مراجعات و أفكار -٣

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6811 - 2021 / 2 / 11 - 23:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قرأت ‏مؤخرا عدة مقالات على موقع الحوار وكنت أود أن أعلق عليها بشكل مباشر ولكن لمعرفتي السابقة برد الفعل العنيف والشتائم التي قد نتعرض لها دون داع من قبل الزملاء المركسيين كتاب تلك المقالات فقد رأيت أن أعلق عليها على صفحتي دون ذكر أسماء الكتاب حتى نبتعد عن شخصنة الموضوع لأن ‏هدفنا في النهاية هو توضيح الحقائق من خلال ما هو حاصل بالفعل في واقعنا المعاش وفيما يلي نقد هادئ ومفتوح للحوار دون شتائم للفكرة الرئيسية في المقالات المشار إليها:

‏1. مقال عن انتهاء عصر الاقتصاد السياسي

‏رأى كاتب المقال أن الاقتصاد فصل عمدا عن السياسة وهو ما يصب في مصلحة الرأسمالية بشكل او آخر والحقيقة الأولى أن علم الاقتصاد السياسي لا زال قائما ويدرس في كل جامعات العالم والحقيقة الأخرى والتي لا تحتمل الكثير من الجدل أن السياسة والاقتصاد لا يمكن ‏فصلهما عن بعضهما البعض ولم يحدث هذا عبر تاريخ الفكر الاقتصادي والسبب بسيط وبديهي وهو أن علم الاقتصاد السياسي منذ نشأته يبحث في كيفية تراكم ثروات ‏الأمم ونظام توزيعها بين القطاعات الاقتصادية المختلفة وكيفية تنميتها ودور الأسواق والتخطيط و السياسات النقدية والمالية في هذا، كما يبحث في تاثير التشريعات والقوانين السائدة على الإنتاجية والتوظيف ودور الاتفاقات التجارية والمعاهدات الدولية المنظمة لها ومدى تأثيرها على مستوى رفاهة المجتمع.
كما أن السياسات الخارجية والعلاقات الثنائية والتحالفات الدولية التي تتوجه لها كل دول العالم تهدف بالأساس إلى تبادل المنافع الاقتصادية بين الدول والاقتصاد السياسي هو العامل الحاسم في تصميم ودعم هذه العلاقات. ومن ثم فإن مقولة أن الاقتصاد قد تم فصله عن السياسة لا يعبر عن الحقيقة والواقع كما نرى جميعا. ولعلي أنتهز فرصة التحدث عن تطور علم الاقتصاد لبيان تطور آخر حصل عبر الخمسين عاما الماضية وهو تحول هذا العلم من علم إنساني إلى علم رياضي ‏حيث كان يتعين علينا ونحن في المرحلة الجامعية ومرحلة الدراسات العليا أن ندرس مواد الاقتصاد الرياضي والقياسي وأصبحت الدراسة التمهيدية للرياضيات خاصة التفاضل والتكامل ومعادلات المنحنيات والمصفوفات والمحددات والجبر والإحصاء شرطا للتسجيل في أي دراسات عليا في كل الجامعات الغربية. ونتيجة لهذا التوجه أصبح علم الاقتصاد السياسي ‏يعرف بشكل مختصر بعلم الاقتصاد كمحاولة لتقديمه وكأنه علم مستقل عن السياسة ولا يتأثر بها ولكن الفروع العديدة للاقتصاد التطبيقي مثل اقتصاديات التنمية والبترول والصناعة والنقل والزراعة والتخطيط والحسابات القومية والمالية العامة والتجارة الخارجية إلى آخره والتي تشكل لب علم الاقتصاد على المستوى الكلي والجزئي تبين مدى ارتباطه بالسياسة وحركة المجتمع والعالم.

٢. ‏مقال عن الحلول الماركسية للأزمات المعاصرة

وكان ‏هذا مقالا طويلا وقد علق عليه الزميل عبد الحسين سلمان حيث بين أخطاء وركاكة الترجمة، ومن ناحيتي فقد لاحظت أن المقال لم يتعرض لأي من الأزمات الكبيرة والمعاصرة التي توقعت أن يتعامل معها والتي تشغل الاقتصاديين والساسة عبر العالم ومن أهمها اقتصاديات البيئة والتلوث والتغير المناخي والأوبئة ومشكلة توجه العديد من الدول إلى إنتاج الأسلحة النووية والكيميائية ومخاطر استخدامها على الحياة في كوكبنا المنهك، ومشكلة الفجوة المتزايدة للدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء والتي أحب دائما أن أضيف ‏إليها فجوات أخرى لا تقل أهمية وهي فجوات نوعية الخدمات المقدمة لكل من الأغنياء والفقراء في قطاعات التعليم والصحة والإسكان وخدمات التقنية الحديثة حيث انه معظم الاقتصاديين يركزون على فجوتي الدخل والثروة فقط. وكلنا شاهد على الفوارق الكبيرة في نوعية االخدمات المقدمة لكل من الأغنياء والفقراء في هذه القطاعات الحيوية. ومن المشاكل الهامة الأخرى السياسات النقدية والمالية المتطرفة ‏المتبعة حاليا والتي تقودها كل من الولايات المتحدة والصين والمجموعة الأوروبية وأضيف إلى هذا بعض سياسات العولمة المتبعة حاليا. وقد كتبت من قبل في كل هذه المشاكل على موقع الحوار وبينت ما تتضمنه من سلبيات وتحيزات ذات مخاطر عديدة على الفقراء والاقتصاد العالمي ككل. والحقيقة أن المقال المشار إليه لم يتعرض لأي من هذه المشاكل المعاصرة وبالتالي لم يقدم أي حلول أو مقترحات لها وبدلا من هذا تحدث عن قضايا قديمة فقدت صلاحيتها منذ زمن. وبالطبع لا يمكن أن يتوقع أي عاقل أن يتعرض ماركس لهذه المشاكل التي لم يعاصرها، فلا يمكن للمرء أن يسعى لحل مشكلة غير موجودة. والخلاصة أن عنوان المقال كان مخادعا وليس له علاقة بمحتوى المقال، ‏وقد أردت أن أنبه لهذا كما فعلا بعض الزملاء. وأود هنا أن أشكر كل الأخوة الزملاء من الكتاب والمعلقين الذين لا يترددون في تصحيح ما يقع من أخطاء في بعض المقالات بالرغم ما يتعرضون له من شتائم من البعض كما سوف أوضح في الفقرة التالية.

٣. مقال ‏آخر ذو محتوى غير واضح سوى الشتائم

لا أدري ‏لماذا يلجأ بعض الأخوة الماركسيين إلى كل هذا العنف في كتاباتهم وتعليقاتهم وهم يذكرونني دائما بخطباء صلاة الجمعة الذين يرفعون أصواتهم بشكل مخيف اعتقادا بأن الناس سوف تفهم بشكل الأفضل عندما يصرخون في المايكروفونات بصوت جهوري مهددين الناس بكل أنواع العذاب. المقال الذي أشير إليه ‏وجه فيه صاحبه كل انواع الإهانات والامتهانات لكل الكتاب والمعلقين المخالفين لتوجهاته الماركسية وهذه بالضبط احد سمات العقل الأيديولوجي والديني الذي كتبنا عنهما كثيرا ومن أسؤها عدم الإيمان بالاختلاف والقناعة الزائفة بأنهما وحدهما على حق وأن الحقيقة حكرا عليهما وأن باقي الناس لا يفهمون ولا يستحقون سوى الشتائم. ‏والكاتب المحترم يكن كراهية غير عادية للغرب وبالذات أمريكا ولأن الكراهية تسمى عمياء لأنها تعمي البصيرة فإن زميلنا المحترم يهاجم الرئيس الأمريكي الجديد بايدن ويقول إن لا فرق بين الديمقراطيين والجمهوريين وأنهما وجهان لعملة واحدةء. وعلى ما يبدو فإنه لم يتابع ما فعله بايدن في أول أسبوعين من رئاسته حيث ألغى الكثير من التشريعات ‏التي أصدرها سلفه ترامب ومنها أنه أعاد أمريكا إلى اتفاق باريس الذي يهدف إلى حماية كوكبنا من التلوث والانبعاث الحراري الذي بات يهدد أجيال المستقبل والحياة على الأرض، كما أعاد عضوية أمريكا في منظمة الصحة العالمية وهذا شيء طيب للعالم كله خاصة في هذه الأيام باعتبار أن أمريكا أكبر مساهم في ميزانيتها، كما ألغي بايدن ‏الكثير من القيود المفروضة على الهجرة إلى أمريكا وهو يسعى إلى تحسين علاقاتها بالصين وبالعالم كله والتي دمرها سلفه ترامب بسياساته العدوانية ضد الجميع كما أنه إعاد فتح مكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن والأخوة الفلسطينيين سعداء بهذا التطور الإيجابي، كما قام بوقف إمدادات الأسلحة إلى السعوديه تمهيدا للعمل على وقف الحرب غير الإنسانية التي تدور في اليمن منذ سنوات والعرب يكتفون بالمشاهدة. والخلاصة أن العالم كله يستبشر خيرا بمجيء بايدن ماعدا صاحبنا. لسنا متضررين في شيء من كل هذا التشاؤم ونحن نحترم قناعات الكتاب الماركسيين ولا نشكك في سعة اطلاعهم وثقافتهم ولكننا نتساءل عن أسباب هذه الرغبة المريضة في فرض قناعاتهم على الآخرين والبديل توجيه الشتائم والإهانات! أما آن الأوان لغلق ما أسميه بمدرسة إما أن أقنعك أو أشتمك؟
ويبدو أنه لا أمل في هذا ولكن ما ‏يسعدني حقا ويسعد كل كتاب وقراء وإدارة الحوار المتمدن هو التوجه الواضح لغالبية القراء لمقاطعة هذه النوعية من الكتاب العدوانيين وقلة الإقبال على مقالاتهم أصبحت واضحة، وبهذا نكون قد نجحنا في تطبيق رسالة مؤسسي هذا المنتدى العلمي والثقافي بأن يكون الحوار متمدنا. وأخيرا أود أن أؤكد هنا لكل الزملاء الماركسيين أننا لا نكن أي عداوة ‏أو كراهية لماركس وكتاباتنا تشهد بهذا وقد أكدت أكثر من مرة إنني من محبي فلسفة ماركس وكفاحه من أجل رفع الظلم عن العمال ولكنني في ذات الوقت ذكرت أن أفكار ماركس الاقتصادية لا يمكن تطبيقها لأنها تتناقض مع طبيعة النفس البشرية وناموس الكون وبينت وكذلك فعل الكثير من الكتاب والمعلقين أسباب هذا في مقالات وحوارات عديدة على الموقع تقوم على النقد البناء وطرح أسئلة منطقية دون شتائم. وبالطبع يمكن لأي أحد أن يشكك في نقدنا ولكن هل يمكن أن يشكك إحد في حقيقةً أن التجربة الماركسية بكل أشكالها فشلت بشكلٍ مأساوي في كل الدول التي اعتنقتها وعلى رأسها الصين وروسيا وجمهورياتها وكل دول حلف وارسو؟ وهل يمكن أن ينكر أحد أن كل هذه الدول هرولت عائدة للرأسمالية؟ ولا يعني كلامنا أن الرسمالية مثالية وبلا عيوب لأننا نكتب أيضا في نقد الراسمالية وسبل اصلاحها ومقالاتنا في نقد النظام النقدي والمالي العالمي تشهد بهذا ولكن لازالت الرأسمالية حتى هذه اللحظة أفضل بمراحل من الماركسية المغلقة والاستبدادية.

الأفكار
1.من التبعات الهامة التي أتت بها جائحة الكورونا في العام الماضي حدوث أول مواجهة مباشرة بين الأديان والعلم حيث أوصى علماء الطب بضرورة غلق كل دور العبادة على مستوى العالم لحماية الناس ووقف انتشار المرض وتم الغلق لأشهر طويلة. والمدهش هنا أن غالبية رجال الدين تقبلوا هذا الإجراء وحثوا أتباعهم على ضرورة الالتزام بتعاليم العلم. رفض المتشددون فقط في كل الاديان هذه التوصيات ‏ولجؤا إلى المحاكم والعرائض ولكنها لم تجد، وبحسب قناعاتهم الدينية فإن الآلهة قادرة على حماية المخلصين من أتباعها ضد أي جائحة وضد أي شر وانه من الكفر والعار أن يستمع الناس إلى نصائح العلم ويتجاهلون القدرات اللا محدودة لأرباب الأديان ‏والتوقف عن الصلاة والدعاء في دور العبادة من مساجد وكنائس ومعابد إلى آخره. وحتى الآن لا زال الكثير من المتشددين يرون أن الفشل في القضاء على الفيروس حتى الآن يرجع إلى الاعتماد على العلم وحده. ولكن لو نظرنا للأغلبية في كل الأديان لوجدنا أنها التزمت بنصائح العلم دون تردد وحتى بعد فتح دور العبادة لازالت الأقلية ممن ‏يذهبون إليها ملتزمين بنصائح العلم من التباعد الاجتماعي داخل دور العبادة والتعقيم إلى آخره. هل يعني هذا أن العلم قد انتصر على الأديان في هذه المواجهة الكبيرة؟ وما هو مستقبل الأديان أمام العلم الذي يتقدم بشكل مستمر بينما الدين لم يراوح مكانه منذ آلاف السنين. وباختصار هل سيتقلص دور الأديان في حياة الناس مع مرور الوقت؟

2.هل لابد أن يكون حل مشكلة عدم المساواة في الدخل والثروة وتعرض بعض العمال للظلم حلا ماركسيًا بمعنى هدم مفهوم الدولة الحديثة بكل مؤسساتها ومصادرة أملاك الرأسماليين والانتقال إلى نظام ديكتاتورية البروليتاريا غير محدد المعالم؟ وهل ستقبل السلطات الحاكمة والمؤسسات العسكرية والأمنية والدينية والتعليمية والمهنية وحتى طبقة العمال المهرة ومتوسطي المهارة والسعداء في حياتهم المستقرة بأن تسيطر أقلية من العمال غير المهرة على مقاليد الدولة؟ وماذا لو وجدنا حلولا أخرى غير دموية وتدميرية كما تحاول الاشتراكية الديمقراطية والليبرالية المعتدلة حاليا من خلال إصلاح النظام الرأسمالي المسيطر على العالم بما يضمن تلبية مطالب ‏الفقراء والمظلومين ويحفظ كرامتهم وحقوقهم ويحافظ على البيئة من أجل اجيال المستقبل من خلال تقديم نظام حوكمة وتشريعات تضمن تحقيق كل هذا بشكل تدريجي. ولو أننا افترضنا جدلا إمكانية حدوث هذا الإصلاح وهذا وارد، ألا يكون هذا أفضل من تدمير العالم وإشعال الحروب في كل مكان، خاصة وكلنا يعرف أن هذا بالضبط ما سيحدث حيث سبق أن جربت العديد من الدول السياسات الماركسية وهجرتها بسرعة غير عادية بعد أن أدرك الجميع أن منتجاتها حيثما وجدت هي مزيج من الاستبداد وسوء الإدارة والفساد والجوع وبكلمة واحدة الموت في كل شيءٍ ومع هذا يرى البعض الذي لم يعايشها سوى على الورق أنها العلاج لكن شيءٍ، وهذا يذكرني بواحد من أجمل أبيات شعر المتنبي:

كفى بك داء أن يكون الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا

‏ ‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي