كنوع من التهديد لإسرائيل الحليف الأول لأمريكا في المنطقة بغرض إجبار الأخيرة على الجلوس على مائدة التفاوض ورفع العقوبات.
وفي ذات الوقت تعمل إيران في ظروف صعبة على دعم علاقاتها مع كل الأقليات الشيعية في العالم العربي.

ويمثل تصديق إسرائيل لفكرة أن إيران يمكن أن تهاجمها يوما بالأسلحة النووية أما نوعا من الغباء الشديد لساسة إسرائيل لا نه ليس من المنطقي أن تقوم إيران بمثل هذا الهجوم الذي لن يفيدها في شيء بل انه سيعرضها لمخاطر جمة من كل من إسرائيل وأمريكا والغرب، وإما أن إسرائيل تسعي لتوريط أمريكا في صراع مع إيران بإيعاز من السعودية ودول الخليج التي تقلق بالفعل من تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة.
المهم أن إيران نجحت أخيرا في فتح باب الحوار مع الغرب من خلال برنامجها النووي وهي في سبيلها للنجاح في رفع العقوبات عنها وتطبيع علاقاتها مع الغرب وهذا ما يقلق عرب الخليج كثيرا.

أما بالنسبة لموقف إيران من داعش فأنها بالفعل قلقة بشدة من احتمال انهيار كل من العراق وسوريا لصالح هذا التنظيم السني المتطرف والذي يمكن أن يتحالف بشكل ما مع تركيا المنافس التاريخي والرئيسي لإيران في مسعى بسط النفوذ على الجزء العربي الأسيوي ولذلك تكثف إيران من دعمها للشيعة في العراق الذين يحاولون وقف تغلغل داعش داخل الأراضي العراقية بكل الطرق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل من إيران وتركيا ليسا من أصل عربي ولا يكنان أي نوع من الاحترام للعرب شأنهما شأن معظم دول العالم.

ومع وجود رغبة قوية لدى الولايات المتحدة في الابتعاد التدريجي عن منطقة الخليج العربي خاصة بعد تمكنها من توفير 90% من احتياجاتها من الطاقة من خلال البترول والغاز الصخري المنتج داخل أراضيها، فإن كل من إيران وتركيا سيظلان في حالة تعاون معها كل على طريقته سعيا لوراثة النفوذ الأمريكي في المنطقة.

والخلاصة فإن منطقة الشرق الأوسط يتوقع لها أن تشهد المزيد من التطورات والصراعات وسيظل العرب في موقع المفعول به والاكتفاء بردود الأفعال كما كانوا دائما والسبب في هذا عدم نجاحهم في التخلص من الانتماءات القبلية والعرقية وتراجع مفهوم وقيم الدولة الوطنية لديهم نتيجة تخلف البنيان الحضاري والثقافي.
والمفارقة المحزنة هنا تتمثل في أنه في الوقت الذي يتجه فيه كل العالم شرقه وغربه إلى مرحلة ما بعد الحداثة يتجه العرب إلى الماضي وعالم الاساطير والدجل والدروشة والشعوذة واحياء الموتى. بالإضافة إلى معادتهم بكل ما اوتوا من قوة وتخلف لقيم الحداثة والعلمانية التي كانت السبب في تقدم أوروبا وتخلصها من سطوة وفساد الكنيسة وهو ما أطلق العنان لحرية الانسان الأوربي واحترام حقوقه الاساسية في الاختيار وحرية التعبير والمساوة في الحقوق والواجبات.
ان ميلاد عصر النهضة ثم الثورة الصناعية في أوروبا التي غيرت العالم إنجازات لم تكن وليدة الصدفة وانما كانت نتيجة البيئية الإبداعية المواتية التي وفرتها العلمانية والتخلص من النفوذ السياسي للكنيسة.

وبالرغم من كل جهود الكتاب والمفكرين العلمانيين والجهود التنويرية لموقع الحوار المتمدن لبيان ان العلمانية لا تعني الغاء الدين من المجتمع أو تحريمه على الناس وانما فقط فصل الدين عن السياسة ومنع استغلاله لتحقيق مكاسب سياسية أو الهيمنة على البسطاء والاحتيال عليهم والسطو على مقدرات البلاد والعباد ثم تدميرها تحت راية الاسلام التي يتحول لونها الآن إلى اللون الأسود لون الموت والخراب وعلامة احتضار كل مفاهيم ومبادئ الحداثة وحقوق الانسان في هذه المنطقة التعيسة.

وفي النهاية يمكننا القول بانه أيا كانت محصلة الصراع بين القوى الجديدة المتحاربة في الشرق الاوسط فإن النتيجة معروفة سلفا حيث تتفق هذه الأنظمة على شيء واحد فقط وهو العداء للعلمانية والديموقراطية وكل مكتسبات الحداثة وحقوق الانسان العربي الذي لا عزاء له وما عليه الآن سوى التمتع بكل ما هو سيئ قبل أن يأتي الأسوأ.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري