مراجعات وأفكار -٦


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7135 - 2022 / 1 / 13 - 22:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

1- عبر الزمن والعصور نزداد معرفة وعلما كبشر، ولكننا لا نزداد حكمة وعقلانية وتسامحا، كما أننا لا نتعظ أو نتعلم كثيرًا من الأخطاء التي وقع فيها من سبقونا عبر تاريخ الانسان على هذه الأرض ولا زلنا نتعارك على أتفه الأسباب وأصبح التسامح من علامات الضعف والتعدي على الآخرين بالشتائم والعجرفة من سمات الشجاعة. والأسوأ من هذا التقلص التدريجي والملحوظ في كيفية التفكير المنطقي بين أجيال المستقبل، تلاميذ المدارس والجامعات، خاصة بعد جائحة الكورونا والتي تضرر منها التلاميذ أكثر من غيرهم بسبب سياسات الغلق العشوائي للمؤسسات التعليمية وتغليب المصلحة الشخصية لبعض المسؤلين على كل القيم والمبادئ. وأصبح التلاميذ المحبوسين في منازلهم شبه مدمنين على شبكات التواصل الاجتماعي بكل أنواعها وأصبحوا يكرهون المواد الرياضية التي تعتبر أداة مهمة لتطوير ملكة التفكير المنطقي ولذلك كنا نحبها ونحن صغار ونتنافس في حل المعادلات المعقدة. أما الآن فإن التلاميذ يتنافسون في الألعاب اليكترونية وتبادل الفيديوهات الفاضحة والنكات. ونصيحتنا للآباء والامهات هنا هو أن ننظم علاقة أولادنا وأحفادنا منذ صغرهم مع السوشيال ميديا وأن نساعدهم في تبني هوايات مفيدة مثل القرأة والموسيقى وممارسة الألعاب البدنية والاهتمام باستذكار المواد الرياضية في المدرسة منذ صغرهم باعتبار أنها عماد التفوق في كل المجالات العلمية والعملية والأكاديمية، لأنه لا أمل في تقدم الدول في أي مجال دون الإلمام الجيد لطلاب العلم بها بالرياضيات. والحقيقة أن الموضوع كبير وخطير خاصة عندما نعلم أن الجامعات الكبيرة في أوروبا وأمريكا كما ألاحظ هنا تعمل على تقديم منح دراسية سخية لخريجي المرحلة الثانوية والجامعات في دول العالم الثالث من المتفوقين في الرياضيات للدراسة بها، وهؤلاء المبتعثين لا يعودون في الغالب إلى بلادهم ونحن نقول هذا عن تجربة وخطأ قديم تسبب في نزيف العقول العربية المتفوقة والمستمر منذ نحو نصف قرن والمتمثل في عدم عودة غالبية المبتعثين للخارج إلى بلادهم بسبب عدم اهتمام حكوماتهم بالاستفادة من خبراتهم في تنمية بلادهم الاصلية والانقطاع عن التواصل معهم أحيانا بشكل متعمد ولأسباب ساذجة.

٢ الثورات ‏المكتومة وحالة الإحباط السائدة بين الأغلبية في معظم بلاد العالم بسبب أللامساواة في كل شيء تقريبا واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء والتغير المناخي بسبب التلوث الناتج عن الإنتاج الضخم والاستهلاك االمبالغ فيه وغير الضروري وهما السبب في الكوارث الطبيعية العنيفة والمتزايدة والتي تضرب في كل أنحاء العالم وكذا الفيروسات الجديدة و تحوراتها التي لا تنتهي وغيرها من المشاكل التي يعاني منها العالم حاليا والتي سببها الرئيس هو غريزة الانانية المتأصلة فينا كبشر والرأسمالية المتوحشة المسيطرة في كل دول العالم حاليا. ولأن حالة الإحباط في تزايد مستمر فلابد أنها ستنتهي بنوع من الانفجار وربما حروب أهلية وحالات من عدم الاستقرار المجتمعي ذو النتائج الخطيرة على الجميع. وهذا السيناريو ليس حكرا على الدول الفقيرة فقط إذ أنه بدأ في الانتشار والنمو في الدول الغنية أيضا وهناك بالفعل حالة من الاستقطاب الداخلي الحاد في كل الدول الأوربية والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وأسيا وحتى أستراليا بسبب التراجع المتواصل في العدالة الاجتماعية. والحل الوحيد للحد من تنامي هذه المشاكل ووصولها لمرحلة الانفجار يتمثل في إعادة النظر في النظام الرأسمالي السائد الآن وتبني نوع من الاشتراكية الديموقراطية من جانب الحكومات وبضغوط من الأحزاب الشعبية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والجامعات والمفكرين بحيث يعاد توزيع الثروات والدخل بشكل تدريجي وعادل وإتاحة المزيد من الفرص لمن يعانون من ويلات الفقر خاصة في التعليم والرعاية الصحية والتوظيف وقد كتبنا في الاشتراكية الديموقراطية من قبل وبتفصيل وبينا أن إعادة توزيع الثروة بشكل تدريجي كان مقبولا لدى الأغنياء في عدد من دول شمال أوروبا لإننا لم نطالبهم بالنزول من أعلى السلم ولكن بتمكين من هم في العالم السفلي بالبدء في تسلقه.

٣ الفجوة بين الطرح الأيديولوجي الماركسي وبين الواقع تتسع كل يوم وهذا واضح في كل دول العالم والسبب هو عدم مرونة هذا الطرح وعدم القدرة على تطويره باعتبار أن له قدسية خاصة وأنه صالح كما كتب منذ قرنين لكل زمان ومكان. وبالنتيجة فشل هذا الطرح في ترجمة أفكاره إلى واقع وسياسات ولوائح تنفيذية قابلة للتطبيق وحل المعضلات الاقتصادية الحالية والسياسات النقدية والمالية التي تعمل برعاية دولية وتطبق من خلال معايير وإجراءات معقدة، ولو أننا كتبنا في كيفية حسابنا لمعادلات الكفاءة المالية لرؤس أموال البنوك الكبرى وكيفية إدارة المخاطر المختلفة بها لما صدق أحد من القراء ما وصل إليه النظام النقدي العالمي من تعقيدات. والآن كل هذا سيتغير قريبا جدا مع حلول النقود الرقمية المشفرة محل النقود الورقية والتي ستكون لها أنظمة أخرى جديدة .والخلاصة أننا مع أي نظام فيه إسعاد للبشرية خاصة من يعانون بحيث يكون واضحا ومرنا وقابلا للتطبيق وليس للتنظير فقط على أساس أن الناس تتجاوب مع الأفعال وليس الكلام الكبير والشعارات الرنانة.وأهم من كل هذا أن يقبل الداعون لهذا النظام بأن يدور نقاش علمي ومتحضر حول تفاصيله بدون عصبية زائدة ولا مبرر لها وشتائم واتهامات بالعمالة وبيع القضية وبأن عقول المخالفين لهم صغيرة جدا وأنهم وحدهم من يفهمون في كل شيء وغيرها من الاهانات التي يعرفها القراء والتي جعلت عددا كبيرا منهم يحجم عن القرأة أو النقاش مع هؤلاء الكتاب خوفا من تعرضهم للامتهان لمجرد إبداء آرائهم، والمفارقة المؤلمة هنا والمخيفة هنا تتمثل في أن العالم جرب كل أنظمة الصوت الواحد وكلها فشلت ومع هذا فإن هؤلاء الكتاب يدعوننا إلى اتباع مذهب ديكتاتوري في رحلة إلى المجهول دون أن يكون لنا الحق في السؤال ودون ننبس بكلمة واحدة.
٤ معظم توقعات المنظمات الدولية والدوريات الاقتصادية والمحللين العالميين للأداء الاقتصادي العالمي المتوقع لعام ٢٠٢٢ متفائلة كالعادة وهذا شيء طيب، ولكن كلما راجعتها أشعر أن هناك حلقات مفقودة في هذه التوقعات ومنها على سبيل المثال ما يلي:
• أن جائحة الكوفيد ١٩ لازالت خارج السيطرة في كل دول العالم، كما أن الكثير من المعلومات الفنية عن المتحورات الجديدة للفيروس لازالت خافية عن العلماء، هذا بالإضافة إلى أن كل الادعاءات السابقة بإن اللقاحات الجديدة للمرض والتي قيل إنها ستحمينا من المرض لمدة عام بنسبة تصل إلى ٩٠٪؜ ثبت لاحقا عدم دقتها وإنه يتعين علينا أخذ جرعات معززة تصل إلى ٣ مرات في العام الواحد. وبحسب توقعاتنا فإن الناس وعلى الأقل في أوروبا بدأت في التذمر من هذه التغيرات المستمرة في السياسات الاحترازية والتضييق عليهم ومن شأن هذا خلق حالة من عدم الاستقرار في سلوك المستهلكين ودفعهم للتردد في الانفاق وهو ما قد يؤدي إلى نوع من التباطؤ في النمو الاقتصادي كما نتوقع.
• الضغوط التضخمية التي بدأت بالفعل في مختلف أنحاء العالم والتي توقعناها في مقال لنا منذ نحو عام بسسب سياسات التيسير النقدي والتحفيز المالي لزيادة النمو الاقتصادي والتعامل مع المشاكل المتنوعة التي تسببت فيها سياسات الغلق العشوائي للحد من انتشار الفيروس.وللتعامل مع التضخم فإن البنوك المركزية سوف يتعين عليها البدأ في رفع أسعار الفائدة لتقليص حجم الائتمان في الأسواق وبيع ما لديها من سندات وأوراق مالية ضخمة للسيطرة على السيولة الكبيرة في الأسواق وهذه الإجراءات تتطلب سياسات دقيقة وحذر شديد حتى لا تؤدي إلى نوع من الانكماش وربما الركود، وكل هذا يؤثر بالطبع على النمو الاقتصادي والتشغيل.
• أدت عميات خلق النقود التي أشرنا إليها سابقا والتي تم توجيه كميات ضخمة منها إلى البنوك والشركات الكبرى بغرض استخدامها في الاستثمار التنموي لخلق وظائف، ولكن بدلا من هذا انتهى المطاف بهذه السيولة إلى أسواق المال والأصول والتي ارتفعت أسعارها بشكل كبير وتكوين ما نسميه بالفقاعات المالية العرضة للانفجار لأقل سبب وقد حدث هذا من قبل ولكننا لم ولن نتعلم شيئا من هذه التجارب المؤلمة كما ذكرنا من قبل وسوف نستمر في تكرار نفس الأخطاء. ويعني كل ما سبق في رأينا أن رحلة إبحارالاقتصاد العالمي عام ٢٠٢٢ سوف تكون عرضة للتقلبات وأن المياه لن تكون صافية وهادئة طوال الرحلة وأن علينا كأصحاب دخول ثابتة ومحدودة أن نكون مستعدين وحذرين وألا نركز كل مدخراتنا في وعاء ادخاري واحد.
٥ من حسن ‏الحظ أن معظم الكتاب الذين ينقدون الأديان في موقع الحوار لا يهاجمونها في حد ذاتها، ولكنهم يهاجمون العقل الديني ومنهجيته في التفكير والبحث وأنا مع هذا تماما وأطالب في الكثير من مقالتي بإخراج العقل الديني من اسره ‏ومن قيوده حتى يفكر من جديد في طريقة تعاطيه مع الدين ورجاله. ونحن هنا لا نجبر أحدا على هذا وضد من يشتم في المؤمنين بأي دين ويتعمد أهانتهم كما ذكرت في مقالي الأخير على الموقع حيث دعوت إلى احترام حرية الناس في الإيمان بما يشاؤون، ‏ولكن ينبغي في ذات الوقت أن نواصل مساعينا في تشجيع الفكر الحر والمستنير كخطوة أولى واساسية لبدء مشوار الحداثة والتقدم والتخلص من الاستبداد في منطقتنا العربية. وأخيرا ‏وبالرغم من أنني علماني الهوى إلا إنني أقرأ في فلسفة الأديان المختلفة واجد دائما أشياء ملهمة فيها وأحفظ مأثورات جميلة في كل دين من خلال لقاءاتي وصلاتي مع المؤمنين بكل الأديان عبر العالم وربما أكتب يوما عن تجاربي الشخصية في هذا. ‏والخلاصة أن لكل شيء في الوجود بما فيه الأديان والمذاهب المختلفة جمال معين ولكن ليس بمقدور كل العيون أن تراه.
وأخيرًا فإن أهم ما تعلمته من الأديان المختلفة هو خطورة التسليم بالإيمان الوراثي بدون تفكير، وأداء الفرائض، والطقوس دون ،وعي.
‏‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي