مراجعات وأفكار 11


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7477 - 2022 / 12 / 29 - 20:10
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية     

المراجعات
١ لو أننا تأملنا أنفسنا بعمق لوجدنا أن الطبيعة قد زودتنا بقدرات هائلة والقليل منا من يستطيع أن يستخدم نسبة عالية من هذه القدرات الذهنية والجسمانية، ويرجع هذا إلى ميلنا الطبيعي للراحة وتضييع الوقت، وفي علم اقتصاديات السلوك الإنساني ثبت لدينا أن الانسان العادي يسعى دائما إلي الحصول على أكبر منفعة بأقل جهد ممكن. أمًا المتميزون ومن يسعون لترك بصمة واضحة لحياتهم ومنهم مثلا من يفوزون بجوائز نوبل كل عام. هؤلاء يستخدمون قدراتهم الجسدية والعقلية بطاقة عالية جدا كما أنهم ينظمون وقتهم بكفاءة منقطعة النظير، وهم أقرب إلى الآلات التي تعمل بنظام وبدون كلل. وأتذكر في هذا ما كان يقوله الأديب نجيب محفوظ عن كيفية تنظيم وقته: كان يصف لحظة دخوله لغرفته للكتابة بإنها لحظة مقدسة بحيث لا يجرؤ أحد من إفراد أسرته على طرق باب غرفته حتى ولو قامت الحرب العالمية الثالثة على حد تعبيره. إلى هذا الحد يكون الوقت مقدسا عند هؤلاء. وفي نظريات العمل في الاقتصاد التطبيقي ومن أجل زيادة الكفاءة الإنتاجية فإننا نوصي دائما بأنه عندما يتم تكليف موظف أو عامل بالقيام بمهمة محددة فإنه يتعين علينا أن نحدد إطارا زمنيًا معقولا للانتهاء منها وإلا فإن المهمة لن تنتهي أبدًا. وحتى مع أنفسنا علينا أن نفعل هذا إذا كنا ننشد النجاح وأن نتذكر دائمآ بأن لدينا طاقات وقدرات هائلة وأن بإمكاننا أن نصبح أكثر نجاحا لولا حبنا للسرير وأحلام اليقظة. هكذا ننصح تلامذتنا حتى يجتهدوا في أبحاثهم بشكل أفضل.
٢ الديموقراطية أحد مبادئ حقوق الانسان الرائعة، ولكنها ليست خالية من العيوب وعلى سبيل المثال ‏فإن هتلر وصل إلى الحكم من خلال الديمقراطية وحول ألمانيا إلى دكتاتورية عنصرية في عهده وأدخل العالم في حرب طاحنة ذهب ضحيتها الملايين. ‏ومشكلة الديمقراطية هي أنها تقوم على فرضية أن الناس تتمتع بالرشادة والاستقلالية في اتخاذ قراراتها الانتخابية، وكما نعلم جميعا فإن هذا غير صحيح بنسبة 50% على الأقل، وتتفاوت النسبة من مجتمع إلى آخر بحسب الأوضاع الاقتصادية والسياسية ومستوى الرفاهية الذي تتمتع به الطبقة المتوسطة. الغرب نجح في التعامل مع هذه المشكلة إلى حد ما من خلال الإعلام الحر والذي يفضح كل هفوات المرشحين للانتخابات بلا رحمة، وكذلك من خلال تنظيم المناظرات التليفزيونية بين المرشحين والتي تكشف عن قدراتهم المختلفة بشكل يساعد الناخبين على اتخاذ القرارات الصحيحة في العملية الانتخابية. أما في عالمنا العربي ‏فليس لدينا مشكلة مع الديمقراطية لأنها ولله الحمد ليست موجودة أصلا، ‏حيث نجحت نظم الحكم في أن تجعل هموم الحياة اليومية هي الشغل الشاغل للناس وليس الديمقراطية وحقوق الإنسان وخلافه، وبديهي أن عدم تمتع المواطن العربي بحقوقه أدى إلى عدم ثقته في مؤسسات الدولة، ومن ثم لم يعد لديه ما يلجأ إليه سوى الدين وهو أمله في الخلاص. ولذلك نقول بإن أي مواجهة ثقافية بين اليسار التقدمي واليمين المحافظ في عالمنا العربي سيفوذ بها اليمين بسهولة لأنه اكثر قربا من الناس لتبنيه من الناحية الشكلية للمنهج الديني في الترويج لبرامجه. أما اليسار فإنه لم يتجاوز بعد مرحلة رفع الشعارات والأفكار التقدمية التي لا تفهمها الجماهير العريضة، وأصبحت كلمة اليسار لدى جماهيرنا العربية وبشكل خاطئ مرادفة للكفر والنزعة التدميرية، ولذلك تتجه شعوبنا عادة إلى التصويت لليمين بكل أشكاله بالرغم من أن أغلبها يعي تمامًا أنه لا أمل في أي تغيير حقيقي مع اليمين والدين ولازلنا في هذا الموال منذ أكثر من نصف قرن بالرغم حقيقة أن كل مؤشرات التنمية لدينا تتجه جنوبا.
٣ يتصور البعض أن حل مشكلة التخلف الذي نعاني منه في العالم العربي يمكن أن يأتي من خلال مواصلة سب الرأسمالية وفضح عيوبها ليلًا ونهارًا، ولا أدري ما هو الجديد في هذا لأن كل الاقتصاديين والمفكرين والسياسيين في الغرب نفسه يقرون بعيوب الرأسمالية ويسعون بشل متواصل لإصلاحها. كما يتصور هؤلاء البعض بأن القضاء على التخلف سيتحقق بسهولة من خلال تغيير واجهة النظم المتخلفة من الرأسمالية إلى الاشتراكية. علما بأن التاريخ يخبرنا وبشكل متكرر بأن تغيير الأنظمة السياسية والبنيان الاقتصادي لأي دولة يتطلب عقودا طويلة من التخطيط والهدم والبناء لتحقيق مطالب الناس باعتبار أن هذا هو الغرض من التغيير. ومعروف أن مطالب الجماهير في منطقتنا العربية تتمحور حول الحد من الفقر وخلق فرص عمل وبدخول معقولة للشباب وإعادة توزيع الثروة لتقليل الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء وتقديم خدمات عامةً لائقة للجميع. والخلاصة أن الشعارات والمبادئ النبيلة لا قيمة لها إذا لم تتوفر لها ميزانيات وبرامج وخطط وإمكانيات مادية وبشرية لتحقيقها. ولعلنا نضيف بإن المطالب التي ذكرناها بشكلٍ مقتضب لن تتحقق بسهولة ودون عوائق جمة بسبب المقاومة المتوقعة من النظام القديم وحلفائه في الداخل والخارج للتغيير. والتاريخ يعلمنا هنا أيضا أنه لا يمكن لأي نظام جديد أن ينجح إلا على أنقاض النظام القديم لإنه من المستحيل أن يتعايش النظامان معًا. ولذلك غالبا ما يكون الصراع بين النظامين عنيفا ودمويًا وهو ما يطيل أمد مهمة الإصلاح. ولأن الشعوب الطامحة للتغيير هي من يدفع ثمن هذا الصراع، فإننا كيسار وسطي ننادي دائما بالتغيير التدريجي لتحقيق كل ما سبق أن ذكرناه من خلال الضغط الشعبي والنقابي والمجتمع المدني وشبكات التواصل الاجتماعي. والخلاصة أن التغيير لن يتحقق دون ثمن وتضحيات ووقت وتخطيط ومن الأفضل دائما أن يكون سلميا بحيث نحافظ على كيان دولنا ومؤسساتها ولا ندمرها بالاندفاع وراء الخطب والشعارات الطوباوية كما ينادي الكثير من الإخوة الماركسيين بدون إعدادا أي خطط وبرامج تنفيذية وميزانيات.
٤ حرية الرأي ‏محاصرة من الجميع هذه الأيام. وكنا نتوقع أن يؤدي انتشار منصات التواصل الاجتماعي إلى ازدهار حرية التعبير وأن يعتاد الناس عليها ويحترمونها طالما أن هذه الحرية هي مجرد رأي يعبر عنه بشكل سلمي. ولكن الحاصل الآن أن حرية التعبير تهاجم من الجميع، وعلى وجه التحديد فهي غير مرغوب فيها من المتدينين ومن اليمين المحافظ ومن اليمين المتطرف ومن الأنظمة الاستبدادية، والأغرب من هذا أنها أصبحت لا تطاق من اليسار غير الليبرالي! وكمثال على هذا ما يحدث في موقعنا هذا؛ الحوار المتمدن الذي ‏اتاح لنا منصة فكرية وثقافية رائعة كي نتحاور بشكل متمدن وليس لتبادل الشتائم والإهانات كما يفعل بعض اليساريين من الكتاب والمعلقين كلما طالعوا مقالا لا يتماشى مع قناعاتهم الشخصية. ومنذ حوالي شهر كتب أحد الزملاء مقالا يتسم بالعقلانية والواقعية في موضوع التخلف العربي، ولكن زميلا آخر قام بشخصنة الموضوع ورد علي الكاتب بسلسلة مقالات تحمل كل أنواع الاهانات والاتهامات، والمضحك أنه كان يبدأ معظم الاهانات بعبارة "الكاتب المحترم …." ثم يبدأ في الإهانات! وأنا أتساءل ما هذا التناقض وأين الاحترام هنا؟ ولكن الكاتب أثبت أنه محترم بالفعل عندما تجاهل هذه الإهانات والمغالطات ولم يرد عليها. ولذلك فأنا أحييه مرة أخرى على رقيه وترفعه عن المهاترات. والخلاصة أنه لا أمل في تقبل غالبية البشر لمبدأ حرية الرأي والتعبير لأن كل شيءٍ يتغير حولنا إلا الأنسان كما نلاحظ من خلال قرأتنا لتاريخ الفكر الاقتصادي والإنساني، فبالرغم كل ما حققناه من تقدم سنظل غير قادرين على تغيير طبائعنا المتناقضة وعدم الرشادة في الكثير من سلوكياتنا وقراراتنا.
الأفكار
١ سأله: ‏لا أراك تصلي يا زوربا "اليوناني". رد زوربا: الذي يصلي حقيقة لن تراه "بمعنى أن من يصلي باخلاص لربه يفضل أن يكون بعيدا عن الناس والمنظره.
سأله: وكيف تصلي؟ رد زوربا: هل تعتقد أني أصلي صلاة شحات وضيع يتسول من أجل أطماعه ومخاوفه؟ أنا أصلي كرجل.
سأله: وكيف يصلي الرجال؟ رد زوربا: ‏بالحب أقف وكأن ربي يسألني ماذا فعلت اليوم؟ فأجيب ساعدت فلانا وخففت من مخاوف فلان واتصلت أطمئن على بعض المرضى.
سأله: ألا تطلب شيئًا من ربك؟ رد زوربا: لا هو يعرف ما أريد ويساعدني كلما كنت بحاجة لإي عون.
٢ ‏ديكارت قال أنا أفكر إذن أنا موجود، أما كافكا فقد قال أنا خائف إذن أنا موجود، ‏أما الشاعرالإنجليزي الرومانسي بيرون فقد قال أنا أحب إذن أنا موجود، وأما ماركس فقد قال أنا آكل إذن أنا موجود. والملاحظ هنا أن كل هؤلاء المفكرين ربطوا وجودهم بحاجة من الاحتياجات الضرورية للإنسان. ‏فكرت ماذا لو سألنا المواطن العربي اليوم عن كيف يشعر بأنه موجود، هل سيكون رده مثلا: أنا أناضل من أجل لقمة العيش كل يوم، إذن أنا موجود. أم سيقول: أنا لا اشعر بوجودي أصلا إذن أنا لست موجودا. فعلا أن تكون موجودا، وموجودا كما تريد أن تكون في هذا العالم المتوحش، يالها من مهمة شاقة.

‏‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي