هل يمكن التوفيق بين العلم والدين


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7587 - 2023 / 4 / 20 - 23:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

يهدف المقال إلى بيان السبب الرئيسي في فشل الطريقة التقليدية القديمة في التوفيق بين الدين والعلم عن طريق إلباس الدين رداء العلم عنوة.وكيف أن المنهجية والأهداف المنشودة من كليهما مختلفة تماما. ومع هذا فإننا نرى أنه من الممكن التوفيق بين الدين والعلم وفض الاشتباك بينهما كما سوف نبين في الفقرة الرابعة من هذا المقال.
١ بذلت محاولات عديدة في عالمنا العربي للتوفيق بين العلم والدين وكان من أشهرها محاولات كل من الدكتور مصطفى محمود و الدكتور زغلول النجار وآخرين والتي هدفوا من خلالها إلى إضفاء الطابع العلمي على القرآن من خلال تفسير بعض آياته على أنها حقائق علمية شملت معظم العلوم الطبيعية مثل الطب والفلك والأحياء والطبيعة النووية و الجغرافيا إلى آخره، وقالوا أنها آيات أو نظريات علمية ذكرت في القرآن قبل أن يكتشفها العلم الإنساني. وقالوا أيضا أن هناك آيات تحمل تنبؤات علمية لا يعلمها أحد حاليا إلا الله وأن الإنسان سوف يعلم بها عند حدوثها. وهذا التناقض الفكري يعني ببساطة أن الانسان في النهاية هو مكتشف العلوم. وعادة ما يتم أدراج هذه ألتنبؤات تحت آيات غامضة مثل "ويخلق ما لا تعلمون" وهي آية يمكن أن يندرج تحتها أي شيءٍ وكل ما هو قديم وجديد في العلم والحياة. والمشكلة في منهجية هؤلاء المفكرين هي أنهم يحولون القرآن من كتاب يدعو إلى الهداية والفضيلة إلى كتاب علمي يشتمل على نظريات علمية مثبتة ولا تحتمل الجدل، وتناسوا أن أغلب النظريات العلمية تتطور وتتغير مع الوقت، فإذا ما تحدث القرآن عن نظرية ذات معطيات ومخرجات علمية محددة اليوم، فماذا لو ثبت بعد فترة من الزمن أن بعض هذه المخرجات أو الاكتشافات كان السبب فيها عوامل ومتغيرات أخرى لم تكن معروفة من قبل فهل سيقولون أن القرآن كان مخطئا؟ والمعنى أن هؤلاء المفكرين يخلطون بين منهجية الدين المقدسة والمنهجية العلمية التجريبية بحيث جعلوا الأخيرة منهجية مقدسة هي الأخرى، وهذا مناقض للمنهجية التي تقوم عليها العلوم الطبيعية والإنسانية. وعلى سبيل المثال فاننا في الجامعات ندرب طلاب الدراسات العليا على منهج الشك والنقد في البحث العلمي وأن عليهم البحث عن الأخطاء في كل النظريات القائمة حتى ولو كانت مثبتة بشكل علمي بغرض إصلاح ما بها من خلل أو إفشالها والإتيان بنظريات جديدة أفضل منها، وهكذا يتطور العلم من خلال نزع القدسية عنه عكس المنهجية الدينية المقدسة والتي لا تقبل النقد أو التطوير.
٢ وقد أدى ما سبق من حيث فشل النهج الديني في تطوير نفسه بل وتحريم النقد أو الخروج عما ورد عن السلف الصالح من تفاسير واجتهادات، أدى هذا الجمود والتصلب إلى إنفصال الدين ورجاله الأفاضل عن الواقع المعاش للناس والتخلف عن ملاحقة العلم والتغيرات التكنولوجية التي لا تتوقف عن الظهور، حتى أصبح دور الدين هامشيا في المجتمع وفي حياة الأغلبية خاصة الشباب.وظل الدين محلك سر ولا يتحدث عن القضايا المعاصرة التي تهم الناس مثل موقف الدين من الديموقراطية وحقوق الانسان وحرية التعبير والاستبداد والظلم وتراجع المساواة في الفرص بين الناس وتفاقم مشكلة تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وحق المرأة في التعليم والعمل والتغير المناخي …إلخ ولازال رجال الدين يتجاهلون هذه القضايا المصيرية ويكتفون بالحديث عن السلف الصالح ونفس الحكايات القديمة التي حفظها الناس ولم تعد تحظى بالاهتمام. منذ أيام الفراعنة قديما وقبل قيام الدولة الحديثة كان الدين هو كل شيء في حياة الناس وهو المنظم والمسيطر والموجه لكل شؤونهم وعلاقاتهم ولم يدع رجال الدين وقتها أن الكتب المقدسة تنظر في الظواهر العلمية، ولذلك فإن من يسأل اليوم لماذا لا تحدث معجزات ألآن؟ يكون الرد المنطقي لأنه لم يكن هناك معجزات أصلًا في الماضي، بل كانت هناك ظواهر طبيعية خارقة أو غير معتادة ولكن لم يكن هناك تفسير علمي لها، وكان لرجال الدين وقتها الشجاعة لتسميتها بالمعجزات ، أي الظواهر التي عجزوا عن فهمها. أما رجال الدين اليوم فإنهم لا يقرون بعجزهم عن فهم العلم وبدلًا من هذا يبحثون عن أي آية بها تشابه مع الظاهرة المعجزة للادعاء بإن الإعجاز العلمي في الكتاب المقدس تنبأ بها.
٣ ولكن إذا كان للدين أوجه قصور عديدة كما بينا، فهل العلم مثالي؟ بالطبع لا فللعلم إخفاقات وكوارث كثيرة وخطيرة ولعلي أذكر عدة أمثلة من عشرات الأمثلة التي تحضرني في هذه اللحظة وهي الأسلحة النووية التي نتوقع أن تكون السبب يوما ما في القضاء على الحياة على هذا الكوكب الجميل، فإذا لم تكن هي فإن التلوث الهائل والانبعاثات الحرارية الناتجة عن الأنشطة الإنسانية التي أخلت بالفعل بالتوازنات البيئية للأرض سوف تؤدي إلى نفس النتيجة، وكل هذه الكوارث كانت ولازالت من المخرجات السيئة الت أتى بها العلم غير المنضبط.
٤ إزاء ما سبق يمكن القول بإنه إذا كان البعد العلمي غائب في الدين فإن البعد الأخلاقي غائب أيضا في العلم، ومن ثم فإن محاولة التوفيق بين العلم والدين قد تكون شيئا جيدًا للبشرية وللحياة بكل أنواعها على هذا الكوكب المنهك بسبب الغرائز المتوحشة لأسواء مخلوقات الكون ألا وهو الانسان. وبناءا عليه يكون من المهم فض الاشتباك بين العلم والدين وإن يكون هناك نوع من التكامل بينهما بحيث يواصل العلم اكتشافاته وتطوره، ولكن في ظل وجود نوع من المبادئ الإخلاقية والضمير الإنساني الحي التي تنادي بها الأديان والتي يكفيها أن تلعب هذا الدور الرقابي بدلا من حشر نفسها في حديث العلم، وبمعنى آخر فقد آن الأوان أن تهتم الجامعات ومراكز الإبحاث بالجوانب الأخلاقية للبحث العلمي قبل فوات الأوان. وبناءا عليه فإن ثقافة الإلغاء الكامل للأديان بدعوى أنها مليئة بالخرافات لن تكون مفيدة كثيرا للبشرية.
وتأييدا لهذا وفي محاولاته القيمة لتقديم نوع من الاصلاح الديني على غرار ما حدث في أوروبا، رأي الإمام محمد عبده أن يكون دور الدين هو الحارس للقيم في المجتمع بحيث يمثل نوعاً من السلطة الأخلاقية التي تراقب الدولة والحاكم لمنعه من الاستبداد والتسلط على العباد أو استغلال نفوذه لتحقيق منافع شخصية له ولمن حوله. وما نطالب به ينصب في هذا التوجه. والحقيقة أن مشكلتنا ليست مع الدين في حد ذاته بقدر ماهي مع رجاله. ونحن نتسآل كيف حولنا هذه القوة الغامضة والغائبة عن عالمنا الخارجي ولكنها حاضرة بقوة ودائماً داخل ضمائرنا ومحفزة لنا على فعل الخير، كيف حولناها من قوة بناءة إلى قوة هدامة؟ كيف حولنا الأديان من قوة يمكن ان تجمعنا إلى قوة تشتتنا وتجعلنا نتقاتل بجنون ؟ كيف حولناها من قوة تدعونا إلى البر والرحمة بالآخر إلى قوة للاستغلال والتسلط؟ نقول إنه يفترض في اي دين ان يتسم بالبساطة وان يكون في متناول اي انسان عادي ولكن من يسمون أنفسهم برجال الدين في كل الأديان حولوها إلى طقوس ومراسم ودراسات وتفسيرات معقدة تنافس اللوغاريتمات الرياضة في صعوبتها. ولازال رجال الدين يتفننون في بناء المزيد من الحواجز بيننا وبين الدين الأصلي. وأود هنا أن أنوه بالجهود التنويرية التي يبذلها الكثير من المفكرين والكتاب في عالمنا العربي خاصة في موقع الحوار المتمدن لتنقية العقل الديني وتحريره من أسره وما فرض عليه من قيود لمنعه من التفكير النقدي والمنطقي وما علق به من خرافات وتطرف، هذه هي العلمانية المستنيرة التي ندعوا لها في الكثير من مقالاتنا.
والخلاصة أن الإنسان لن يكف أبدا عن البحث عن الإله. سنظل دائما بحاجة الى الدين لإشباع المكون الروحي الغريزي داخلنا خاصة في لحظات الضعف والمرض واليأس وخسارة أعز الناس لدينا والوحدة القاتلة وانشغال الناس عنا فلا يبقى أمامنا من ملاذ إلا الإله أياً كان تصورنا وفهمنا له. ولدينا قناعة قوية بأن الأديان سينتهي بها المطاف إلى أن تصبح مسألة شخصية خاضعة للضمير الفردي لكل إنسان وعندها لن يكون هناك صراع وتناقض بين العلم والدين ويتحقق ما ننشده من توافق معقول ومفيد بينهما كما بينا في المقال.

مستشار اقتصادي